عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 02-03-2012, 08:23 PM
هجرة إلى الله السلفية هجرة إلى الله السلفية غير متواجد حالياً
رحمها الله رحمة واسعة , وألحقنا بها على خير
 




افتراضي

الركن الثاني : ضرورة إقامة السلطة وأنه لا دولة بلا إمام :
ذكرنا في الركن الأول أنه لابد من دولة حتى يقوم الدين , وما دامت توجد الدولة , فلابد لها من سلطة , فلابد أن نعلم : كيف تأتي هذه السلطة , وما شكلها , وما صلاحيتها , وما قابلية هذه السلطة للإزالة ؟ فهذا تفكير منطقي ستجيب عليه نصوص الشرع .
أولاً : كون أنه لابد أن يكون على رأس الدولة إمام , هذا محل إجماع واتفاق بين علماء الأمة , ولك بعد ذلك أن تُسَمِّيَ هذا الإمام بالسلطان أو الإمام أو الخليفة أو الحاكم أو الأمير ... الخ , المهم أن يكون هناك رجل يحكم .
قال الماوردي : الْإِمَامَةُ مَوْضُوعَةٌ لِخِلَافَةِ النُّبُوَّةِ [ يعني : لا نأتي بأي أحد لهذه المهمة ] فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا [ إذًا أصل الخلافة إقامة دين الله U , ومن ضمن إقامة دين الله أن يسوس الناس , أي : أن يحكمهم ويرعى أحوالهم اليومية والتي يسمونها دنيوية , ولكن كلها من عند الله U , وهذه الجزئية يتأسس عليها الركن الثالث وهو : كيف يتم اختيار هذا الحاكم , فاختيار الحاكم مبنيّ على أن وظيفته الأصلية : حماية جناب الدين وسياسة الناس في أمورهم , وبدون هذه الوظيفة يفقد هذا الرجل أهليته للرئاسة , ولو قام بغير هذه الوظيفة لا يُعتبر حاكمًا ] وَعَقْدُهَا لِمَنْ يَقُومُ بِهَا فِي الْأُمَّةِ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ([1]) . اهـ .
يعني : هذا ليس أمرًا اخياريًّا .
قال الشَّهْرسْتانيُّ : الصحابة y عن بكرة أبيهم متفقين على أنه لابد من إمام([2]) .
وقال القرطبي : لا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة ... وأجمعت الصحابة على تقديم الصديق بعد اختلاف وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة ... فدل على وجوبها , وأنها ركن من أركان الدين الذي به قوام المسلمين([3]) .
وما دام إقامة الخليفة أمرًا واجبًا لإقامة الدين والحكم بين الناس , فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب , يعني : كل ما يؤدي إلى إقامة هذا الواجب فهو واجب , ليس هذا فَحَسْب , بل كل ما يقطع الطريق على هذه المصلحة يعتبر مفسدة يجب منعها , وكل مصلحة هي أقل من هذه المصلحة , يجب تأجيلها لأجل هذه المصلحة الكبرى , فإذًا هذا ليس أمرًا سهلاً , بل هذه المسألة سيترتب عليها فتاوى كثيرة جدًا على أرض الواقع سيأتي ذكرها .
قال ابن تيمية : وِلَايَةَ أَمْرِ النَّاسِ مِنْ أَعْظَمِ وَاجِبَاتِ الدِّينِ ؛ بَلْ لَا قِيَامَ لِلدِّينِ وَلَا لِلدُّنْيَا إلَّا بِهَا . فَإِنَّ بَنِي آدَمَ لَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُمْ إلَّا بِالِاجْتِمَاعِ لِحَاجَةِ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ وَلَا بُدَّ لَهُمْ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ مِنْ رَأْسٍ ... لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِقُوَّةِ وَإِمَارَةٍ . وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا أَوْجَبَهُ مِنَ الْجِهَادِ وَالْعَدْلِ وَإِقَامَةِ الْحَجِّ وَالْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ , لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقُوَّةِ وَالْإِمَارَةِ([4]).
ويقول الإمام الغزَّالي : السلطان ضروري في نظام الدين ونظام الدنيا , ونظام الدنيا ضروري في نظام الدين , ونظام الدين ضروري في الفوز بسعادة الآخرة , وهو مقصود الأنبياء قطعًا فكان وجوب الإمام من ضروريات الشرع الذي لا سبيل إلى تركه ([5]).
فإذًا تكونت عندنا دولة , وعلى رأس هذه الدولة إمام وحاكم , من أهم وظائفه حفظ وإقامة الدين , وإقامة الشرع وتطبيق الحدود بين الناس , الشريعة لا تعرف حاكمًا إلا بهذه المواصفات ابتداءً , فإن فقدها فلا يجوز توليته , فإن كانت عنده ثم فقدها فهنا يجب خلعه على تفصيل لأهل العلم .
