عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 08-30-2008, 03:35 PM
أبو الحارث الشافعي أبو الحارث الشافعي غير متواجد حالياً
.:: عفا الله عنه ::.
 




افتراضي

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد ...
فأخرج الإمام البخاري رحمه الله في كتاب " الأدب المفرد " بإسناد صححه الألباني
عن مطرف بن عبد الله قال : صحبت عمران بن حصين من الكوفة إلى البصرة ،
فما أتى علينا يوم إلا أنشدنا فيه الشعر ، وقال : إن في معاريض الكلام لمنْدُوحَة عن الكذب .)

وأخرج فيه أيضا رحمه الله بإسناد صحيح
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال عمر :
( أما في المعاريض ما يكفي المسلم من الكذب ؟ )

والمعاريض والمعارض - بإثبات الياء أو بحذفها - من التعريض بالقول ،
قال الجوهري : هو خلاف التصريح ، وهو التورية بالشيء عن الشيء .
وقوله : ( مندوحة ) أي : فسحة ومتسع ، ندحت الشيء إذا وسعته ،
والمعنى : أن في المعاريض ما يغني عن الكذب .

وقال محمد بن سيرين : الكلام أوسع من أن يكذب ظريف .
قال ابن قدامة رحمه الله في " المغني " :
( يعني : لا يحتاج أن يكذب ؛ لكثرة المعاريض ،
وخص الظريف بذلك يعني به الكيس الفطن ، فإنه يفطن للتأويل ، فلا حاجة به إلى الكذب .)

ومن الأمثلة على المعاريض الجائزة ما جاء في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه قال :
( اشتكى ابن لأبي طلحة ، قال : فمات وأبو طلحة خارج ،
فلما رأت امرأته ( وهي أم سُليم ) أنه قد مات هيأت شيئا ونحّته في جانب البيت ،
فلما جاء أبو طلحة قال : كيف الغلام ،
قالت : قد هدأت نفسه ، وأرجو أن يكون قد استراح ، وظن أبو طلحة أنها صادقة ،
قال : فبات فلما أصبح اغتسل ، فلما أراد أن يخرج أعلمته أنه قد مات ،
فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما كان منهما ،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لعل الله أن يبارك لكما في ليلتكما ،
قال سفيان : فقال رجل من الأنصار : فرأيت لهما تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن )

هذا الحديث علقه البخاري رحمه الله تحت باب (المعاريض مندوحة عن الكذب )
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في قول أم سُليم رضي الله عنها " وأرجو أنه استراح " :
( فهم منه أنه استراح من المرض بالعافية ،
ومرادها أنه استراح من نكد الدنيا وألم المرض ، فهي صادقة باعتبار مرادها ،
وخبرها بذلك غير مطابق للأمر الذي فهمه أبو طلحة ،
فمن ثم قال الراوي " وظن أنها صادقة " أي باعتبار ما فهم هو . ) اهـ

وقال رحمه الله تحت باب ( من لم يُظهر حزنه عند المصيبة ) من كتاب الجنائز في " الفتح "
وذلك في سياق بيانه للفوائد المستخرجة من حديث أنس السابق :
( وفيه مشروعية المعاريض الموهمة إذا دعت الضرورة إليها ، وشرط جوازها أن لا تبطل حقا لمسلم )

وقال رحمه الله :
( قال ابن بطال : وهذا أصل في جواز استعمال المعاريض ،
ومحل الجواز فيما يُخلِّص من الظلم أو يُحصِّل الحق ،
وأما استعمالها في عكس ذلك من إبطال الحق أو تحصيل الباطل فلا يجوز .) اهـ

قال الفقير إلى عفو ربه :
فالأولى بالسائلة حفظها الله أن تستعين على إنجاح حوائجها أصلا بالكتمان ،
لأن كل ذي نعمة محسود ، كما صح الحديث بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم
فيما رواه ابن حبان في " روضة العقلاء " والسهمي في " أخبار جرجان "
بإسناد جوَّده الألباني رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ،
فإذا لم تجد مفرا ومخرجا من التحديث والكلام فعليها أن تستعين على إخفاء حالها بمعاريض الكلام
ولا يجوز لها الكذب في هذا السياق ؛ لما تقرر آنفا من إباحة المعاريض المُغنية عن الكذب .

هذا والله تعالى أعلى وأعلم .

تتمة في حكم الحَلِف على المعاريض

بين الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى في " المغني " أن الحالف على المعاريض لا يخلو من ثلاثة أحوال :

أحدها : أن يكون مظلوما ،
فلو صَدَقَ في كلامه لظلمه الظالم ، أو ظلم غيره ، فهذا له أن يحلف على المعاريض .

واستدل رحمه الله على الجواز بما رواه أبو داود وابن ماجة من حديث سويد بن حنظلة قال :
خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا وائل بن حجر ،
فأخذه عدو له ، فتحرج القوم أن يحلفوا ، وحلفت أنه أخي فخلى سبيله ،
فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أن القوم تحرجوا أن يحلفوا وحلفت أنه أخي ،
قال : ( صدقت المسلم أخو المسلم .)

