انا لله وانا اليه راجعون... نسألكم الدعاء بالرحمة والمغفرة لوالد ووالدة المشرف العام ( أبو سيف ) لوفاتهما رحمهما الله ... نسأل الله تعالى أن يتغمدهما بواسع رحمته . اللهم آمـــين

العودة   منتديات الحور العين > .:: المنتديات الشرعية ::. > ملتقى نُصح المخالفين ، ونصرة السنة

ملتقى نُصح المخالفين ، ونصرة السنة لرد الشبهات ، ونصح من خالف السنة ، ونصرة منهج السلف

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 08-04-2009, 11:08 PM
أبو أنس الأنصاري أبو أنس الأنصاري غير متواجد حالياً
II كَانَ اللهُ لَهُ II
 




افتراضي عقيدة الغرب في تفتيت العالم الإسلامي – تحليل

 



عقيدة الغرب في تفتيت العالم الإسلامي – تحليل (الجزء الأول)


أحمد الشجاع - عودة ودعوة

1/8/2009م
تمهيد:


الأديان.. العقائد..المذاهب..الطوائف..الفرق..الجماعات..الأعرا ق..الأجناس..الأمم، مكونات طبيعية في الحياة البشرية. والتعدد والاختلاف والتنوع سنن من سنن الله الكونية والشرعية..ومن الطبيعي أن يتم التعارف والتعايش والتعاون، والتصادم والتضارب؛ لأسباب محكومة بمبادئ الحق أو نوازع الباطل أو دوافع المصالح..وكما سارت البشرية من قبل ستواصل مسيرها على هذا المنوال ما دام الخير والشر باقيان.

وقد جاء الإسلام ليعرفنا بحقيقة الحياة، ودلنا على الطريق الواضح إلى فهمها والأسلوب الصحيح في التعامل معها؛ فيكتمل بذلك المنهج الإلهي الذي أنزله الله تعالى على أنبيائه ورسله من قبل، فالله أعلم بخلقه وبما يضرهم وينفعهم..ولما جاء الإسلام ليصحح مسار البشرية الذي انحرف، وقفت ضده قوى الشر محاولةً إطفاء نوره، ولكن الله أراد لنوره أن يتم، فانطلق المسلمون يشقون طريقهم نحو العالم مستهدين بنور الإسلام ليزيلوا ظلمات الغي.

ولحكمة يريدها الله؛ ولأن الخير والشر في صراع دائم، ظهرت الفُرقة بين المسلمين، ونشأت الفرق والطوائف، بعضها جاء عن جهل وهوى، وبعضها صنعت بأيد خارجية تكيد للإسلام وتسعى لضربه من الداخل بعد أن عجزت عن صده، وعرفت أن المواجهة المباشرة لا تفلح، وأدركت أن سر قوة المسلمين في وحدتهم، وأن هذه الوحدة لا تقوم ولا تدوم إلى بمنهج يوحد عقولهم وقلوبهم: [ واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا...]..ولا زالت الأيدي الخارجية تعمل عملها إلى اليوم بنفس العقلية القديمة، ولكن بأدوات ووسائل وطرق تختلف باختلاف الزمان والمكان والظروف.

ولا شك أن كل تدخل أجنبي لا يأتي بخير، بل الشر مطيته والفتنة سلاحه..فهو الذي زرع الفتنة في قلب العالم الإسلامي (إسرائيل)، وهو الذي أيقظها في العراق، وصنعها في السودان، وأنشأها في الصومال، وثبتها في لبنان.. الخ.

وبشكل سريع ومختصر سنحاول هنا عرض بعض مظاهر الصراع الطائفي والعرقي في العالم الإسلامي (يشمل أيضاً الوطن العربي)، ودور التدخل الأجنبي (المقصود به هنا الغرب) في تلك الأحداث.

