عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 01-19-2011, 08:50 PM
الفاررة الي الله الفاررة الي الله غير متواجد حالياً
قـــلم نــابض
 




افتراضي

الباب الأول العصر الجاهلي
الفصل الأول
الإنسانية في الاحتضار
كان القرن السادس والسابع (لميلاد المسيح) من أحط أدوار التاريخ بلا خلاف ، فكانت الإنسانية متدلية منحدرة منذ قرون ، وما على وجه الأرض قوة تمسك بيدها وتمنعها من التردي ، فقد زادتها الأيام سرعة في هبوطها وشدة في إسفافها ، وكأنَّ الإنسان في هذا القرن قد نسي خالقه ، فنسي نفسه ومصيره ، وفقد رشده ، وقوة التمييز بين الخير والشر ، والحسن والقبيح
وقد خفتت دعوة الأنبياء من زمن ، والمصابيح التي أوقدوها قد انطفأت من العواصف التي هبت بعدهم أو بقيت ، ونورها ضعيف ضئيل لا ينير إلا بعض القلوب فضلاً عن البيوت فضلاً عن البلاد ، وقد انسحب رجال الدين من ميدان الحياة ، ولاذوا إلى الأديرة والكنائس والخلوات ، فراراً بدينهم من الفتن وضناً بأنفسهم ، أو رغبة إلى الدعة والسكوت ، وفراراً من تكاليف الحياة وجدها ، أو فشلاً في كفاح الدين والسياسة والروح والمادة ، ومن بقي منهم في تيار الحياة اصطلح مع الملوك وأهل الدنيا ، وعاونهم على إثمهم وعدوانهم ، وأكل أموال الناس بالباطل ... على حساب الضعفاء والمحكومين . وإن الإنسانية لا تشقى بتحول الحكم والسلطان والرفاهية والنعيم من فرد إلى فرد آخر من جنسه ، أو من جماعة إلى جماعة أخرى مثلها في الجور والاستبداد وحكم الإنسان للإنسان ، وإن هذا الكون لا يتفجع ولا يتألم فقط بانحطاط أمة أدركها الهرم وسرى فيها الوهن ، وسقوط دولة تآكلت جذورها وتفككت أوصالها ، بل بالعكس تقتضي ذلك سنة الكون ، وإن دموع الإنسان لأعز من أن تفيض كل يوم على ملك راحل وسلطان زائل ، وإنه لفي غنى ، وإنه لفي شغل عن أن يندب من لم يعمل يوماً لإسعاده ، ولم يكدح ساعة لصالحه ، وإن السماء والأرض لتقسوان كثيراً على هذه الحوادث التي تقع ووقعت كل يوم ووقعت ألوف المرات { كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ{25} وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ{26} وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ{27} كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ{28} فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ }
بل إن كثيراً من هؤلاء السلاطين والأمم كانوا كلاً على ظهر الأرض ، وويلاً للنوع الإنساني وعذاباً للأمم الصغيرة والضعيفة ، ومنبع الفساد والمرض في جسم المجتمع البشري ، يسري منه السم في أعصابه وعروقه ، ويتعدى المرض إلى الجسم السليم فكان لا بد من عملية جراحية ، وكان قطع هذا الجزء السقيم وإبعاده من الجسم السليم مظهراً كبيراً لربوبية رب العالمين ورحمته ، يستوجب الحمد والامتنان من جميع أعضاء الأسرة الإنسانية ، بل من جميع أفراد الكون { فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، ولكن لم يكن انحطاط المسلمين ووال دولتهم وركود ريحهم- وهم حملة رسالة الأنبياء ، وهم للعالم البشري كالعافية للجسم الإنساني- انحطاط شعب أو عنصر أو قومية ، فما أهون خطبه وما أخف وقعه ، ولكنه انحطاط رسالة هي للمجتمع البشري كالروح ، وانهيار دعامة قام عليها نظام الدين والدنيا .
فهل كان انحطاط المسلمين واعتزالهم في الواقع مما يأسف له الإنسان في شرق الأرض وغربها ، وبعد قرون مضت على الحادث ؟
وهل خسر العالم حقاً- وهو غني بالأمم والشعوب- بانحطاط هذه الأمة شيئاً ؟ وفيم كانت خسارته ورزيته ؟
وماذا آل إليه أمر الدنيا ، وماذا صارت إليه الأمم بعدما تولت قيادها الأمم الأوروبية حتى خلفت المسلمين في النفوذ العالمي ، وأسست دولة واسعة على أنقاض الدولة الإسلامية ؟
وماذا أثر هذا التحول العظيم في قيادة الأمم وزعامة العالم في الدين والأخلاق والسياسة والحياة العامة وفي مصير الإنسانية ؟
وكيف يكون الحال لو نهض العالم الإسلامي من كبوته وصحا من غفوته ، وتملك زمام الحياة ؟
ذلك كله ما نحاول الإجابة عنه في الصفحات الآتية ! ...
أبو الحسن علي الحسني


ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ؟
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لم يكن انحطاط المسلمين أولاً ، وفشلهم وانعزالهم عن قيادة الأمم بعد ، وانسحابهم من ميدان الحياة والعمل أخيراً ، حادثاً من نوع ما وقع وتكرر في التاريخ من انحطاط الشعوب والأمم ، وانقراض الحكومات والدول ، وانكسار الملوك والفاتحين ، وانهزام الغزاة المنتصرين ، وتقلص ظل المدنيات . والجزر السياسي بعد المد . فما أكثر ما وقع مثل هذا في تاريخ كل أمة . وما أكثر أمثاله في تاريخ الإنسان العام ! ولكن هذا الحادث كان غريباً لا مثيل له في التاريخ . مع أن في التاريخ مثلاً وأمثلة لكل حادث غريب .
لم يكن هذا الحادث يخص العرب وحدهم ، ولا يخص الشعوب والأمم التي دانت بالإسلام ، فضلاً عن الأسر والبيوتات التي خسرت دولتها وبلادها ، بل هي مأساة إنسانية عامة لم يشهد التاريخ أتعس منها ولا أعم منها . فلو علم العالم حقيقة هذه الكارثة ، ولو عرف مقدار خسارته ورزيته ، انكشف عنه غطاء العصبية ، لاتخذ هذا اليوم النحس – الذي وقعت فيه يوم عزاء ورثاء ، ونياحة وبكاء ، ولتبادلت شعوب العالم وأممه التعازي ، ولبست الأمة ثوب الحداد ، ولكن ذلك لم يتم في يوم ، وإنما وقع تدريجياً في عقود من السنين ، والعالم لم يحسب إلى الآن الحساب الصحيح لهذا الحادث ، ولم يقدره قدره ، وليس عنده المقياس الصحيح لشقائه وحرمانه .
إن العالم لم يخسر شيئاً بانقراض دولة ملكت حيناً من الدهر. وفتحت مجموعاً من البلاد والأقاليم. واستعبدت طوائف من البشر. ونعمت وترفهت .




