06-19-2016, 07:23 PM
|
|
دروس مستفادة في شهر رمضان؛ أهمها المداومة بعد انقضاء شهر الرحمة والغفران
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم،
أما بعد..
فها قد مضت بنا الأيام من شهر النفحات وشهر القرآن..
ومع اقتراب انقضائه بأمر الرحمن، ندعوه سبحانه أن يعتق رقابنا في رمضان،
وأن يرزقنا وإياكم بالعمل الصالح طوال شهر الرحمة والغفران،
وأن يعيننا وإياكم فيه على الإكثار من التلاوة وختم القرآن، وأن يتقبل منا؛ سبحانه المَنَّان..
سبحانه المُوفِق عباده لحُسن عبادته، نسأله العفو، ودخول الجنة من باب الريان..
سبحانه الذي أنزل القرآن في شهر رمضان، هدي للناس وبينات من الهدى والفرقان.
سبحانه القائل في كتابه العزيز:
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ... } البقرة: 185
فمرحبًا مرحبًا بشهر القرآن والخيرات والبركات
جاء شهر الصيـام بالبركـات ... فأكرم به من زائرٍ هو آت
أني رمضـان مزرعـة العبـاد ... لتطهير القلوب من الفساد
فـأدّ حقوقـه قـولاً وفعـلاً ... وزادك فاتخـذه للمعـاد
فمـن زرع الحبوب وما سقاها ... تأوّه نادماً يوم الحصـاد [1]
* * *
إذا رمضــان أتـى مقبـلاً ... فأقبل فالخـير يسـتقبل
لعلـك تخطئـه قـابــلاً ... وتأتـي بعـذر فلا يقبل [1]
* * * * * * * *
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}
فشهر رمضان الذي ابتدأ الله فيه إنزال القرآن في ليلة القدر؛ هداية للناس إلى الحق،
فيه أوضح الدلائل على هدى الله، وعلى الفارق بين الحق والباطل. ((م1))
إنَّه القرآن الكريم، أنزله رب العالمين، نزل به الروح الأمين على نبينا الكريم، أنزله ربنا تبارك وتعالى في ليلة من أعظم الليالي وأعظمها بركة،
حيث قال الله تعالى:
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} الدخان: 3
وقال تعالى:
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} القدر: 1
يقول تعالى مبيِّنًا لفضل القرآن وعُلُوِّ قدره: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ }، كما قال تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ }،
وذلك أن الله تعالى، ابتدأ بإنزاله في رمضان.. في ليلة القدر، ورَحِمَ الله بها العباد رحمةً عامةً، لا يقدر العباد لها شكرًا.
وسُميت ليلة القدر، لِعِظَمِ قدرها وفضلها عند الله، ولأنه يقدر فيها ما يكون في العام من الأجل والأرزاق والمقادير القدرية.
فهي ليلة كثيرة الخير والبركة، وهي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر،
فأنزل أفضل الكلام بأفضل الليالي والأيام على أفضل الأنام، بِلُغَةِ العرب الكرام لينذر به قوما عمَّتهُم الجهالة وغلبت عليهم الشقاوة
فيستضيئوا بنوره ويقتبسوا من هداه ويسيروا وراءه فيحصل لهم الخير الدنيوي والخير الأخروي. ((م2))
وتأتي في السياق القرآني الآية: 186 من سورة البقرة حيث قال الله تعالى:
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }
فلننتبه ولنتدبر هذا السياق في هذه الآية التي تلت آية الصيام؛
فهذا جواب سؤال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حينما قالوا: يا رسول الله, أقريب ربنا فنناجيه, أم بعيد فنناديه؟
فنزلت هذه الآية؛ فإنه سبحانه وتعالى هو الرقيب الشهيد, المُطَّلِعُ على السرِ وأخفى, يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور,
فهو قريب أيضا من داعيه, بالإجابة، ولهذا قال: { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ }،
والدعاء نوعان: دعاء عبادة, ودعاء مسألة.
والقرب نوعان: قرب بعلمه من كل خلقه, وقرب من عابديه وداعيه بالإجابة والمعونة والتوفيق.