دين أم مصالح



يرفض البعض القول إن للغرب أهدافاً دينية تجاه العالم الإسلامي في هذا العصر، وحجتهم في ذلك أن الغرب أصبح كياناً علمانياً مادياً بعد أن أزاح الدين من شئون حياته، ولم يعد يفكر إلا في المصالح الاقتصادية بالدرجة الأولى، فهي الركيزة الأساسية لبناء الدولة القوية..ويرى هؤلاء - مثلاً - أن نفط قزوين سبب احتلال أفغانستان، واحتلال العراق يهدف إلى السيطرة على نفطه ونفط المنطقة.
أما القول إن الغرب أصبح كياناً علمانياً فهو صحيح، وهو أمر واقع، ولكن لا يلزم من ذلك أن الدين أصبح بعيداً تماماً عن الفكر السياسي الغربي، فلا زال للدين تأثيره في السياسة الخارجية الغربية تجاه العالم الإسلامي والشواهد على ذلك موجودة في الواقع العملي. آخرها وأبرزها العراق، وسيأتي بيان ذلك.
والجديد في الأمر هو أن الخطاب السياسي تحول من الكنيسة إلى الحكومة، ومن الطبيعي أن تتغير لغة الكلام، ومفردات الخطاب المصبوغة بدبلوماسية التعبير، وآليات التنفيذ. وإذا لم يكن الغرب يستخدم الدين في خطابه الرسمي فهو يستخدمه على أرض الواقع..فلم يعد – في نظر الغرب – مناسباً الإعلان رسمياً بأن الإسلام هو الخطر الحقيقي، فهذه لغة الكنيسة.. والبديل هو (الإرهاب) و(التطرف) و(العنف)، وهي مصطلحات عامة ومطاطة يمكن التلاعب بها.
ولكن على أرض الواقع فالمعني بهذه المصطلحات هم المسلمون جميعاً؛ بحجة أن بعضهم حمل السلاح في وجه الغرب..أيضاً لم يعد الخطاب الرسمي الغربي يدعو صراحة إلى محاربة الإسلام وتدميره بالقوة العسكرية، فهذا أيضاً كان في لغة الكنيسة. والبديل هو ضربه من الداخل بالوسائل الثقافية والفكرية عبر تصدير وغرس الثقافة الغربية في عقول المسلمين لتحل محل الإسلام، وقد تعددت الوسائل ولكن الهدم واحد:
فالعلمانية تلغي الدين من حياة الناس فتجعلهم في خواء روحي..والليبرالية تنزع الفرد من مجتمعه وتحوله إلى كائن تائه دون مبادئ أو ثوابت، وما له من قرار..والرأسمالية تجعل المجتمع عبداً للمال، يسيطر عليه الجشع والطمع، وآلة للاستهلاك فقط..هذه الأفكار، وغيرها، يجاهد الغرب بكل ما أوتي من قوة في سبيل نشرها داخل المجتمعات الإسلامية، وقطع شوطاً كبيراً، فما مصلحته من ذلك؟.
عندما تنتشر هذه الأفكار في مجتمع من المجتمعات يصبح مفككاً.. فلا عقيدة توحد الناس، ولا مبادئ وثوابت يجتمعون عليها، ولا مصالح مشتركة يتعاونون لأجلها.. والنتيجة مجموعة من الكائنات البشرية الشاردة والمتصارعة. كذلك تضعف النزعة الوطنية (التمسك بالوطن، والدفاع عنه؛ فيصبح المصاب بهذه الأفكار أكثر استغلالاً لبيع وطنه مقابل مصالحه ومطامعه).
ولمن أراد معرفة الأثر العقدي في السياسة الغربية تجاه العالم الإسلامي عليه ألا يكتفي بالنظر في المواقف الرسمية المعلنة – رغم أن بعضها يحمل أحياناً إشارات عقدية – بل عليه أن ينظر في البيئة الفكرية التي جاء منها إلى السلطة هذا المسئول أو ذاك الحزب أو تلك الحكومة.. فالمرء ابن قومه، وجزء من مجتمعه الذي أوصله إلى السلطة. وقد تحدُث بعض الاستثناءات لظروف مرحلية تستدعي ذلك.
وانطلاقاً من ذلك سوف نتحدث عن البيئة الفكرية والعقدية التي أثرت ولا زالت تؤثر في النظرة الغربية العنصرية تجاه المسلمين والإسلام، مع تركيز الحديث عن أمريكا؛ بحكم أنها الأكثر نفوذاً وهيمنة في العالم؛ ولأنها رأس الحربة الغربية في العصر الحاضر. ثم نستعرض بعض ملامح الواقع المتأثر بتلك البيئة.
والهدف من ذلك توضيح أن ما يحصل في العالم الإسلامي من اضطرابات وفتن وصراعات بفعل التدخلات الغربية لم تكن لأغراض ومصالح اقتصادية فقط بل للعقائد دورها، فقد تقع أحياناً أحداث تتعارض مع المصالح الاقتصادية، أو لا تتحقق عن طريقها، فحينها نفتش عن الجانب العقدي والجانب السياسي. لمعرفة الأسباب..أما المصالح الاقتصادية فلاشك أنها موجودة ضمن مجريات الأحداث، إما سبباً رئيسياً، أو سبباً ثانوياً. وأكثر وضوحاً من غيرها، ويسهل ربط الأحداث بها؛ ولهذا لم أركز عليها في هذا الموضوع.
مقصود الحديث:
درءاً لسوء الفهم، وتوضيحاً لفكرة هذا التحليل؛ لا بد من بيان ما نريد طرحه في الحديث عن الغرب والعقيدة الغربية، وما المقصود من ذلك.
أولاً: بالنسبة للحديث عن العقيدة الغربية هنا ليس محصوراً بالجانب الديني فقط، بل يشمل الجوانب السياسية والفكرية والاقتصادية، وغير ذلك، وهي جوانب تتداخل كثيراً فيما بينها على شكل منظومة تحددها السلوكيات والمهام العملية.
فمن الخطأ النظر إلى الأحداث من منظار واحد، أو ربطها في جانب واحد فقط وإهمال بقية الجوانب التي تؤثر وتتأثر بالأحداث..ولكن يمكن التركيز على جانب واحد أو أكثر بناءً على درجة حضوره في مسرح الحدث ودوره في صناعته، وبحسب الظروف التي تدفع إلى إبراز أكثر الجوانب تأثيراً.
أيضاً، دائماً ما تتأثر تلك الجوانب ببعضها البعض، ويغلب بعضها على بعض؛ مما يؤدي إلى الكثير من التغيرات والتحولات في كافة المستويات.
فالسياسة الأمريكية - مثلاً - كانت تفضل عدم التدخل في الشؤون العالمية قبل الحرب العالمية الثانية، ولكن المصالح الاقتصادية غلبت على التوجه السياسي بفعل الظروف التي هيأتها الحرب العالمية الثانية.
وبناء على ما سبق ركزت في هذا الموضوع على الجانب العقدي والفكري لعدة أسباب، منها:
* أن العقائدتظل باقية، فقد يعتريها بعض الضعف والتراجع إلا أنها لا تزول. على عكس بقية الجوانب التي سرعان ما تتبدل وتتغير.
* العقائد أكثر تأثيراً على العقلية الغربية على مر العصور..وتبعاً لذلك لا زال الإسلام في نظر الغرب هو العدو الأول، فمنذ الحروب الصليبية وإلى الآن تظل التدخلات والاعتداءات الغربية على العالم الإسلامي مصبوغة – بصفة عامة – بالصبغة العقدية، بصرف النظر عن تفاصيل التدخلات، ومكانها وزمانها، وأسبابها وظروفها.
* لم تقتصر التدخلات الغربية في العالم الإسلامي على الوسائل العسكرية والاقتصادية التي تستهدف الأرض وثرواتها، بل شملت الوسائل العقدية والفكرية التي تستهدف الإنسان ومبادئه ومعتقداته وتقاليده.
* الأفكار والثقافات الغربية – المنتشرة بين المسلمين - ساهمت بشكل كبير في توسيع الانقسامات بين المسلمين وزيادة حدة الصراع الداخلي.
* الأسلوب الغربي في مواجهة العالم الإسلامي يختلف عن أسلوب مواجهة القوى العالمية الأخرى، فمواجهة الغرب للنفوذين الصيني والروسي محصور في المسائل الاقتصادية والعسكرية، ولم نسمع عن محاولة فرض الثقافة الغربية على هذه البلدين، مع العلم أنه يمكن للثقافة الغربية الدخول إلى هذين البلدين بفعل وسائل التقارب والتواصل وليس بوسائل الابتزاز والضغوط والتهديدات التي تطبق على المجتمعات الإسلامية.
الأمر الثاني الذي أريد توضيحه هو أن الحديث عن الغرب ككيان واحد يأتي امتداداً لما سبق ذكره في العقيدة الغربية، وهو أن الغرب كان ولا يزال يتعامل بعقلية مشتركة، وهو شديد الحرص على تعزيز وتفعيل الجوانب المشتركة بشتى الوسائل، ولهذا يرى الغرب في نفسه أنه كيان واحد، ما يجمعه أكثر مما يفرقه، كما يرى في التهديدات الخارجية خطراً يمس العالم الغربي بأكمله؛ مما يستدعي توحيد الجهود لمواجهتها. وقد ظهرت هذه الرؤية – بشكل جلي وواضح – على المستويين النظري والعملي.
فعلى المستوى النظري جاءت نظريتان تشرحان وتعبران عن الفكر الغربي العام، وهما نظرية (نهاية التاريخ) ونظرية (صدام الحضارات)، ورغم أن النظريتين تعتمدان على تصورين مختلفين - وهو أمر طبيعي لاختلاف الرؤى والتصورات- لكنهما يلتقيان في رؤية الغرب لنفسه ونظرته للآخرين – وسيأتي توضيح ذلك.
أما المستوى العلمي فيتمثل – بصورة أساسية – في الاتحاد الأوروبي وهو تكتل سياسي، وفي حلف شمال الأطلسي (الناتو) وهو تكتل عسكري..فكلاهما ظهر لهدف واحد هو توحيد الدول الغربية وتعزيز التعاون الداخلي والدفاع الخارجي. فالاتحاد الأوروبي بدأ بأوروبا الغربية، وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي وزوال هيمنته على أوروبا الشرقية، بدأ الاتحاد بالتوسع ليشمل بقية دول أوروبا لتصبح القارة كياناً موحداً سياسياً واقتصادياً وأميناً. أما (الناتو) فأكثر شمولية حيث ربط أوروبا بأمريكا الشمالية عسكرياً، وسياسياً أيضاً.
وبدايته كانت نفس بداية الاتحاد الأوروبي مقتصراً على الدول الرأسمالية لمواجهة الخطر السوفييتي الشيوعي، وبعد انهيار هذا الخطر بدأ يتوسع أيضاً ليشمل بقية أوروبا تطبيقاً لأهدافه ومبادئه القائمة على "ترسيخ استقرار ورفاهية" أوروبا وأمريكا الشمالية (الأورو أطلسي)؛ أي أنه كالاتحاد الأوروبي تكتل غربي خاص لا يسمح لطرف خارجي الانضمام إليه، باستثناء تركيا.
لكن هذا الاستثناء جاء لظروف خاصة فرضت نفسها، وقد لخصها د/ عماد جاد – في كتابه (حلف الأطلنطي، مهام جديدة في بيئة أمنية مغايرة)- بقوله إن تركيا كانت في مقدمة الدول المعرضة للهجوم السوفييتي، كما أن الحرب الكورية – في الخمسينات – أثبتت حاجة الناتو إلى تركيا لاستكمال عملية محاصرة الاتحاد السوفييتي، إضافة إلى أن العداء التاريخي بين تركيا واليونان لعب دوراً في ضمها إلى الحلف ومعها اليونان – التي كانت غير مهيأة سياسياً للانضمام في ذلك الوقت – حتى لا يستغل السوفييت هذا العداء.
إذاً، يتضح أن الغرب له نظام مشترك يحرص على الحفاظ عليه وتعزيزه، ولا شك أن تعامله سيكون من هذا المنطلق مع العالم الإسلامي..وإذا كان لكل دولة غربية خصوصياتها وسياساتها المستقلة ومصالحها الخاصة إلا أنه لن يخرج عن النظام الغربي المشترك، وهذا ما يتم تطبيقه على العالم الإسلامي.
بقي أن أقول إن الحديث عن الغرب لا ينفي الاعتراف بأن في الغرب مواقف وتوجهات معتدلة ومنصفة في تعاملها مع المسلمين وقضاياهم. ولكن للأسف تظل تلك المواقف ضعيفة وغير مؤثرة بشكل كبير.
مرجعية التدمير
يمكن تقسيم الرؤية الغربية للعالم الإسلامي إلى قسمين رئيسيين:
القسم الأول: يفضل المواجهة والمصادمة المباشرة (العنف) عبر العمل العسكري. وتنتشر هذه الرؤية بين التيارات الدينية الغربية المتطرفة، ومن بين هذه التيارات (المحافظون الجدد) في أمريكا.
القسم الثاني: يفضل التغلغل الفكري الممنهج داخل المجتمعات الإسلامية، وغرس الثقافة الغربية بعد تزيينها وتلميعها.
وتنتشر هذه الرؤية في الأوساط العلمانية والليبرالية الغربية، مع الأخذ في الاعتبار أن هذه الأوساط قد تميل أحياناً إلى العمل العسكري ضد دول إسلامية، كالذي حصل عند احتلال أفغانستان والعراق؛ فقد أيد أغلب الأمريكيين (من الشعب والمثقفين والسياسيين) بمختلف تياراتهم العمل العسكري ضد العراق وأفغانستان. كذلك أجمع الغرب على احتلال أفغانستان بحجة محاربة "الإرهاب".
ولا يعني من هذا التقسيم أن الغرب كله محشور في هذين القسمين، بل هناك من له رؤى مختلفة. وهناك من لا يهتم بهذا الأمر. والحديث هنا عن قسمين رئيسيين معنيين – نظرياً وعملياً – برسم العلاقة الغربية مع العالم الإسلامي..ولكل من القسمين مرجعياته الفكرية والسياسية، ويمكن تلخيص مرجعيات القسمين بأشهر نظريتين غربيتين برزتا في العقدين الأخيرين. وهما نظرية (صدام الحضارات)، ونظرية (نهاية التاريخ).
نظرية (صدام الحضارات)



النظرية الأولى (صدام الحضارات) تعبر عن القسم الأول من العقلية أو الرؤية الغربية تجاه الأمم الأخرى، خصوصاً تجاه الإسلام والمسلمين..وصاحبها أمريكي متطرف مشهور يدعى صامويل هنتنجتون الذي كتب - في صيف 1993م - مقالاً بعنوان (صدام الحضارات)، ونشرته مجلة (Foreign Affairs) (الشؤون الخارجية) الأمريكية. وقد أثار المقال جدلاً واسعاً استمر ثلاث سنوات، بل إن هذا المقال – كما يقول محررو المجلة – أثار الجدل أكثر من أي مقال نشرته المجلة منذ أربعينات القرن العشرين.
وكانت فكرة المقال – حسب قول صاحبه – هي أن البعد الرئيسي والأكثر خطورة في السياسة الكونية الناشئة سوف يكون الصدام بين جماعات من الحضارات المختلفة..والجدل الذي أثاره المقال دفع بكاتبه – كما يقول - إلى إصدار كتاب أشمل وأوسع وأكثر جدلاً صدر سنة 1996م بنفس العنوان مع إضافة فرعية توضيحية: (صدام الحضارات..إعادة صنع النظام العالمي).
يرى المؤلف فيه أن الصراع بين الحضارات بعد الحرب الباردة سيكون ثقافياً وليس أيديولوجياً أو اقتصادياً. وقام المؤلف بتقسيم الحضارات العالمية إلى ثمان حضارات، هي: الحضارة الغربية، الحضارة الأمريكية اللاتينية، الحضارة الإفريقية، الحضارة الإسلامية، الحضارة الصينية، الحضارة الهندية، الحضارة المسيحية الأرثوذكسية (المقصود بها الأرثوذكسية الروسية)، الحضارة اليابانية"..ثم عاد واختزل هذه الحضارات – بطريقة عنصرية – في حضارتين كبيرتين، هما: (الحضارة الغربية)، و(الباقي). ويقصد بـ(الباقي) بقية الحضارات.
ويهدف من هذا التقسيم إلى أمرين:
الأول: هو أنللغرب حضارة فريدة متميزة تتمتع بالرقي والتقدم الثقافي والفكري؛ ولهذا فهي حضارة مستقلة بذاتها.
الثاني: جعل بقية الحضارات في خانة واحدة لاشتراكها بصفات التخلف والرجعية؛ ولأن ثقافتها لا ترتقي إلى مستوى الحضارة الغربية.
ويرى المؤلف أن بقية الحضارات تهدد الحضارة الغربية. وشدد على أن الحضارة الإسلامية هي الأكثر خطورة على الغرب، تليها الحضارة الصينية، مع الفرق بين بماهية الخطورة في الحضارتين، فخطورة الحضارة الصينية تتمثل بالجانب الاقتصادي والعسكري، التنافس على النفوذ. أما الحضارة الإسلامية فخطرها عقدي فكري.
وقال: "إن بقاء الغرب يتوقف على الأمريكيين بتأكيدهم على الهوية الغربية، وعلى الغربيين عندما يقبلون حضارتهم كحضارة فريدة، وليست عامة، ويتحدون من أجل تجديدها والحفاظ عليها ضد التحديات القادمة من المجتمعات غير الغربية". وهذه المقولة تلخص مضمون الجزء الخامس من كتاب (صراع الحضارات).
وترى نظرية (صدام الحضارات) أن الغرب يتفوق على غيره (الباقي) بثمان خصائص، هي:
* التراثالكلاسيكي من الإغريق والرومان.
* المسيحية الغربية الكاثوليكية والبروتستانتية، وهنا نلاحظ أن النظرية لا تعترف بالمسيحية الأرثوذكسية الشرقية ضمن الحضارة الغربية، بل صنفتها ضمن الحضارات الأخرى المتخلفة.
* اللغاتالأوروبية. * الفصل بين السلطتين الروحية والزمنية. * حكم القانون. * التعددية الاجتماعية والمجتمع المدني. * الهيئات التمثيلية.
* النزعةالفردية بمفهوم التحرر من قيود المجتمع.
وبمجموع هذه السمات يتكون المُركّب الغربي (المميز عن باقي الحضارات).
نظرية(نهاية التاريخ)