المسيحية في القرن السادس المسيحي
لم تكن المسيحية في يوم من الأيام من التفصيل والوضوح ومعالجة مسائل الإنسان ، بحيث تقوم عليه حضارة ، أو تسير في ضوئه دولة ، ولكن كان فيها أثارة من تعليم المسيح ، وعليها مسحة من دين التوحيد البسيط ، فجاء بولس فطمس نورها ، وطعّمها بخرافات الجاهلية التي انتقل منها ، والوثنية التي نشأ عليها
وقضى قسطنطين على البقية الباقية ، حتى أصبحت النصرانية مزيجاً من الخرافات اليونانية والوثنية الرومية والأفلاطونية المصرية والرهبانية ، اضمحلت في جنبها تعليم المسيح البسيطة كما تتلاشى القطرة من اليم ، وعادت نسيجاً خشبياً من معتقدات وتقاليد لا تغذي الروح ، ولا تمد العقل ولا تشعل العاطفة ، ولا تحل معضلات الحياة ، ولا تنير السبيل ، بل أصبحت بزيادات المحرفين ، وتأويل الجاهلين ، تحول بين الإنسان والعلم والفكر ، وأصبحت على تعاقب العصور ديانة وثنية ، يقول (Sale) مترجم القرآن إلى الانكليزية عن نصارى القرن السادس الميلادي : ((وأسرف المسيحيون في عبادة القديسين والصور المسيحية حتى فاقوا في ذلك الكاثوليك في هذا العصر(11))) .
الحرب الأهلية الدينية في الدول الرومية :
ثم ثارت حول الديانة وفي صميمها مجادلات كلامية، وسفسطة من الجدل العقيم شغلت فكر الأمة ، واستهلكت ذكاءها ، وابتلعت فدرتها العملية ، وتحولت في كثير من الأحيان حروباً دامية وقتلاً وتدميراً وتعذيباً ، وإغارة وانتهاباً واغتيالاً ، وحولت المدارس والكنائس والبيوت معسكرات دينية متنافسة وأقحمت البلاد في حرب أهلية ، وكان أشد مظاهر هذا الخلاف الديني ما كان بين نصارى الشام والدولة الرومية ، وبين نصارى مصر ، أو بين (الملكانية) و (المنوفيسية) بلفظ أصح ، فكان شعار الملكانية عقيدة ازدواج طبيعة المسيح ، وكان المنوفيسيون يعتقدون أن للسيد المسيح طبيعة واحدة ، وهي الإلهية التي تلاشت فيها طبيعة المسح البشرية ، كقطرة من الخل تقع في بحر عميق لا قرار له . وقد اشتد هذا الخلاف بين الحزبين في القرنين السادس والسابع ، حتى صار كأنه حرب عوان بين دينين متنافسين ، أو كأنه خلاف بين اليهود والنصارى ، كل طائفة تقول للأخرى : إنها ليست على شيء . يقول الدكتور ألفرد . ج . بتلر :
(( إن ذينك القرنين كانا عهد نضال متصل بين المصريين والرومانيين ، نضال يذكيه اختلاف في الجنس واختلاف في الدين ، وكان اختلاف الدين أشد من اختلاف الجنس ، إذ كانت علة العلل في ذلك الوقت تلك بين الملكانية والمنوفيسية ، وكانت الطائفة الأولى- كما يدل عليها اسمها- حزب مذهب الدولة الإمبراطورية وحزب الملك والبلاد ، وكانت تعتقد العقيدة السنية الموروثة ، وهي ازدواج طبيعة المسيح ، على حين أن الطائفة الأخرى وهي حزب القبط المنوفيسيين –أهل مصر- كانت تستبشع تلك العقيدة وتستفظعها ، وتحاربها حرباً عنيفة في حماسة هوجاء يصعب علينا أن نتصورها أو نعرف كنهها في قوم يعقلون ، بلة يؤمنون بالإنجيل (12))) .
وحاول الإمبراطور هرقل (610-641) بعد انتصاره على الفرس سنة 638 جمع مذاهب الدولة المتصارعة وتوحيدها ، وأراد التوفيق ، وتقررت صورة التوفيق ، أن يمتنع الناس عن الخوض في الكلام عن كنه طبيعة السيد المسيح ، وعما إذا كانت له صفة واحدة ، أم صفتان ولكن عليهم بأن يشهدوا بأن الله له إرادة واحدة أو قضاء واحد . وفي صدر عام 631 حصل وفاق على ذلك وصار المذهب المنوثيلي مذهباً رسمياً للدولة ، ومن تضمهم من أتباع الكنيسة المسيحية ، وصمم هرقل على إظهار المذهب الجديد على ما عداه من المذاهب المختلفة له متوسلاً إلى ذلك بكل الوسائل ، ولكن القبط نابذوه العداء وتبرأوا من هذه البدعة والتحريف ، وصمدوا