ما أجمله من رحيل ؟!
بدت أختي شاحبه الوجه نحيله الجسم .
ولكنها كعادتها تقرأ القرآن الكريم .
تبحث عنها فتجدها في مصلاها .
راكعة ساجدة رافعه يديها إلى السماء .
هكذا في الصباح وفي المساء وفي جوف الليل لا تفتر ولا تمل .
كنت أحرص على قراءة المجلات الفنية والكتب ذات الطابع القصصي .
أشاهد الدش بكثرة لدرجة أنني عُرفت به ..ومَنْ أكثر من شيء عُرف به .
لا أؤدي واجباتي كاملة ولست منضبطة في صلواتي .
بعد أن أغلقت الدش وقد شاهدت أفلاماً متنوعة لمدة ثلاث ساعات متواصلة .
ها هو الأذان يرتفع من المسجد المجاور .
عدت إلى فراشي .
تناديني من مصلاها .
نعم ماذا تريدين يا نورا ؟
قالت لي بنبرة حاده : لا تنامي قبل أن تصلي الفجر .
أوه ..بقي ساعة على صلاة الفجر وما سمعته كان الأذان الأول .
بنبرتها الحنونة..هكذا هي حتى قبل أن يصيبها المرض الخبيث وتسقط طريحة الفراش .
نادتني ..تعالي يا هناء بجانبي .
لا أستطيع إطلاقاً رد طلبها .
تشعر بصفائها وصدقها .
لا شك طائعاً ستلبي .
ماذا تريدين ؟ اجلسي ..
ها قد جلست ماذا لديك ؟
بصوت عذب رخيم قالت : ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ . سكتت هنيهة .
ثم سألتني ..ألم تؤمني بالموت ؟
بلى مؤمنة !.
ألم تؤمني بأنك ستحاسبين على كل صغيرة وكبيرة ؟.
بلى ..ولكن الله غفور رحيم ..والعمر طويل ..يا أختي .
ألا تخافين من الموت وبغتته ؟. انظري هند أصغر منك و توفيت في حادث سيارة .. وفلانة .. وفلانة ..
الموت لا يعرف العمر .. وليس مقياساً له ..
أجبتها بصوت الخائف حيث مصلاها ذو ضوء خافت :
إنني أخاف من الظلام وزدت خوفي بذكر الموت ..كيف أنام الآن ؟.
كنت أظن أنك وافقت على السفر معنا هذه الإجازة .
فجأة ..
تحشرج صوتها و اهتزَّ قلبي ..
لعلي هذه السنة أسافر سفراً بعيداً ..
إلى مكان آخر ..
ربما يا هناء ..
الأعمار بيد الله .
وانفجرت بالبكاء ..
تفكرت في مرضها الخبيث وأنَّ الأطباء أخبروا أبي سراً أنَّ المرض ربما لن يمهلها طويلاً .
ولكن من أخبرها بذلك ؟
أم أنها تتوقع هذا الشيء .
ما لك تفكرين .
جاءني صوتها القوي هذه المرة :
هل تعتقدين أنني أقول هذا لأنني مريضه .
كلا ..
ربما أكون أطول عمراً من الأصحاء .
وأنت إلى متى ستعيشين .
ربما عشرين سنة .
ربما أربعين ..ثم ماذا ؟.
لمعت يدها في الظلام وهزتها بقوة .
لا فرق بيننا كلنا سنرحل وسنغادر هذه الدنيا إما إلى جنة وإما إلى نار .
ألم تسمعي قول الله ﴿ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ﴾ .
تصبحين على خير .
هرولت مسرعه وصوتها يطرق أذني .
هداك الله .
لا تنسي الصلاة .
الثامنة صباحاً .
أسمع طرقاً على الباب .
هذا ليس موعد استيقاظي .
بكاء ..وأصوات ..يا إلهي ماذا جرى .
لقد تردت حالة نورة
وذهب بها أبي إلى المستشفى .
إنا لله وإنا إليه راجعون .
لا سفر هذه السنة .
مكتوب علي البقاء هذه السنة في بيتنا .
بعد انتظار طويل .
عند السعة الواحدة ظهراً .
هاتفنا أبي من المستشفى
تستطيعون زيارتها الآن هيا بسرعه .
أخبرتني أمي أن حديث أبي غير مطمئن وأن صوته متغير .
عباءتي في يدي .
أين السائق .
ركبنا على عجل .. أين الطريق الذي كنت أذهب لأتمشى مع السائق فيه وكان يبدو قصيراً .
ماله اليوم طويلاً .. وطويلاً جداً.
أين ذلك الزحام المحبب إلى نفسي كي ألتفت يمنة ويسرة .