ولابد أن نعلم كيف يتم اختيار الإمام ؛ حتى نزيل عنَّا جزءًا من الجهالات التي تقال عنَّا , يقول المستشرقون : إن المسلمين أفضل ناس ينصاعوا لأي أحد يستولي على الحكم أيًّا كان ؛ لأنهم يقدسون الحاكم , ولا يجوز عندهم الخروج عليه مهما فعل بهم , ومهما كانت صفاته من فجور وظلم ... الخ .
وفي الحقيقة هذه عقيدة باطلة , بل نحن أوائل الناس الذين علَّمناهم أن هذا الحاكم لم يكن حاكمًا إلا من الشعب , وأن هذا الحاكم لو حاد عمَّا قاله ( البرنامج الانتخابي ) يجب على الشعب خلعه .
فهذه مبادئ أساسية عندنا , كتاب الله U , وسنة نبينا r , وكلام أهل العلم لا يخرج عن هذا .
الركن الثالث : كيفية اختيار الحاكم ( البيعة ) :
هل نختار الحاكم من عائلة فلان , أم من قوم فلان , أم أكابر القوم في البلد هم الذين يختارونه , أم ماذا ؟
اختيار الحاكم عندنا لا يكون بالتفويض الإلهي , بمعنى أنه يمكن لنا أن نناقش الحاكم فيما يقول , فنقول له : أخطأت في كذا .. وأنت صحيح في كذا .. أنت طغيت .. أنت فسقت .. أنت كفرت .
وليس عندنا بالحق الموروث عائلة لا يخرج الحاكم عنها , ولكن عندنا أن هذه الإمامة تكون بعقد البيعة بين الأمة والإمام , وحقيقةً : الإسلام سبق في هذا الأمر جميع أمم أهل الأرض ,فعندما يطَّلع الإنسان على كلام أهل العلم , لا يجد إلا أن يسجد لله شكرًا أن هذا دينه I ؛ لأنه سيجد أرقى ما وصل إليه هؤلاء القوم , هو من بديهيات الإسلام التي يتعامل بها المسلمون .
فسنتكلم عن دولة الإسلام من سنة 1 هـ إلى سنة 73 هـ .
فالنبي r علَّم الصحابة العقد الذي يكون بين الحاكم والمحكومين وهو عقد البيعة , وقد عقد النبي r مع أهل المدينة بيعتين مختلفتين , أمَّا البيعة الأولى فعلى الإيمان بالله وعدم الإشراك به والتي تسمَّى ببيعة النساء , وأمَّا البيعة الثانية فعلى إقامة الدولة الإسلامية , وانتشرت هذه البيعة بعد ذلك كما في الحديبة وغير ذلك .
فهذا أول شيء صادفنا في سنة النبي r في طريقة اختيار الحكم وهو أنه لابد أن يكون منهم , وهذا المبدأ كان واضحًا جدًا عند صحابة النبي r في بيعة أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ .
طبيعة البيعة :
1- أن تكون البيعة من الناس :
نلاحظ أن ما حدث من حادثة السقيفة وبيعة أبي بكر , وبعدها قال له عمر : ابسط يدك أبايعك , وبايعوه وانتهى الأمر , إلى هاهنا كل فقهاء الإسلام حتى أبو بكر , لم يعتبروا أن أبا بكر بهذا الكلام أصبح خليفة , وإنما أصبح خليفة عندما ذهب إلى الناس وبايعوه ؛ فإذًا حتى أهل الحل والعقد الذين يُسَمُّون بالصفوة أو المثقفين أو مجلس الشعب أو مجلس الشورى أو مجلس البلدية أو أي مسمًّى آخر , كل هؤلاء , ترشيحهم لهذا الرجل وتأييدهم له , لا يُكْسبه الشرعية حتى يأخذ البيعة من عموم الناس , ومَن قال خلاف ذلك , فليس هذا القول من ديننا . بل إن أبا بكر لمَّا وافتْهُ المَنِيَّة وعَهِدَ إلى عمر , يقول العلماء – وهذا يدل عليه مسلك عمر نفسه - : إن اختيار أبي بكر هو مجرد توجيه فقط , ولكن هنا عمر لم يصبح خليفة ؛ لأنه لا يصلح أن يكون هناك خليفتين على قيد الحياة , فلمَّا مات أبو بكر بدأ عمر يأخذ البيعة من عموم الناس , وطبعًا الآن هناك طرق حديثة , المهم أن يقول الناس : نعم , ورأيهم لابد أن يؤخذ في الاعتبار , حتى الذين يقومون بخلع الخليفة هم الناس , يشير أهل الحل والعقد على الناس , لكن لا يسقطوه بذلك .
وأوضح مثال على ذلك هو المثال الثالث , لمَّا قُتِلَ عمر t وحدد ستة بينهم الشورى , أخذ عبد الرحمن بن عوف في استقراء الناس , قال : ما تركت أحدًا حتى ذهبت إليه , وترجح إليه عثمان , لكن لم يصبح خليفة بذلك , لكن أصبح خليفة عندما بايعه الناس .
وسنَّة المبايعة هذه لم تختلف في أي قطر حتى في عصور انحدار دولة المسلمين , حتى وإن كان هذا الكلام صوريًّا أحيانًا لضعف الإيمان , إلا أنه كان في حسِّ المسلمين لا يتخلف , أنَّ هذا الرجل حتى يكتسب شرعيته , لابد أن يكتسب شرعيته من الشعب .
وقد يوجد مَن لا يبايع هذا الرجل , ومَن يبايعه , فالعبرة هنا بأكثرهم .
2- أنها عقد توكيل على حفظ الدين والدنيا :
البيعة عقد توكيل بين الناس وبين الإمام , فهم يبايعونه على ما يقدمه من برنامج , أهم ما في هذا البرنامج هو أمرين , الأول : حفظ الدين والملة , والثاني : إقامة مصالح الناس .
3- جريان كل أحكام الوكالة على عقد البيعة كإمكانية عزل الإمام أو تحديد مدته :
