الموضوع: قضية سمرقند
عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 10-18-2010, 01:23 AM
أبو يوسف السلفي أبو يوسف السلفي غير متواجد حالياً
" ‏مَا الْفَقْرَ ‏أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنِّي‏ ‏أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ "
 




افتراضي

نعم يا أيها الغريب ، هذه دار أمير المؤمنين ، فلا يغررك صغرها وضيقها ، وعطل أبوابها من الزخرف وجدرانها ، وإنه لا حاجب عليها ولا جند ببابها ، فإن هذه الدار أكرم من كل قصر حملته على ظهرها هذه الأرض ، فامش إليها ولا تخف !
فعاد السمرقندي ، فلما دنا من الدار سمع ضجة ورأى ولدين قد شج أحدهما الآخر شجة منكرة ، ورأى الخليفة يخرج بنفسه فيأخذ الولدين ، فيراه ، فيسأله ، فيقول : إني متظلم يا أمير المؤمنين ، فيقول له : مكانك حتى أعود إليك. ويدخل بالغلامين ويسمع السمرقندي صوت امرأة تصرخ : ( ابني )، فيعلم أنها أم الولد المشجوج ، وتدخل الدار مُرَيْئة ، فترى الولد الآخر ، فتقول : ابني .
ويسمع القصة فيعلم أن ابن أمير المؤمنين قد خرج يلعب مع الغلمان فشجه ابن هذه المرأة ، وتقول المرأة : ارحموه ، إنه يتيم فقير . ويرق قلب السمرقندي ويشفق على هذه المراة أن تُضرب عنق ابنها أمامها . وهو طفل لا ذنب له ولا يُسأل عن فعلته ، وإذا بأمير المؤمنين يقول لها : أما له من عطاء ؟ فتقول : لا ، فيقول : سنكتبه في الذرية .
وتخرج المرأة شاكرة داعية ، ويسمع السمرقندي فاطمة بنت عبد الملك تقول مغضبة : فعل الله به وفعل إن لم يشجه مرة أخرى . فيقول الخليفة : إنكم أفزعتموه ، وخرج الخليفة فدعاه ، فسأله عن حاله ، فشكا إليه قتيبة ، وأنه دخل سمرقند غدراً من غير دعوة إلى الإسلام ولا منابذة ولا إعلان .
فقال الخليفة : والله ما أمرنا نبينا بالظلم ولا أجازه لنا . وإن الله أوجب علينا العدل في المسلمين وغير المسلمين ، يا غلام ... قلماً وقرطاساً !
فجاءه الغلام بورقة قدر اصبعين ، فكتب عليها أسطراً وختمها وقال له : خذها إلى عامل البلد !
ورجع يطوي هذه الشقة مرة ثانية ، وكلما وصل إلى بلد دخل المسجد فوقف في الصف ، كتفه إلى كتف أخ له في الإسلام ، ووجهته وجهته ، وفي قلبه إيمانه ، وعلى لسانه تسبيحاته وتكبيراته ... أحس أنه عضو في هذه الجمعية الكبرى ، وأدرك عظمة هذا الدين وحلاوته ، إذ يؤم المصلين واحد منهم ، فلا قساوسة ولا كهان ، ويصلون في كل أرض فلا معابد ولا تماثيل ، ويقفون جميعاً صفاً واحداً ، فلا كبير ولا صغير ، ولا مأمور ولا أمير ، وشعر بعظم هذه الدائرة التي تطيف من حول الكعبة تمر على السهل والحَزَن ، والعامر والغامر ، والمدينة والقرية ، يقوم فيها عباد لله ، هم رهبان في الليل وجن في النهار ، خاشعة قلوبهم ، وأبصارهم ، وجوارحهم ، يقفون أمام رب العالمين ، فلا يبالون الدنيا كلها ، بلذائذها وآلامها ، وخيرها وشرها !
ولم تثقل عليه هذه المرة سعة دنيا الإسلام لأنها صارت دنياه . ولم يجد لهذه السفرة مشقة ولا تعباً ، لأنه كان كلما انقضت الصلاة وجد في المسجد ( في كل بلد يمر عليه ) من يسأله عن حاله ، فإذا علم أنه غريب أنزله داره ، وقدّم له قراه ، ومنحه عونه ، فكان يُقَابل بين مجيئه كافراً وبين عودته مسلماً ، وكيف كان يشعر بطول الشقة ، وبعد الطريق ، وألم الغربة ، فصار يتقلب في النعيم ، ويُحمل على أكف الإخوان ، فيدرك سر المسجد وجمال هذا الدين !
ووصل إلى المعبد ، ولكنها لم ترعه هذه المرة تماثيله ولا مصابيحه ، ولم يمتلئ قلبه فرقاً من أسراره وخفاياه ، فقد أضاء له الإسلام ظلمة الحياة ، فرأى حقائقها من أوهامها ، وعلم أن هذه الأصنام التي نحتوها بأيديهم وسموها آلهة ، لا تنفع ولا تضر ، ولا تمنع عن نفسها ضربة الفأس ، ولا لهب النار ، ولكنه كتم إسلامه ، وقرع الباب قرعة السر ، ففُتِح له ، ورآه الكهنة بعد أن حسبوا أنهم لن يروه أبداً ، ووصف لهم ما رأى ، فكادت أعينهم تخرج من حناجرهم دهشة ... وأيقنوا أن قد جاءهم الفرج ، وأمروه فحمل الكتاب مختوماً إلى العامل ، فإذا فيه أمر الخليفة بأن ينصب قاض يحتكم إليه كهنة سمرقند وقتيبة ، فما قضى به نفذ قضاؤه !
وأطاع العامل ونصب لهم قاضياً ، جميعَ بنَ حاضر الباجي ، وعين موعد المحاكمة ولما عاد فأخبر الكاهن الأكبر ، أظلم وجهه بعد إشراقه ، كما تربد في سماء النهار الصحو السُحُب السود ، وخبا ضياء الأمل الذي بدا له فحسبه فجراً صادقاً ، فإذا هو برق خلب ... وأيقن أن هذه المحاكمة فصل جديد من كتاب غدر المسلمين ...

يتبع ..
رد مع اقتباس