فمن دعا ربه بقلب حاضر, ودعاء مشروع, ولم يمنع مانع من إجابة الدعاء, كأكل الحرام ونحوه؛ فإنَّ الله قد وعده بالإجابة،
وخصوصا إذا أتى بأسباب إجابة الدعاء, وهي الاستجابة لله تعالى بالانقياد لأوامره ونواهيه القولية والفعلية, والإيمان به, المُوجِب للاستجابة،
فلهذا قال: { فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }
أي: يحصل لهم الرُشد الذي هو الهداية للإيمان والأعمال الصالحة, ويزول عنهم الغَيِّ المُنافِي للإيمان والأعمال الصالحة. ((م2))
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}
فها هو شهر الرحمات والبركات قد أهلَّ؛ فلنحذر الغفلة فيه والحرمان
وكفانا من الذنوب والمعاصي فيما مضى وصار مِنَّا، وكفى ما قد وقع وكان!!
ولنحذر جميعنا بعون الله لنا أن نكون من أهل الغفلة واللهو والعصيان
ولله در من قال:
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب ... حتى عصى ربه في شهر شعبان
لقد أظلك شهر الصـوم بعدهمـا ... فلا تصيره أيضاً شهر عصـيان
واتل القرآن وسبح فيـه مجتهـداً ... فإنـه شهر تسـبيح وقـرآن
واحمل على جسدٍ ترجو النجاة له ... فسوف تضرم أجسـاد بنيران
كم كنت تعرف ممن صام في سلفٍ ... من بين أهـل وجيران وإخواني
أفناهم المـوت واستبقاك بعدهـم ... حياً فما أقرب القاصي من الداني [1]
* * * * * * * *
فأهل الغفلة واللهو والعصيان؛ يفرحون بما في رمضان من ألوان المباحات واللهو والمحرمات، ومن ذلك:
- المأكولات والمشروبات الرمضانية:
فتمتلئ الموائد امتلاءً عجيباً من ذلك، ولا يكاد يسلم من هذا الأمر إلا من رحم ربك، وقليل ما هم.
ولا يخفى ما في هذا الأمر من مناقضة لحكمة تشريع الصوم من تقليل الطعام الذي يساعد على صفاء النفس وسمو الروح؛ حتى يخف الجسد وينشط لصلاة التراويح، وعلى العكس حين يمتلئ المسلم من هذه الأطعمة؛ فإن صلاة العشاء، تثقل عليه، ناهيك عن صلاة التراويح،
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول:
((ما ملأ آدميٌّ وعاءً شراً من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يُقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه)) [2].
- فوازير رمضان، والأفلام والمسلسلات الرمضانية:
وهذه فيها ألوان من المعاصي من سماع الأغاني المحرَّمة، وإطلاق البصر في رؤية ما حرَّم الله، وتضييع أشرف الأوقات فيما حرَّم الله.
- مباريات كرة القدم التي تقام في هذه الشهر الفضيل.
- اختلاط الجنسين في الأسواق:
فبعض ضعاف النفوس يرون شهر رمضان موسماً للغزل والمعاكسات، وممارسة ما حرّم الله، وفي هذا انتكاس أيُّ انتكاس .
وحال الأسواق اليوم يندى لها الجبين، فعلى أولياء الأمور أن يتقوا الله في بناتهم، ويراقبوهنّ ويحافظوا عليهن.
فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
((كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع، ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عند رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيته)) [3].
...((م5))...
*0*0*0**0*0*0**0*0*0**0*0*0*
ولكي نخرج من دائرة هذه الغفلة بتوفيق الله لنا؛ يجب علينا أن نستبشر بكل الفرح والسرور قدوم واقتراب شهر رمضان؛
فالمستبشرون بقدوم رمضان هم الذين يفرحون بحلوله؛ إنهم أهل الطاعة والإيمان.. جعلنا الله وإياكم منهم بفضله وبرحمته.
فأهل الطاعة والإيماني فرحون بما في رمضان من أنواع الطاعات، وما أعدّه الله لأهلها من الأجر والثواب ومن ذلك:
- الصوم:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)) [4].
قال ابن حجر: "قوله: ((إيمانا)) أي تصديقاً بوعد الله بالثواب عليه، ((واحتساباً)) أي طلباً للأجر لا لقصد آخر من رياء أو نحوه" [5].
- صلاة التراويح:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه))[6].
قال النووي: "والمراد بقيام رمضان صلاة التراويح" [7].
- قيام ليلة القدر:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يقم ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه))[8].
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان))[9].
قال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم: ((تحروا ليلة القدر)) أي احرصوا على طلبها واجتهدوا فيه" [10].
- العمرة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لامرأة من الأنصار:
((ما منعك أن تحجي معنا؟)) قالت: كان لنا ناضح فركبه أبو فلان وابنه - لزوجها وابنها – وترك ناضحاً ننضح عليه.
قال: ((فإذا كان رمضان اعتمري فيه، فإن عمرة في رمضان حجة)) [11].
