الموضوع: قضية سمرقند
عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 10-18-2010, 01:25 AM
أبو يوسف السلفي أبو يوسف السلفي غير متواجد حالياً
" ‏مَا الْفَقْرَ ‏أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنِّي‏ ‏أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ "
 




افتراضي

ورأى الكهنة وأهل سمرقند وسمعوا ، ولكنهم كذبوا عيونهم وآذانهم ، وظنوا أنهم في حلم ، ولبثوا شاخصين ، حتى أن أكثرهم لم يلحظ أن المحاكمة قد انتهت ، وأن القاضي والأمير قد انصرفا ، وجعل صاحبنا السمرقندي المسلم ينظر في وجه الكاهن الأكبر ، فيحس أن نور الحق قد أشرق على قلبه الذي رققته العزلة والتأمل ، وكان الكاهن ينظر إلى عَالَمِه الذي طالما أحبه وآثره ، فيراه عالماً ضيقاً مقفراً ، وينظر إلى دنيا الإسلام ، فإذا هي خصبة واسعة ، مزهرة بالخير والعدل والجمال . وما عالمه ؟ فجوة معتمة وسط الصخر الأصم لا يبلغها شعاش الشمس ، ولا ضياء القمر ، ولا زهر الربيع ، ولا جمال المجد ، ولا جلال الإيمان ...
وسطع النور في قلبه فرأى أن ديانته كهذا المعبد ، فأين هذا المعبد من معبد الإسلام ، وهو الأرض الطهور التي تمتد حتى تصل إلى بلاد ما سمع بها ؟ ... أين ضيقه من سعتها ؟ أين ظلمته من نورها ؟ أين سقفه الواطي من سمائها العالية ؟
إنه ألحد في دينه وخرج من معبده ، وقد حرم عليه الخروج منه ، فلن يعود إليه أبداً ، أيعود الجنين إلى بطن أمه بعدما رأى بياض النهار ، ورحب الكون ؟
أيعبد مرة ثانية تلك الآلهة ذوات الوجه البشع المخيف ، بعد ما عرف رب الأرباب وخالق كل شيء ...
لا ، لقد ماتت ديانة المعبد ومرّت أيامها ، فهل لِما مرّ مآب ، هل يعود أمس الغابر ؟
ومرّت الساعات ، وإذا الجو يموج بصليل الأبواق ، ويرتجف من إرعاد الطبول ، ونظر فإذا الرايات تلوح على حواشي الأفق القريب فسأل : ما هذا ؟
قالوا : لقد نفذ الحكم وانسحب الجيش .
هذا الجيش الذي لم يقف في وجهه شيء من مدينة يثرب إلى سمرقند ، والذي اكتسح جيوش كسرى وقيصر وخاقان ، ردته كلمة من شيخ هزيل خافت الصوت ، ليس معه إلا غلام ، بعد محاكمة لم تستمر إلا دقائق ، ولكنه سينذر وسيعود إلى القتال ، أفتقوى سمرقند على ما عجزت عنه الممالك كلها ؟
أترد صخور هذا المعبد سيل الحق الدافق ، وتأكل ظلمته نور الإسلام ؟
لا ، لقد قضى الله أن يمحو الفجر سلفة الليل ، لقد أطل على العالم يوم جديد ، فلن نتوارى من نور هذا اليوم في ظلمة المعبد .
وأقبل يسأل أصحابه : ما تقولون ؟
فيقول السمرقندي المسلم : أما أنا فلقد شهدت أنه لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله .
فيقول الكاهن : وأنا أشهد .
وتتزلزل سمرقند بالتكبير ... ويعود الجيش المسلم إلى البلد المسلم ، لم يبق حاكم ولا محكوم ، ولا غالب ولا مغلوب ، صار الجميع إخواناً في الله ، لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لقوي على ضعيف ، إلا بالتقوى والصلاح وخلال الخير .
ودخلت سمرقند كلها في الإسلام ، فلن تخرج منه أبداً .


وكتبه : علي الطنطاوي - من كتاب ( قصص من التاريخ )
رد مع اقتباس