له واستماتوا في سبيل عقيدتهم القديمة ، وحاول الإمبراطور مرة أخرى توحيد المذاهب وحسم الخلاف ، فاقتنع بأن يقر الناس بأن الله له إرادة واحدة ، وأما المسألة الأخرى ، وهي نفاذ تلك الإرادة بالفعل ، فأرجأ القول فيه ، ومنع الناس أن يخوضوا في مناظراتها ، وجعل ذلك رسالة رسمية ، وبعث بها إلى جميع جهات العالم الشرقي ، ولكن الرسالة لم تهدئ العاصفة في مصر ووقع اضطهاد فظيع على يد قيرس في مصر واستمر عشر سنين ، وقع خلالها ما تقشعر منه الجلود ، فرجال كانوا يعذبون ثم يقتلون إغراقاً ، وتوقد المشاعل وتسلط نارها على الأشقياء حتى يسيل الدهن من الجانبين على الأرض ، ويوضع السجين في كيس مملوء من الرمل ويرمى به في البحر ، إلى غير ذلك من الفظائع .
الانحلال الاجتماعي والقلق الاقتصادي :
بلغ الانحلال الاجتماعي غايته في الدولة الرومية والشرقية ، وعلى كثرة مصائب الرعية ازدادت الإتاوات ، وتضاعفت الضرائب . حتى أصبح أهل البلاد يتذمرون من الحكومات . ويمقتونها مقتاً شديداً . ويفضلون عليها كل حكومة أجنبية ، وكانت الإيجارات والمصادرات ضغثاً على إبّالة ، وقد حدثت لذلك اضطرابات عظيمة وثورات . وقد هلك عام 532 في الاضطراب ثلاثون ألف شخص في العاصمة(13) . وعلى شدة الحاجة إلى الاقتصاد في الحياة أسرف الناس فيه ، ووصلوا في التبذل إلى أحط الدركات . وأصبح الهم الوحيد اكتساب المال من أي وجه ، ثم إنفاقه في التظرف والترف وإرضاء الشهوات .
ذابت أسس الفضيلة . وانهارت دعائم الأخلاق . حتى صار الناس يفضلون العزوبة على الحياة الزوجية ليقضوا مآربهم في حرية(14) . وكان العدل كما يقول (سيل) يباع ويساوم مثل السلع . وكانت الرشوة والخيانة تنالان من الأمة التشجيع(15) . يقول (جيبون) : ((وفي آخر القرن السادس وصلت الدولة في ترديها وهبوطها إلى آخر نقطة(16) .
وكان مثلها كمثل دوحة عظيمة كانت أمم العالم في حين من الأحيان تستظل بظلها الوارف . ولم يبق منها إلا الجذع الذي لا يزداد كل يوم إلا ذبولاً(17) )) . ويقول مؤلفو (تاريخ العالم للمؤرخين) : ((إن المدن العظيمة التي أسرع إليها الخراب ولم تسترد مجدها وزهرتها أبداً ، تشهد بما أصيبت به الدولة البيزنطية في هذا العهد من الانحطاط الهائل الذي كانت نتيجته المغالاة في المكوس والضرائب والانحطاط في التجارة ، وإهمال الزراعة ، وتناقص العمران في البلدان(18) )).
مصر في عصر الدولة الرومية ديانة واقتصاداً :
أما مصر ذات النيل السعيد ، والخصب المزيد ، فكانت في القرن السابع من أشقى بلاد الله بالنصرانية ، وبالدولة الرومية معاً ، أما الأولى فلم تستفد منها إلا خلافات ومناظرات في طبيعة المسيح ، وفي فلسفة ما وراء الطبيعة والفلسفة الألهية . وقد ظهرت في القرن السابع في شر مظاهرها ، وأنهكت قوى الأمة العقلية ، وأضعفت قواها العملية ، وأما الأخرى فلم تلق منها إلا اضطهاداً دينياً فظيعاً واستبداداً سياسياً شنيعاً تجرعت في سبيلهما من المرائر في عشر سنين ما ذاقته أوربا في عهد التفتيش الديني في عقود من السنين ، فألهاها ذلك عن كل وطر من أوطار الحياة ، وعن كل مهمة شريفة من مهمات الدين والروح ، فلا هي تتمتع بالحرية السياسية رغم كونها مستعمرة رومية ، ولا هي تتمتع بالحرية الدينية والعقلية ، رغم كونها نصرانية .
ويقول الدكتور غوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب) :
((ولقد أكرهت مصر على انتحال النصرانية . ولكنها هبطت بذلك إلى حضيض الانحطاط الذي لم ينتشلها منه سوى الفتح العربي ، وكان البؤس والشقاء مما كانت تعانيه مصر التي كانت مسرحاً للاختلافات الدينية الكثيرة في ذلك الزمن . وكان أهل مصر يقتتلون ويتلاعنون بفعل تلك الاختلافات ، وكانت مصر التي أكلتها الانقسامات الدينية ، وأنهكها استبداد الحكام تحقد أشد الحقد على سادتها الروم . وتنتظر ساعة تحريرها من براثن قياصرة القسطنطينية الظالمين(19) )).
