شرح حديث [ أم زرع ] - للشيخ أبو اسحاق الحويني - حفظه الله
والحديث رواه الإمام البخاري والإمام مسلم والنسائي
قالت عائشة رضي الله عنها وهي تقص على النبي عليه الصلاة والسلام حكاية :
( جلست إحدى عشرة امرأة فتعاهدن وتعاقدن ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً )
قالت الأولى : زوجي لحم جمل غث ، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى ، ولا سمين فينتقى .
وقالت الثانية :زوجي لا أبث خبره، إني أخاف ألا أذره، إن أذكره أذكر عجره وبجره .
وقالت الثالثة : زوجي العشنق ، إن أنطق أطلق ، وإن أسكت أعلق .
وقالت الرابعة :زوجي كليل تهامة ، لا حر ولا قر ، ولا مخافة ولا سآمة .
وقالت الخامسة : زوجي إذا دخل فَهِد ، وإن خرج أسد ، ولا يسأل عما عهد .
وقالت السادسة : زوجي إذا أكل لف ، وإذا شرب اشتف، وإذا اضطجع التف ، ولا يولج
الكف ليعلم البث .
وقالت السابعة : زوجي عيايا أو غيايا ، طباقا ، كل داء له داء ، شجك أو فلك أو جمع كلاً لك.
وقالت الثامنة : زوجي المس مس أرنب ، والريح ريح زرنب .
وقالت التاسعة : زوجي رفيع العماد ، طويل النجاد ، عظيم الرماد ، قريب البيت من الناد .
وقالت العاشرة :زوجي مالك ، وما مالك! مالك خير من ذلك ، له إبل كثيرات المبارك
قليلات المسارح ، إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك .
وقالت الحادية عشرة : زوجي أبو زرع فما أبو زرع ! أناس من حلي أذني ، وملأ من شحم
عضدي ، وبجحني فبجحت إلي نفسي ، وجدني في أهل غنيمة بشق فجعلني في أهل صهيل
وأطيط ودائس ومنق ، فعنده أقول فلا أقبح ، وأرقد فأتصبح ، وأشرب فأتقمح .
أم أبي زرع فما أم أبي زرع ! عكومها رداح ، وبيتها فساح .
ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع ! مضجعه كمسل شطبة ، ويشبعه ذراع الجفرة .
بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع ! طوع أبيها ، وطوع أمها ، وملء كسائها ، وغيظ جارتها .
جارية أبي زرع فما جارية أبي زرع ! لا تبث حديثنا تبثيثاً ، ولا تنقث ميرتنا تنقيثاً ،ولا تملأ بيتنا تعشيشاً .
قالت : فخرج أبو زرع والأوطاب تمخض، فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين، يلعبان
من تحت خصرها برمانتين ، فطلقني ونكحها ، فنكحت بعده رجلاً ثرياً ، ركب سرياً ،
وأخذ خطياً ، وأراح علي نعماً ثرياً ، وأعطاني من كل رائحة زوجاً ، وقال : كلي أم
زرع وميري أهلك ، قالت : فلو أني جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة - رضي الله عنها - : كنت لك كـأبي زرع لـأم زرع ) .
وفي رواية النسائي قال لها :
( ولكني لا أطلقك )، هذه الزيادة
خبر المرأة الأولى :
بدأت القصة بامرأة أردت زوجها صريعاً بالضربة القاضية في الجولة الأولى، تقول:
( زوجي لحم جمل غث ) ، الغث : هو الرديء ، تشبهه بأنه لحم جمل رديء ، ومعلوم
أن أغلب الناس ليس لهم شغف بلحوم الجمال ، وهذا اللحم مع أنه لحم غير مرغوب
فيه ، فهو غث أيضاً ، أي : لو كان لحماً جملياً نظيفاً، أو كان لحم قعود صغير لقبلناه
على مضض، لكنه جمع ما بين أنه لحم جمل وبين أنه غث ورديء أصلاً . تقول :
( زوجي لحم جمل غث، على رأس جبل وعر ) ،
قليل من لحم جمل على قمة عالية ،
ومن الذي سيصعد ويجهد نفسه ويتسلق الجبل لأجل قليل من لحم غث ؟ فهي تقول :
( على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى ) ، أي : ليس جبلاً سهل المرتقى ،
فيمكن الصعود عليه لنأكل اللحم الذي عليه، وليت الجبل إذ هو وعر أن يكون هذا اللحم
لحم ضأن مثلاً أو نحوه. وهي تريد بهذا أن تقول : إن الرجل جمع ما بين سوء
الخلق وسوء المعشر ، فأخلاقه سيئة جداً لدرجة أنك إذا أردت أن ترضيه كأنك تتسلق جبلاً .
