عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 05-02-2008, 10:47 PM
قـَسْوَرَةُ الأَثَرِيُّ قـَسْوَرَةُ الأَثَرِيُّ غير متواجد حالياً
قـــلم نــابض
 




افتراضي

المبحث الأول :
عناية المسلمين باللغة خدمة للقرآن الكريم


حازت العربية شرفا عظيما ؛ إذ نزل القرآن الكريم بلسانها المبين ، وقد اصطفاها الله سبحانه لوحيه من بين لغات البشر ، وفي إنزال القرآن الكريم باللغة العربية مرتبة رفيعة لعلم العربية ، ووجه الدلالة أنه تعالى أخبر أنه أنزله عربيا في سياق التمدح ، والثناء على الكتاب بأنه مبين لم يتضمن لبسا ، عزيز { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } ، وذلك يدل دلالة ظاهرة على شرف اللغة التي أنزل بها .
وقد عني السلف بالعربية ، وأقبلوا على خدمتها على نحو شامل ، وأيقنوا أن دراستها والتأليف فيها ضرب من ضروب العبادة ، يتقربون به إلى الله .
وقد استحقت خدمة العلماء للغة القرآن الوقوف على أوجه هذه الخدمة وفروعها المختلفة ، ولا يسعنا في هذا البحث الموجز إلا أن نشير إلى بعضها باختصار ، فمن ذلك :

1 - التأليف في (( لغات القبائل الواردة في القرآن )) . اجتهد علماء العربية في بيان أصول الألفاظ القرآنية ، وعزوها إلى قبائلها الأصلية ، وبينوا المعنى المراد باللفظ القرآني لدى هذه القبيلة ؛ وذلك لأن القرآن الكريم نزل بلغة قريش التي استقت من صفوة لغات العرب ما راقها .
ومن أمثلة ذلك ما ورد في كتاب أبي عبيد القاسم بن سلام (( لغات القبائل)) (1) : (( { رغدا } من قوله تعالى : { وكلا منها رغدا } (البقرة: 35) يعني الخصب بلغة طيئ ، و(( { الصاعقة } )) من قوله تعالى : { فأخذتكم الصاعقة } (البقرة: 55) يعني الموتة بلغة عمان ، و (( { خاسئين } )) من قوله تعالى : { كونوا قردة خاسئين } (البقرة: 65) يعني صاغرين بلغة كنانة ، و (( { وسطا } )) من قوله تعالى : { جعلناكم أمة وسطا } (البقرة: 143) يعني عدلا بلغة قريش )) .

وقد أفاد المفسرون كثيرا من معرفة لغات العرب الوادرة في القرآن الكريم ، واستندوا إليها في تفسير كثير من الآيات الكريمة ، وحدث بينهم مناقشات واختلافات في اعتماد معنى الآية المشهور ، أو الاتجاه إلى تفسيرها في ضوء لغات العرب . ومن ذلك قوله تعالى : { أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا } (الرعد: 31) فهل اليأس في الآية على بابه وهو قطع الطمع عن الشيء والقنوط فيه ؟ قال بعضهم : هو هنا على بابه ، والمعنى : أفلم ييئس الذين آمنوا من إيمان الكفار من قريش ، وذلك أنهم لما سألوا هذه الآيات طمعوا في إيمانهم ، وطلبوا نزول هذه الآيات ليؤمن الكفار ، وعلم الله أنهم لا يؤمنون فقال : أفلم ييئسوا من إيمانهم . ولكن فريقا آخر من أهل التفسير ذهبوا إلى غير ذلك من معنى اليأس فقالوا : هو هنا بمعنى علم وتبين . قال القاسم بن معن - وهو من ثقات الكوفيين - : (( هي لغة هوازن )) . وقال ابن الكلبي : (( هي لغة حي من النخع )) ومنه قول سحيم :
أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني ... ألم تيئسوا أني ابن فارس زهدم

ويدل عليه قراءة علي وابن عباس وآخرين (( أو لم يتبين )) (1) .
وهذا العزو إلى لهجات القبائل في التفسير باب واسع في مصنفات التفسير وإعراب القرآن ، أفاد منه العلماء كثيرا في إجلاء معنى طائفة من الآيات ، وبينوا المزيد من أوجه دلالاتها . ومن الكتب التي وصلتنا في هذا الجانب : (( لغات القرآن )) لكل من أبي عبيد ، والوزان ، وأبي حيان ، وابن حسنون .

