عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 11-08-2010, 12:57 PM
أبو عبد الله الأنصاري أبو عبد الله الأنصاري غير متواجد حالياً
قـــلم نــابض
 




افتراضي

حلاوة المناجاة([1]).
وكان ابن مسعود –رضي الله عنه- إذا هدأت العيون قام فيسمع له دوي كدوي النحل حتى يصبح([2]).
ويروى أن طاوسًا جاء في السحر يطلب رجلاً فقالوا: هو نائم، قال: ما كنت أرى أن أحدًا ينام في السحر([3]).
إذا ما الليل أظلم كابدوه




فيسفر عنهم وهم ركوع


أطار الخوف نومهم فقاموا




وأهل الأمن في الدنيا هجوع


لهم تحت الظلام وهم سجود




أنين منه تنفرج الضلوع([4])


أما عمرو بن دينار فإنه جزأ الليل ثلاثة أجزاء، ثلثًا ينام، وثلثًا يدرس حديثه، وثلثًا يصلي([5]).
وهذا كمال الاستفادة من الوقت، ونرى اليوم من أضاع نهاره ثم هو في الليل بين نائم أو قائم على منكر تارك لواجب، لأن النوم والسهر فيما لا فائدة منه مضيعة لأوقات محسوبة باللحظات والأنفاس.
قال محمد بن عبد العزيز بن سليمان: حدثتني أمي قالت: قال أبوك: ما للعابدين وما للنوم؟ لا نوم والله في دار الدنيا إلا نوم غالب، قال: فكان والله لا يكاد ينام إلا مغلوبًا.
وفي أيامنا هذه يشتكي الكثير من الأرق ومن السهر ولا يفكر أن يستفيد من هذا الوقت بصلاة أو قراءة قرآن... بل تجده يتقلب يمنة ويسرة بدون فائدة، فالنوم بعيد والتفكير في صلاة الليل والاستفادة من الوقت غير وارد.
ورحم الله طاوسًا كان إذا اضطجع على فراشه يتقلى عليه كما تتقلى الحبة على المقلاة، ثم ويثب ويصلي إلى الصباح، ثم يقول: طير ذكر جهنم نوم العابدين([6]).
أخي: لما علم الصالحون قصر العمر، وحثهم حادي }وَسَارِعُوا{ طووا مراحل الليل مع النهار انتهابًا للأوقات.
اصغ سمعك لنداء ربك، }فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ{ وبادر طيَّ صحيفتك وأحسر عن رأسك قناع الغافلين، وانتبه من رقدة الموتى وشمر للسباق غدًا، فإن الدنيا ميدان المتسابقين([7]).
عن نافع أنه قال: كان ابن عمر –رضي الله عنه- يحيي الليل صلاة ثم يقول: يا نافع أسحرنا؟ فأقول: لا، فيعاود الصلاة إلى أن أقول: نعم، فيقعد ويستغفر ويدعو حتى يصبح.
وها هو الحسن بن علي لا يزال مصليًا ما بين المغرب والعشاء فقيل له في ذلك فقال: إنها ناشئة الليل.
أما منصور بن المعتمر فكان يصلي في سطحه فلما مات، قال غلام لأمه: يا أماه: الجذع الذي كان في سطح آل فلان ليس أراه.
قالت: يا بني ليس ذاك بجذع.. ذاك منصور قد مات([8]).
أخي الحبيب أين نحن من هؤلاء؟
كرر عليَّ حديثهم يا حادي




فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي([9])


كان أسيد –رضي الله عنه- إذا أوى إلى فراشه يتقلب كالحبة على المقلى ويقول:إنك لين، وفراش ألين منك (*)، ولا يزال راكعًا وساجدًا إلى الصباح([10]).
ولم يكن أمام أعينهم هدف سوى الوصول إلى مرضاة الله ودخول جنات عدن، فانظر إلى صنيعهم كما قال عبد الله بن داود: كان أحدهم إذا بلغ أربعين سنة طوى فراشه كان لا ينام
الليل
([11]).

وهم كما قال فيهم القائل:
ألستم خير من ركب المطايا




وأندى العالمين بطون راح؟([12])


