عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 02-26-2008, 06:37 PM
الوليد المصري الوليد المصري غير متواجد حالياً
مراقب عام
 




افتراضي معركة الحجاب بين المنفلوطي وأحد الأدعياء

 

معركة الحجاب بين المنفلوطي وأحد الأدعياء
ذهب فلان إلى أوروبا وما ننكر من أمره شيئًا، فلبث فيها بضع سنين. ثم عاد وما بقي مما كنا نعرفه منه شيء.
ذهب بوجه كوجه العذراء ليلة عرسها، وعاد بوجه كوجه الصخرة الملساء تحت الليلة الماطرة. وذهب بقلب نقي طاهر يأنس بالعفو ويستريح إلى العذر، وعاد بقلب ملفف مدخول لا يفارقه السخط على الأرض وساكنها، والنقمة على السماء وخالقها. وذهب بنفس غضة خاشعة ترى كل نفس فوقها، وعاد بنفس ذهابة نزّاعة لا ترى شيئًا فوقها، ولا تلقي نظرة واحدة على ما تحتها. وذهب برأس مملوءة حكمًا ورأيًا، وعاد برأس كرأس التمثال المثقب لا يلمؤها إلا الهواء المتردد. وذهب وما على وجه الأرض أحب إليه من دينه ووطنه، وعاد وما على وجهها أصغر في عينيه منهما.
وكنت أرى أن هذه الصورة الغريبة التي يتراءى فيها هؤلاء الضعفاء من الفتيان العائدين من تلك الديار إلى أوطانهم إنما هي أصباغ مفرغة على أجسامهم إفراغًا، لا تلبث أن تطلع عليها شمس المشرق حتى تتصل وتتطاير ذراتها في أجواء السماء، وأن مكان المدنية الغربية من نفوسهم مكان الوجه من المرآة؛ إذا انحرف عنها زال خياله منها.
فلم أشأ أن أفارق ذلك الصديق ولبسته على علاته وفاء بعهده السابق ورجاء لغده المنتظر، محتملا في سبيل ذلك من حمقه ووسواسه وفساد تصوراته وغرابة أطواره، ما لا طاقة لمثلي باحتمال مثله، حتى جاءني ذات ليلة بداهية الدواهي ومصيبة المصائب، فكانت آخر عهدي به.
دخلت عليه فرأيته واجمًا مكتئبًا فحييته فأومأ إلي بالتحية إيماء، فسألته ما باله، فقال:
"ما زلت منذ الليلة من هذه المرأة في عناء لا أعرف السبيل إلى الخلاص منه، ولا أدري مصير أمري فيه."
قلت: "وأي امرأة تريد؟"
قال: "تلك التي يسميها الناس زوجتي، وأسميها الصخرة العاتية في طريق مطالبي وآمالي".
قلت: إنك كثير الآمال يا سيدي فعن أي آمالك تتحدث؟"
قال: "ليس لي في الحياة لا أمل واحد هو أن أغمض عيني ثم أفتحها فلا أرى برقعًا على وجه امرأة في هذه البلد!".
قلت: "ذلك ما لا تملكه ولا رأي لك فيه".
قال: "إن كثيرًا من الناس يرون في الحجاب رأيي، ويتمنون في أمره ما أتمنى، ولا يحول بينهم وبين نزعه عن وجوه نسائهم وإبرازهن إلى الرجال يجالسنهم كما يجلس بعضهن إلى بعض إلا العجز والضعف والهيبة التي لا تزال تلم بنفس الشرقي كلما حاول الإقدام على أمر جديد.
"فرأيت أن أكون أول هادم لهذا البناء العادي [نسبة إلى قبيلة عاد] القديم الذي وقف سدًا دون سعادة الأمة وارتقائها دهرًا طويلا، وأن يتم على يدي ما لم يتم على يد أحد غيري من دعاة الحرية وأشياعها.
"فعرضت الأمر على زوجتي فأكبرته وأعظمته، وخيل إليها أنني جئتها بإحدى النكبات العظام والرزايا الجسام، وزعمت أنها إن برزت إلى الرجال فإنها لا تستطيع أن تبرز إلى النساء بعد ذلك حياء منهن وخجلا."
"ولا خجل هناك ولا حياء، ولكنه الموت والجمود والذل الذي ضربه الله على هؤلاء النساء في هذا البلد أن يعشن في قبور مظلمة من خدورهن وخمرهن حتى يأتيهن الموت فينتقلن من مقبرة الدنيا إلى مقبرة الآخرة، فلابد لي أن أبلغ أمنيتي، وأن أعالج هذا الرأس القاسي المتحجر علاجًا ينتهي بإحدى الحسنين إما بكسره أو بشفائه."
فورد علي من حديثه ما ملأ نفسي همًّا وحزنًا ونظرت إليه نظرة الراحم الرائي، وقلت:
"أعالم أنت أيها الصديق ما تقول؟"
قال: "نعم أقول الحقيقة التي اعتقدها وأدين نفسي بها. واقعة من نفسك ونفوس الناس جميعا حيث وقعت."
قلت: "هل تأذن لي أن أقول لك إنك عشت فترة طويلة في ديار قوم لا حجاب بين رجالهم ونسائهم، فهل تذكر أن نفسك حدثتك يومًا من الأيام وأنت فيهم بالطمع في شيء مما لا تملك يمينك من أعراض نسائهم، فنلت ما تطمع فيه من حيث لا يشعر مالكه؟"
قال: "ربما وقع لي شيء من ذلك فماذا تريد؟"
قلت"أتريد أن أقول لك إني أخاف علي عرضك أن يلم به من الناس ما ألم بأعراض الناس منك."
قال: "إن المرأة الشريفة تستطيع أن تعيش بين الرجال من شرفها وعفتها في حصن حصين لا تمتد إليه المطامع."
فتداخلني ما لم أملك نفسي معه، وقلت له: "تلك هي الخدعة التي يخدعكم بها الشيطان أيها الضعفاء، والثُّلمة التي يعثر بها في زوايا رؤوسكم فينحدر منها إلى عقولكم ومدارككم فيفسدها عليكم؛ فالشرف كلمة لا وجود لها في قواميس اللغة ومعاجمها، فإن أردنا أن نفتش عنها في قلوب الناس وأفئدتهم قلما نجدها. والنفس الإنسانية كالغدير الراكد لا يزال صافيًا رائقا حتى يسقط فيه حجر فإذا هو مستنقع كدر. والعفة لون من ألوان النفس لا جوهر من جواهرها، وقلما تثبت الألوان على أشعة الشمس المتساقطة."
قال: "أتنكر وجود العفة بين الناس؟"
قلت: "لا أنكرها لأني أعلم أنها موجودة بين البله الضعفاء والمتكلفين؛ ولكني أنكر وجودها عند الرجل القادر المختلب والمرأة الحاذقة المترفقة إذا سقط بينهما الحجاب وخلا وجه كل منهما لصاحبه.
"في أي جو من أجواء هذا البلد تريدون أن تبرز نساؤكم لرجالكم؟"
"أفي جو المتعلمين، وفيهم من سئل مرة: لِمَ لَمْ يتزوج؟ فأجاب: نساء البلد جميعا نسائي!؟
"أم في جو الطلبة، وفيهم من يتوارى عن أعين خلانه وأترابه حياء وخجلا إن خلت محفظته يومًا من الأيام من صور عشيقاته وخليلاته، أو أقفرت من رسائل الحب والغرام؟
"أم في جو الرعاع والغوغاء، وكثير منهم يدخل البيت خادمًا ذليلا، ويخرج منه صهرًا كريمًا؟


يتبع
رد مع اقتباس