تعبر هذه النظرية عن القسم الثاني، وصاحبها مؤرخ أكاديمي أمريكي – من أصل ياباني – يدعى فرانسيس فوكوياما، وهو يحمل خليطاً من الأفكار اليمينية المحافظة، والأفكار العلمانية الليبرالية..لقد ظهر تشدده عندما وقّع – مع مجموعة من السياسيين الأمريكيين المتطرفين – على رسالة تطالب بشن هجوم عسكري على العراق وإسقاط نظام صدام حسين لإعادة ترتيب النظام الإقليمي في الشرق الأوسط. وقاموا بتسليم الرسالة إلى الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون في فبراير 1998م.
أما ليبراليته فقد ظهرت في نظريته الشهيرة (نهاية التاريخ)، التي صدرت على شكل كتاب سنة 1992م. وقد أثارت هذه النظرية جدلاً واسعاً لا يقل عما أثارته (صدام الحضارات).
في أواخر سنة 1989م نشر فوكوياما مقالاً تحت عنوان (نهاية التاريخ ) طرح فيه عدة رؤى، لخصها عبد الجليل محمد كامل - في كتابه (الجزيرة العربية والنظام العالمي الجديد)- كالتالي:
* إن البشرية قد وصلت إلى ذروة تطورها، وأن جميع المشاكل الكبرى التي تعترض البشرية قد انتهت.
* إن التاريخ قد وصل إلى نهاية خط التطور الأيديولوجي البشري، وانتهى إلى نقطة تعميم الديمقراطية الغربية؛ بوصفها الشكل النهائي لحكم البشرية.
* إن الدولة القومية في طريقها إلى الزوال؛ حيث لن تصمد أمام القوى الاقتصادية العالمية التي ستخلق ثقافة عالمية متجانسة التكوين مما سيجعل الدولة شيئاً زائداً لا ضرورة له.
* إن الخطر المحتمل يأتي من الأديان والقوميات، باستثناء اليهودية والمسيحية اللتين تخلتا عن دعوى إقامة دولة ثيوقراطية (دينية).
* إن الإسلام هو الوحيد الذي لا يزال يدعو إلى إقامة دولة دينية، وإن القومية شديدة في بلاد الجنوب (يقصد العالم الثالث).
* إن البشرية ستنقسم إلى كتلتين، كتلة غارقة في التاريخ (دول الجنوب)، وكتلة وصلت إلى نهاية التاريخ (يقصد الغرب)، وإن الأولى ستشهد الصراع والنزاع في المستقبل.
وفي سنة 1992م أصدر فوكوياما كتاباً بعنوان (نهاية التاريخ والإنسان الأخير)، وفيه توسع المؤلف في عرض الرؤى التي نشرها من قبل. ومما شجعه على ذلك سقوط الشيوعية وانتصار الرأسمالية الغربية عليها؛ حيث يرى في ذلك تأكيداً (لتنبؤاته) السابقة.
لكن الرجل ظهر له موقف مغاير بعد احتلال العراق وإسقاط نظام صدام حسين، فقد أبدى انتقاداته للحرب وإدارة بوش وقال – في حوار مع مجلة (نيوزويك) في 30 سبتمبر 2008م – إن الحرب على العراق لوثت الديمقراطية التي يروج لها الغرب.
العلاقة بين النظريتين:
تتفق نظرية (نهاية التاريخ) مع نظرية (صدام الحضارات) في جوانب، وتختلف عنها في جوانب أخرى.
جانب الاتفاق يتمثل في النزعة العنصرية والنظرة الفوقية لدى الغرب؛ حيث ترى نظرية (نهاية التاريخ) أن الديمقراطية الليبرالية الغربية والرأسمالية الغربية هي آخر وأفضل ما وصل إليه العقل البشري، وهي المحطة الأخيرة في مسيرة الحياة البشرية نحو أشكال الحكم. وترى أيضاً أن الديمقراطية الليبرالية هي الشكل الشرعي الوحيد للحكم المقبول في العالم؛ أي أن التاريخ قد وصل إلى نهاية النشاط الفكري العقلي.
عنصرية (نهاية التاريخ) هنا لا تختلف عن عنصرية (صدام الحضارات) في الاعتقاد بتفوق الغرب على غيره (الباقي)؛ ومن هنا قسمت نظرية (نهاية التاريخ) العالم إلى قسمين، عالم متقدم وعالم متخلف..وتتفق النظريتان أيضاً في النظرة للإسلام باعتباره الخطر الأكبر لدى (صدام الحضارات)، والوحيد لدى (نهاية التاريخ).
أما جوانب الاختلاف بين النظريتين فيتمثل – بصورة أساسية – في مفهوم الصراع العالمي..فنظرية (نهاية التاريخ) ترى أن الصراع الكبير في العالم قد انتهى بعد الحرب الباردة وسقوط الشيوعية، وأن العالم أصبح قرية واحدة، ومنسجماً نسبياً.
حيث يقول فوكوياما: "ربما كنا نشهد نهاية التاريخ بما هو: نقطة النهاية للتطور الأيدلوجي للبشرية وتعميم الليبرالية الديمقراطية الغربية على مستوى العالم كشكل نهائي للحكومة الإنسانية".
ثم يقول: "وللتأكيد فقد تحدث بعض الصراعات في أماكن من العالم الثالث، ولكن الصراع الكبير قد انتهى.. وسوف يكون المستقبل مكرساً ليس من أجل الصراعات الكبرى الحامية حول الأفكار، بل بالأحرى من أجل حل المشكلات الاقتصادية والفنية المعاشة".
وهذه الرؤية ترفضها نظرية (صدام الحضارات)، إذ يقول صاحبها: إن لحظة الشعور بالبهجة في نهاية الحرب الباردة ولدت وهماً بالتوافق والانسجام، الذي سرعان ما تكشف أنه وهم بالفعل..وسرعان ما تبدد بسبب تضاعف الصراعات العرقية والتطهير العرقي، وانهيار النظام والقانون، وبروز أشكال جديدة من التحالفات والصراعات بين الدول..وترى النظرية أن العالم سيعيش صراعاً بين الحضارة المتقدمة (الغرب) والحضارات المتخلفة (بقية الشعوب).
العاملالمشترك:
الذي يهمنا في هذا التحليل وجود عوامل مشتركة لدى النظريتين تنعكس سلباً على العالم الإسلامي في كافة الجوانب..فكلتا النظريتين تمثلان وجهين لعملة واحدة، وطريقين إلى هدف واحد هو زعزعة العالم الإسلامي وإضعافه كي يظل تابعاً للحضارة الغربية خاضعاً لمصالحها.
ولأن الإسلام هو الخطر الأساسي – لدى النظريتين- فمن مصلحة الغرب أن يظل أتباع هذا الدين ضعفاء مفككين..ولأجل ذلك نجد التحركات الغربية في مواجهة الإسلام تستند إلى عدد من الوسائل، وكلها تدخل في نطاق النظريتين السابق ذكرهما، ومن بين هذه الوسائل:
* تشويه الإسلام داخل المجتمعات الغربية، من خلال إظهاره بأنه دين (التخلف) و (العنف)، وتشمل علميات التشويه المسلمين ومقدساتهم، ورموزهم، ويتم استغلال بعض التصرفات الخاطئة عند بعض المسلمين، وإلصاقها بالإسلام والمسلمين كافة، بعد عمليات التضخيم والتهويل، وبذلك تستمر عملية بناء العقدة التاريخية الغربية ضد العالم الإسلامي.
ومن هنا نلاحظ انتشار ظاهرة الخوف من الإسلام في الغرب (الإسلاموفوبيا)، وكذلك نمو ظاهرة التمييز الشعبي والسياسي ضد مسلمي الغرب، وما قضايا محاربة الحجاب وسب النبي إلا جزء مما يدور في العقلية الغربية. وصحيح أن هناك بعض الأصوات الغربية تدافع عن المسلمين ودينهم وقضاياهم إلا أنها دون مستوى التأثير، وأقل من أن تنظر إليها المجتمعات الغربية بعين الاهتمام.
* شن الحروب على بلدان إسلامية ومحاصرة أخرى وإثارة الفتن فيها، وهذا الأسلوب القديم المتجدد نابع من مفعول الأسلوب السابق، واعتماداً عليه أيضاً في بناء القاعدة الشعبية المؤيدة لهذه العملية أو تلك.
* تصدير الثقافة الغربية إلى المجتمعات الإسلامية، بالوسائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والثقافية، وغير ذلك. وهذا الأسلوب يحقق هدفين:
الأول: إبعاد المسلمين عن دينهم وعقيدتهم (أسلوب التخلية).
الثاني: ربطهمبالثقافة الغربية التي تم تزيينها في عقولهم (أسلوب التحلية)، وكلما ابتعد المسلم عن دينه كلما اقترب من الثقافة الغربية.
وبوجود تيارات وأطراف محلية تتبنى أفكاراً خارجية غريبة عن المجتمع؛ تنشا عوامل الصراع والتصادم الداخلي بين من يؤمن بها ومن يرفضها، فينشغل الجميع بهذه الصراعات عن بناء المجتمع والإنسان.
وبمجموع تلك الوسائل وغيرها استطاع الغرب أن يخلق مظاهر الضعف وثقافة التفرقة في المجتمعات الإسلامية، وهي ظاهرة للعيان غير خافية. وأصبحت التبعية حقيقة واقعية عند المسلمين؛ حيث فقدوا الثقة بالله، وفقدوا الثقة بالنفس، وخسروا عوامل التماسك والقوة وأصبحوا تابعين للغرب سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وعلمياً، وفي كل الأمور..ولم يكتف الغرب بذلك، بل عمل على استغلال مظاهر الخلاف الموجودة بين المسلمين – التي غرس الغرب بعضها – لضرب بعضهم ببعض، إضافة إلى تغذية الصراع الديني بين المسلمين وغيرهم.
تيارات دينية
المسيحية الصهيونية:


