عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 02-26-2008, 06:43 PM
الوليد المصري الوليد المصري غير متواجد حالياً
مراقب عام
 




افتراضي

"وبعد: فيما هذا الولع بقصة المرأة، والتَّمَنطق [تَمَنطق: صَوَّت بلسانه عند استطابة الطعام] بحديثها، والقيام والقعود بأمرها وأمر حجابه وسفورها، وحريتها وأسرها، كأنما قد قمتم بكل واجب للأمة عليكم في أنفسكم، فلم يبق إلا أن تفيضوا من تلك النعم على غيركم؟!
"هذبوا رجالكم قبل أن تهذبوا نسائكم، فإن عجزتم عن الرجال فأنتم عن النساء أعجز!
"أبواب الفخر أمامكم كثيرة، فاطرقوا أيها شئتم، ودعوا هذا الباب موصدًا؛ فإنكم إن فتحتموه فتحتم على أنفسكم ويلا عظيمًا وشقاء طويلا.
"أروني رجلا واحدًا منكم يستطيع أن يزعم في نفسه أنه يمتلك هواه بين يدي امرأة يرضاها؛ فأصدق أن امرأة تستطيع أن تملك هواها بين يدي رجل ترضاه!
"إنكم تكلفون المرأة ما تعلمون أنكم تعجزون عنه، وتطلبون عندها ما لا تعرفونه عند أنفسكم، فأنتم تخاطرون بها في معركة الحياة مخاطرة لا تعلمون أتربحونها من بعدها أن تخسرونها، وما أحسبكم إلا خاسرين.
"ما شكت المرأة إليكم ظلمًا، ولا تقدمت إليكم في أن تحلوا قيدها وتطلقوها من أسرها، فما دخولكم بينهما وبين نفسها؟ وما تمضغكم ليلك ونهاركم بقصصها وأحاديثها؟
"إنها لا تشكو إلا فضولكم وإسفافكم، ومضايقتكم لها ووقوفكم في وجهها حيثما سارت وأينما حلت، حتى ضاق بها وجه الفضاء فلم تجد لها سبيلا إلا أن تسجن نفسها بنفسها في بيتها فوق ما سجنها أهلها فأوصدت من دونها بابها، وأسبلت أستارها؛ تبرمًا بكم وفرارًا من فضولكم، فوا عجبًا لكم تسجنونها بأيديكم ثم تقفون على باب سجنها تبكونها وتندبون شقاءها!
"إنكم لا ترثون لها بل ترثون لأنفسكم، ولا تبكون عليها بل على أيام قضيتموها في ديار يسيل جوها تبرجًا وسفورًا، ويتدفق خلاعة واستهتارًا، تودون بجدع الأنف لو ظفرتم هنا بذلك العيش الذي خلفتموه هناك.
"لقد كنا وكانت العفة في سِقاء [السقاء: وعاء من جلد يكون للماء واللبن] من الحجاب موكوء [أوكى القربة: شد رأسها بالوكاء، والوكاء: الرباط] فما زلتم به تثقبون في جوانبه كل يوم ثقبًا والعفة تتسلل منه قطرة قطرة حتى تقبض [تقبض: ييس] وتكرش، ثم لم يكفكم ذلك منه حتى جئتم اليوم تريدون أن تحلوا وكاءه حتى لا تبقى فيه قطرة واحدة!
"عاشت المرأة المصرية حقبة من دهرها هادئة مطمئنة في بيتها، راضية عن نفسها وعن عيشها، ترى السعادة كل السعادة في واجب تؤديه لنفسها، أو وقفة تقفها بين يدي ربها، أو عطفة تعطفها على ولدها، أو جلسة تجلسها إلى جارتها تبثها ذات نفسها وتستبثها سرير قلبها، وترى الشرف كل الشرف في خضوعها لأبيها وائتمارها بأمر زوجها، ونزولها عند رضاهما. وكانت تفهم معنى الحب وتجهل معنى الغرام، فتحب زوجها لأنه زوجها، كما تحب ولدها لأنه ولدها، فإن رأى غيرها من النساء أن الحب أساس الزواج رأت هي أن الزواج أساس الحب.
