عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 09-05-2008, 04:28 PM
أبو الحارث الشافعي أبو الحارث الشافعي غير متواجد حالياً
.:: عفا الله عنه ::.
 




افتراضي

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد ...
ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( صنفان من أهل النار لم أرهما ، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ،
ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات ، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة ،
لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا )

قال النووي رحمه الله في " شرح مسلم " :

( وأما ( مائلات مميلات ) : فقيل : زائغات عن طاعة الله تعالى ،
وما يلزمهن من حفظ الفروج وغيرها ، ومميلات يعلمن غيرهن مثل فعلهن ،
وقيل : مائلات متبخترات في مشيتهن ، مميلات أكتافهن ،
وقيل : مائلات يتمشطن المشطة الميلاء ، وهي مشطة البغايا معروفة لهن ،
مميلات يمشطن غيرهن تلك المِشْطة ،
وقيل : مائلات إلى الرجال مميلات لهم بما يبدين من زينتهن وغيرها .

وأما ( رءوسهن كأسنمة البخت ) فمعناه : يعظمن رءوسهن بالخمر والعمائم وغيرها ،
مما يلف على الرأس ، حتى تشبه أسنمة الإبل البخت ، هذا هو المشهور في تفسيره ،
قال المازري : ويجوز أن يكون معناه يطمحن إلى الرجال ولا يغضضن عنهم ، ولا ينكسن رءوسهن ،

واختار القاضي أن المائلات تمشطن المِشْطة المَيْلاء ،
قال : وهي ضَفْر الغدائر وشدها إلى فوق ، وجمعها في وسط الرأس فتصير كأسنمة البخت ،
قال : وهذا يدل على أن المراد بالتشبيه بأسنمة البخت إنما هو لارتفاع الغدائر فوق رءوسهن ، وجمع عقائصها هناك ، وتكثرها بما يضفرنه حتى تميل إلى ناحية من جوانب الرأس كما يميل السنام ،
قال ابن دريد : يقال : ناقة مَيْلاء إذا كان سنامها يميل إلى أحد شقيها . والله أعلم .) اهـ

قال الفقير إلى عفو ربه :
وعليه فإمالة المرأة لشعرها إلى ناحية من جوانب الرأس لا شيء فيه ،
إلا إذا كان على هذه الهيئة التي ذُكرت في كلام القاضي عياض رحمه الله فالأولى اجتنابها ،
خروجا من خلاف العلماء في معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " مميلات مائلات " ،


وأما من رأى منكرا فلم يغيره خوفا من رده ،
فإذا كان الضمير في قول السائلة حفظها الله : "رده " يعود على الناهي عن المنكر ،
فإن هذا الرد على الناهي لا يخلو من حالين :
إما أن يكون مصحوبا بمفسدة ، كتلف النفس أو المال ونحوهما ، فهذا لا يجب عليه الإنكار ،

وذلك لما رواه الترمذي وابن ماجة بإسناد صحيح من حديث حذيفة رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه ، قالوا : وكيف يذل نفسه ، قال : يتعرض من البلاء لما لا يطيق )

قال ابن مفلح رحمه الله في " الآداب الشرعية " ( 1/180 ) :

( قال ابن عقيل في آخر الإرشاد :
من شروط الإنكار أن يعلم أو يغلب على ظنه أنه لا يفضي إلى مفسدة .
قال أحمد رحمه الله في رواية الجماعة : إذا أمرتَ أو نهيتَ فلم ينته ،
فلا ترفعه إلى السلطان ليُعدَي عليه ( أي على صاحب المنكر ) فقد نُهِيَ عن ذلك إذا آل إلى مفسدة
وقال أيضا : من شرطه أن يأمن على نفسه وماله خوف التلف ،
وكذا قاله جمهور العلماء رضي الله عنهم .
وحكى القاضي عياض عن بعض وجوب الإنكار مطلقا في هذه الحال وغيرها ) اهـ