حمل غالبية المهاجرين الأوروبيين إلى الأرض الأمريكية الجديدة- قبل ظهور الدولة الأمريكية – العقيدة المسيحية البروتستانتية الأصولية.. ومنذ تأسيس الدولة الأمريكية في القرن الـ 17 الميلادي لعبت الرؤى الأصولية المسيحية البروتستانتية دوراً كبيراً في تشكيل هوية الدولة، حسب قول أحمد المنشاوي رئيس تحرير (تقرير واشنطن) في مقاله المنشور في الجزيرة نت.
وكانت العقيدة البروتستانتية قد تأثرت كثيراً – خلال انشقاقها عن الكنيسة الكاثوليكية - باليهودية؛ ونتج عن هذا التأثر تعايش يشبه التحالف المقدس بينهما..ويمكن تعريف المسيحية الصهيونية بأنها "المسيحية التي تدعم الصهيونية". وقبل إعلان دولة إسرائيل سنة 1948م كانت المسيحية الصهيونية تؤمن بضرورة عودة الشعب اليهودي إلى "أرضه الموعودة" في فلسطين، وإقامة كيان يهودي فيها يمهد للعودة الثانية للمسيح وتأسيسه لمملكة الألف عام..وتصنف هذه الحركة ضمن طائفة "البروتستانت الإنجيليين"، ولهذه الطائفة حوالي 130 مليون عضو في كل قارات العالم، منهم 60 مليوناً في أمريكا.
وهناك تفاصيل كثيرة حول نشأتها ومراحل نموها، لا يتسع المجال لذكرها، والذي أريد أن أشير إليه هو أن هذه الحركة أصبح لها نفوذ واسع وقوي في الساحة الأمريكية على المستوى الشعبي والرسمي، وما يساندها في ذلك هو أن غالبية الشعب الأمريكي ينتمون للطائفة البروتستانتية، وهي طائفة كبيرة تضم العديد من التيارات الدينية والفكرية..ومن بين هذه التيارات تيار (البروتستانت البيض الأنجلوساكسون) المعروف اختصاراً بـ (الواسب). ومن بين 44 رئيساً حكم أمريكا منذ سنة 1789م وحتى الآن كان هناك 41 رئيساً ينتمون لتيار (الواسب) آخرهم جورج بوش الابن؛ وهذا يعطي انطباعاً – إن لم يكن دليلاً- على أن البروتستانتية الأصولية هي العقيدة المهيمنة على السياسة الأمريكية.
المحافظون الجدد:
برز هذا التيار بشكل كبير في الثمانينات في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق ريجان، وهو تيار شديد التطرف حكم أمريكا من خلال ثلاثة رؤساء هم ريجان، وبوش الأب وبوش الابن..ويعد الحزب الجمهوري المظلة الرئيسية لهذا التيار، وغيره من التيارات المتطرفة كالمسيحية الصهيونية..وقد نشأ تحالف قوي ومتين بين المسيحية الصهيونية والمحافظين الجدد، ويشترك التياران في الأصول والمبادئ الدينية الخاصة بإسرائيل، ولهما نفس الرؤية تجاه العالم الإسلامي.
مرجعيات فكرية ودينية:
* برنارد لويس