الحال الثاني : أن يكون الحالف ظالما ،
فهذا ينصرف يمينه إلى ظاهر اللفظ الذي عناه المُستَحلِف ، ولا يجوز له الحلف على المعاريض .

ثم استدل رحمه الله على عدم الجواز بدليل وتعليل :
فأما الدليل فما رواه مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
{ اليمين على نية المستحلف }
وما رواه أيضا من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
{ يمينك على ما يصدقك به صاحبك }

وأما التعليل ففيه قوله رحمه الله :
( ولأنه لو ساغ التأويل لبطل المعنى المبتغى باليمين ؛
إذ مقصودها تخويف الحالف ليرتدع عن الجحود ، خوفا من عاقبة اليمين الكاذبة ،
فمتى ساغ التأويل له انتفى ذلك ، وصار التأويل وسيلة إلى جحد الحقوق ،
ولا نعلم في هذا خلافا . ) اهـ

ولذا قال الإمام أحمد في الجمع بين الصورتين حينما سأله مُهَنا عن رجل له امرأتان ،
اسم كل واحدة منهما فاطمة ، فماتت واحدة منهما ، فحلف بطلاق فاطمة ، ونوى التي ماتت ؟
قال : إن كان المستحلف له ظالما ، فالنية نية صاحب الطلاق ،
وإن كان المطلق هو الظالم ، فالنية نية الذي استحلف .
نقله في " المغني "

الحال الثالث : إذا لم يكن ظالما ولا مظلوما ،
فهذا ينصرف يمينه إلى ظاهر اللفظ الذي عناه هو ، و يجوز له الحلف على المعاريض .
قال ابن قدامة رحمه الله : ( ولا نعلم في هذا خلافا .)

ثم استدل رحمه الله بما رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح من حديث أنس رضي الله عنه:
أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، احملني ،
قال النبي صلى الله عليه وسلم : إنا حاملوك على ولد الناقة ،
قال : وما أصنع بولد الناقة ؟ ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وهل تلد الإبل إلا النوق !؟ }

وبما رواه الترمذي في " الشمائل " مرسلا عن الحسن قال :
أتت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت :
يا رسول الله ! ادع الله أن يدخلني الجنة ، فقال : " يا أم فلان ! إن الجنة لا تدخلها عجوز " ،
قال : فولت تبكي . فقال : " أخبروها أنها لا تدخلها و هي عجوز ،
إن الله تعالى يقول : *( إنا أنشأناهن إنشاء . فجعلناهن أبكارا ، عربا أترابا )* "
أورده الألباني رحمه الله في " السلسلة الصحيحة " 6 / 1221

قال ابن قدامة رحمه الله :
( وهذا كله من التأويل والمعاريض ،
وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم حقا ، فقال { إني أمزح ، ولا أقول إلا حقا } .) اهـ

ثم استدل رحمه الله بجملة من الآئار ، ومنها قوله :
( روى سعيد ( أي : ابن منصور ) عن جرير عن المغيرة قال :
كان إذا طلب إنسان إبراهيم ( أي : النخعي ) ، ولم يرد إبراهيم أن يلقاه ،
خرجت إليه الخادم ، وقالت : اطلبوه في المسجد !
وقال له رجل : إني ذكرت رجلا بشيء ، فكيف لي أن أعتذر إليه ؟
قال : قل له : والله إن الله يعلم ما قلت من ذلك من شيء .)

وقال رحمه الله :
( رُوي أن مُهَنا كان عند الإمام أحمد ، هو والمرُّوذي وجماعة ، فجاء رجل يطلب المروذي ،
ولم يرد المروذي أن يكلمه ، فوضع مهنا أصبعه في كفه ، وقال :
ليس المروذي هاهنا ، وما يصنع المروذي هاهنا ؟ يريد : ليس هو في كفه .
ولم ينكر ذلك أبو عبد الله .
ورُوي أن مُهَنا قال له : إني أريد الخروج - يعني السفر إلى بلده –
وأحب أن تسمعني الجزء الفلاني ،فأسمعه إياه ، ثم رآه بعد ذلك ، فقال : ألم تقل إنك تريد الخروج ؟
فقال له مهنا : قلت لك : إني أريد الخروج الآن ؟ ، فلم ينكر عليه .)