ما دامت البيعة عقد وكالة , فيجوز للأمة أن يعزلوه عن هذه الوكالة متى رأوا منه اعوجاجًا , وهذا يرد على البعض الذين يقولون : " للخليفة أن يحكم أي مدة شاء , ولا يجوز تحديد فترة الخلافة ؛ لأنه لا دليل على التحديد " . وطبعًا كل هذه جهالات بعضها فوق بعض , وسَوْءة في تاريخنا أن يتكلم أحد في هذه المسائل وهو لا يعلم , فالواضح من كلام أهل العلم , والواضح من سير العلماء والخلفاء وكلام أهل العلم أن الخليفة ليس له مدة , وأنهم ربما يعزلوه بعد قليل أو بعد كثير إذا أخلَّ بما طُلِبَ منه , فماداموا قد اشترطوا عليه مدة فلا حرج عليهم , وهذا أمر صحيح لا غبار عليه , ولم يأت دليل من الكتاب والسنة على بطلانه , بل الدليل على عكسه , أن لهم فعلاً أن يحددوا له مدة ؛ لأن هذا عقد كأي عقد , بيع .. إجارة .. وحتى عقد الزواج المفتوح المدة , فهو مفتوح المدة ؛ لأن الزوج له صلاحيات إنهاءه بالطلاق , وكذا المرأة بالخُلع , أمَّا غير ذلك من العقود فهي محددة المدة منعًا للجهالة , وعقد الوكالة لا يحتاج إلى مدة ؛ لأن الوكيل , الذي وكَّله له أن يعزله , وللوكيل أن يعزل نفسه .
والبيعة تكون على خطوتين اثنتين , الأولى : أن يرشح أهل الحل والعقد الإمام , والثانية : أن يتقدم بقية الناس بالبيعة له , ولولا ذلك ما كانت بيعة شرعية لأبي بكر , وهذا كلام أهل العلم , وهو ما قاله ابن تيمة رحمه الله .
الركن الرابع : الرضا :
الركن الركين في عقد التوكيل هو الرضا , فكما أن الله U حرَّم أكل الناس بالباطل , وأباحها بالتراضي , فكذلك كل العقود لا تكون إلا بالتراضي وأهم عقد من هذه العقود هو عقد الإمامة , فلو تخلل هذا الرضا أي شكل من أشكال الإكراه , فمعلوم كلام أهل العلم أن البيعة لا تقع , وأهل العلم ضربوا أروع الأمثلة في ذلك .
فحينما خرج بعض الناس على أبي جعفر المنصور , سألوا الإمام مالك : هل يجوز لنا الخروج عليه ؟ فأفتاهم : أن نعم , فلمَّا سألوه : إن في أعناقنا بيعة له([6]) ؟ فقال : لا بيعة مع الإكراه .
ومعلوم مواقف الأئمة – رحمة الله عليهم – عندما نتصفح كتاب الإكراه , نجد أن العلماء اهتموا به في أصول الفقه والفقه بسبب أمر البيعة ؛ لأن أهل العلم جَرَت بينهم فتاوى أن طلاق المُكْرَه لا يقع , وإعتاق المُكْره لا يقع , وبيعة المُكره لا تقع , ومن هنا نفهم لماذا كان العلماء يُضربون ويُحبسون إذا أفتوا بهذه الفتاوى ؛ لأن الخلفاء كانوا يأخذون البيعة , وفي أثناء البيعة يُقْسِم بأن زوجاته طوالق , وأن عبيده أحرار , وأن ماله كله صدقة , إن أخلَّ بهذه البيعة , فأفتى مالك وغيره بأنهم لا تلزمهم هذه البيعة ؛ لأنها بيعة إكراه , وعلى ذلك تكون باطلة ؛ وهذا متفق عليه بين العلماء .
الركن الخامس : لا رضا بلا شورى بين المسلمين في أمر الإمامة وشؤون الأمة ( الشورى ) :
يتحقق الرضا عن طريق الشورى بين جميع الناس في هذا الأمر . فالأمة هي مصدر السلطة ابتداءً وانتهاءً , وليست هي مصدر التشريع ؛ كما قال تعالى : ] وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [[الشورى: 38] . فالأمة هي التي أعطت للخليفة المشروعية , فلو سحبت منه البيعة أو لم تعطها له ابتداءً , فهذا الرجل لن يكون خليفة حتى لو كان هو أبو بكر أو عمر , وحتى لو أن الذي أعطاه البيعة هم أهل الحل والعقد .
ومن العجيب أن قوله تعالى : ] وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [جاء بين أمرين , أمره U بإقامة الصلاة , وأمره بإيتاء الزكاة , وهذان الأمران ركنان من أركان الدين ؛ وبهذا استدل العلماء على أن الشورى ركن من أركان الدين .
وقوله تعالى : ] وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [ هذا وصف لهذه الأمة بما في ذلك اختيار السلطة , كما قال عمر : الإمارة شورى .
وهذا الآية أمر في صيغة الخبر , ولم يأت به في صورة الأمر لأنه أعلى مقامًا من الأمر ؛ فكأن هذه حقيقة واقعة , وذلك كقوله تعالى : ] وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [[البقرة: 233] , وكقوله تعالى : ] وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [[آل عمران: 97] , وكقوله تعالى : ] كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [[آل عمران: 110].