يعتبرهذا الرجل المرجعية الروحية للتيار اليميني المتطرف في أمريكا في العصر الحاضر، خصوصاً فيما يتعلق بالنظرة إلى العالم الإسلامي. وهو من الشخصيات المقربة من إسرائيل. وتناول الدكتور البراري بعض الملامح الدينية لهذا الرجل، ومن ذلك:
في حفل تكريمي لبرنارد لويس أقيم في تل أبيب ألقى بول وولفوتز كلمة عبر الفيديو أشاد فيها بهذا الرجل، وقال عنه: "وضع برنارد لويس بعبقرية علاقات وقضايا الشرق الأوسط في سياقها الأوسع بتفكيره الموضوعي والأصيل المستقل. لقد علمنا برنارد لويس كيف نفهم التاريخ المهم والمعقد وكيف نستعمله كدليل ومرشد لنا فيما يتعلق بإلى أين نذهب في المرحلة القادمة لبناء عالم أفضل للأجيال القادمة".
وفي حفل تكريم نظمه (مجلس الشئون العالمية) الأمريكي في مايو 2006م على شرف برنارد لويس ألقى ديك تشيني خطاباً أشار فيه إلى أهمية لويس وتأثيره الكبير في السياسة الأمريكية. وقال إن لويس جاء لتقديم النصيحة لوزير الدفاع الأمريكي أيام احتلال العراق للكويت بداية التسعينات (وكان الوزير في ذلك هو ديك تشيني نفسه)، حيث تكلم لويس عن المخرج لهذه الأزمة، وأضاف تشيني: "منذ هذه اللحظة قررت أن أبقى على اتصال معه وأن أتابع أعماله بعناية في السنوات القادمة.. ومنذ ذلك الوقت التقينا كثيراً وبخاصة خلال السنوات الأربع والنصف الأخيرة، وكان لبرنارد دائماً لقاءات جيدة جدا مع الرئيس بوش".
إذاً، يتضح أن للرجل – كما يقول د/ حسن البراري في مجلة (المجلة) – مشاركة فعلية في دفع وتأطير وتشكيل سياسة بوش المتشددة تجاه الشرق الأوسط والمتمثلة بدعم إسرائيل ضد الفلسطينيين وغزو العراق وأفغانستان. ولا يستمد تأثيره من خلال كتاباته الكثيرة الأكاديمية، وإنما أيضاً من خلال عضويته في التحالف بين المحافظين الجدد والجماعات الصهيونية الذين شغلوا مناصب رفيعة ومؤثرة في إدارة بوش ومراكز الصناعات العسكرية.
وكان هذا الرجل ضمن الفريق المتصهين الذي صاغ (مشروع القرن الأمريكي الجديد) قبل خمسة عشر عاماً، وهي رؤية قائمة على ضمان سيادة أمريكا في العالم، وإزالة مصادر التهديد، وطالبت بتغيير النظام العراقي ووضع حد لعملية السلام في الشرق الأوسط..وكان أيضاً من بين الموقعين على الرسالة – التي قُدمت للرئيس كلينتون سنة 1998م- المطالبة بإسقاط نظام صدام حسين.
ويقول الدكتور البراري إن الكثير من الروايات والتحليلات الصحفية والسياسية تبين أن اللقاءات التي جمعت برنارد مع بوش ونائبه تشيني كان لها أثر بالغ في إقناع إدارة بوش بدعم خطط وولفويتز للتركيز على الحرب على العراق، حيث يعتقد وولفويتز بأن لأمريكا مهمة والتزاماً بالوقوف بجانب حلفائها الديمقراطيين وتحديداً إسرائيل. وقد مثّل وولفتز رأي اليمين الإسرائيلي الذي يقول إن الحرب على الإرهاب يجب أن تتسع لتشمل العراق.
عقيدة لويس تجاه الإسلام
تأتي تفسيرات برنارد لأحداث 11 سبتمبر 2001م كجزء من موروث صِدام الحضارات الذي تعود جذوره لأكثر من ألف عام، على حد قول البراري..ويركز تفسيره على أن الغرب يدافع عن نفسه ضد هجمات المسلمين المستمرة. وبهذا الصدد يشير لويس إلى أن الحملات الصليبية جاءت كرد متأخر على انتشار الإسلام "الهجومي" بمعنى أن هناك سبباً دفاعياً لهذه الحملات، ومن السذاجة أن يقدم الغرب الاعتذار عنها.
بعد سقوط الاتحاد السوفيتي والشيوعية وانتهاء الحرب الباردة بحث الغرب عن عدو جديد؛ لأن الغرب لا يستطيع العيش بعيداً عن الأزمات وافتعال الحروب، وإذا لم يوجد عدو خارجي يوحد الغرب لمواجهته، فإنه قد يأكل بعضه بعضاً، حيث لم تتوقف أزماته وحروبه الداخلية إلا بعد الحرب العالمية الثانية عندما ظهرت الشيوعية كقوة عظمى تستدعي التوحد لمواجهتها. وبعد سقوط الشيوعية أصبح الإسلام العدو الجديد.
وكان برنارد لويس من أوائل من نبه إلى خطورة الإسلام. فقد كتب مقالة سنة 1990م تحمل عنوان "جذور الغضب الإسلامي"..وفيها يرفض الاعتقاد بأن السياسات الأمريكية هي سبب استياء المسلمين من أمريكا، ويرفض أيضاً القول إن الإمبريالية هي سبب الغضب الإسلامي، بل يقول إن لمعاداة الإمبريالية دلالة دينية، وبهذا المعنى فالمسلمون يكرهون أمريكا "مع أنها لم تحتل أي بلد مسلم" حسب زعمه.
وبعد أحداث 11سبتمبر أصبح لويس شخصية مركزية تقبل عليها وسائل الإعلام والحلقات النقاشية العامة في واشنطن ليدلي برأيه عن الإسلام، وكالمعتاد يشن هجماته ضد المسلمين، معتقداً أن التخلف والانحطاط في العالم الإسلامي سببه عدم فهم المسلمين ومعرفتهم للغرب. ويقول إن العالم المسلم احتاج إلى قرنين ليتيقن كم هو متخلف قياساً بالغرب، ولكن عندما بدؤوا بسؤال (أين الخطأ؟) بحثوا عن الجهة التي سيلقي اللوم عليها.
إذاً، نخلص من ذلك إلى أن الجانب الديني في السياسة الأمريكية - بالذات في عهد بوش الابن – كان الأكثر فاعلية، وهو الدافع الأكبر نحو احتلال أفغانستان والعراق.
* تيم لا هاي
هو أحدأبرز الإنجيليين المقربين من بوش، وقال عنه (معهد دراسة الإنجيليين الأمريكيين) إن لاهاي يعتبر الزعيم الإنجيلي الأكثر تأثيراً في الولايات المتحدة على مدى السنوات الـ25 الأخيرة من القرن العشرين. ظهر لاهاي مرات عدة على شاشات التلفزة والبرامج الحوارية الإذاعية ليؤكد أن الحرب سواء في أفغانستان أو العراق ضرورة بالنسبة للمؤمنين. ذكر ذلك الصحفي في أمريكا عادل الدقاقي.
وقال – في أكثر من مناسبة – "إن العراق يشكل نقطة محورية خلال أحداث نهاية العالم"، حيث إن العراق سيلعب دوراً أساسياً في معركة (هرمجدون) التي ستقع في (هرمجدو) في فلسطين..وقال لاهاي- في سلسلة مقالات وتصريحات صحفية- إنه "بعد غزو العراق وتخليصه من حكم الطاغية، وإعتاق شعبه وإعادة إعماره، سيصبح العراق الدولة العربية الوحيدة التي لن تدخل في حرب ضد إسرائيل، وضد جيش الله خلال الحرب الأخيرة".
* بات روبرتسون
من أبرز القساوسة الإنجيليين ومؤسس ورئيس شبكة التلفزيون المسيحية CBN، ومؤسس بعض المراكز والجامعات الخاصة بتدريس المسيحية. وهو أحد المقربين من إدارة جورج بوش..حاول روبرتسون الربط بين صدام حسين ونبوخذ نصر الذي سبى اليهود وأخرجهم من فلسطين في القرن الخامس قبل الميلاد..وقال روبرتسون إن صدام حسين يمثل قوى الشر المعادية للمسيح التي تحاول تقويض قيام الدولة الموعودة (دولة الله في الأرض).
* جيري فالويل
يعد منالقساوسة القلائل المقربين من بوش، ويرأس إحدى الكنائس المعمدانية، ومؤسس جامعة الحرية – الدينية – بفرجينيا، وله برنامج تلفزيوني وآخر إذاعي..قال بعد هجمات 11 سبتمبر إنه يتعين على بوش وجيشه تعقب بن لادن وجميع "الإرهابيين" في العالم مهما استغرق ذلك من وقت، "وقتلهم باسم الله".
وفي الوقت الذي كانت حكومة بوش تدق طبول الحرب التي ستشنها ضد العراق، كان فالويل يشدد - خلال عظات يوم الأحد - على ضرورة تأييد قرار الحرب؛ لأنها "حرب مقدسة". وقال: "إننا عندما نشن الحرب في العراق سنقوم بذلك لإعادة المسيح إلى الأرض؛ لكي تقوم الحرب الأخيرة التي ستخلص العالم من جميع الكافرين".
* ريتشارد لاند
هو رئيس(لجنة الأخلاق والحرية الدينية) في (مجمع الكنيسة المعمدانية الجنوبية) الذي يضم أكثر من 42 ألف كنيسة داخل أمريكا، ويزيد أتباعها على 16 مليون شخص..وهو من أبرز الزعماء الإنجيليين المقربين من بوش والمدافعين الشرسين عن سياساته..وكانت برامجه التلفازية والإذاعة بوقاً لتسويق قرار بوش في شن الحرب على أفغانستان والعراق.
وفي سنة 2002م وجه لاند رسالة إلى بوش – نيابة عن خمسة قساوسة إنجيليين- تناقلتها وسائل الإعلام الأمريكية بشكل واسع، يعتبر فيها أن الحرب الاستباقية ضد العراق حرب مشروعة؛ لأنها تتوفر فيها جميع شروط "الحرب العادلة" المنصوص عليها في الدين المسيحي.
وجاء دور التلاميذ
من الواضح جداً أن الحكومة الأمريكية في عهد بوش كانت دينية بامتياز؛ نظراً للبيئة الفكرية التي جاءت منها، والبطانة الدينية والصهيونية التي تشكلت منها، وكل إناء بالذي فيه ينضح، وهذه بعض النماذج:
* جورج بوش
يقول الدقاقي: يرى بعض المراقبين أن بوش ومساعديه كانوا يتعمدون استخدام العبارات ذات المعنى المزدوج التي تظهر على أنها عادية بالنسبة للمستمع العادي، لكنها تحمل في طياتها إشارات مشفرة لا يستطيع فكها سوى من يفهم معناها الحقيقي، ويدرك المرجعية الدينية التي تستند إليها..فعندما يقول بوش إن "منطقة الشرق الأوسط تمر بمرحلة تاريخية ومفصلية يتوجب على شعوبها الاختيار بين الديمقراطية والحرية، وبين الاستبداد والتطرف"، يتلقى الشخص العادي هذه العبارات بمعناها السطحي و المظهري وأنها تنم عن حسن نية والتزام بمبادئ الحرية وحقوق الإنسان.
لكن بالنسبة للشخص المتدين، وبالتحديد الملايين من أتباع الكنائس الإنجيلية – الذين يشكلون القاعدة الانتخابية لبوش ولليمين المحافظ – تبرز التزام بوش بتطبيق "حكم الله في الأرض"..وبعد أحداث 11 سبتمبر بساعات قال بوش إن تلك الهجمات تمثل "انطلاقة الحرب الكونية ضد الشر"، وأضاف إن أمريكا مدعوة لكي تتحمل: "مهمتها التاريخية "، وأن "الرد على هذه الهجمات هو تخليص العالم من الشر". وشدد على أن النصر مؤكد؛ "لأن الله يقف إلى جانب قوى الخير التي تمثلها أمريكا"..وردد حينها – في خطابه – (المزمور التوراتي 23) الذي يقول: " تقدم إلى الأمام ودافع عن الحرية، وعن كل ما هو خير وعادل في عالمنا".
وذكر الصحفي الفرنسي جون كلود موريس مدير تحرير أسبوعية (جورنال دي ديمانش) الفرنسية - الذي نقل أحاديث مطولة أجراها مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك عام 2003م- أن الرئيس الفرنسي شيراك كان شديد الاندهاش من مكالمات الرئيس بوش الهاتفية بقصد إقناع فرنسا بالمشاركة في الحلف المحارب في العراق، فقد كان بوش يقرأ على مسامع شيراك نصوصا لاهوتية حول الرسالة التي حملها الرب لبوش! وحول يأجوج ومأجوج.
كما يميل بوش إلى التفسير الديني في قراءته للأحداث السياسية الحالية، وقد قال في حديث للمذيعين الدينيين: "إن الإرهابيين يمقتوننا؛ لأننا نعبد الرب بالطريقة المناسبة"..كذلك يكثر في أحاديثه وخطاباته إيراد المصطلحات الدينية، فهو كثير الحديث عن "الرب" و"الصراع بين الخير والشر"، ومصطلح "محور الشر" يدخل في نفس الإطار..أما مصطلح (الحرية) لدى بوش له مدلول ديني، ولا تعني الحرية الخيار السياسي بالضرورة، بل "حرية اكتشاف الرب" بكل المدلول المسيحي التبشيري على حد وصف الكاتب الموريتاني محمد المختار الشنقيطي، في الجزيرة نت.
* ديك تشيني
نائب الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش..
ألقى خطاباً في مؤتمر لمنظمة (إيباك) الصهيونية الأمريكية الشهيرة في سنة 2006م، قال فيه: "عدونا لديه نظام عقائدي – وقد رأينا أمثلة في حكم نظام طالبان – وهم يريدون أن يفرضوا نظاماً ديكتاتورياً".. إلى أن قال :"إن الحرب على الإرهاب هي حرب ضد الشر، والنصر في هذه الحرب سيكون نصراً للرجال والنساء من كل الديانات".
* دونالد رامسفيلد
وزير الدفاع في عهد بوش.
نقل الدكتور أحمد القديدي (رئيس الأكاديمية الأوروبية للعلاقات الدولية بباريس) - في صحيفة الشرق القطرية 10/6/2009- عن مجلة (جي كيو) الأمريكية واسعة الانتشار - في عددها الصادر في يونيو 2009م- مقتطفات من الرؤية الدينية لرامسفيلد في حرب العراق، حيث نشرت مذكرات لوزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد - سيصدرها في كتاب - يؤكد فيها بأن الرئيس بوش أعلن الحرب على العراق لأسباب توراتية وليست سياسية، قائلا: إن الرئيس بوش خطط لحرب صليبية (نعم هكذا بالحرف !)؛ هدفها تغيير الشرق الأوسط توراتيا!، و كتب بخط يده: "إنني ألبس درع الرب وسأحارب يأجوج ومأجوج، (سفر التكوين وسفر حزقيال من التوراة).
وحول هذه التسريبات الغريبة كتب الصحفي الفرنسي بمجلة (باري ماتش) بينوا لوبرانس يقول - والكلام للقديدي- أغلب القرارات العسكرية والسياسية التي اتخذها بوش في معالجته للحرب في العراق مسنودة إلى تقارير رامسفيلد التي حشر فيها كثيرا من نصوص التوراة و التي زينها بصور جنود أمريكيين يؤدون الصلاة في الكنائس العسكرية التي جهزت لهم في العراق.
ويعلق الصحفي الخبير في الشأن الأمريكي بأنه من المتعارف عليه أن دونالد رامسفيلد ليس متدينا بهذا الشكل المتشدد، لكنه يحقق بتقاربه أهداف المحافظين الجدد حين يتوجه للرئيس بوش (المتشدد) بهذا الخطاب اللاهوتي الخرافي بقصد إقناعه بمواصلة الحرب تحت راية الصليب ونجمة داود. ويستخلص بينوا لوبرانس بأن حرب العراق كانت بحق جزءاً من حملة صليبية مسيحية ضد الإسلام والعرب لا غير..ويضيف الصحفي قائلا إن ملهم رامسفيلد بنصوص التوراة هو الجنرال غلين شافير، الذي عمل مديراً استخباراتيا لرامسفيلد وهيئة الأركان المشتركة.
* النائب البرلماني توم ديلي
كان زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب الأمريكي..قال في أكثر من مرة إنه يتعين دعم الحرب ضد العراق؛ لأنها "البشير الذي يسبق عودة المسيح إلى الأرض ويفسح المحال لحدوثها".
* الجنرال بويكن
كان قائد العملية السرية في الجيش الأمريكي، وكانت مهمته القضاء على بن لادن وصدام حسين، ثم أصبح نائباً لوزير الدفاع لشئون الاستخبارات..قال في يونيو 2002م: "إن المتطرفين الإسلاميين يكرهوننا؛ لأننا أمة مسيحية؛ ولأن أساسنا وجذورنا تنبعث من القيم اليهودية المسيحية". وتابع يقول: إن الحرب التي ضد الإرهاب "هي حرب ضد عدو اسمه الشيطان".
وقال - في إحدى الكنائس سنة 2002م – وهو يرتدي الزي العسكري-: "إننا جيش الله، في بيت الله، وقد أقيمت مملكة الله لمثل هذه الأوقات التي نعيشها"..وقال إن بوش "تولى منصب الرئاسة في البيت الأبيض؛ لأن الله اختاره لتولي ذلك المنصب".
في الجزء الثاني – بإذن الله – سيكون خاصاً بالجانب التطبيقي لبعض ملامح العقيدة الغربية.