وهناك بعض الناس هكذا ، إذا أردت أن ترضيه تبذل جهداً عظيماً حتى يرض عنك
فأخلاقه وعرة كوعورة الجبل، فهي تصف زوجها بهذا .
خبر المرأة الثانية
وقالت المرأة الثانية :
( زوجي لا أبث خبره ، إني أخاف ألا أذره ، إن أذكره أذكر عجره وبجره ) .
تقول : أنا لن أتكلم، ولا أبث خبره ، ومع ذلك فقد تكلمت ! وفي الرواية الأخرى :
( زوجي لا أثير خبره ، إني أخاف ألا أذره ) ، يقول العلماء : إن ( لا ) هنا زائدة ، والمعنى
: إني أخاف أن أذره ، أي أخاف أن يطلقني لو أفشيت خبره ، وإذا تكلمت سأذكر عجره وبجره .
وأصل العجر هو : انتفاخ العروق في الرقبة ، والبجر : انتفاخ السرة ، فكأنها قالت :
له عيوب ظاهرة وباطنة ، فكنت عن العيوب الظاهرة بالعجر، الذي هو انتفاخ العروق،
وهذا فيه تشويه لجمال الرقبة ، فكأنها تصف هذا الرجل أن عيوبه الظاهرة ظاهرة
وجلية ومعروفة غير مستترة ، وله عيوب خفية لا تعرفها إلا المرأة ، وكنت عنها بالبجر،
الذي هو انتفاخ السرة . ومنه قول علي - رضي الله عنه - في يوم الجمل :
( إلى الله أشكو عجري وبجري ) ، وهذه المرأة أيضاً تذم زوجها .
خبر المرأة الثالثة
ثم قالت المرأة الثالثة :
( زوجي العشنق ) ، العشنق : هو الطويل المغفل الذي بلا منفعة ،
والعلماء يقولون : إن العشنق رأسه صغير وقامته طويلة ، وفيه تباعد ما بين الدماغ
والقلب ، فيمكن أن تنقطع الصلة بينهما فيبقى عنده عقل بلا قلب ، أو قلب بلا عقل ،
تقول :
( زوجي العشنق ، إن أنطق أطلق ، وإن أسكت أعلق ) ، فلا حيلة لها معه ،
وفي الرواية الأخرى :
( وأنا معه على حد السنان المذلق ) ،
أي : تعيش معه على
شفا جرف هار، فلا اطمئنان على الإطلاق في حياتها مع هذا الرجل ، فهذا الرجل بلغ
من سوء خلقه أنه لا يتيح لها الفرصة لا لتتكلم ، ولا لتسكت ، فعلى كلا الحالين إذا
سكتت أو تكلمت فإنه سيطلقها ، لكن هي تحبه ، أو أنها تريد أن تعيش معه ليطعمها ،
فهي تسكت على سوء خلقه ، ولو سكتت فإنه يعلقها فلا هي متزوجة ولا هي مطلقة .
خبر المرأة الرابعة
أما المرأة الرابعة فقد وصفت زوجها وصفاً جميلاً ، وهي أول امرأة تصف زوجها بخير ،
تقول : ( زوجي كليل تهامة ) ،
ومعروف أن ليل تهامة من أفضل الأجواء ..
( زوجي كليل تهامة ، لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة ) ، أي : لطيف المعشر ،
وحسن العشرة ، ( لا حر ) : أخلاقه ليست شديدة ،
( ولا قُر ) : أي : ليس بارداً ،
( ولا مخافة ولا سآمة ) ، فالمرأة تأخذ راحتها في الحوار ، فتتكلم معه ولا تسكت .
خبر المرأة الخامسة
وقالت الخامسة :
( زوجي إذا دخل فهِد ، وإذا خرج أسد ، ولا يسأل عما عهد ) .
اختلف شراح الحديث هل قولها هذا خرج مخرج الذم أم خرج مخرج المدح ؟ لكن الظاهر
أنه خرج مخرج المدح ، فقولها : ( زوجي إذا دخل فهد ) يقولون: من طبع الفهد -
وهو الحيوان المعروف - أنه كثير النوم ، فهي تصفه بالغفلة، والرجل الذي يزيد ذكاؤه
عن الحد، والذي يتتبع كل صغيرة وكبيرة ، رجل متعب جداً ، فلا بد من شيء من التغافل .