ويقول الدكتور الفرد .ج . بتلر في كتابه (فتح العرب لمصر) :
(( فالحق أن أمور الدين في القرن السابع كانت في مصر أكبر خطراً عند الناس من أمور السياسة ، فلم تكن أمور الحكم هي التي قامت عليها الأحزاب ، واختلف بعضها عن بعض فيها ، بل كان كل الخلاف على أمور العقائد والديانات ، ولم يكن نظر الناس إلى الدين أنه المعين يستمد منه الناس ما يعينهم على العمل الصالح ، بل كان الدين في نظرهم هو الاعتقاد المجرد في أصول معينة .
(( فكان اختلاف الناس ومناظراتهم العنيفة كلها على خيالات صورية من فروق دقيقة بين المعتقدات ، وكانوا يخاطرون بحياتهم في سبيل أمور لا قيمة لها ، وفي سبيل فروق في أصول الدين وفي فلسفة ما وراء الطبيعة يدق فهمها ، ويشق لإدراكها(20) ))
هذا ، وقد اتخذها الروم شاة حلوباً يريدون أن يستنزفوا مواردها ، ويمتصوا دمها ، يقول ألفرد:
((إن الروم كانوا يجبون من مصر جزية على النفوس وضرائب أخرى كثيرة العدد..مما لاشك فيه أن ضرائب الروم كانت فوق الطاقة، وكانت تجري بين الناس على غير عدل(21)))
ويقول مؤلفو (تاريخ العالم للمؤرخين) :
(( إن مصر كانت تضيف إلى مالية الدولة البيزنطية مجموعاً كبيراً من حاصلها ومنتجاتها ، وكانت طبقات الفلاحة المصرية – مع حرمانها من كل قوة سياسية ومن كل نفوذ – مرغمة على أداء الخرج للدولة الرومية ككراء الأرض فضلاً عن الضرائب ، وكانت ثروة مصر في هذا العهد إلى الانتقاص والانحطاط(22) )) .
وهكذا اجتمع لمصر من الاضطهاد الديني ، والاستبداد السياسي والاستغلال الاقتصادي ما شغلها بنفسها ، وكدر عليها صفو حياتها ، وألهاها عن كل مكرمة .
الحبشة :
أما جارتها الحبشة فكانت على المذهب (المونوفيسي) كذلك ، وكانت مع ذلك تعبد أوثاناً كثيرة استعارت بعضها من الهمجية ، ولم يكن التوحيد إلا ضرباً راقياً من الوثنية خلعت عليها لباساً من علم ومصطلحات نصرانية ، ولم تكن في الدين بذات روح ، ولا في الدنيا بذات طموح ، وقد قضى مجمع (نيقية) أن ليس لها استقلال بأمورها الدينية ، وإنما هي تابعة للكرسي الإسكندري .
الأمم الأوروبية الشمالية الغربية :
أما الأمم الأوروبية المتوغلة في الشمال والغرب فكانت تتسكع في ظلام الجهل المطبق ، والأمية الفاشية ، والحروب الدامية ، لم ينبثق فيها فجر الحضارة والعلم بعد ، ولم تظهر على مسرحها الأندلسي لتؤدي رسالتها في العلم والمدنية ، ولم تصهرها الحوادث ، وكانت بمعزل جادة قافلة الحضارة الإنسانية بعيدة عنها ، لا تعرف عن العالم ولا يعرف العالم المتمدن عنها إلا قليلاً ، ولم تكن – مما يجري في الشرق والغرب مما يغير وجه التاريخ – في عير ولا نفير ، وكانت بين نصرانية وليدة ، ووثنية شائبة ، ولم تكن بذات رسالة في الدين ، ولا بذات راية في السياسة .
يقول هـ . ج . ويلز :
(( ولم تكن في أوربا الغربية في ذلك العهد أمارات الوحدة والنظام(23) )) .
ويقول (Robert Briffault ) :
((لقد أطبق على أوربا ليل حالك من القرن الخامس إلى القرن العاشر ، وكان هذا الليل يزداد ظلاماً وسواداً . قد كانت همجية ذلك العهد أشد هولاً وأفظع من همجية العهد القديم ، لأنها كانت أشبه بجثة حضارة كبيرة قد تعفنت ، وقد انطمست معالم هذه الحضارة وقضي عليها بالزوال ، وقد كانت الأقطار الكبيرة التي ازدهرت فيها هذه الحضارة وبلغت أوجها في الماضي ، كإيطاليا وفرنسا ، فريسة الدمار والفوضى والخراب(24) )) .