وقال تعالى : ] وشاورهم في الأمر [[آل عمران: 159] , وهذه الآية من سورة آل عمران نزلت في غزوة أحد , ومعلوم أن النبي r شاور الصحابة في أمر حربيّ في غاية الأهمية , ترتب عليه أمر يُذْكَر في القرآن إلى يومنا هذا , وهو : هل يخرج أم ينتظر في المدينة ؟ فأشار معظم الصحابة بالخروج , طمعوا أن يفعلوا مثلما فُعِلَ في بدر , وهو r قد رأى رؤية بعكس هذا , بأن الأمر لن يمرَّ على خير , فاستشار الصحابة وآخرين , والعجب في الآخرين , عبد الله بن أُبَيّ المنافق , لكنه واحد من الأمة فلم يُقصيه , وكان رأيه من رأي النبي r , لكن لمَّا رأى النبي r معظمهم على الخروج دخل فلبس لأمة الحرب , وندم الصحابة على ذلك على أنهم أكرهوا النبي r على أمر لم يرضه , فعرضوا عليه ثانية أن ينتظروا في المدينة , فقال r : ما كان لنبي إذا لبس لأمة الحرب ثم ينزعها حتى يفتح الله بينه وبين عدوه , فهنا قُضِيَ الأمر .
وجميع تصرفات الصحابة تؤكد أن الشورى واجبة ملزمة ؛ فليس للحاكم فيه فرصة أن يتركه , وهذا مذهب الصحابة والتابعين ومَن بعدهم , وقد ذهب إلى ذلك الرازي وأبو بكر الجصاص وهو من متقدمي الحنفية صاحب كتاب أحكام القرآن , والغاية من الشورى العمل بما توصل إليه أهل الشورى ؛ لأنه لو كان الأمر بالشورى , ثم بعد ذلك للحاكم أن يترك كلامهم لكان هذا لغوًا ؛ إذًا فهي مُلْزِمَة , وقد ذهب إلى وجوب الشورى أيضًا علماء الأندلس , وعلى رأسهم ابن عطية في تفسيره حيث قال : والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ؛ من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب . هذا ما لا خلاف فيه([7]) .
والمقصود بأهل العلم هنا أهل الاختصتص كما شرح الفقهاء ذلك , فيستشير أهل الحرب في الحرب , وأهل التجارة في التجارة , وأهل الزراعة في الزراعة , وأهل الدين في أمور الدين , أي التي هي من قبيل تحقيق المناط , وتبيين الأولى , والمصالح والمفاسد ... الخ , وليس معناه طبعًا أن يستشيرهم في أمور الشرع .
والشورى في هذه المرحلة تشتمل على أمرين , الأول : في اختيار الإمام نفسه , والثاني : ومشاركة الناس له في الرأي عن طريق الشورى .
وقال ابن خويز منداد([8]) : واجبٌ على الولاة مشاورةُ العلماء فيما لا يعلمون , وفيما أُشْكِلَ عليهم من أمور الدين , ووجوه الجيش فيما يتعلق في الحرب , ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح , ووجوه الكتَّاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها .
فالصحابة أجمعوا على هذا , وهذا هو الذي وضح من سقيفة بني ساعدة , وكان أبو بكر يجمع كبار الصحابة ليستشيرهم في كل مسألة نزلت إليه .
يقول ابن كثير معلِّقًا على استشارة النبي r لأصحابه في الخروج لغزوة أحد ونزوله على رأيهم :
وأبى كثير من الناس إلا الخروج إلى العدو , ولم يتناهوا إلى قول رسول الله r ورأيه ... فلم يزل الناس برسول الله r حتى دخل فلبس لأمته ... ثم خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا : استكرهنا رسول الله r ولم يكن لنا ذلك([9]).
لا , بل قد كان لهم ذلك ؛ بدليل أن رسول الله r عمل بكلامهم , فليس كل ما وقع في ظنهم من أشياء تكون صحيحة , ولمَّا رجعوا عن موقفهم قال r لهم : ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل . يعني : كان سيأخذ بكلامهم ؛ لأنه له حيثية , ولكن خالفهم هنا لأمر آخر .
وقوله تعالى : ] وشاورهم في الأمر [ ذكرنا أن النبي r استشارهم في غزوة أحد باعتبار أن الآية نزلت فيها , لكن مشورة النبي r لم تكن في أحد فقط , فقد كانت أيضًا في بدر حينما تطور الأمر , واقتضى أن يخرج النبي r للمشركين , فقال r : أيها الناس , أشيروا عليّ , فقام أبو بكر فمدح وأثنى , فقال r : أيها الناس , أشيروا عليّ,فقام عمر فمدحه وأثنى ... الخ , فقال : أيها الناس,أشيروا عليّ , فقال الصحابي من الأنصار : لكأنك تعرِّض بنا يا رسول الله , فقال : أجل ... إلى أن قالوا : لو استعرضت بنا البحر لخضناه ... الخ .
وذلك لأن الميثاق الذي كان بين النبي r وبين الأنصار , كانت معاهدة دفاع , وخروجه بهم r إلى بدر , لم يكن في هذه البيعة .
يقول ابن جرير الطبري عند هذه الآية : يتشاوروا بينهم , ثم يصدروا عما اجتمع عليه ملأهم([10]).
والملأ هم جماعة الناس ورؤوسهم .
وقال تعالى : ] وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [[الشورى: 38] .
فأورد أمر الشورى بين ركنين من أركان الإسلام – كما قال العلماء – إشارة إلى أن أمر الشورى من أركان الإسلام .