قيل لأعرابي : من العاقل ؟ قال :
( الفطن المتغافل ) . يعني : الذي يتجاهل بإرادته ،
وليس لازماً أن يُعرفها أنه يعرف ، ولكنه يتجاهل بإرادته ؛ لأن هذا يضيع حلاوة التغافل
خبر المرأة السادسة
وقالت السادسة :
( زوجي إذا أكل لف ، وإذا شرب اشتف ، وإذا اضطجع التف ،
ولا يولج الكف ليعلم البث ) .
( إذا أكل لف ) : يلف : أي : يأكل من كل الأطباق ، ولا يترك
صنفاً إلا ويأكل منه ، ( وإذا شرب اشتف ) ، أي : يستمر يشرب حتى لا يبقي شيئاً ،
فهو نهوم ، أكول ، وهذا يدل على أن المرأة ماهرة ، فما ترك شيئاً إلا أكل منه، ويشرب
بنوع من النهم، وتكون النتيجة أنه عندما ينام يلتف لوحده ، هذا هو الجزاء ، ولا يشكر
هذه المرأة التي طعامها جميل ، وشرابها جميل ، لدرجة أنه يأكل بشره ، بل يكافئ المرأة
بأنه إذا اضطجع التف ، فهي تشتكيه .
خبر المرأة السابعة
وقالت السابعة - وهذه ما تركت شيئاً في الرجل - :
( زوجي عيايا غيايا طباقا ) ، ( عيايا ) :
من العي ، ( غيايا ) : من الغي ، وهو الضلال البعيد ،
( طباقا ) : مقفل لا يتفاهم ،
( كل داء له داء ) : كل عيوب الدنيا فيه ، كل داء تجده فيه .
( شجك ) يجرح وجهها ،
( أو فلك ) يكسر عظمها ،
( أو جمع كلاً لك ) ، أي : إما يشج رأسها فقط ، وإما يكسر
عظمها فقط ، وإما يكسر عظمها ويشج رأسها ، فهذا الرجل عنيد جداً .
خبر المرأة الثامنة
وقالت الثامنة :
( زوجي المس مس أرنب ، والريح ريح زرنب ) .
وهي تمدحه ( مس أرنب ) أي : ناعم البشرة ، ناعم الملمس ، كجلد الأرنب ، رفيق رقيق ،
( والريح ريح زرنب ) ، الزرنب : نبات طيب الرائحة ، وهذا أدب ينبغي أن نتعلمه ، فينبغي
على الرجل والمرأة أن يحرصا على أن تكون روائحهما طيبة ، ومن الأشياء المنفرة التي
هدمت بيوت بسببها هذا الموضوع..
والرسول عليه الصلاة والسلام كما رواه الإمام مسلم عن شريح بن هانئ قال: قلت لـعائشة :
( بأي شيء كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ إذا دخل بيته ؟ قالت : بالسواك ) ،
فأول ما يدخل البيت يستاك ، وهذا نوع من إزالة الرائحة الكريهة التي يمكن أن تكون في الفم، فالإنسان ينبغي عليه أن يحرص
على هذا، فهذه المرأة تمدح زوجها بأنه طيب العشرة ، ولم يفتها أن تصفه بطيب الرائحة .
خبر المرأة التاسعة
وقالت التاسعة :
( زوجي رفيع العماد ، طويل النجاد ، عظيم الرماد ، قريب البيت من الناد ) ،
وهي أيضاً تمدحه.. ( رفيع العماد )
أي : طويل ، لكن هناك فرق بينه وبين العشنق ،
فهذا طويل وهذا طويل ، لكن شتان بين طويل وطويل ، فهذا رجل رفيع العماد ، طويل ،ذو هيئة حسنة ،
( طويل النجاد ) ،
النجاد : هو جراب السيف ، فهذا رجل عندما يلبس السيف
يكون الجراب الخاص به طويلاً ، وهذا أمر يمتدح به .