وإما أن يكون مصحوبا بسب أو شتم أو استهزاء ، مما قد يتعرض له الناهي عادة ،
فهذا يجب عليه الإنكار

قال ابن مفلح رحمه الله في " الآداب الشرعية " ( 1/181 ) :

( قال ابن الجوزي : فأما السب والشتم فليس بعذر في السكوت ؛
لأن الآمر بالمعروف يلقى ذلك في الغالب ،
وظاهر كلام غيره أنه عذر لأنه أذى ، ولهذا يكون تأديبا وتعزيرا ،
وقد قال له ( أي للإمام أحمد ) أبو داود : ويُشتم ؟ ،
قال : يحتمل ، من يريد أن يأمر وينهى لا يريد أن ينتصر بعد ذلك .

قال الشيخ تقي الدين ( يعني شيخ الإسلام ابن تيمية ) :
الصبر على أذى الخلق عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن لم يستعمل لزم أحد أمرين :
إما تعطيل الأمر والنهي ، وإما حصول فتنة ومفسدة أعظم من مفسدة
ترك الأمر والنهي أو مثلها أو قريب منها ، وكلاهما معصية وفساد ،
قال تعالى : { وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور } .
فمن أمر ولم يصبر ، أوصبر ولم يأمر ، أولم يأمر ولم يصبر ،
حصل من هذه الأقسام الثلاثة مفسدة وإنما الصلاح في أن يأمر ويصبر ،
وفي الصحيحين عن عبادة قال :
{ بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في يسرنا وعسرنا ومنشطنا ومكرهنا ،
وأثرة علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله ،
وأن نقوم أو نقول بالحق حيث ما كنا لا نخاف في الله لومة لائم } .) انتهى

وأما عدم النهي عن المنكر لمجرد هيبة الناس ، والاستحياء من الانكار عليهم فلا يجوز بحال ،

وذلك لما رواه الترمذي وابن ماجة من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( ألا لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه )) ،
فبكى أبو سعيد ، وقال : قد والله رأينا أشياء فهبنا .

وروى ابن ماجة من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( إن الله ليسأل العبد يوم القيامة ، حتى يقول : ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره ،
فإذا لقن الله عبدا حجته ، قال : يا رب ، رجوتك ، وفَرَقْتُ الناس )) . أي : وخفت الناس .

وروى ابن ماجة من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( لا يحقرن أحدكم نفسه )) ،
قالوا : يا رسول الله ، كيف يحقر أحدنا نفسه ؟ قال :
(( يرى أمر لله عليه فيه مقال ، ثم لا يقول فيه ، فيقول الله له يوم القيامة :
ما منعك أن تقول في كذا وكذا ؟ فيقول : خشية الناس ، فيقول الله : إياي كنت أحق أن تخشى ))

فهذه الأحاديث وأمثالها محمولة على أن يكون المانع له من الإنكار مجرد الهيبة ،
دون الخوف المسقط للإنكار ، كما قرره ابن رجب الحنبلي في " جامع العلوم والحكم "
والخوف المُسقط للإنكار هو الخوف المصحوب بالعلم أو غلبة الظن على وقوع المفسدة كما تقدم .

وأما إذا كان الضمير في قول السائلة حفظها الله : " رده " يعود على النهي نفسه ،
فقد اختلف العلماء في شأن من ينهى عن المنكر مع علمه أو غلبة ظنه أنه لا يُقبل منه ،
والقول بوجوب الإنكار في هذه الحالة عزاه ابن رجب الحنبلي رحمه الله لأكثر العلماء ،

فقال رحمه الله في " جامع العلوم والحكم " :

( وقد حكى القاضي أبو يعلى روايتين عن أحمد في وجوب إنكار المنكر على من يعلم أنه لا يُقبل منه
وصحح القول بوجوبه ، وهو قول أكثر العلماء .
وقد قيل لبعض السلف في هذا فقال : يكون لك معذرة ،
وهذا كما أخبر الله تعالى عن الذين أنكروا على المعتدين في السبت أنهم قالوا لمن قال لهم :
{ لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون } ،

وقد ورد ما يُستدل به على سقوط الأمر والنهي عند عدم القبول والانتفاع به ،

ففي " سنن أبي داود " وابن ماجه والترمذي عن أبي ثعلبة الخشني أنه قيل له :
كيف تقول في هذه الآية : { عليكم أنفسكم } ، فقال :
أما والله لقد سألت عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال :
(( بل ائتمروا بالمعروف ، وانتهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شحا مطاعا ، وهوى متبعا ،
ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بنفسك ، ودع عنك أمر العوام )) .