2 - وأثر دراسة ألفاظ القرآن في كتب (( الأضداد )) واضح ، ومن هذه المصنفات كتاب أبي الطيب اللغوي ، وكتاب قطرب ، وكتاب ابن الأنباري . وهي تورد المفردة اللغوية ، وتنص على استعمالها في القرآن والحديث والشواهد الفصيحة من الشعر وأقوال العرب ؛ وذلك لأن بعض ألفاظ العربية تنبئ عن المعنى وضده في الكلمة نفسها . وقد تصدت هذه الدراسات لبحث مدلول اللفظ المفرد وصلته بالسياق ، ومدى اختلاف معناه باختلاف تركيبه في الجملة . يقول الدكتور محمد زغلول سلام (1) : (( وكان حافز العلماء في الاجتهاد والبحث القرآن ؛ ذلك لأن المفسرين والعلماء الذين شغلوا بدراسة أسلوبه قد اعترضتهم بعض العقبات ، حين اصطدموا بألفاظ قد يفهم تكرارها في مناسبات مختلفة في القرآن أنها متضادة أو مختلفة في معانيها ، وذلك بالقياس إلى الشاهد الشعري ، مما دعا بعض الطاعنين ومن يثير الشكوك إلى القول بالتناقض في أسلوب القرآن )) .

ويصرح ابن الأنباري في مقدمة كتابه (( الأضداد )) بالدافع الرئيس الذي دفعه إلى تأليف كتابه ، فهو خدمة تفسير القرآن ومحاولة الدفاع عما وجه إلى لغته وأسلوبه من التناقض والإحالة ، ويقول : (( هذا كتاب ذكر الحروف التي توقعها العرب على المعاني المتضادة ، فيكون الحرف منها مؤديا عن معنيين مختلفين ، ويظن أهل البدع والزيغ والإزراء بالعرب أن ذلك كان منهم نقصا من حكمتهم ، وقلة بلاغتهم )) (1) . وقد عرض ابن الأنباري كثيرا من الألفاظ التي جاءت في القرآن ، وعدها بعض العلماء من قبله من الأضداد ، وهم - من وجهة نظره - قد أخطؤوا فيها التأويل ، ومذهبه في كثير من كلمات الأضداد أن الكلمة لم توضع في أول الأمر للمعنيين المتضادين ، وإنما وضعت لأحدهما ، وتراه يميل في كتابه إلى قول بعض العلماء : (( إذا وقع الحرف على معنيين متضادين فالأصل لمعنى واحد ، ثم تداخل الاثنان على جهة الاتساع )) (2) ، وقد يكتفي بعرض الرأيين في تفسير الآية كقوله (3) : (( والند يقع على معنيين متضادين . يقال : فلان ند فلان إذا كان ضده ، وفلان نده إذا كان مثله . وفسر الناس قوله تعالى : { فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون } (البقرة: 22) على جهتين . قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : معناه فلا تجعلوا لله أعدالا ، فالأعدال جمع عدل ، والعدل المثل . وقال أبو العباس عن الأثرم عن أبي عبيدة : { فلا تجعلوا لله أندادا } أي : أضدادا )) .
أما قطرب فله منهج آخر ، وهو التوسع في ألفاظ الأضداد وقبول الكثير منها . ومن أمثلته : (( المفرط )) المقدم والمؤخر ، نحو قوله تعالى : { لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون } (النحل: 62) . ويجوز أن يكون أنهم مقدمون إليها جميعا ، ويجوز أنهم مؤخرون مباعدون متروكون من الثواب )) .
وهكذا ساهم هذا النوع من الخدمة اللغوية في إجلاء معنى كثير من الآيات ، وأثار بين علماء العربية والتفسير مناقشات أفادت منها المكتبة القرآنية واللغوية على السواء
رد مع اقتباس