خبر المرأة العاشرة
وقالت العاشرة : ( زوجي مالك ، وما مالك ! ) ، أي : اسمه مالك ، ثم قالت :
( وما مالك ! ) أي : هل تعرفون شيئاً عن مالك ؟
( مالك خير من ذلك ) ، مالك خيرى من كل ما يخطر ببالك ، وهذا مدح عالٍ ،
( له إبل كثيرات المبارك ، قليلات المسارح ) ؛
لأنه يتوقع أن يأتيه الضيوف ،
فلا يجعل الغلام يسرح بكل الإبل ؛ لئلا يأتي الضيف فلا يجد
شيئاً يذبحه ، ( له إبل كثيرات المبارك)
باركة باستمرار ، ( قليلات المسارح ) قلما يسرحها ،
( إذا سمعن صوت المزهر ) ،
وهي الإبل التي في الزريبة ، إذا سمعن صوت المزهر ،
( أيقن أنهن هوالك ) ،
يعرفن أن إحداهن ستذبح ، فإذا سمعن هذا الصوت علمن أن الضيف وصل ، والرجل يحيي الضيوف ، ويستقبلهم بالطبل البلدي ، فيعرف الجمل الذي بالداخل أنه سينحر ؛ لأنه قد حل ضيف .
والمرأة الأخيرة هي بيت القصيد ، وهي أم زرع التي سمي الحديث بها
قالت أم زرع :
( زوجي أبو زرع فما أبو زرع ! ) ،
هل تعرفون شيئاً عن أبي زرع ؟ .
وحيث إننا لا نعرف شيئاً عن أبي زرع، فهي تعرفنا من هو أبو زرع. تقول :
( أناس من حلي أذني ، وملأ من شحم عضدي ) .
هذا كله غزل ، ( أناس من حلي أذني ) :
النوس يعني الاضطراب والحركة ، ومنه الناس ؛ لأنهم يتحركون ذهاباً وإياباً .
( أناس من حلي أذني ): أي:
ألبسها ذهباً في آذانها ، وهي تتحرك، فالذهب يتحرك في آذانها بعدما كانت خالية ، فهي
الآن تحمل ذهباً في كل أذن .( وملأ من شحم عضدي ) : بدأت المرأة بالذهب لأنه
أهلك النساء ، الأحمران : الذهب والحرير ، فالنساء عندهن شغف شديد بالذهب ،
( وملأ من شحم عضدي )
، تريد أن تقول : إنه كريم .. يعني أنه أخذها نحيلة والآن امتلأت .
( وبجحني فبجحت إلي نفسي ) ، يقول لها: يا سيدة الجميع ! يا جميلة ! يا جوهرة !
حتى صدقت ذلك، من كثرة ما بجحها إلى نفسها ،
( فبجحت إلى نفسي ) : أي : فصدقته ،
مع أنها قالت :(وجدني في أهل غنيمة بشق) ،
يعني : شق جبل ، أي أنها كانت تعيش
في حارة بشق ، وفي بعض الروايات الأخرى( بشق ) :
يعني كانت تعيش بشق الأنفس ، فقيرة فقراً مدقعاً تقول :( وجدني في أهل غنيمة ) ،
غنيمة : تصغير غنم ، أي
أن حالتهم كانت كلها كرب ، حتى الغنم صار غنيمة ، دلالة على حقارة المال . قالت :
( وجدني في أهل غنيمة بشق ) ، فنقلها نقلة عظيمة ،
( فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق ) ،
هذه نقلة كبيرة من أهل غنيمة بشق، نقلها إلى
( أهل صهيل ) :
أصحاب خيل ، ( وأطيط ) :
أصحاب إبل ؛ لأن الخف الخاص بالجمل لين، فعندما يكون
محملاً حملاً ثقيلاً تسمع كلمة : أط أط أط، خلال مشيه ، فهذا يسمى أطيطاً ، والإبل كانت
من أشرف الأنعام عند العرب،( ودائس ) أي : ما يداس ، وهذا كناية عن أنهم أناس
أهل زرع فلاحون، فإن الزارع بعد حصد الزرع يدوس عليه بأي شيء حتى يخرج منه
الحب ، فهو كناية عن أنهم أهل زرع .( ومنق ) : المنق : هو المنخل ، فالعرب ما كانوا
يعرفون المنخل إنما كان يعرفه أهل الترف ، تقول عائشة - رضي الله عنها - :
( ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم منخلاً بعينيه ) ،
فقال عروة :
( فكيف كنتم تأكلون يا خالة ؟ فقالت : كنا نذريه في الهواء ) ، فالتبن يطير في الهواء،
والذي يبقى مع الشعير يطحنونه كله ويأكلونه، والنبي عليه الصلاة والسلام كما
قالت عائشة :( مات ولم يشبع من خبز الشعير ) ، ليس من خبز القمح ، فإن القمح
هذا لم يأكلوه أبداً! تقول : وما أكل خبزاً مرققاً ) .