وفي " سنن أبي داود " عن عبد الله بن عمرو ، قال :
بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ ذكر الفتنة ، فقال :
(( إذا رأيتم الناس مرجت عهودهم ، وخفت أماناتهم ، وكانوا هكذا )) وشبك بين أصابعه ،
فقمت إليه فقلت : كيف أفعل عند ذلك ، جعلني الله فداك ؟
قال : (( الزم بيتك ، واملك عليك لسانك ، وخذ بما تعرف ، ودع ما تنكر ،
وعليك بأمر خاصة نفسك ، ودع عنك أمر العامة )) .

وكذلك روي عن طائفة من الصحابة في قوله تعالى :
{ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } ،
قالوا : لم يأت تأويلها بعد ، إنما تأويلها في آخر الزمان .)

ثم نقل رحمه الله هذا الفهم عن ابن مسعود وابن عمر في آخرين من الصحابة والتابعين ثم قال :
( وهذا كله قد يحمل على أن من عجز عن الأمر بالمعروف ، أو خاف الضرر ، سقط عنه ) اهـ

قال ابن مفلح رحمه الله في وجوب الإنكار حتى مع عدم القبول :
( وهو الذي ذكره أبو زكريا النووي عن العلماء قال :
كما قال تعالى : { ما على الرسول إلا البلاغ } .) اهـ
" الآداب الشرعية " ( 1/182 )

وليُعلم أن الرفق واللين مطلوبان مرغوبان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،
حتى مع أكابر الطغاة والفجار ، اللذين يفسدون في الأرض بالليل والنهار ،
فقال الله لموسى وهارون في شأن فرعون الذي نازع ربنا سبحانه في ربوبيته وإلاهيته :
( اذهبا إلى فرعون إنه طغى * فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى )

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في " جامع العلوم والحكم " :

( وبكل حال يتعين الرفق في الإنكار ،
قال سفيان الثوري : لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فيه خصال ثلاث :
رفيق بما يأمر ، رفيق بما ينهى ، عدل بما يأمر ، عدل بما ينهى ، عالم بما يأمر ، عالم بما ينهى .
وقال أحمد : الناس محتاجون إلى مداراة ورفق الأمر بالمعروف بلا غلظة ،
إلا رجل معلن بالفسق ، فلا حرمة له ،
قال : وكان أصحاب ابن مسعود إذا مروا بقوم يرون منهم ما يكرهون ،
يقولون : مهلا رحمكم الله ، مهلا رحمكم الله .
وقال أحمد : يأمر بالرفق والخضوع ، فإن أسمعوه ما يكره لا يغضب ، فيكون يريد ينتصر لنفسه .) اهـ

وأما ترك النهي عن المنكر بدعوى افتقاد الناهي للأسلوب الحسن فلا يجوز ،
بل إن ضرر تركه للنهي أكبر من ضرر افتقاده للاسلوب الحسن فيه ،
لأن ترك الواجب أضر بصاحبه من فعل الواجب مع شيء من القصور في أدائه ،
فترك النهي عن المنكر كلية مع القدرة عليه أضر بصاحبه من فعله مشوبا بشيء من القصور ،

قال شيخ الإسلام في رسالة " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " من مجموع الفتاوى :