وفي لفظ: ((فإن عمرة في رمضان تقضي حجة أو حجة معي)) [12].
قال ابن العربي: "حديث العمرة هذا صحيح، وهو فضل من الله ونعمة، فقد أدركت العمرة فضيلة الحج بانضمام رمضان إليها" [13].
وقال ابن الجوزي: "فيه أن ثواب العمل يزيد بزيادة شرف الوقت كما يزيد بحضور القلب وبخلوص القصد" [14].
- تلاوة القرآن:
عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كلّ ليلة من رمضان،
فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة [15].
...((م5))...
*0*0*0**0*0*0**0*0*0**0*0*0*
وكيف لا نستبشر بقدوم شهر رمضان؟!
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((أتاكم رمضان شهر مبارك فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغلّ فيه مردة الشياطين،
لله فيه ليلة هي خير من ألف شهـر، من حُرِم خيرها فقـد حُـرم)) [16].
وحديث أبي هريرة المتقدم أصلٌ في تبشير وتهنئة الناس بعضهم بعضاً بقدوم شهر رمضان.
قال ابن رجب: "كيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان؟! كيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران؟!
كيف لا يبشر العاقل بوقـتٍ يغل فيـه الشيطان؟! من أين يشبه هـذا الزمان زمان؟!" [17].
ثم كيف لا نفرح بقدوم شهر رمضان؟!
فالفرح بمواسم الطاعات والحزن على فواتها أمر متفق عليه عند السلف.
قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ}[يونس:58].
قال هلال بن يساف: "بالإسلام وبالقرآن" [18].
وصوم رمضان أحد أركان الإسلام.
...((م5))...
*0*0*0**0*0*0**0*0*0**0*0*0*
تقبل الله منا ومنكم،
وللحديث بقية بأمر الله رب البرية.. فتابعونا بإذنه تعالى
________________________
المراجع:
------
((م1)) التفسير الميسر.
((م2)) تفسير الإمام السعدي رحمه الله.
((م3)) تفسير الوسيط للشيخ طنطاوي رحمه الله.
((م4)) بتصرف شديد من مقالات بموقع اسلام ويب.
((م5)) منقول بتصرف من الملف العلمي للبحوث المنبرية لفقه وآداب وأحكام الصيام.
الهوامش:
------
[1] هذه الأبيات مأخوذة من لطائف المعارف (ص279-282).
[2] أخرجه الترمذي (2380) في الزهد، باب:ما جاء في كراهية كثرة الأكل . وقال:"هذا حديث حسن صحيح".
وصححه ابن حبان في صحيحه (الإحسان 5236)، والحاكم في المستدرك (4/331)، والألباني في صحيح سنن الترمذي (1939).
[3] البخاري (893) في الجمعة، الجمعة في القرى والمدن.
[4] أخرجه البخاري (1901) في الصوم، باب:من صام رمضان إيماناً واحتساباً، واللفظ له. ومسلم (760) في صلاة المسافرين وقصرها، باب:الترغيب في قيام رمضان، وهو التراويح.
[5] فتح الباري (4/251).
[6] أخرجه البخاري (37) في الإيمان، باب:تطوع قيام رمضان من الإيمان. ومسلم (759) في صلاة المسافرين وقصرها، باب:الترغيب في قيام رمضان، وهو التراويح.
[7] شرح مسلم (6/39).
[8] البخاري (35) في الإيمان،باب قيام ليلة القدر من الإيمان. ومسلم (760) في صلاة المسافرين وقصرها،باب:الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح.
[9] أخرجه البخاري (2017) في فضل ليلة القدر،باب:تحرِّي ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر.
[10] شرح مسلم (5/58).
[11] أخرجه البخاري (1782) في الحج،باب: عمرة في رمضان.
[12] أخرجه البخاري (1863) في الحج،باب: حج النساء.
[13] انظر: فتح الباري (3/604).
[14] المصدر نفسه.
[15] أخرجه البخاري (9) في بدء الوحي، باب بدء الوحي.
[16] أخرجه النسائي (4/129) في الصوم، باب: فضل شهر رمضان، بسند صحيح، عن بشر بن هلال قال: حدثنا عبد الوارث عن أيوب عن أبي قلابة به.
وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (1992).
[17] لطائف المعارف (ص279).
[18] تفسير الطبري (7/125).
التوقيع |
{ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُۥ مَخْرَجًا ﴿٢﴾ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } سورة الطلاق
جَعَلَنَـاَ اللهُ وإيِّاكُم مِنَ المُتَّقِيِـن |
|