ونحن ينطبق علينا قول إبراهيم التيمي: «كم بينكم وبين القوم، أقبلت عليهم الدنيا فهربوا، وأدبرت عنكم فاتبعتموها»([13]).
فالدنيا مضمار سباق وقد انعقد الغبار وخفي السابق، والناس في المضمار بين فارس وراجل وأصحاب حمر معقرة([14]).
قس على نفسك أخي انظر أين أنت منهم. اعلم أن من علامات الشقاء ما قاله مالك بن دينار... أربع من علامات الشقاء: قسوة القلب وجمود العين وطول الأمل والحرص على الدنيا([15]).
* ذات ليلة زار قيس بن مسلم، محمد بن جحادة، فأتاه وهو في المسجد بعد صلاة العشاء، ومحمد قائم يصلي، فقام قيس بن مسلم في الناحية الأخرى يصلي، فلم يزالا على ذلك حتى طلع الفجر، وكان قيس بن مسلم إمام مسجده، فرجع إلى الحي فأمهم، ولم يلتقيا، ولم يعلم محمد مكانه، فقال بعض أهل المسجد: زارك أخوك قيس بن مسلم البارحة فلم تنفتل إليه. قال: ما علمت مكانه، فغدا عليه فلما رآه قيس بن مسلم مقبلاً قام إليه فاعتنقه، ثم خلوا جميعًا فجعلا يبكيان([16]).
وحالنا اليوم تبدلت فما أن يسلم الإمام حتى ترى من يتفحص الوجوه ويلتفت يمنة ويسرة بدون داع فيؤثر على سكونه وهدوئه، وربما غفل عن الأذكار الواردة بعد الصلاة.
حدث المغيرة بن حبيب فقال: يموت مالك بن دينار وأنا معه في الدار لا أدري ما عمله! قال: فصليت معه العشاء الآخرة ثم جئت فلبست قطيعة في أطول ما يكون الليل، قال: وجاء مالك فقرب رغيفه فأكل ثم قام إلى آخر الصلاة فاستفتح ثم أخذ بلحيته فجعل يقول: إذا جمعت الأولين والآخرين فحرم شيبة مالك بن دينار على النار، فوالله مازال كذلك حتى غلبتني عيني، ثم انتبهت فإذا هو على تلك الحال يقدم رجلاً ويؤخر رجلاً، ويقول يا رب إذا جمعت الأولين والآخرين فحرم شيبة مالك بن دينار على النار، فما زال كذلك حتى طلع الفجر([17]).
لله قوما خلصوا في حبه




فاختارهم ورضي بهم خدامًا


قوم إذا جن الظلام عليهم




أبصرت قومًا سجدًا وقيامًا


فسيغنمون عرائسًا بعرائس




ويبوءون من الجنان خيامًا


وتقر أعينهم بما أخفي لهم




ويسمعون من الجليل سلامًا


يتلذذون بذكره في ليلهم




ويكابدون لدى النهار صيامًا([18])


وذكر أن أبا حنيفة قام ليلة بهذه الآية: }بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ{ [سورة القمر، الآية: 46]، يرددها ويبكي ويتضرع([19]).
هذا معمر مؤذن سليمان التيمي يقول: صلى إلى جنبي سليمان التيمي بعد العشاء الآخرة وسمعته يقرأ: }تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ{ [سورة الملك، الآية: 1]، فلما أتى على هذه الآية: }فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا{ [سورة الملك، الآية 27] جعل يرددها حتى خفّ أهل المسجد فانصرفوا، فخرجت وتركته، وغدوت لأذان الفجر فنظرت فإذا هو في مقامه فسمعت، فإذا هو لم يجزها وهو يقول }فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا{([20]).
لما عرف الموفقون قدر الحياة الدنيا وقلة المقام فيها أماتوا فيها الهوى طلبًا لحياة الأبد، ولما استيقظوا من نوم الغفلة استرجعوا بالجد ما انتهبه العدو منهم في زمن البطالة، فلما طالت عليهم الطريق فلمَّحوا المقصد، فقرب عليهم البعيد، وكلما أمرت لهم الحياة حلي لهم تذكر: }هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ{ [سورة الأنبياء، آية: 103]([21]).
وقال القاسم بن أبي أيوب: «سمعت ابن جبير يردد هذه الآية في الصلاة بضعًا وعشرين مرة: }وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ{ [سورة البقرة الآية: 281]»([22]).
لله ساهر ليله ما يهجع




وجل الفؤاد من الذنوب مصدع


يبكي بدمع ساكب هفواته




والليل في جلباته متبرقع


ندمًا على ما كان من عصيانه




ملكًا تذل له الملوك وتخضع


يا رب، ما للذنب غيرك غافر




وإليك منه يا إلهي المفزع


يا رب عبدك ضارع فاغفر له




ما لم يزل يدعوك فيه ويضرع([23])