"فقلتم لها: إن هؤلاء الذين يستبدون بأمرك من أهلك ليسوا بأوفر منك عقلا ولا أفضل رأيًا، ولا أقدر على النظر لك من نظرك لنفسك، فلا حق لهم في هذا السلطان الذي يزعمونه لأنفسهم عليك، فازدرت أباها؛ وتمردت على زوجها وأصبح البيت الذي كان بالأمس عرسًا من الأعراس الضاحكة مناحة قائمة لا تهدأ نارها، ولا يخبو أوارها.
"وقلتم لها: لابد لك أن تختاري زوجك بنفسك حتى لا يخدعك أهلك عن سعادة مستقبلك؛ فاختارت لنفسها أسوأ مما اختار لها أهلها، فلم يزد عمر سعادتها على يوم وليلة ثم الشقاء الطويل بعد ذلك والعذاب الأليم.
"وقلتم لها: إن الحب أساس الزواج؛ فما زالت تقلب عينها في وجوه الرجال مصعدة مصوبة حتى شغلها الحب عن الزواج فعُنيت به عنه!
"وقلتم لها: إن سعادة المرأة في حياتها أن يكون زوجه عشيقها، وما كانت تعرف إلا أن الزوج غير العشيق. فأصبحت تطلب في كل يوم زوجًا جديدًا يحيي من لوعة الحب ما أمات الزوج القديم، فلا قديمًا استبقت ولا جديدًا أفادت [أفاد: بمعنى استفاد]!
"وقلتم لها: لا بد أن تتعلمي لتحسني تربية ولدك، والقيام على شئون بيتك؛ فتعلمت كل شيء إلا تربية ولدها، والقيام على شئون بيتها!
"وقلتم لها: نحن لا نتزوج من النساء إلا من نحبها ونرضاها ويلائم ذوقها ذوقنا، وشعورها شعورنا. فرأت أن لا بد لها أن تعرف مواقع أهوائكم، ومباهج أنظاركم لتتجمل لكم بما تحبون، فراجعت فهرس حياتكم صفحة صفحة فلم تر فيه غير أسماء الخليعات المستهترات، والضحكات اللاعبات والإعجاب بهن والثناء على ذكائهن وفطنتهن؛ فتخلعت واستهترت لتبلغ رضاكم، وتنزل عند محبتكم، ثم مشت إليكم بهذا الثوب الرقيق الشفاف تعرض نفسها عليكم عرضًا، كما تعرض الأمة نفسها في سوق الرقيق فأعرضتم عنها ونبوتم بها."
"وقلتم لها: إنا لا نتزوج النساء العاهرات، كأنكم لا تبالون أن يكون نساء الأمة جميعًا ساقطات إذا سلمت لكم نساؤكم، فرجعت أدراجها خائبة منكسرة وقد أباها الخليع، وترفع عنه المحتشم، فلم تجد بين يديها غير باب السقوط فسقطت.
"وكذلك انتشرت الريبة في نفوس الأمة جميعًا وتمشت الظنون بين رجالها ونسائها، فتعاجز الفريقان وأظلم الفضاء بينهما، وأصبحت البيوت كالأديرة لا يرى فيها الرائي إلا رجالا مترهبين ونساء عانسات.
"ذلك بكاؤكم على المرأة أيها الراحمون، وهذا رثاؤكم لها وعطفكم عليها!
"نحن نعلم، كما تعلمون، أن المرأة في حاجة إلى العلم، فليهذبها أبوها أو أخوها، فالتهذيب أنفع لها من العلم؛ وإلى اختيار الزوج العادل الرحيم. فليحسن الآباء اختيار الأزواج لبناتهم وليجمل الأزواج عشرة نسائهم. وإلى النور والهواء تبرز إليهما وتتمتع فيهما بنعمة الحياة، فليأذن لها أولياؤها بذلك؛ وليرافقها رفيق منهم في غدواتها وروحاتها، كما يرافق الشاة راعيها خوفًا عليها من الذئاب، فإن عجزنا عن أن نأخذ الآباء الإخوة والأزواج بذلك فلننقض أيدينا من الأمة جميعها نسائها ورجالها، فليست المرأة بأقدر على إصلاح نفسها من الرجل على إصلاحها.
"أعجب ما أعجب له في شئونكم أنكم تعلمتم كل شيء إلا شيئًا واحدًا، هو أدنى إلى مدارككم أن تعلموه قبل كل شيء، وهو أن لكل تربة نباتًا ينبت فيها، ولكل نبات زمنًا ينموا فيه!