(11)Sale's Translation, p. 62 ( 1896)

(12) فتح العرب لمصر ، تعريب محمد فريد أبو حديد ، ص 37 – 38 .

(13)Encyclopeadia Britanica .See Justin

(14)The History of Decline and Fall of the Roman Empire by Edward Gippon v. 3 . p .

(15)Sale's Translation, p.72 ( 1896)

(16)The History of Decline and Fall of the Roman Empire V. Y . P . 13 .

(17)The History of Decline and Fall of the Roman Empire V. Y . P . 13 .

(18)Historian's History of the World V . VII p . 175 .

(19) حضارة العرب ، تعريب عادل زعيتر ، الفصل الرابع (( العرب في مصر صفحة 336 .

(20) فتح العرب لمصر ، ص 47 .

(21) المصدر السابق .

(22)Historian's History of the World , V . VII p. 173 .

(23)A Short History of the World .H . G . Wels

(24)The Making of Humanity, Robert Briffault P . 164

.................................................. .............................



اليهود
وكانت في أوربا وآسيا وإفريقيا أمة هي أغنى أمم الأرض مادة في الدين ، وأقربها فهماً لمصطلحاته ومعانيه ، أولئك هم اليهود ، ولكن لم يكونوا عاملاً من عوامل الحضارة والسياسة أو الدين يؤثر في غيرهم ، بل قُضي عليهم من قرون طويلة أن يتحكم فيهم غيرهم ، وأن يكونوا عرضة للاضطهاد والاستبداد ، والنفي والجلاء ، والعذاب والبلاء ، وقد أورثهم تاريخهم الخاص وما تفردوا به بين أمم الأرض من العبودية الطويلة والاضطهاد الفظيع والكبرياء القومية ، والإدلال بالنسب ، والجشع وشهوة المال وتعاطي الربا ، أورثهم كل ذلك نفسية غريبة لم توجد في أمة وانفردوا بخصائص خلقية كانت لهم شعاراً على تعاقب الإعصار والأجيال ، منها الخنوع عند الضعف ، والبطش وسوء السيرة عند الغلبة ، والختل والنفاق في عامة الأحوال ، والقسوة والأثرة وأكل أموال الناس بالباطل ، والصد عن سبيل الله . وقد وصفهم القرآن الكريم وصفاً دقيقاً عميقاً يصور ما كانوا عليه في القرنين السادس والسابع من تدهور خلقي ، وانحطاط نفسي ، وفساد اجتماعي، عزلوا بذلك عن إمامة الأمم وقيادة العالم.
..............................................