قيل لبعضهم: كيف الليل عليك؟ فقال: ساعة أنا فيها بين حالتين، أفرح بظلمته إذا جاء وأغتم بفجره إذا طلع، ما تم فرحي به قط([24]).
وقال وهب بن الورد في نداء حار وكلمات مؤثرة: إن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحد فافعل([25]).
أخي الحبيب... في هذه الأمة سباق إلى الخير أين أنت منه؟
قال قتادة: إن الملائكة تفرح بالشتاء للمؤمن، يقصر النهار فيصومه ويطول الليل فيقومه.
وذكر أن عامرًا لما حضر جعل يبكي.. فقالوا: ما يبكيك يا عامر؟! قال: ما أبكي جزعًا من الموت ولا حرصًا على الدنيا ولكني أبكي على ظمأ الهواجر وقيام الشتاء([26]).
ولما رأى المتيقظون سطوة الدنيا بأهلها، وخداع الأمل لأربابه، وتملك الشيطان وقيادة النفوس، ورأوا الدولة للنفس الأمارة لجئوا إلى حصن التضرع والالتجاء([27]).
قال إبراهيم بن أدهم : أفضل الأعمال في الميزان أثقلها على الأبدان،ومن وفى العمل وفي له الأجر، ومن لم يعمل رحل من الدنيا إلى الآخرة بلا قليل ولا كثير([28]).
ولما لقيام الليل من الأجر العظيم والثواب الجزيل حث r أن يعم هذا الخير أهل البيت جميعهم فقال عليه الصلاة والسلام: «رحم الله امرأة قامت من الليل، ثم أيقظت زوجها فصلى، فإن أبى نضحت الماء في وجهه»([29])، وقال r: «من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين، كتبا من الذاكرين كثيرًا والذاكرات»([30]).
واهتم السلف الصالح بأمر أسرهم وساروا على نهجه r في الحث على الخير والتذكير به.
فعن القاسم بن راشد الشيباني قال... كان رفعة بن صالح نازلاً عندنا، وكان له أهل وبنات وكان يقوم فيصلي ليلاً طويلاً، فإذا كان السحر نادى بأعلى صوته...
يا أيها الركب المعرسونا




أكل هذا الليل ترقدونا؟


ألا تقومون فتصلونا؟



قال.. فيتواثبون؛ من هنا باكٍ، ومن ههنا داعٍ، ومن ههنا قارئ، ومن ههنا متوضئ، فإذا طلع الفجر نادى بأعلى صوته عند الصباح يحمد القوم السرى([31]).
امنع جفونك أن تذوق مناما




وذر الدموع على الخدود سجاما


واعلم بأنك ميت ومحاسب




يا من على سخط الجليل أقاما


لله قوم أخلصوا في حبه




فرضي بهم واختصهم خداما


قوم إذا جن الظلام عليهم




باتوا هنالك سجدًا وقيامًا


خمص البطون من التعفف ضمرا




لا يعرفون سوى الحلال طعاما


وحين تزوج رياح القسي امرأة فبنى بها فلما أصبح قامت إلى عجينتها، فقال: لو نظرت إلى امرأة تكفيك هذا، فقالت: إنما تزوجت رياحًا القسي ولم أرني تزوجت جبارًا عنيدًا، فلما كان الليل نام ليختبرها، فقامت ربع الليل ثم نادته، قم يا رياح، فقال: أقوم، فلم يقم، فقامت الربع الآخر ثم نادته فقالت: قم يا رياح، فقال: أقوم. فلم يقم، فقامت الربع الآخر ثم نادته فقالت: قم يا رياح، فقال: أقوم. فقالت: مضى الليل وعسكر المحسنون وأنت نائم، ليت شعري من غرني بك يا رياح، قال: وقامت الربع الباقي([32]).
وانتبهت امرأة حبيب العجمي بن محمد ليلة وهو نائم، فأنبهته في السحر، وقالت له: قم يا رجل فقد ذهب الليل وجاء

([1]) الإحياء 1/423.

([2]) الإحياء 1/419.

([3]) السير 5/42، صفة الصفوة 2/285.

([4]) عقود اللؤلؤ والمرجان 270.

([5]) السير 5/302.

([6]) الإحياء 1/420.

([7]) رهبان الليل 37.

([8]) السير 5/406، صفة الصفوة 3/113

([9]) بستان العارفين 4.
(*) يعني في الجنة.

([10]) الزهر الفائح 20.

([11]) الإحياء 4/435.

([12]) شذرات الذهب 1/141.

([13]) الفوائد 65.

([14]) السير 5/61 حلية الأولياء 4/212.

([15]) كتاب الزهد الكبير للبيهقي 195.

([16]) صفة الصفوة 3/127.

([17]) حلية الأولياء 2/361.

([18]) عقود اللؤلؤ 79.

([19]) تاريخ بغداد 13/357.

([20]) حلية الأولياء 3/29.

([21]) الفوائد 60.

([22]) صفة الصفوة 3/77.

([23]) عقود اللؤلؤ 51.

([24]) الإحياء 1/423.

([25]) رهبان الليل 36.

([26]) الزهد للإمام أحمد بن حنبل 323.

([27]) الفوائد 62.

([28]) كتاب الزهد للبيهقي 282.

([29]) أخرجه أبو داود وابن ماجه.

([30]) أخرجه أبو داود والنسائي.

([31]) صفة الصفوة 2/229.

([32]) صفة الصفوة 444.
رد مع اقتباس