فكلمة ( منق ) فيها دلالة على الترف ،
فعندهم من كل المال ، فهم أغنياء ، عندهم خيل وإبل وزرع ، وعندما يأكلون عندهم منخل ؛
لأنهم كانوا لا يفصلون التبن عن الغلة ، فيطحنونها دقيقاً يسر الناظرين .
( فعنده أقول فلا أقبح ) تقول : مهما قلت فلا أحد يجرؤ أن يقول لي : قبحك الله ..
فقد كان عزها من عز الرجل ومكانتها من مكانته، فلا يستطيع أحد أن يرد عليها بكلمة .
( وأرقد فأتصبح ) : تنام حتى وقت الضحى، وهذا يدل على أنه كان معها خدام ؛
إذ لو كانت تعمل بنفسها لما كانت تنام بعد صلاة الفجر ، وهذا كسائر نسائنا ؛ لأنه بعد
صلاة الفجر يريد الأولاد أن يذهبوا إلى المدارس ، وتريد أن تصنع الطعام لهم ،
والرجل سيخرج إلى العمل ، فتعمل باستمرار ، فإذا كانت تنام حتى تشرق الشمس
وترسل سياطها إلى الأرض وهي نائمة ، فمعنى ذلك أن هناك خدماً يكفونها المؤنة .
( وأشرب فأتقمح ) : وفي رواية البخاري : ( فأتقنح ) ، بالنون ، وهناك فرق بين
اللفظين ، أما لفظ ( فأتقمح ) فإنه يقال : بعير قامح ، أي إذا ورد الماء وشرب ثم رفع
رأسه زهداً في الشرب بعد أن يروى، فهي بعدما تشرب العصير، تترك نصف الكأس؛
لأنها قد ارتوت، وأما ( أتقنح ) أي : تشرب وتأكل تغصباً ، فتأكل حتى تشبع ، فيقال لها :
كلي، فتتغصب الزيادة ، وهذا لا يكون إلا إذا كان هناك دلال وحب .
فقولها : فأتقمح أو أتقنح فيه دلالة على أنها تترك الأكل والشرب زهداً فيه لكثرته ،
فجمعت بين التبجيح والتعظيم الأدبي وبين الكرم.
وصف أم أبي زرع
ثم قالت :( أم أبي زرع فما أم أبي زرع! )
وهي عمتها ، فلم تذكر عنها شيئاً من
الكلام الذي نسمعه حول العمات وما إلى ذلك ، بل قالت : أم أبي زرع فما أم أبي زرع ..
هل تعلمون شيئاً عنها ؟ هذه السيدة الفاضلة ، وهذا على القاعدة : حبيب حبيبي حبيبي ،
فالمرأة عندما تحب زوجها ، تدين لأمه بالفضل أنها أنجبته ، وهذه منة في عنق الزوجة
للأم أنها أنجبت مثل هذا الإنسان .( عكومها رداح ) الرداح : هو الواسع ، يردح : أي :
يطيل في الكلام، ويتوسع في المقالة ، والعكوم : هي الأكياس التي تخزن فيها
الأطعمة ، فمثلاً : عندما تخزن الأرز لا تخزنه في كيس صغير ، بل تخزنه في كيس قطن ،
فقولها : ( عكومها رداح ) فيه دلالة على أن البيت كله خير ، وبيتها فسيح ،
ومن المعروف أن اتساع البيت أحد النعم .
وصف ابن أبي زرع
ثم قالت :(ابن أبي زرع ، فما ابن أبي زرع! ) يفهم من هذا أن أبا زرع كان متزوجاً ،
قبل ذلك ..( ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع، مضجعه كمسل شطبة ، ويشبعه ذراع الجفرة ) ،
مسل الشطبة : عندما تأتي بجريدة النخل وتأخذ منها سلخة للسكين ، السلخة هذه هي السرير
الخاص به، فهذا الولد نحيف ، لكن عضلاته مفتولة ، والإنسان النحيف مع قوة ممدوح
عند العرب ؛ لأن هذا ينفع في الكر والفر ، فهذا مدح تمدح به الولد ، تقول :
إنه مفتول العضلات وليس بديناً ، ولا صاحب كرش عظيم ؛ بل سريره كمسل شطبة ،
فتستدل على جسمه بسريره الذي ينام عليه ، وإلا فمسل الشطبة لا يكفي واحداً ثقيلاً بديناً .