قال الفقير إلى عفو ربه :
والملاحظ أن عامة الأحاديث والآثار التي أوردها ابن قدامة رحمه الله للاستدلال بها على
جواز الحلف على هذا النوع من المعاريض ليس فيها يمين ، فلا تنتهض للاستدلال ،

ولذا قال ابن مفلح رحمه الله في " الآداب الشرعية " :
( واحتج في " المغني " بالأخبار المشهورة في ذلك وبآثار ، وليس في شيء منها يمين ) اهـ

ولما لم ينتهض الدليل ، استدل له ابن مفلح رحمه الله بالتعليل فقال :

( يؤيده أنه إذا جاز التعريض في الخبر بغير يمين جاز باليمين ؛
لأنه إن كان بالتعريض كذبا منع منه مطلقا وقد ثبت جوازه بغير يمين ،
وإن كان صدقا لم يمنع من تأكيد الصدق باليمين وغيرها ،
وغاية ما فيه إيهام السامع وليس بمانع وإلا لمنع بغير يمين ،
والغرض أن المتكلم ليس بظالم ولم يتعلق به حق لغيره . )

وقال رحمه الله :
( ثم هي يمين صادق فيها بدليل صدقه بغير يمين ،
يؤيده أن حقيقة الكلام لا تختلف باليمين وعدمها ،
فما كان صدقا بدونها كان صدقا معها ، هذا لا شك فيه ،
ولأن الأصل بقاء حقيقة اللفظ وعدم تغيره باليمين ، فمدعي خلافه عليه الدليل .) اهـ


ودونكم يا رعاكم الله بعض صور التعريض التي أوردها ابن قدامة رحمه الله في " المغني "

قال رحمه الله :
( معنى التأويل : أن يقصد بكلامه محتملا يخالف ظاهره ،
نحو أن يحلف إنه أخي ، يقصد أخوة الإسلام ، أو المشابهة ،
أو يعني بالسقف والبناء السماء ، وبالبساط والفراش الأرض ، وبالأوتاد الجبال ، وباللباس الليل ،
أو يقول : ما رأيت فلانا ، يعني : ما ضربت رئته . ولا ذكرته ، يريد : ما قطعت ذكره .
أو يقول : جواري أحرار ، يعني : سفنه .
ونسائي طوالق ، يعني : نساء الأقارب منه .
أو يقول : ما كاتبت فلانا ، ولا عرفته ، ولا أعلمته ، ولا سألته حاجة ،
ولا أكلت له دجاجة ، ولا فروجة ، ولا شربت له ماء ، ولا في بيتي فرش ولا حصير ولا بارية ،
وينوي بالمكاتبة مكاتبة الرقيق ، وبالتعريف جعله عريفا ، وبالإعلام جعله أعلم الشفة ،
والحاجة شجرة صغيرة ، والدجاجة الكنة من الغزل ، والفروجة الدراعة ، والفرش صغار الإبل ،
والحصير الحبس ، والبارية السكين التي يبرى بها .
أو يقول : ما لفلان عندي وديعة ، ولا شيء . يعني ب " ما " " الذي " .
أو يقول : ما فلان هاهنا . ويعني موضعا بعينه .
أو يقول : والله ما أكلت من هذا شيئا ، ولا أخذت منه ، يعني : الباقي بعد أخذه وأكله .
فهذا وأشباهه مما يسبق إلى فهم السامع خلافه ، إذا عناه بيمينه ، فهو تأويل ؛ لأنه خلاف الظاهر .)

وقال رحمه الله :
( وروي عن شريح أنه خرج من عند زياد وقد حضره الموت ، فقيل له : كيف تركت الأمير ؟
قال : تركته يأمر وينهى ، فلما مات قيل له : كيف قلت ذلك ؟
قال : تركته يأمر بالصبر ، وينهى عن البكاء والجزع .
ويروى عن شقيق أن رجلا خطب امرأة وتحته أخرى ، فقالوا : لا نزوجك حتى تطلق امرأتك .
فقال : اشهدوا أني قد طلقت ثلاثا ، فزوجوه ، فأقام على امرأته ،
فقالوا : قد طلقت ثلاثا قال : ألم تعلموا أنه كان لي ثلاث نسوة فطلقتهن قالوا : بلى ،
قال : قد طلقت ثلاثا ، فقالوا : ما هذا أردنا ،
فذكر ذلك شقيق لعثمان فجعلها نيته .

وروي عن الشعبي ، أنه كان في مجلس ، فنظر إليه رجل ظن أنه طلب منه التعريف به والثناء عليه ،
فقال الشعبي : إن له بيتا وشرفا ،
فقيل للشعبي بعد ما ذهب الرجل : تعرفه ؟ قال : لا ، ولكنه نظر إلي ،
قيل : فكيف أثنيت عليه ؟ قال : شرفه أذناه ، وبيته الذي يسكنه .
وروي أن رجلا أخذ على شراب ، فقيل له : من أنت ؟
فقال : أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره ، وإن نزلت يوما فسوف تعود ترى الناس أفواجا على باب داره فمنهم قيام حولها وقعود ، فظنوه شريفا ، فخلوا سبيله ، فسألوا عنه ، فإذا هو ابن الباقلاني .
وأخذ الخوارج رافضيا ، فقالوا له : تبرأ من عثمان وعلي .
فقال : أنا من علي ، ومن عثمان بريء .)

هذا والله تعالى أعلى وأعلم .

التعديل الأخير تم بواسطة أبو الحارث الشافعي ; 08-30-2008 الساعة 03:50 PM