( فلا بد من هذه الثلاثة : العلم ، والرفق ، والصبر ،
العلم قبل الأمر والنهي ، والرفق معه ، والصبر بعده ،
وإن كان كل من الثلاثة مستصحبا في هذه الأحوال ،
وهذا كما جاء في الأثر عن بعض السلف ورووه مرفوعا ؛ ذكره القاضي أبو يعلى في المعتمد :
" لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيها فيما يأمر به ، فقيها فيما ينهى عنه ،
رفيقا فيما يأمر به ، رفيقا فيما ينهى عنه ، حليما فيما يأمر به ، حليما فيما ينهى عنه " .
وليعلم أن الأمر بهذه الخصال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يوجب صعوبة على كثير من النفوس ؛ فيظن أنه بذلك يسقط عنه فيدعه ؛
وذلك مما يضره أكثر مما يضره الأمر بدون هذه الخصال أو أقل ؛ فإن ترك الأمر الواجب معصية ،
فالمنتقل من معصية إلى معصية أكبر منها كالمستجير من الرمضاء بالنار ،
والمنتقل من معصية إلى معصية كالمنتقل من دين باطل إلى دين باطل ؛
وقد يكون الثاني شرا من الأول ، وقد يكون دونه ؛ وقد يكونان سواء ؛
فهكذا تجد المقصر في الأمر والنهي ، والمعتدي فيه ،
قد يكون ذنب هذا أعظم ، وقد يكون ذنب هذا أعظم ؛ وقد يكونان سواء .) اهـ


وأما الكلام على حكم قطع صيام التطوع بغير عذر ،
فمرتب على خلاف العلماء في حكم قطع النوافل ، صلاة كانت أو صياما ،
ومحل نزاع العلماء رحمهم الله في هذه المسألة إنما هو في قطع نافلة الصلاة والصيام بعد الشروع فيها

فخرج بقولنا : " نافلة الصلاة والصيام " نافلة الحج والعمرة ؛
فقد أجمع العلماء على أن من شرع فيها لزمه الأداء ،
وأن من أفسدها فعليه إتمام ما أفسد منهما والقضاء ،

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند تفسير قوله تعالى " وأتموا الحج والعمرة لله " :
)اتفق العلماء على أن الشروع في الحج والعمرة مُلْزِم ،
سواء قيل بوجوب العمرة أو استحبابها ، كما هما قولان للعلماء ( اهـ

وقال ابن عبد البر رحمه الله في " التمهيد " :
( وأجمعوا على أن من أنشأ حجا أو عمرة ، من صَرورَةٍ أو غيره ، ثم عرض له ما أفسدهما ،
فعليه إتمام ما أفسد منهما ثم يقضي ) اهـ
والصَرورة : هو الرجل الذي لم يحج قط ، يعني بذلك المفترض ،
وقوله : " أو غيره " : يعني به المتنفل ،

وخرج بقولنا : " بعد الشروع فيها " الإلزام بالنافلة قبل الشروع فيها ، فإنه لا يلزم اتفاقا .

وليُعلم أن الخلاف في نافلة الصيام مركب من ثلاثة مسائل :
فأما الأولى : فحكم إتمامها بعد الشروع في أدائها ،
وأما الثانية : فحكم قطعها وإفسادها ،
وأما الثالثة : فحكم قضائها بعد إفسادها ،

فمالك وأبو حنيفة على وجوب إتمامها ، وتحريم قطع أدائها ، مع لزوم قضائها بعد إفسادها ،
إلا أن المنع من قطع الأداء مع إثبات القضاء عند المالكية إذا أفطر فطرا عمدا حراما بغير عذر ،
فخرج بالعمد النسيان والإكراه ، وبالحرام غيره ، كالفطر لحيض ونحوه ،
كما في " شرح مختصر خليل " للخرشي
وأما الأحناف فاختلفوا في حكم قطعها ، وظاهر الرواية أنه لا يُباح إلا بعذر ،
وأجمعوا على وجوب قضائها بعد إفسادها عن قصد أو غير قصد ، كحيض ونحوه ،
كما في " فتح القدير " لابن الهُمام