( ويشبعه جراع الجفرة ): الجفرة : هي أنثى الماعز الصغيرة ، فلو أكل الرجل الأمامية
للشاة فإنه يشبع ، مع أن هذه لا تكفي الواحد ، ومع ذلك فإن هذا الولد يشبع إذا أكل
ذراع الجفرة ، وهذه صفات ممدوحة عند الرجال ، بخلاف النساء .
وصف بنت أبي زرع
ولما جاءت تصف بنت أبي زرع قالت :
( بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع ! ،طوع أبيها وطوع أمها )،
أي : مؤدبة ،( وملء كسائها ) مالئة ملابسها ،
وهذا مستمدح في النساء بخلاف الرجال ،( وغيظ جارتها ) : الجارة هي الضرة ،
فقد كان زوجها متزوجاً اثنتين أو أكثر( فغيظ جارتها ) أي : من جمالها ، وأنها ملء
كسائها ، وبذلك تغيظ جارتها .
وصف جارية أم زرع
قالت :( جارية أبي زرع ، فما جارية أبي زرع ! ) ، والمرأة من حبها للرجل تذكر كل
شيء حتى الجارية ، قالت :( لا تبث حديثنا تبثيثاً ) ، فأي شيء يحصل في البيت لا يعرف
به أحد من الخارج ، فهي أمينة لا تنقل الكلام ،( ولا تنقث ميرتنا تنقيثاًَ ) ، أي :
لا تبذر في الطعام ، فلا تجد مثلاً الأرز ملقى على الأرض ، فهي امرأة مدبرة ، تخاف
على المال ،( ولا تملأ بيتنا تعشيشاً ) أي : البيت ليس فيه زبالة ، كعش الطائر،
فعش الطائر عبارة عن ريش وحشيش وقش وحطب ، فتقول :
بيتنا ليس كعش الطائر ، إنما هو بيت نظيف . وفي بعض الروايات خارج الصحيحين :
( وظلت حتى وصفت كلب أبي زرع ) ،
فالكلام هذا كله غزل ، والغزل هنا مستحب ،
ولا أقول : غزل عفيف ، إنما هذا غزل مستحب ؛ إذ هي تتغزل في زوجها ،
وتعدد فضائل زوجها ، وتشعر بنبرة الحب عالية في كلام المرأة . قالت :
( فخرج أبو زرع والأوطاب تمخض ) ، كان الوقت ربيعاً ، واللبن كثير ، والناس
يحلبون لبنهم ، وفي هذا الوقت خرج أبو زرع
( فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين )
معها اثنان من الأولاد في منتهى الرشاقة ،
( يلعبان من تحت خصرها برمانتين) ،فأعجبه هذا المنظر ، فقال : هذه المرأة لابد أن أضمها إلي ، فضمها إليه ،
لكن ما الذي حصل ؟
قالت :( فطلقني ونكحها )، لأنه لايبقي عنده إلا امرأة واحدة ،
رجل يحب التوحيد!!
الزوج الثاني بعد أبي زرع
قالت : ( فنكحت بعده رجلاً ثرياً ) ، من ثراة الناس وأشرافهم ،( ركب سرياً ) ، السري :
نوع جيد من أنواع الخيل ، كان الأغنياء يركبونه ؛ لأنه كان مفخرة عندهم ، وحتى
تكتمل صورة الأبهة قالت :( وأخذ خطياً ) ، الخطّي : هو الرمح ، فهو واضع تحت
إبطه رمحاً وراكب على الخيل ، متعجرفاً ومهيباً .
وفاء أم زرع لأبي زرع
تقول : ( وأراح علي نعماً ثرياً ) ، أي : أعطاها مالاً وفيراً ،
( وأعطاني من كل رائحة زوجاً ) ، وفي رواية :
( وأعطاني من كل ذابحة - أي:
ما يصلح أن يذبح - زوجاً ، وقال : كلي أم زرع وميري أهلك ) ، أي : وأعطي أهلك
أيضاً ، فهذا الرجل ليس فيه أي عيب ، إلا أن المرأة تقول :( فلو أني جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع ) . فانظر إلى هذا الوفاء !
مع أن المرأة المطلقة لا تكاد تذكر لزوجها السابق حسنة، وهذا الرجل لم يقصر في حقها ،
بل قال لها :( كلي أم زرع وميري أهلك ) ، أنفقي على أهلك ، لكنها تقول :
( فلو أني جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع )
( فهل تجدون في هذا الكون أمرأة بمثل أم زرع لأبي زرع )؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