المصدر : http://www.awda-dawa.com/pages.php?ID=12413
إسم الموقع : مآساتنا و الحل عودة و دعوة
رابط الموقع : www.awda-dawa.com
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 08-04-2009, 11:14 PM
أبو أنس الأنصاري أبو أنس الأنصاري غير متواجد حالياً
II كَانَ اللهُ لَهُ II
 




افتراضي عقيدة الغرب في تفتيت العالم الإسلامي – تحليل (الجزء الثاني)


عقيدة الغرب في تفتيت العالم الإسلامي – تحليل (الجزء الثاني)

أحمد الشجاع -عودة ودعوة

2/8/2009م
تقسيم منطقة الشرق الأوسط على أسس طائفية


بعد اتفاقية سايكس / بيكو سنة 1916م بتقسيم بلاد الشام بين الاحتلالين البريطاني والفرنسي، ظهرت العديد من الدراسات الغربية التي تضع تصورات لخرائط جديدة لشرق أوسط جديد يقوم على أسس طائفية وعرقية..هذه الدراسات صدرت عن مراكز بحثية غربية أو باحثين بارزين، والمعروف عن مراكز البحوث الغربية – خصوصاً في أمريكا – تأثيرها المباشر في عمليات رسم السياسات وصنع القرارات..ولهذا أطلق على هذه المراكز في - أمريكا - تسمية (مخازن الفكر)؛ لما لها من دور كبير في تقديم المقترحات وطرح التوجهات والتصورات للحكومة التي تعتمد كثيراً على نتائج هذه المراكز.
إضافة إلى ذلك العلاقات القوية والترابط الوثيق بين الجهات الرسمية، ومراكز البحوث، وهو ما يعرف بسياسة (الباب الدوار) أي انتقال باحثين بارزين من مراكز البحوث إلى المؤسسات الرسمية للعمل فيها، وعلى أعلى المستويات، ثم يعودون للعمل في مراكز البحوث من جديد بعد انتهاء خدمتهم أو بعد تغيير الحكومات.
وبالعودة إلى موضوع تقسيم الشرق الأوسط فإنه منذ سنة 1982م وحتى الآن ظهرت عدة دراسات وخرائط للشرق الأوسط تشير إلى تقسيمات جديدة لبعض الدول، كان آخر هذه الخرائط ما نشر في مجلة (أتلانتك مونثلي) الأمريكية (في يناير – فبراير 2008م)، حسب ما جاء في مجلة (المجلة) السعودية (24 فبراير 2008م)..كاتب المقال وصاحب الخريطة هو جيفري جولد بيرج المعروف بارتباطه بالمسئولين الإسرائيلي، وقد خدم في الجيش الإسرائيلي. والخريطة التي نشرها تتصور منطقة سيناء ذات استقلال ذاتي، وغزة إمارة إسلامية.
يقول الدكتور أحمد البرصان – في تقريره الموسع حول تقسيم الشرق الأوسط المنشور في (المجلة) – إن المنطقة باتت – كما يبدو- هدفاً تشريحياً جديداً أو دسما لمراكز التفكير الغربية، فكلما شعرت دول الغرب الخطر على مصالحها وأمنها القومي والاستراتيجي وجدت أن الفرصة الأفضل أن تقوم بدعم عمليات الانفصال وإنشاء كيانات جديدة هزيلة تبقى مرتبطة بها..ويواصل الدكتور البرصان حديثه قائلاً: إن التقسيم خطة وخارطة ما زالت تُطرح مع كل أزمة في المنطقة؛ وذلك بهدف تغيير توازن القوى لصالح إسرائيل والدول الكبرى، ونسمع عن شرق أوسط جديد وأحياناً سايكس / بيكو جديدة.
وكانت أول وثيقة علنية لتقسيم المنطقة العربية ما نشر في مجلة (المنظمة الصهيونية العالمية) kivunim في فبراير 1982م، وكان كاتبها (عديد فرنون). وجاءت الدراسة تحت عنوان: ASTRATEGY FOR ISRAEL IN THE NINTEEN EIGHTIES
وترجمها فيما بعد إسرائيل شاحال عالم الكيمياء الإسرائيلي إلى الإنجليزية تحت عنوان: THE ZIONIST PLAN FOR THE MIDDLE EAST أي (المشروع الصهيوني لمنطقة الشرق الأوسط).
وجاء في هذه الخطة الإستراتيجية تقسيم العراق على ثلاث دويلات كردية وسنية وشيعية. وتقسيم السودان إلى أربعة مناطق من بينها فصل الجنوب عن الشمال. وامتد السيناريو ليطرح تقسيم سوريا ومصر..وهذه اللحظة تلتقي مع الأهداف الإسرائيلية في تقسيم المنطقة على أسس طائفية وعرقية من أجل أن تبقى هي القوة المهيمنة على الشرق الأوسط..وأثناء الهجوم الإسرائيلي على لبنان في 2 يونيو 1982م كتب المراسل العسكر الإسرائيلي زئيف شيف: "إن مصلحة إسرائيل تتطلب تجزئة العراق إلى دولة شيعية وأخرى سنية، وفصل الجزء الكردي في شمال العراق".
وفي سنة 1996م تقدمت مجموعة أمريكية تدعى (مجموعة إستراتيجية إسرائيل لعام 2000م) بتقرير لرئيس الوزراء الإسرائيلي جاء فيه إن الإطاحة بالنظام العراقي وخريطة جديدة للشرق الأوسط تجعل إسرائيل تحقق مصالحها بتفكيك دول، وطمس مفهوم القومية العربية وقيام كيانات إقليمية طائفية..وكانت المجموعة المذكورة يرأسها ريتشارد بيرل (الذي أصبح فيما بعد رئيس مجلس سياسة الدفاع في وزارة الدفاع الأمريكية قبل احتلال العراق). ومن بين أعضاء اللجنة: دوجلاس فيث (الذي أصبح الرجل الثالث في وزارة الدفاع الأمريكية)، وديفيد ويرميسر (الذي عمل فيما بعد في مكتب ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش إلى عام 2007م).
ومعروف عن ريتشارد بيرل وجلاس فيث مشاركتهما الفاعلة – من خلال موقعيهما – في التخطيط لاحتلال العراق..وبعد الفشل الأمريكي في العراق ظهرت عدة مبادرات لتقسيم العراق، من بينها قرار مجلس الشيوخ الأمريكي سنة 2007م القاضي بتقسيم العراق، وتبناه السيناتور جوزيف بايدني (نائب الرئيس الأمريكي حالياً)..ونشر (مركز سابان لدراسات الشرق الأوسط) – الذي يشرف عليه اليهودي الأسترالي الأصل مارتن أنديك الذي كان مساعداً لوزير الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس كلينتون وسفيراً سابقاً في إسرائيل – دراسة بعنوان (التقسيم الناعم للعراق)، وقد لقيت نقاشاً وتأييداً في الكونجرس.
ومركز سابان يتبع مؤسسة الأبحاث الأمريكية (بروكنز)، ولها علاقة بصانعي القرار الأمريكي..كما ظهرت تقارير أخرى تدعو إلى تقسيم الصومال، وكان قد تردد خبر احتمال اعتراف أمريكا بجمهورية أرض الصومال الانفصالية، فيصبح الصومال بلداً مفككاً كالعراق.
وفي يونيو 2006م نشرت مجلة (القوات المسلحة الأمريكية) خريطة لشرق أوسط جديد، تدعو لتقسيم دول المنطقة. وقد نشرها رجل الاستخبارات الأمريكية السابق الكولونيل المتقاعد راف بيترز تحت عنوان (حدود دموية)، وهي تنظر إلى إثارة الطائفية والعرقية لإنشاء كيانات تخدم مصالح أمريكا وإسرائيل..ثم جاءت خريطة جيفري جولد بيرج المنشورة في مجلة (أتلانتك) المذكورة سابقاً..وتمتد تصورات الخريطة من السودان غرباً إلى الهند شرقاً، حيث تشمل التقسيمات باكستان وإيران والمنطقة العربية في العراق والسودان.
والواضح أن الخريطة تنظر إلى بؤر التوتر والاحتكاك العرقي والطائفي وتضخيمها، وتحاول إثارة أن المنطقة - حالياً- لا تخدم المصالح الغربية ولا بد من المزيد من التقسيمات..ولغرض إعطاء الخريطة بعداً أكاديمياً لتحظى بالمصداقية، ادعى صاحبها أنه تواصل مع خمسة وعشرين خبيراً، ومتخصصاً في المنطقة أثناء كتابة تقريره ورسم خريطة.
ويقول البرصان إن نظرة متفحصة للأشخاص الذين تواصل معهم تبين أنهم من المؤيدين لإسرائيل ولهم علاقات مع المؤسسات الأمنية الإسرائيلية أمثال روبرت ستالوف (مدير تنفيذي لمركز واشنطن لدراسة الشرق الأدنى)، ودنيس روس (مسئول عملية السلام في الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون، وإدوارد ليتواك، وغيرهم من الخبراء الذين ورطوا الإدارة الأمريكية في العراق وأفغانستان..الخريطة تقسم العراق إلى ثلاث دويلات (سنية وشيعية وكردية)، وتفصل منطقة خوزستان في جنوب إيران على شلك دويلة، وتقسم باكستان إلى بلوشستان وباشتونستان، وتقسيم عرقي يشمل باكستان وجنوب أفغانستان..وتتضمن الخريطة أيضاً سيناء المصرية على شكل منطقة ذات استقلال ذاتي، وغزة إمارة إسلامية، وترى الخريطة أن لبنان قد تصبح جزءاً من سوريا، وترسم دولة درزية وأخرى علوية.
ومن خلال مخططات التقسيم والتجزئة يظهر أن القوى الغربية رجعت إلى عهدها الاستعماري السابق بإثارة النعرات العرقية والطائفية كالذي يحصل في إفريقيا. وهذا يذكرنا بالعهد الاستعماري – كما يقول البرصان – عندما دخل الاستعمار إفريقيا تحت شعار نشر النصرانية؛ مما جعل قساً من جنوب أفريقيا يقول: لقد أعطيتمونا النصرانية وسرقتم منا الأرض والثروة.
إلا إسرائيل:
يشير البرصان إلى أن المثير في هذه الخرائط أنها ترسم خرائط الدول وعليها الأعلام والمتغيرات، ولكن الشيء الثابت الذي يبقى دائماً غير متغير هي خريطة إسرائيل، فالخرائط لم تتطرق لإسرائيل، وإنما صورت دولاً طائفية وعرقية وكأن كل المتغيرات لا تعنيها، وأنها ثابتة باقية سرمدية.
من التخطيط إلى التنفيذ :
استغلال الأديان