وذهب الشافعي وأحمد وإسحاق إلى استحباب إتمامها ، وكراهة قطعها بغير عذر ،
واستحباب قضائها بعد إفسادها ،
من غير إلزام بالإتمام ، ولا تحريم للقطع ، ولا وجوب للقضاء ،

قال ابن حجر رحمه الله في " الفتح " :
( وهو قول الجمهور ، ولم يجعلوا عليه قضاء إلا أنه يستحب له ذلك )

وقال النووي رحمه الله في " شرح مسلم " :
( وممن قال بهذا جماعة من الصحابة وأحمد وإسحاق وآخرون ،
ولكنهم كلهم والشافعي معهم متفقون على استحباب إتمامه . )

قال الفقير إلى عفو ربه :
وقول الجمهور القائلين بجواز قطع نافلة الصيام من غير إيجاب لقضائها هو الراجح ،
ولذا أفتى به علماء اللجنة الدائمة – أدام الله نفعها – في الفتوى رقم (10195) فقالوا :
( يجوز للصائم نفلاً أن يفطرأثناء الصيام ولا قضاء عليه ؛
لأن الصائم تطوعاً مخير فيه قبل الشروع فكانمخيراً فيه بعده .)

وعمدة ما استدل به المالكية والأحناف في هذه المسألة يرجع إلى الكتاب والسنة والقياس ،
فأما الكتاب فبقوله تعالى : " ولا تبطلوا أعمالكم "

قال الإمام السيوطي رحمه الله في : " الإكليل في استنباط التنزيل "
) استدل به من قال بمنع قطع الأعمال ، فرائض كانت أو نوافل ، صلاة أو صياما (

قالوا : ووجه الاستدلال من هذه الآية أنها دلت على أن إبطال العبادة حرام ،
فيجب صيانتها وعدم إبطالها ، وهذا بلزوم المُضِي فيها وإتمامها ،
فإذا أفسدها فقد أفسد عبادة واجبة الأداء ، فنُلزمه حينئذ بالقضاء .

وأما السنة فاستدلوا بما رواه أبو داود والترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها قالت :
" كنت أنا وحفصة صائمتين ، فعرض لنا طعام اشتهيناه ، فأكلنا منه ،
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبدرتني إليه حفصة -وكانت ابنة أبيها-
فقالت : يا رسول الله إنا كنا صائمتين ، فعرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا منه ،
فقال : اقضيا يوماً آخر مكانه "

وأما القياس فعلى الحج والعمرة النفلين ،
حيث يلزم إتمامهما بعد الشروع فيهما ، ولا يجوز قطعهما ، ويجب قضائهما بعد إفسادهما بالإجماع ،


ثم إن الجمهور قد ناقشوا هذه الأدلة وأجابوا عنها :
فأما استدلالهم بقوله تعالى : " ولا تبطلوا أعمالكم "

فأجاب الشافعية رحمهم الله ومن تابعهم :
بأن المراد بذلك إبطال ثواب العمل المفروض ، وذلك العمل المفروض يُنهى الرجل عن إحباط ثوابه
فأما ما كان نفلا فلا ، فإنه ليس واجبا عليه . )
ذكره الكيا الهرّاس الشافعي رحمه الله في "أحكام القرآن "

قالوا : وغاية ما يُستدل عليه من الآية كراهة قطع النافلة من غير عذر ، واستحباب إتمامها ،
قال العلامة السعدي الحنبلي رحمه الله في تفسيره :
( ويستدل الفقهاء بهذه الآية على تحريم قطع الفرض ،
وكراهة قطع النفل من غير موجب لذلك ،
وإذا كان الله قد نهى عن إبطال الأعمال ، فهو أمر بإصلاحها وإكمالها وإتمامها ،
والإتيان بها على الوجه الذي تصلح به علما وعملا ) اهـ