كيفية معرفة رأي الناس :
هذا الأمر يحتاج إلى تدقيق ؛ ففي صحيح البخاري في كتاب المغازي , لمَّا استولى النبي r على السبايا والأموال في غزوة هوزان – والقصة طويلة فَلْتُرَاجع (8/30-31) أن القوم رجعوا إلى النبي r نادمين , وطلبوا أن يعطيَهم السبي والأموال , فقال لهم : قد أنذرتكم فأبيتم , فأمَّا الاثنين فلا , فاختاروا السبي , فهنا لا يستطيع النبي r أن يأخذ السبي من أصحابه ؛ لأنه لايوجد في الشرع ذلك , فننظر ماذا فعل r , قام خطيبًا فقال : أمَّا بعد,فإنَّ إِخْوَانَكُمْ هَؤُلَاءِ قَدْ جَاءُونَا تَائِبِينَ وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَرُدَّ إِلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ ( هذا ما رآه لنفسه ) فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يُطَيِّبَ بِذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ,وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ . فَقَالَ النَّاسُ : قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ يا رَسُولِ اللَّهِ r ( وهذا لا يكفي ؛ لأنه من الممكن أن يكون هناك مَن أُحْرِجَ , وهناك مَن له وجهة نظر , ومَن صوته منخفض , بل في سياق الحديث أن المؤلفة قلوبهم قالوا : بني فلان , وبني فلان لن يرجعوا ) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: إِنَّا لَا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ , فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعُوا إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ , فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا .
سنجد أن الإمام البخاري في كتاب الأحكام بوَّب بابًا بعنوان : باب : العرفاء ؛ فإذًا العرفاء هم وسيلة الخليفة التي من خلالها يستطيع أن يعرف ماذا يقول الشعب , وعلى ذلك قام الفقه الإسلامي في طريق المشورة بين الناس وكان هذا عندنا إلى عصر قريب باسم : " شيخ الحارة ".
فالنبي r شاور الناس كلهم , وكان فيهم المؤلفة قلوبهم الذين لم يُسلموا إلا بعد الفتح .
قال ابن الأثير : والعرفاء هم كالنواب وممثلي الشعب في العصر الحديث , والعرفاء جمع عَرِّيف , وهو القيِّم بأمور القبيلة أو الجماعة من الناس , يلي أمورهم , ويتعرف الأمير منه أحوالهم .
يقول ابن حجر : وهُو القائِم بِأَمرِ طائِفَة مِنَ النّاس , مِن عَرَفت بِالضَّمِّ وبِالفَتحِ عَلَى القَوم , أَعرُف بِالضَّمِّ , فَأَنا عارِف وعَرِيف ، أَي وُلِّيت أَمر سِياسَتهم وحِفظ أُمُورهم ، وسُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَونِهِ يَتَعَرَّف أُمُورهم حَتَّى يُعَرِّف بِها مَن فَوقَهُ عِندَ الاحتِياج([11]).
والعرفاء هم رؤوس الناس الذين يقومون بشؤونهم , ويصدّرهم الناس , أو يفرزهم المجتمع فرزًا طبيعيًّا .
وقد وصَّى عمر بن الخطاب t ابنَ عباسٍ وهو في فراش الموت فيقول له : اعقل عنِّي ثلاثة ... وذكر : والإمارة شورى([12]) . وذلك لأن ابن عباس بعد ذلك سيكون واليًا .
وقال عمر t أيضًا : لا خلاف إلا عن مشورة([13]) .
وكل ما سبق : أسانيد صحيحة .
وفي لفظ بإسناد صحيح له أيضًا : لا بيعة إلا عن مشورة([14]) .
وقال كذلك : مَن دعى إلى إمارة لنفسه من غير مشورة المسلمين , فلا يحل لكم إلا أن تقتلوه([15]) .
وطبعًا لأن هذا مفرِّق الجماعة .
ونفس هذه اللفظة رواها ابن أبي شيبة من طريق الزهري كما رواها البخاري أيضًا , وفي آخرها : لا بيعة له , ولا لمَن بايعه([16]) .
وقد بَلَغَ عمرُ في آخر حجة وهو بمنى أن رجلاً قال : لو مات عمر , بايعت فلانًا ، فو الله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فَلتةً فتمت . فقال عمر t : إني – إن شاء الله- لقائم العشية في الناس ، فمُحَذِّرُهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم ، ثم لما وصل المدينة ، قام في أول جمعة ، فخطب خطبته المشهورة في شأن خلافة أبي بكر ، ثم قال : مَن بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يُتَابَعُ هو ، ولا الذي بايعه ، تغرةً أن يُقتلا([17]) .
وقال عُمَرُ للستة : من تَأَمَّرَ منكم على غير مشورةٍ من المسلمين فاضربوا عنقه([18]) .