زحام أصبح قاتلاً ومملاً.
أمي بجواري تدعو لها .
إنها بنت صالحة مطيعة .
لم أرها تضيع وقتها أبداً .
دلفنا من الباب الخارجي للمستشفى .
هذا مريض يتأوه .
وهذا مصاب بحادث سيارة .
وثالث عيناه غائرتان .
لا تدري هل هو من أهل الدنيا أم من أهل الآخره .
منظر عجيب لم أره من قبل .
صعدنا درجات السلم بسرعة .
إنها في غرفة العناية المركزة .
وسآخذكم إليها .
ثم واصلت الممرضة : إنها بخير وطمأنت أمي أنها في تحسن بعد الغيبوبة التي حصلت لها .
ممنوع الدخول لأكثر من شخص واحد .
هذه غرفة العناية المركزة .
وسط زحام الأطباء وعبر النافذة الصغيرة التي في باب الغرفة أرى عيني أختي نورة تنظر إليَّ وأمي واقفه بجوارها .
بعد دقيقتين خرجت أمي التي لم تستطع إخفاء دموعها ..
سمحوا لي بالدخول والسلام عليها على أن لا أتحدث معها كثيراً .
دقيقتان كافية لك .
كيف حالك يا نورة .
لقد كنت بخير مساء البارحة .
ماذا جرى لك ؟!.
أجابتني بعد أن ضغطت على يدي : وأنا الآن ولله الحمد بخير .
الحمد لله لكن يدك بارده .
كنت جالسه على حافة السرير ولامست يدي ساقها .
أبعدتها عني ..
آسفه إذا ضايقتك .
كلا ولكني تفكرت في قوله تعالى : ﴿ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ، إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ﴾ عليك يا هناء بالدعاء لي فربما أستقبل عن قريب أول أيام الآخرة .
سفري بعيد وزادي قليل ..سقطت دمعه من عيني بعد أن سمعت ما قالت وبكيت .
لم أع أين أنا .
استمرت عيناي في البكاء .
أصبح أبي خائفاً علي أكثر من نورة .
لم يتعودوا مني هذا البكاء والانطواء في غرفتي .
مع غروب شمس ذلك اليوم الحزين .
ساد صمت طويل في بيتنا .
دخلت عليَّ ابنة خالتي .
ثم ابنة عمتي .
أحداث سريعة ..كثر القادمون ..اختلطت الأصوات ..شيء واحد عرفته ..
( نورة ماتت) لم أعد أميز من جاء .
ولا أعرف ماذا قالوا .
يالله ..
أين أنا وماذا يجري ؟
عجزت حتى عن البكاء .
فيما بعد أخبروني أن أبي أخذ بيدي لوداع أختي الوداع الأخير .
وأني قبّلتها .
لم أعد أتذكر إلا شيئاً واحداً .
حين نظرت إليها مسجاة على فراش الموت .
تذكرت قولها ﴿ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ﴾ عرفت حقيقة أن ﴿ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ﴾ لم أعرف أنني عدت إلى مصلاها إلا تلك الليلة..
وحينها تذكرت من قاسمتني رحم أمي فنحن توأمان .
تذكرت من شاركتني همومي .
تذكرت من نفَّست عني كربتي .
من دعت لي بالهداية .
من ذرفت دموعها ليالي طويلة وهي تحدثني عن الموت ، والحساب .الله المستعان.
هذه أول ليلة لها في قبرها .
اللهم ارحمها ونوّر لها قبرها .
هذا هو مصحفها .
وهذه سجادتها ..وهذا .. وهذا ..
بل هذا هو الفستان الوردي الذي قالت لي سأخبئه لزواجي .
تذكرتها وبكيت ، وبكيت على أيامي الضائعة .
بكيت بكاءً متواصلاً .
ودعوت الله أن يرحمني ويتوب علي ويعفو عني .
دعوت الله أن يثبتها في قبرها كما كانت تحب أن تدعو .
فجأة سألت نفسي ماذا لو كنت أنا الميتة ؟
ما مصيري ؟
لم أبحث عن الإجابة من الخوف الذي أصابني .
بكيت بحرقة ..الله أكبر ..الله أكبر ..
ها هو أذان الفجر قد ارتفع .
ولكن ما أعذبه هذه المرة أحسست بطمأنينة وراحة وأنا أردد ما يقوله المؤذن .
لففت ردائي وقمت واقفه أصلي صلاة الفجر .
صليت صلاة مودع .
كما صلتها أختي من قبل وكانت آخر صلاة لها .
( إذا أصبحت لا أنتظر المساء . وإذا أمسيت لا أنتظر الصباح )* .
* ( الزمن القادم ) للكاتب عبد الملك القاسم .