فأجابهم المالكية رحمهم الله ومن تابعهم بقولهم :
إنما يكون ذلك قبل الشروع في الفعل ، فإذا شرع لزمه ، كالشروع في المعاملات ،
الثاني :أنه لا تكون عبادة ببعض ركعة ، ولا ببعض يوم في صوم ؟ ؛
فإذا قطع في بعض الركعة ، أو في بعض اليوم ،
فإن قال :إنه يعقد به ، فقد ناقض الإجماع ، وإن قال :إنه ليس بشيء فقد نقض الإلزام .)
ذكره ابن العربي المالكي رحمه الله في "أحكام القرآن"

قال ابن عبد البر المالكي رحمه الله ردا على استدلالهم :
(ومن احتج في هذا بقوله تعالى ( ولا تبطلوا أعمالكم ) فهو جاهل بأقوال أهل العلم ،
فإن الأكثر على أن المراد بذلك النهي عن الرياء ،
كأنه قال : لا تبطلوا أعمالكم بالرياء بل أخلصوها لله ،
وقال آخرون : لا تبطلوا أعمالكم بارتكاب الكبائر ،
ولو كان المراد بذلك النهي عن إبطال ما لم يفرضه الله عليه ولا أوجب على نفسه بنذر وغيره
لامتنع عليه الإفطار إلا بما يبيح الفطر من الصوم الواجب ، وهم لا يقولون بذلك والله أعلم .) اهـ
نقله ابن حجر رحمه الله في " الفتح "

فرد المانعون من قطع النافلةبأن العبرة بعموم لفظها لا بخصوص سببها ،
وقد أشار الإمام الشوكاني رحمه الله في " فتح القدير " إلى هذا العموم فقال :
)والظاهر النهي عن كل سبب من الأسباب التي توصل إلى بطلان الأعمال ،
كائنا ما كان من غير تخصيص بنوع معين (

قال الكيا الهرّاس الشافعي رحمه الله في "أحكام القرآن " :

( فإن زعموا أن اللفظ عام ، قلنا :العام يجوز تخصيصه ،
ووجه تخصيصه أن الفعل تطوع ، والتطوع يقتضي تخييرا . )

وقال ابن المُنيِّر رحمه الله :
( ليس في تحريم الأكل في صورة النفل من غير عذر إلا الأدلة العامة ،
كقوله تعالى : ( ولا تبطلوا أعمالكم ) ، إلا أن الخاص يقدم على العام ، كحديث سلمان .)
نقله الحافظ في " الفتح "

وحديث سلمان هذا رواه البخاري في صحيحه عن عون بن أبي جُحيفة عن أبيه قال :
( آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء ، فزار سلمان أبا الدرداء ،
فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها : ما شأنك ، قالت : أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا ، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما فقال : كل ، قال : فإني صائم ، قال : ما أنا بآكل حتى تأكل ،
قال : فأكل ، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم قال : نم فنام ،
ثم ذهب يقوم فقال : نم ، فلما كان من آخر الليل قال : سلمان قم الآن ، فصليا ،
فقال له سلمان : إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا ،
فأعط كل ذي حق حقه ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صدق سلمان .

وهذا بوب عليه البخاري بقوله :
( باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع ولم ير عليه قضاء إذا كان أوفق له )

قال ابن حجر رحمه الله في بيان وجه استدلال البخاري رحمه الله بالحديث :
( ولو كان القضاء واجبا لبينه له مع حاجته إلى البيان . )

وقال رحمه الله في " الفتح " :
( ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم صوب فعل أبي الدرداء ،
فترقى عن مذهب الصحابي إلى نص الرسول صلى الله عليه وسلم . )

قال الفقير إلى عفو ربه :
ومن النصوص الخاصة القاضية على عموم قوله تعالى : " ولا تبطلوا أعمالكم "
ما رواه مسلم عن طلحة بن يحيى عن عمته عائشة بنت طلحة
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت :
قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم : يا عائشة ، هل عندكم شيء ؟
قالت : فقلت : يا رسول الله ، ما عندنا شيء ، قال : فإني صائم ،
قالت : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأهديت لنا هدية أو جاءنا زَوْرٌ ،
قالت : فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : يا رسول الله ،
أهديت لنا هدية أو جاءنا زَوْرٌ وقد خبأت لك شيئا ، قال : ما هو ، قلت : حَيْس ، قال : هاتيه ،
فجئت به فأكل ، ثم قال : قد كنت أصبحت صائما .