وقد ذكر ابن كثير في البداية والنهاية أن عبد الرحمن بن عوف لمَّا رضي أهل الشورى الخمسة أن يختاروا واحدًا منهم , ثم لمَّا انحصر الترشيح بين عثمان وعليّ – رضي الله عنهما – نهض عبد الرحمن بن عوف يستشير الناس فيهما , ويجمع رأي المسلمين برأي رؤس الناس وأقيادهم جميعًا وأشتاتًا ، مثنى وفرادى ومجتمعين ، سرًا وجهرًا ، حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهن ، وحتى سأل الولدان في المكاتب ( جمع كتاب ) وحتى سأل من يرد من الركبان والاعراب إلى المدينة ، في مدة ثلاثة أيام بلياليها([19]).
فهذه كانت ممارسة عملية لمبدأ الشورى , فلم تكن أشياءً في الأذهان فقط , وما كان عبد الرحمن ليجتهد في سؤال الناس كل هذا الجهد , لولا أنه حق من حقوقهم , يحرم الافتئات عليهم فيه , أو مصادرته عليهم , أو اغتصابهم إياه .
وقد أجمع الصحابة على هذا المبدأ من قبل في سقيفة بني ساعدة حينما ذهبوا لاختيار الخليفة , فيايع أبو بكر : عمر ثم المهاجرون ثم الأنصار , ثم باقي المسلمين في المسجد .
وكذا كانت بيعة عمر برضا جميع الصحابة y وبعد استشارتهم ، كما في ثقات ابن حبان : دعا أبو بكر نفرًا من المهاجرين والأنصار يستشيرهم في عمر([20]).
وهكذا كانت بيعة عثمان ، حيث بايعه عبد الرحمن بن عوف ثم المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون ، وقد قال عبدالرحمن بن عوف لعلي بن أبي طالب : إني قد نظرت في أمر الناس ، فلم أَرَهم يعدلون بعثمان , فلا تجعلن على نفسك سبيلاً([21]) .
قال ابن حجر : وسكوت من حضر من أهل الشورى والمهاجرين والأنصار وأمراء الأجناد دليل على تصديقهم عبدَ الرحمن فيما قال ، وعلى الرضا بعثمان([22]) .
ويؤكد علي بن أبي طالب نفس الأمر بعد مقتل عثمان فيقول : إن بيعتي لا تكون إلا عن رضا المسلمين ، فلما دخل المسجد دخل المهاجرون والأنصار فبايعوه ثم بايعه الناس([23]) .
وفي رواية أخرى أنه خطب فقال : يا أيها الناس , إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلاّ من أمَّرتم , فإن شئتم قَعَدتُّ لكم ، وإلا فلا أجدُ عَلى أحد([24]) .
والحسن بن عليّ ذكَّر أباه أن الذي حدث من بيعة الناس لا يكفي , فلابد من باقي الناس , فهو ينصح أباه بأمر قد مارسه أبوه - نفسه - من قبل , وهذا يؤكد ما كان مستقرًا في حسِّهم من أن هذا لا يكفي , يقول : لم آمرك ألا تُبَايعَ الناسَ حتى يَبعَثَ إليك أهلُ كُلِّ مِصرَ ببيعتهم ؟ ! فقال : أمَّا مُبَايَعَتِي قبل مَجيء بيعةِ الأمصار فخشيتُ أن يَضيعَ هذا الأمر([25]) .
يعني : يبرر عليّ t لماذا عملوا هذه البيعة التي في المسجد ؛ وذلك حتى لا ينفرط الأمر , لكنه أقرَّ ابنه على أنه لن يكون خليفة حتى يأتي بيعة جميع الأمصار .
يقول الطبري : واجتمع إلى عليّ بعد ما دخل طلحة والزبير في عدة من الصحابة فقالوا : يا عليّ , إنا قد اشترطنا إقامة الحدود([26]).
وهذا يؤكد ما ذكرناه قبل ذلك أنه في البيعة لهم أن يشترطوا ما يشاؤون من الشروط الشرعية .
وقد اشتهر – طبعًا – أمر المشورة عن أبي بكر t , فقد كان يستشير مَن حضره , وكان عمر t يستشير في الأمر حتى النساء , وربما أخذ برأيهن , وكان له مجلس شورى يحضره الكبار والصغار من أهل العلم . قال الزهري كان مجلس عمر مكتظًا من القراء شبابًا كانوا أو كهولاً , فربما استشارهم .
وقد كان عامة ما اتخذه الخلفاء الراشدون من أحكام فيما لا نص فيه بعد تشاورٍ , وأخذ برأي الملأ([27]).
وقد استشار عمر t الناس في وقف الأرض المفتوحة([28]) , وما زال يجادلهم ثلاثة أيام في المسجد , يحاورهم ويحاورنه حتى أقنعهم برأيه وتابعوه عليه .
ومما قاله عمر بعد أن اشتشار المهاجرين فاختلفوا , فدعا خمسة من الأوس وخمسة من الخزرج من كبرائهم وأشرافهم وقال : إني لم أزعجكم إلا لئن تشتركوا في أمانتي فيما حمِّلت من أموركم فإنِّي واحد كأحدكم , وأنتم اليوم تقرون الحق , وافقني مَن وافقني , وخالفني مَن خالفني , ولست أريد أن تتبعوا هذا الذي هو هواي , فلكم من الله كتاب ينطق بالحق , فقالوا جميعًا : الرأي رأيك , فنعم ما قلت , ونعم ما رأيت . وقد استشارهم في تدوين الدواوين , وقد استشار عثمان الناس في قتل عبيد الله بن عمر بعد أن قتل أبو لؤلؤة المجوسي والهرمزان ثأرًا لمقتل أبيه .