"رأيتم العلماء في أوروبا يشتغلون بكماليات العلوم بين أمم قد فرغت من ضرورياتها؛ فاشتغلتم بها مثلهم في أمة لا يزال سوادها الأعظم في حاجة معرفة حروف الهجاء!
"ورأيتم الفلاسفة فيها ينشرون فلسفة الكفر بين شعوب ملحدة لها من عقولها وآدابها ما يغنيها بعض الغناء عن إيمانها؛ فاشتغلتم بنشرها بين أمة ضعيفة ساذجة لا يغنيها عن إيمانها شيء، إن كان هناك ما يغني عنه!
ورأيت الرجل الأوروبي حرًا مطلقًا، يفعل ما يشاء، ويعيش كما يريد، لأنه يستطيع أن يملك نفسه وخطواته في الساعة التي يعلم فيها أنه قد وصل إلى حدود الحرية التي رسمها لنفسه فلا يتخطاها، فأردتم أن تمنحوا هذه الحرية نفسها رجلا ضعيف الإرادة والعزيمة يعيش من حياته الأدبية في رأس منحدر زلق، إن زلت به قدمه مرة تدهور من حيث لا يستطيع أن يستمسك حتى يبلغ الهوة ويتردى في قرارتها.
"ورأيتم الزوج الأوربي الذي أطفأت البيئة غيرته، وأزالت خشونة نفسه وحرشتها يستطيع أن يرى زوجته تخاصر من تشاء، وتصاحب من تشاء، وتخلو بمن تشاء، فيقف أمام ذلك المشهد موقف الجامد المتبلد، فأردتم الرجل الشرقي الغيور الملتهي أن يقف موقفه، ويستمسك استمساكه.
"ورأيتم المرأة الأوروبية الجريئة المتفتية في كثير من مواقفها مع الرجال تحتفظ بنفسها وكرامتها، فأردتم من المرأة المصرية الضعيفة الساذجة أن تبرز للرجال بروزها، وتحتفظ بنفسها احتفاظها!
"وكل نبات يزرع في أرض غير أرضه، أو في ساعة غير ساعته، إما أن تأباه الأرض فتلفظه، وإما أن ينشب فيها فيفسدها.
"إنا نضرع إليكم باسم الشرف الوطني والحرمة الدينية أن تتركوا تلك البقية الباقية من نساء الأمة مطمئنات في بيوتهن، ولا تزعجوهن بأحلامكم وآمالكم، كما أزعجتم من قبلهن. فكل جرح من جروح الأمة له دواء إلا جرح الشرف. فإن أبيتم إلا أن تفعلوا فانتظروا بأنفسكم قليلا ريثما تنتزع الأيام من صدوركم هذه الغيرة التي ورثتموها عن آبائكم وأجدادكم لتستطيعوا أن تعيشوا في حياتكم سعداء آمنين."
فما زاد الفتى على أن ابتسم في وجهي ابتسامة الهزء والسخرية، وقال: "تلك حماقات ما جئنا إلا لمعالجتها؛ فلنصطبر عليها حتى يقضي الله بيننا وبينها."
فقلت له: "ولك أمرك في نفسك وفي أهلك فاصنع بهما ما تشاء، وائذن لي أن أقول لك إني لا استطيع أن اختلف إلى بيتك بعد اليوم إبقاء عليك وعلى نفسي؛ لأني أعلم أن الساعة التي ينفرج لي فيها جانب ستر من أستار بيتك عن وجه امرأة من أهلك تقتلني حياء وخجلا." ثم انصرفت، وكان هذا فراق بيني وبينه.
وما هي إلا أيام قلائل، حتى سمعت الناس يتحدثون أن فلانًا هتك الستر في منزله بين نسائه ورجاله، وأن بيته أصبح مغشيًا لا تزال النعال خافقة ببابه، فذرفت عيني دمعة، لا أعلم هل هي دمعة الغيرة على العرض المذال، أو الحزن على الصديق المفقود؟
مرت على تلك الحادثة ثلاثة أعوام لا أزوره فيها، ولا يزورني، ولا ألقاه في طريقه إلا قليلا فأحييه تحية الغريب للغريب من حيث لا يجري لما كان بيننا ذكر، ثم أنطلق في سبيلي.


يتبع
رد مع اقتباس