قال طلحة : فحدثت مجاهدا بهذا الحديث فقال :
ذاك بمنزلة الرجل يخرج الصدقة من ماله ، فإن شاء أمضاها ، وإن شاء أمسكها .

وفي رواية لمسلم قالت عائشة رضي الله عنها :
دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : هل عندكم شيء ؟ ، فقلنا : لا ،
قال : فإني إذن صائم ، ثم أتانا يوما آخر فقلنا : يا رسول الله أهدي لنا حيس ،
فقال : أرينيه فلقد أصبحت صائما ، فأكل .

زاد النسائي بإسناد حسنه الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" إنما مثل صوم التطوع مثل الرجل يخرج من ماله الصدقة ، فإن شاء أمضاها، وإن شاء حبسها "

بوب الإمام النووي رحمه الله على هاتين الروايتين بقوله :
( باب جواز صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال ، وجواز فطر الصائم نفلا من غير عذر )

ثم قال رحمه الله في " شرح مسلم " :

( وهاتان الروايتان هما حديث واحد ، والثانية مفسرة للأولى ،
ومبينة أن القصة في الرواية الأولى كانت في يومين لا في يوم واحد ،
كذا قاله القاضي وغيره ، وهو ظاهر . )

ثم قال رحمه الله :
(وفي الرواية الثانية التصريح بالدلالة لمذهب الشافعي وموافقيه في أن صوم النافلة يجوز قطعه ،
والأكل في أثناء النهار ، ويبطل الصوم لأنه نفل ،
فهو إلى خيرة الإنسان في الابتداء ، وكذا في الدوام ،
وممن قال بهذا جماعة من الصحابة وأحمد وإسحاق وآخرون ،
ولكنهم كلهم والشافعي معهم متفقون على استحباب إتمامه ،
وقال أبو حنيفة ومالك : لا يجوز قطعه ويأثم بذلك ، وبه قال الحسن البصري ومكحول والنخعي ،
وأوجبوا قضاءه على من أفطر بلا عذر ،
قال ابن عبد البر : وأجمعوا على ألا قضاء على من أفطره بعذر . والله أعلم .) اهـ

ومنها ما رواه الترمذي بإسناد صحيح من حديث أم هانيء رضي الله عنها
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها فدعى بشراب فشرب ، ثم ناولها فشربت ،
فقالت : يا رسول الله ، أما إني كنت صائمة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" الصائم المتطوع أمين نفسه ، إن شاء صام ، وإن شاء أفطر "

وفي رواية أبي داود لهذا الحديث بإسناد صحيح قالت أم هانئ رضي الله عنها :
لما كان يوم الفتح فتح مكة جاءت فاطمة ،
فجلست عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم هانئ عن يمينه ،
قالت : فجاءت الوليدة بإناء فيه شراب فناولته ، فشرب منه ، ثم ناول أم هانئ فشربت منه ،
قالت : يا رسول الله ، لقد أفطرت وكنت صائمة ،
فقال لها : أكنت تقضين شيئا ؟ قالت: لا. قال : فلا يضرك إن كان تطوعا.