وهذا من أعجب الأشياء التي يجب أن يقف لها الناس احترامًا , كفارًا ومسلمين , فعبيد الله بن عمر نتيجة لِما وقع عليه من غيظ لأجل مقتل عمر , قتل أبا لؤلؤة ( العبد ) والهرمزان ( الذي اشتراه ) , وبلا شك أن أبا لؤلؤة هو القاتل , والهرمزان فيه شك كبير أنه هو الذي جاء به , ولكن الذي وقع من عبيد الله بن عمر لا يصح شرعًا , فليس في دين الإسلام أن القاتل يُقتل , ويُقتل معه أحد آخر , حتى ولو كان المقتول رئيس الدولة .
فالشاهد أن عثمان t استشار الناس في ذلك , مع أن هناك رأي لبعض أهل العلم أن يُقتلا , ولكن هذا رأي , ولا يوجد نص , فما دام هذا قولاً , فالأمر يرجع إلى الرأي والمشورة , فإذا انفرد الناس بتنفيذ الأحكام , وأُلْغِيَ دور القاضي , تصبح الدولة غابة .
فاستشار عثمان الناس في ذلك , فأجمع المهاجرون على وجوب قتله , وخالفهم أكثر الناس ورأوا عدم قتله , فأخذ عثمان برأي أكثر الناس , ودفع الدية من ماله ؛ لأنه ليس لديه نص , فنزل إلى رأي الأكثرين .
ولم تكن الشورى محصورة في قوم دون قوم , بل كان كل مسلم يحضر المسجد([29]) يشارك بالإدلاء في رأيه , رجلاً كان أو امرأة , كبيرًا كان أو صغيرًا , ولم يكن اشتراط الشورى والرضا قاصرًا على المسلمين , بل أيضًا يُشترط رضا عامة المسلمين عند عقد العقود بينهم وبين المسلمين .
قال أبو عبيد : وكذلك لو أن أهل المدينة من المشركين عاقد رؤوساؤهم المسلمين عقدًا , وصالحوهم على صلح , فإن الأخذ بالأحوط وبالثقة ألا يكون ذلك ماضيًا على العوام إلا أن يكونوا راضين به , قال مكحول : إذا نزل المسلمون على حصن ، فالتمس العدو مصالحة المسلمين على أهل أبيات منهم يعطونهم أمانًا , لم يصلح ذلك حتى يبعث أمير الجيوش رجلاً ، فيدخل الحصن ويجمع أهله ويعلمهم بذلك ، فإن رضوا بذلك استنزلهم , وإلا أقروا في حصونهم ولم يصالحوا ... وقد كان أئمة الجيوش من المسلمين قبل عمر بن عبد العزيز يصالح الإمام رؤوس أهل الحصن وقادتهم على ما تراضوا عليه ، دون علم بقية من في الحصن من الروم ، قال : فنهى عمر بن عبد العزيز عن ذلك ، وأمر أمراء جيوشه أن لا يعملوا به ، ولا يقبلوه ممن عرضه عليهم ، حتى يكتبوا كتابًا ويوجهوا به رسولاً وشهودًا على جماعة أهل الحصن .
قال أبو عبيد : وهذا هو الوجه ... إلا أن يكون الأتباع غير مخالفين للرؤساء ، وعلى هذا يحمل ما كان من النبي r لمن عقد وصالح من رؤساء أهل نجران وغيرهم , أن ذلك كان عن ملأ منهم ، وأن الأتباع غير خارجين لهم من رأي ولا مستكرهين عليه([30]).
وهذا مع غير المسلمين , فكيف بالمسلمين ؟
وقد قال عليّ t بعد أن جاءه المهاجرون والأنصار يريدون بيعته : لا أفعل إلا عن ملأ وشورى([31]), وقال بعد أن بايعه الناس : هذه بيعة عامة , فمَن ردَّها رغب عن دين المسلمين واتبع غير سبيلهم([32]).
ومسألة الشورى هذه كانت تُشَكِّل للصحابة ركنًا كبيرًا من أركان الدين , فعندما نرجع إلى التاريخ نجد أن الخلفاء الراشدين انتهى عصرهم بمقتل عليّ y , ثم تولى ابنه الحسن , ثم بايع الحسن وتنازل لمعاوية , وسُمِّيَ عام الجماعة , بعد ذلك فعل معاوية فعلاً مُحدَثًا , أراد أن يُولِّي ابنه يزيد , وعندما نرجع إلى الأحداث سنجد أن معاوية t كان متأولاً أن الدولة قد اتسعت الفتوحات فيها , وأنه لو ترك الأمر في أن يختاروا , يُخْشَى أن ينفرط عقد الدولة , فكان هذا اجتهادًا في غير محله , والذي قال ذلك هم الصحابة , فقد قام إليه ستة من الصحابة يعارضونه بمقولات في منتهى الشدة , حتى أن أحدهم قال له : أنت تريد سنة فارس والروم " . فاستمع إليهم معاوية y , لكن لم يأخذ بكلامهم , وترك العهد لابنه يزيد. فلمَّا مات معاوية , أرسل يزيد إلى الأمصار يأخذ البيعة , وبالفعل أخذها منهم كُرْهًا , فالذي حدث أمر عجيب جدًا , وهو أن الأقاليم كلها خرجت عن طوع يزيد , وكان على رأس الخارجين صحابة من صحابة النبي r , خرجوا عليه بالسيف ؛ لأنهم لم يقروه على ولايته , وكانت حجتهم الوحيدة أنه تولَّى عن غير مشورة منهم , وسنجد بعد ذلك في عصور الضعف والاضمحلال للمسلمين , أنَّ بعض العلماء أباحوا هذا الأمر على خلاف الإجماع .
فلمَّا مات يزيد , خرج عبد الله بن الزبير فبويع له من كل الأقطار إلا دمشق التي كانت فيها عبد الملك , وكان عبد الله بن الزبير يشاور الناس في كل شيء , ولا يخرج عن مشورتهم , حتى أنه كان يستشير الخوارج , فالخوارج طالما لم يرفعوا سلاحًا في الدولة , يكون لهم ما لنا , وعليهم ما علينا .