بين اليهود والمسيحيين
وقد تجدد في أوائل القرن السابع من الحوادث ما بغضهم إلى المسيحيين ، وبغض المسيحيين إليهم وشوه سمعتهم ، ففي السنة الأخيرة من حكم فوكاس (610 م ) أوقع اليهود بالمسيحيين في أنطاكية ، فأرسل الإمبراطور قائده " أبنوسوس" ليقضي على ثورتهم ، فذهب وأنفذ عمله بقسوة نادرة ، فقتل الناس جميعاً ، قتلاً بالسيف ، وشنقاً وإغراقاً وتعذيباً ، ورمياً للوحوش الكاسرة .
وكان ذلك بين اليهود والنصارى مرة بعد مرة . قال المقريزي في كتاب الخطط : ((وفي أيام فوقا ملك الروم ، بعث كسرى ملك فارس جيوشه إلى بلاد الشام ومصر فخربوا كنائس القدس وفلسطين وعامة بلاد الشام ، وقتلوا النصارى بأجمعهم وأتوا إلى مصر في طلبهم ، وقتلوا منهم أمة كبيرة ، وسبوا منهم سبياً لا يدخل تحت حصر وساعدهم اليهود في محاربة النصارى وتخريب كنائسهم . وأقبلوا نحو الفرس من طبرية وجبل الجليل ، وقرية الناصرية صور ، وبلاد القدس ، فنالوا من النصارى كل منال ، وأعظموا النكاية فيهم ، وخربوا لهم كنيستين وأحرقوا أماكنهم ، وأخذوا قطعة من عود الصليب ، وأسروا بطرك القدس وكثيراً من أصحابه(25) )) .
إلى أن قال بعد أن ذكر فتح الفرس لمصر :
((فثارت اليهود في أثناء ذلك بمدينة صور وأرسلوا بقيتهم في بلادهم وتواعدوا على الإيقاع بالنصارى وقتلهم ، فكانت بينهم حرب اجتمع فيها من اليهود نحو عشرين ألفا وهدموا كنائس النصارى خارج صور فقوي النصارى عليهم وكاثروهم فانهزم اليهود هزيمة قبيحة وقتل منهم كثير ، وكان هرقل قد ملك الروم بقسطنطينية ، وغلب الفرس بحيلة دبرها على كسرى حتى رحل عنهم ، ثم سار من قسطنطينية ليمهد ممالك الشام ومصر ، ويجدد ما خربها الفرس ، فخرج إليه اليهود من طبرية وغيرها ، وقدموا له الهدايا الجليلة طلبوا منهم أن يؤمنهم ويحلف لهم على ذلك فأمنهم وحلف لهم ، ثم دخل القدس وقد تلقاه النصارى بالأناجيل والصلبان والبخور والشموع المشعلة ، فوجد المدينة وكنائسها وقمامتها خراباً ، فساءه ذلك وتوجع له ، وأعلمه النصارى بما كان من ثورة اليهود مع الفرس وإيقاعهم بالنصارى وتخريبهم الكنائس ، وأنهم كانوا أشد نكاية لهم من الفرس وقاموا قياماً كبيراً في قتلهم من آخرهم ، وحثوا هرقل على الوقيعة بهم ، وحسنوا له ذلك فاحتج عليه بما كان من تأمينه لهم وحلفه ، فأفتاه رهبانهم وبطاركتهم وقسيسوهم بأنه لا حرج عليه في قتلهم ، فإنهم عملوا حيلة حتى أمنهم من غير أن يعلم بما كان منهم ، وأنهم يقومون عنه بكفارة يمينه بأن يلتزموا ويلزموا النصارى بصوم جمعة في كل سنة عنه على ممر الزمان والدهور ، فمال إلى قولهم وأوقع باليهود وقيعة شنعاء أبادهم جميعهم فيها ، حتى لم يبق في ممالك الروم بمصر والشام منهم إلا من فر واختفى الخ )) .
وبهذه الروايات يعلم ما وصل إليه الفريقان ، اليهود والنصارى ، من القسوة والضراوة بالدم الإنساني وتحين الفرص للنكاية في العدو ، وعدم مراعاة الحدود في ذلك ، وبهذه الأخلاق المنحطة والاستهانة بحياة الإنسان لا يمكن لطائفة أو أمة أن تؤدي رسالة الحق والعدل والسلام وتسعد البشرية في ظلها وتحت حكمها .



(25) كتاب الخطط المقريزية ، ج4 ص 392 .







رد مع اقتباس