ومنها ما رواه البيهقي بإسناد حسنه الحافظ في " الفتح " من حديث أبي سعيد قال :
" صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما ،فلما وُضع قال رجل : أنا صائم ،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعاك أخوك وتكلف لك ، أفطر وصم مكانه إن شئت "

قال الحافظ في " الفتح " :
( وهو دال على عدم الإيجاب . ) اهـ

قال المجيزون لقطع نافلة الصيام : وأما حديث عائشة الذي استدلوا به ،
في صيامها هي وحفصة وإفطارهما وأمر النبي صلى الله عليه وسلم لهما بالقضاء فحديث ضعيف ،

قال البيهقي رحمه الله في " السنن الكبرى " ( 4/280 ) :
( قال أبو عيسى الترمذي : سألت محمد بن اسمعيل البخاري عن هذا الحديث فقال :
لا يصح حديث الزهري عن عروة عن عائشة ) اهـ

وقال الحافظ ابن حجر في " الفتح " :
(وقال النسائي : هذا خطأ ؛
وقال ابن عيينة في روايته : سئل الزهري عنه أهو عن عروة ؟ فقال لا .
وقال الخلال : اتفق الثقات على إرساله ، وشذ من وصله ،
وتوارد الحفاظ على الحكم بضعف حديث عائشة هذا . ) اهـ

وقد مال ابن القيم رحمه الله إلى أن هذا الحديث محفوظ في " تهذيب السنن "
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في " الفتح " :
( وعلى تقدير أن يكون محفوظا ،
فقد صح عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يفطر من صوم التطوع ،
كما تقدمت الإشارة إليه في " باب من نوى بالنهار صوما "
وزاد فيه بعضهم : " فأكل ثم قال : لكن أصوم يوما مكانه "
وقد ضعف النسائي هذه الزيادة وحكم بخطئها ،
وعلى تقدير الصحة فيجمع بينهما بحمل الأمر بالقضاء على الندب .) اهـ


وأما استدلال المانعين بقياس نافلة الصيام على نافلة الحج والعمرة في لزوم إتمامها بعد الشروع فيها ،
وعدم جواز قطعها ، مع وجوب قضائها بعد إفسادها ، فرده ابن حجر رحمه الله بقوله :

( وشُبِّه بمن أفسد حج التطوع فإن عليه قضاءه اتفاقا ،
وتُعُقِبَ بأن الحج امتاز بأحكام لا يقاس غيره عليه فيها ،
فمن ذلك أن الحج يؤمر مفسده بالمضي في فاسده ، والصيام لا يؤمر مفسده بالمضي فيه فافترقا ،
ولأنه قياس في مقابلة النص فلا يعتبر به . ) اهـ


تنبيه على إجماعين فيهما نظر
أما الإجماع الأول فما نقله النووي رحمه الله عن ابن عبد البر رحمه الله في قوله :
( قال ابن عبد البر : وأجمعوا على ألا قضاء على من أفطره بعذر .)

فهذا الإجماع نقله ابن عبد البر رحمه الله في " الاستذكار "ونص كلامه فيه :
( وأجمعوا أنه لا شيء على من دخل في صيام أو صلاة تطوع ،
فقطعه عليه عذر من حدث أو غيره ، ولم يكن له فيه سبب ) اهـ

وقد خالف في ذلك الأحناف رحمهم الله فأوجبوا القضاء على من أفطر بعذر أو بغير عذر ،

ولذا قال ابن حجر رحمه الله في " الفتح " مستغربا لهذا الإجماع :
( وأغرب ابن عبد البر فنقل الإجماع على عدم وجوب القضاء عمن أفسد صومه بعذر .) اهـ

وأما الإجماع الثاني فنقله ابن رشد رحمه الله في " بداية المجتهد " فقال :
( وأجمعوا على أن من خرج من صلاة التطوع فليس عليه قضاء فيما علمت .) اهـ

وهذا الإجماع فيه نظر ؛ ذلك أن الأحناف رحمهم الله قالوا بالقضاء في قطع نافلة الصلاة ،
مع اختلافهم في تفاصيل هذا القضاء وصوره كما في " بدائع الصنائع للكاساني " وغيرها ،
وقول ابن رشد رحمه الله : " فيما علمت "
مُشعر كما لا يخفى بظنية هذا الإجماع ، واحتمال وجود الخلاف .

هذا والله تعالى أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب .

التعديل الأخير تم بواسطة أبو الحارث الشافعي ; 09-05-2008 الساعة 04:32 PM