[1]- الأحكام السلطانية (1/3) الباب الأول : في عقد الإمامة .

[2]- نهاية الإقدام في علم الكلام (1/168) القاعدة العشرون في إثبات نبوة نبينا محمد r .

[3]- الجامع لأحكام القرآن (3/264) المسألة الرابعة - آية 30 عند قوله تعالى : ] وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ [ .

[4]- مجموع الفتاوى (28/390) .

[5]- الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي صـ 199 ط . 1393 هـ. ن . مكتبة الجندي بمصر .

[6]- وهذا يتضح منه ما قررناه من أنهم كانوا يعتقدون بأن البيعة شيء ملزم .

[7]- تفسير القرطبي (4/249) المسألة الأولى في قوله تعالى : ] فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [ .

[8]- ابن خويز منداد من علماء المالكية المشهورين , تُوُفِّيَ سنة 400 هـ .

[9]- البداية والنهاية (4/15) .

[10]- تفسير الطبري (7/345) تحقيق أحمد محمد شاكر , طبعة مؤسسة الرسالة .

[11]- الفتح (13/169) في كتاب الأحكام , باب : العرفاء للناس . وهذا العريف لا يكون أي أحد , بل له مواصفات في الفقه , من أهمها الدين والأمانة والعلم والتقوى , وأن يكون مشهودًا له بحسن الإدارة , فهو رأس مال الخليفة .

[12]- مصنف عبد الرزاق (10/302) بإسناد صحيح ، وقد قال القرطبي: "وقد جعل عمر بن الخطاب الخلافة وهي أعظم النوازل شورى" (4/251) . [ نقلاً من الرسالة الرابعة المبادئ المهمة لمؤتمر الأمة , الأصول والمبادئ المهمة ] .

[13]- المصنف (7/431) ، وابن شبة (3/933) – نقلاً من المصدر السابق .

[14]- أخرجه ابن شبة (3/933) بإسناد صحيح - نقلاً من المصدر السابق .

[15]- السابق (3/936) - نقلاً من المصدر السابق .

[16]- انظر الفتح (12/150) - نقلاً من المصدر السابق .

[17]- صحيح البخاري مع الفتح (12/145) (6830) - نقلاً من المصدر السابق .

[18]- طبقات ابن سعد (3/262) بإسناد صحيح على شرط الشيخين ، قال الحافظ في الفتح (7/68) : " أخرجه ابن سعد بإسناد صحيح " من حديث ابن عمر - نقلاً من المصدر السابق .

[19]- البداية والنهاية (7/164) .

[20]- (2/191) - [ نقلاً من الرسالة الرابعة المبادئ المهمة لمؤتمر الأمة , الأصول والمبادئ المهمة ] .

[21]- صحيح البخاري مع الفتح (13/194) ح (7207) - نقلاً من المصدر السابق .

[22]- السابق (13/197) ح (7207) ، وانظر تاريخ الإسلام للذهبي عهد الخلفاء صـ 305 - نقلاً من المصدر السابق .

[23]- تفسير الطبري (2/696) - السابق .

[24]- السابق (2/700) - السابق .

[25]- انظر ابن كثير (7/245) وابن جرير الطبري (3/10، 11) ، ولفظه : أمرتك ألاّ تبايع حتى يأتيك وفود أهل الأمصار والعرب وبيعة كل مصر (2/700) - السابق .

[26]- تاريخ الطبري ( تاريخ الأمم والملوك ) (2/702) دار الكتب العلمية – بيروت .

[27]- الملأ هم الأغلبية كما قال الطبري , وكما قال عليّ : ما فعل عثمان ما فعل المصاحف إلا عن ملأ منَّا .

[28]- مسألة الأرض المفتوحة ليست أمرًا سهلاً , فقد امتدت إلى يومنا هذا , وترتب عليها أحكام فقهية , هل يوزعونها على الناس , أم يتركونها وقفًا تتقوى بها الدولة , ولتراجع هذه المسألة في كتاب الزكاة .

[29]- والذي لا يحضر كانت مشاركته عن طريق العرفاء .

[30]- الأموال لأبي عبيد صـ 191- 192 – نقلاً من " تحرير الإنسان وتجريد الطغيان " للدكتور حاكم المطيري .

[31]- ثقات ابن حبان (2/267) – نقلاً من المصدر السابق .

[32]- السابق (2/268) – نقلاً من المصدر السابق .

يتبع........
رد مع اقتباس