الأكثر خطورة في قضايا الصراع هو الاستغلال الديني لإحداث الفتن بين أتباع الأديان، فتبعات ذلك أعمق وأشمل، وتتجاوز حدودها حدود الأمم والشعوب..والمصيبة هنا هي أن الغرب كان ولا يزال يستغل البعد الديني في حروبه ضد المسلمين، وفي كل زمان كان الغرب يستخدم أدواته ووسائله وحججه، وفي كل وقت له أهدافه ومصالحه، وخطابه فيتغير التعبير ولكن يظل التدمير.
في السابق كان الغرب يدعي تحرير المسيحيين من أيد المسلمين فشن حروبه الصليبية . والآن يدعي حماية الأقليات الدينية فيستغلها في تمرير خططه وأهدافه.. والأمثلة على ذلك كثيرة لا يجهلها أحد كقضايا الأقباط والقاديانية في مصر، واليهود في بعض الدول العربية، والأرمن في تركيا ونصارى اندونيسيا (أصبحت لهم دولة فيما بعد)، ونصارى جنوب السودان، وعبدة الشيطان في المغرب. وموضوعنا هنا سيكون خاصاً بقضايا مسيحيي الشرق، فهي الأقدم زماناً والأوسع مكاناً والأكثر تعقيداً والأخطر استغلالاً من جانب الغرب.
عند ما ظهر الإسلام كانت المسيحية مقسمة إلى أربعة مذاهب رئيسية (الآريوسي – النسطوري – اليعقوبي – الملكاني)، قبل أن تواصل انشقاقاتها إلى مئات المذاهب والفرق. وشهدت الانقسامات المسيحية جملة من الحروب والاضطهادات المتبادلة، وأعنفها كان في الحروب الدينية الأوروبية في العصور الوسطى والحديثة أودت بملايين البشر..وفي صدر الإسلام كانت الإمبراطورية الرومانية البيزنطية تسعى إلى فرض مذهبها على بقية المذاهب المسيحية وفي المقدمة أقباط مصر الذين عانوا من اضطهاد الدولة الرومية؛ مما دفعهم إلى اعتبار الحكم الإسلامي أهون من الهيمنة الرومية. وفي ظل ما يعانوه جاءت رسالة رسول الله إلى المقوقس تدعوه إلى الإسلام وقد أحسن الرد لكنه أصر على دينه.
وقد قيل إن معاناة الأقباط كانت سبباً مهماً في تمهيد الطريق أمام الفتح الإسلامي لمصر سنة؛ لما في الإسلام من عدل وإنصاف للبشرية جمعاء..وقد طبق الخلفاء هذا المنهج خلال مسيرة الفتوحات الإسلامية. ومن أشهر ما جاء في هذا الجانب (العُهدة العمرية) لأهل إيلياء المسيحيين سنة 15 للهجرة، وفيها حفظ الخليفة عمر بن الخطاب لأهل إيلياء نفوسهم وكنائسهم ومقدساتهم ورموزهم الدينية..والعهدة العمرية مستمدة من الشرع. والأصل بقاؤها على أسسها.
وفي غالب الأحوال ظل المسيحيون في مأمن تحت رعاية الدول الإسلامية المتعاقبة، وكانت مشكلة مسيحيي الشرق الأساسية هو النزاع المرير مع الكنيسة الغربية وتبادل الطرفان الكثير ممن قرارات التكفير والطرد الديني الصادرة عن مجامع كل طرف، ومعروف أن قرارات المجامع المسيحية تعد أصولاً لا يجوز إلغاءها إلا بقرار صادر عن مجمع ديني مماثل..وكان على رأس أولويات الكنيسة الغربية السعي إلى فرض سلطاتها على الكنيسة الشرقية الإرثوذكسية بحجة توحيد الديانة المسيحية. وبلغ الخلاف بينهما ذروته سنة 1054م حيث كان الانقسام الكبير.
ثم جاءت نكبة الحروب الصليبية التي شنتها الكنيسة الغربية على بلاد المسلمين سنة 1096م، وقبل ذلك كانت الكنيسة تهيئ المناخ الديني بين الأوروبيين لشن الحروب على المسلمين..وهو أسلوب تكرر في عصرنا على يد الإدارة الأمريكية السابقة (إدارة بوش) عندما سعت - منذ وصولها إلى السلطة - إلى تهيئة المناخ الديني الشعبي ضد العالم الإسلامي، ولم تكد أحداث 11 سبتمبر تقع حتى يعلن بوش على الملأ حربه الصليبية.
وبخصوص الحروب الصليبية القديمة كان البابا حنا العاشر (914م - 1928م) أول من نادى بطرد المسلمين من الحوض الغربي للبحر المتوسط حيث كانت الدولة الإسلامية في الأندلس..أما البابا إسكندر الثاني (1061م – 1073م) فكان أول من استخدم فكرة صكوك الغفران كورقة لتحميس الأوروبيين على حرب المسلمين..أما مؤسس فكرة الحملات الصليبية الشهيرة فهو البابا جريجوري السابع (1073م - 1088م )، لكنه مات قبل أن تبدأ.
وجاء بعده أوربان الثاني يواصل المهمة، ودعا لمؤتمر مصيري في فرنسا يوم 27 نوفمبر 1095م، وفيه أطلق صيحته الشهيرة (إنها إرادة الرب)، وأمر كل مسيحي ومسيحية بالخروج لنجدة القبر المقدس من أيدي "الكفرة" (يعني المسلمين)، ثم أفاض في حديث ملؤه الكذب والأباطيل عن الاضطهادات التي يتعرض لها النصارى والحجيج في بلاد المسلمين، وأرسل أحد الرهبان المتعصبين واسمه بطرس الناسك ليطوف أوروبا يدعوها لمحاربة المسلمين ونتيجة لخطبه المؤثرة والمخلوطة بالبكاء والعويل والأكاذيب خرج مئات الآلاف استجابة لنداء البابا ورغبة في المغفرة، وهي الحملة المعروفة باسم (حملة الرعاع) التي أبادها السلاجقة..ومنذ (حملة الأمراء) سنة 1099م – التي قتلت قرابة المليون مسلم - توالت الحملات الصليبية ضد أراضي المسلمين.
أما مسيحيو الشرق – الذين ادعت الحملات الصليبية تحريرهم - فإن بعضهم وقف مع الحملات الغربية ضد المسلمين، ومن بينهم وأشهرهم المارونيون الذين كان ميلهم للغرب المسيحي أكثر، وكانوا قد بدؤوا عمليات الانضمام للكنيسة منذ سنة 1182م، وتحقق لهم ذلك في القرن السادس عشر الميلادي.
أما من رفض من مسيحيي الشرق الوقوف مع الصليبيين والهيمنة الكنسية الغربية فإنه قد أصابهم بعض ما أصاب المسلمين..فقد تحولت الحملة الصليبية الرابعة - التي شنها البابا إنوسنت الثالث سنة 1204م - إلى القسطنطينية عاصمة بيزنطة، مع العلم أن هذا البابا كان أكثر الباباوات محاربة للمسلمين، وهو أول من شن حملات الصليب إلى مصر.
نقل سعد رستم - في كتابه (الفِرق والمذاهب المسيحية منذ ظهور الإسلام حتى اليوم) - عن المؤلف المسيحي نوفل بن نعمة الله بن جرجس قوله – في كتابه (سوسنة سليمان) -: إن البابا إنوسنت الثالث حرك قواد الصليبيين لنزع المملكة الشرقية من يد اليونان، فاقتحموا القسطنطينية سنة 1204م، وظلوا متسلطين عليها إلى سنة 1261م، فاستعملوا ما أمكنهم من الهمجية في الأرض التي امتلكوها من بلاد سورية وفلسطين؛ ليخضعوا بطاركة أورشليم، وجميع الإكليروس اليوناني بواسطة الحبس وإقفال الكنائس حتى أحوجوهم إلى أن يفضلوا موادة العرب (حكام البلاد الأصليين) على موادتهم، ويختاروا حكم شعب يتقاضى منهم جزية على أن يتسلط عليهم ملك روحي طمعه وطمع قواده لا يشبعان.
وقد يقول قائل إن الصراع المسيحي قد أصبح جزءاً من الماضي، ولم يعد العداء بين الكنيستين كما كان في السابق في ظل عمليات التقارب المستمرة بينما..هذا القول- في مجمله - صحيح من جهة انتهاء الصراع المسلح، ولكن العداء لا زال كما هو مدون في مراجعهم وكتبهم مع تغير في وسائل التعبير عن العداء أو استخدامه. أما التقارب فهو شكلي بروتوكولي استدعته الظروف لكنه لم يشمل نقاط الافتراق وربما مسائل الخلاف.
ومما يدل على بقاء هذا العداء ما جاء في وثيقة أصدرها مجمع العقيدة والإيمان بالفاتيكان يوم 10/7/2007م - ( نشرها إسلام أون لاين نقلاً عن واشنطن تايمز- تقول إن الإيمان المسيحي خارج الكنيسة الكاثوليكية ليس كاملاً، وقالت: "إن الكنائس المسيحية الأرثوذكسية كنائس حقيقية، لكنها تعاني جرحاً؛ لأنها لا تعترف بالبابا رأساً لها". وأضافت، "إن الجرح أعمق بالنسبة للكنائس البروتستانتية".
وقالت عن بقية الكنائس: "إن العقائد المسيحية الأخرى تفتقد إلى عناصر تعد ضرورية بالنسبة للكنيسة الكاثوليكية، فهي ليست كنائس بمعنى الكلمة ولكنها تجمعات إكليريكية"..والملاحظ هنا أن الكنيسة الغربية لا زالت ترى في نفسها الأَوْلى بالزعامة الدينية المسيحية العالمية، ولا زالت تحِنّ إلى ماضيها العقدي الراغب في ضم مسيحيي الشرق إليها.
في 8 مايو الماضي قام بابا الفاتيكان بزيارة إلى الأردن وفلسطين، وهي زيارة دينية شملت بعض الأماكن الدينية المسيحية المهمة. وخلال الزيارة تشدق كثيراً في حديثه عن العدالة والحرية والتسامح والمحبة والتعددية.. إلى آخر ادعاءاته مع أنه مشبع بمواقفه العدائية ضد المسلمين، تجشأ ببعضها علناً منذ سنة 2006م..الملفت للنظر أن زيارته واجهت انتقادات علنية داخل المسيحيين العرب، وكانت أشدها وأكثرها عمقاً- حسب متابعتي على الأقل - الرسالة التي وجهتها الباحثة الإعلامية اللبنانية حياة الحويك عطية إلى بابا الفاتيكان.
والملاحظ أيضاً أن صاحبة الرسالة لا تتبع الكنيسة الشرقية المعروفة بعدائها التاريخي للكنيسة الغربية التي يرأسها بابا الفاتيكان، بل هي من أتباع الكنيسة المارونية المرتبطة بالفاتيكان..ولكن يبدو أن هذه المسيحية تمثل تياراً مارونياً – غير معروف كثيراً – لا زال يرفض التبعية للفاتيكان، فقد تحدثت عن جدها البطريرك الحويك بصفته "آخر بطاركة الموارنة الذين يرفضون بإصرار التبعية لروما ولبيزنطة"..وقالت إن ذلك جاء "وفاء لإرث مؤسسهم الراهب البدوي الحمصي الذي تمرد على الاثنين لوعيه العميق بأن جذور المسيحية هنا على هذه الأرض".
وربما المقصود بالراهب البدوي هو القديس يوحنا مارون (بطريرك أنطاكية 685م -707م) الذي أعطى للمارونيين استقلالاً عن الدولة البيزنطية بعد أن تمكن من هزيمة جيوشها الغازية سنة 684م. أما من الناحية الرسمية فالمارونيون ينسبون أنفسهم للقديس مار مارون المتوفى سنة 410م..أما الرسالة – المنشورة في موقع الجزيرة نت بتاريخ 12/5/2009م - فقد جاءت للرد على بعض مواقف بابا الفاتيكان، وفيها أيضاً انتقادات للسياسات الغربية تجاه مسيحيي الشرق وأبرز ما جاء فيها:
إن دعوة البابا للحفاظ على التعددية تتعارض مع الممارسات الغربية، حيث قالت: "إن الغرب الذين تعرفون، ومعه وليده الصهيوني العنصري، هم الذين يستهدفون- ومنذ عقود - هذه التعددية، بتخطيط إستراتيجي دقيق ومبرمج يهدف إلى تهجير مسيحيي العالم العربي؛ لينزعوا عنه صفته التعددية من فلسطين إلى مصر إلى السودان إلى العراق (أي فصل مرير وفاضح هو العراق! ماذا فعلتم لأجل بقاء مسيحييه على أرضهم؟)"..وقالت إنهم كعرب مسيحيين لسوا بأي حال أقلية؛ "لأننا العرب قبل الإسلام وبعده، ولا نحتاج إلى حماية إلا حمايتنا من مخططات اقتلاعنا من أرضنا ورمينا على أرصفة الغرب مادة ضغط وابتزاز ضد بلداننا. وفي أحسن الأحوال مهاجرين لا انتماء لهم ولا قضايا".
إلى أن قالت: "وإذا كنتم، يا صاحب القداسة، تصلي – كما قلت-: كي لا تشهد الإنسانية جريمة مماثلة( للهولوكوست)، فاسمح لي يا رأس الكنيسة أن أذكرك بأن جريمة أشد قسوة تدور على أرض فلسطين، ولا يمكن لرائحة دمائها إلا أن تكون قد وصلتك من فلسطين، حيث آخر الحلقات، هولوكوست غزة لم يجف بعد، أو من لبنان قبل ثلاثة أعوام"..وختمت رسالتها بمناشدة لبابا الفاتيكان: "بحق العذراء والمسيح افهمونا قليلا يا سيدي، وتوقفوا عن التعامل معنا كأتباع، عاملونا كمؤمنين مساوين في المسيح واتركوا لنا أن نعلم إخوتنا أن يكونوا كذلك".
أحداث دمشق1860م:


في سنة 1860م شهدت دمشق صراعاً طائفياً بين المسلمين ونصارى سوريا، وهي أحداث اشتهرت في التاريخ الحديث، وذهب البعض إلى اتهام الدولة العثمانية بإثارة فتنة طائفية، وكان على رأس المتهمين والي دمشق أحمد باشا الذي أعدمه السلطان العثماني مباشرة وبلا محاكمة، وفُسر هذا العمل بأنه كان محولة لتحسين صورة الحكومة العثمانية أمام الآخرين خصوصاً الغرب.
ولكن هل كانت الحكومة العثمانية - فعلاً - وراء تلك الأحداث أم أن هناك أصابع خارجية نسجت خيوطها ثم أشعلت فيها نيران الطائفية؟.
الجواب نجده في ورقة بحثية مصغرة للدكتور إلياس بولاد ألقاها على شكل محاضرة في ندوة عُقدت في مقر بطريركية الروم الكاثوليك في دمشق في يناير 2006م..تحاول الورقة إثبات أن الغرب هو من خطط لهذه الأحداث وأهمية هذه الورقة ترجع إلى أمرين:
أولها، الاعتماد الكبير على مصادر تاريخية غربية. ثانيها، كثرة الدلائل الواقعية التي دفعت الغرب لهذا العمل.
ويمكن تلخيص أهم ما جاء في الورقة على النحو التالي:
كانت دمشق قبيل عام 1860م تشكل أكبر مركز صناعي لإنتاج الحرير والاتجار به في العالم بالإضافة لصناعة بقية أنواع الأقمشة والمنسوجات. وهذه النهضة الصناعية كانت تتطور وتواكب آخر التطورات التقنية الصناعية العالمية في ذلك الوقت، أي نظام (الجاكار) الميكانيكي..وهذه النهضة الصناعية واكبها ازدهار تجاري واقتصادي كبير وتوسيع للأسواق (تصدير الأقمشة الحريرية الدمشقية إلى القدس ومصر ودول مثل تركيا وإيران وحتى إلى أوروبا نفسها).
وكانت مادة حرير الخام متوفرة بأسعار زهيدة في دمشق؛ لقربها من مراكز الإنتاج، بما لذلك من أهمية اقتصادية انعكست على رخص وجودة الإنتاج الدمشقي أكسبته شهرة عالمية ودفعت إلى زيادة الطلب عليه، وقد ساعد في هذا أيضا وجود مرفأ صيدا التجاري وقربه من دمشق، كل هذا ساهم في عملية الازدهار الاقتصادي لأبناء هذه المنطقة وأنتج التوسع الصناعي والتجاري لدمشق..وقال: إن هذه الصناعة وهذه النهضة الاقتصادية "كانت بمعظمها بأيدٍ مسيحية دمشقية".
في الطرف المقابل (أي في الغرب) شكَّل المرض الذي أصاب دودة الحرير في فرنسا والصين أواسط أعوام الأربعينات من القرن التاسع عشر أزمة كادت أن تؤدي إلى كارثة اقتصادية حقيقية في هذا القطاع، إذا استمر انقطاع تأمين الحرير كمادة أولية لمعاملها..ومن المعلوم أن المكان الوحيد الذي نجا من هذه الجائحة إنما كان هو في ذلك الوقت لبنان وسورية.
وباتت هذه المنطقة أي سوريا، منافسة قوية للغرب بأهم صناعة في القرن التاسع عشر، وهي صناعة المنسوجات الحريرية، وأصبحت تشكل خطراً حقيقياً على صناعة الغرب واقتصاده، حيث إن المادة الأولية لهذه الصناعة التي قد سلمت من الآفات كانت موجودة فيها فقط في ذلك الوقت، بحيث إنه لو استمرت الأحوال على ما هي عليه، وأدركت سوريا بمحيطها العثماني مركزها القوي باستغلال الحاجة الغربية لمادة الحرير فإنها كانت ستصبح الأقوى اقتصاديا ولكانت سيطرت على الأسواق الأوروبية والعالمية لسنوات طويلة، وبخاصة عندما يتم تطوير تصنيعها كماً ونوعا، ولكن الدولة العثمانية آنذاك كانت (الرجل المريض) الذي تسيطر عليه السفارات والقناصل الأوروبية، وتتدخل في كل صغيرة وكبيرة تتعلق بأمور السلطنة من الأحكام القانونية إلى تعيين الولاة خدمة لأغراضها.
إلى أن قال: "من هذا الواقع التاريخي الخطير جاء التخطيط الغربي لحوادث 1860م في لبنان ودمشق، وعلى أعلى المستويات السياسية والاقتصادية، حيث رُصدت له الميزانيات الضخمة، وجرى إعداد سيناريو المذابح والأماكن المقصود تدميرها والجهات المنفذة لها.. وعن طريق بث الإشاعات الدينية وتأجيج نزعاتها. ولكن المسلمين المتنوّرين وعَوا تلك المؤامرة، وحموا إخوانهم المسيحيين".
والمؤسف - كما يقول الباحث - إن معظم المؤرخين، غربيين وشرقيين، لم يدركوا أن الهدف من وراء تلك الحوادث "كان تأمين الحصول على الحرير، واستهداف الصناعة السورية، وتقويض النهوض الحضاري لها والقضاء عليه، وفي تقديري أنه لو تم تلافي وقوع تلك الحوادث لكنا اليوم، بكل تأكيد، كما في الماضي دولة صناعية كبرى في مجال المنسوجات، وفي مجالات صناعية أخرى، وكنا دولةً لا تقل أهمية عن أية دولة أوروبية!!، ولكن حدوثها جعلنا دولاً استهلاكية تعتمد على الاقتصاد الغربي الذي كنا على قدم المساواة معه حضارياً آنذاك"..ثم تحدث عن عمليات الاستيطان الفرنسي والغربي في لبنان وسوريا وتأسيس مراكز لزراعة الحرير وصناعته؛ وذلك لتأمين هذه المادة لمصانعهم في بلدانهم دون اللجوء إلى التجار السوريين واللبنانيين.
مضيفاً: "لقد طلبت الحملة العسكرية الفرنسية التي أتت إلى بيروت في عام 1860م من البطريرك الماروني ومن يوسف بيك كرم، الذي كان يدافع عن حقوق الفلاحين الذين يزرعون دود القز لإنتاج الحرير أن تنقل بعض الفلاحين على متن بوارجها للإقامة في بلاد الجزائر حيث تؤمن لهم الأراضي الزراعية الخصبة هناك ليمارسوا زراعتها تحت حكم الفرنسـيين!!. فجاء الرفض قاطعاً"..وعلق الباحث على ذلك بقوله: "من الواضح أن الغاية تمثلت في جعل زراعة دود القز لصناعة الحرير أقرب وأرخص لهم من سواحل لبنان وجباله.. بعد 115 سنة على هذه الحادثة تكرر الأمر وهذه المرة من الأمريكان ولنفس الغاية متمثلة بنقل المسيحيين اللبنانيين على متن البوارج الأمريكية إلى أمريكا وكندا واستراليا".
ثم قال إن هناك أخرى لتلك الحوادث غير الحرير، منها:
استهداف وضرب القاعدة الاقتصادية النشطة في دمشق وبنيتها الصناعية التي كان المسيحيون الدمشقيون يحتفظون بها في أحيائهم حيث رأى الغربيون أنها المنافسة الحقيقية لصناعتهم؛ لأنها تستخدم مادة الحرير التي يريدونها رخيصة ولمعاملهم فقط.
- القضاء على أمهر الصناعيين والحرفيين وعلى ورشات عملهم ومنازلهم، حيث كان معظمهم من المسيحيين الدمشقيين وكان التركيز في هذه الحوادث على ورشات آل بولاد التي كانت تستخدم النظام المتطور للجاكار الميكانيكي لزيادة الإنتاج كماً ونوعاً.
- تهجير من تبقى من المسيحيين ممن أحرقت أحياؤهم وبيوتهم وورشات عملهم والذين تجمعوا في قلعة دمشق، حيث رُتِّبت القوافل لنقلهم إلى بيروت ثم مصر وفرنسا، وقد كانت كل قافلة تتألف من حوالي ثلاثة آلاف شخص، بحيث لا يستطيعون العودة إلى مدينتهم التي عاشوا فيها آلاف السنين، لما يحملون من ذكريات أليمة عن أحداث استهدفتهم، لم يعرفوا من كان وراءها، ولصعوبة البدء من جديد بأعمالهم وخوفهم من تكرار تلك الحوادث.
- نتيجة تلك الحوادث نجحت المؤامرة وتم القضاء على بذور المنافس الحقيقي للاقتصاد الغربي كما تم الاستحواذ على المادة الأولية (الحرير) بكل سهولة وفُتحت الأسواق السورية على مصراعيها أمام البضائع الأجنبية. وكان لا بد أمام تدفق البضائع الأجنبية من إحداث مصارف خاصة تسهل القروض للمزارعين واستيفاء الديون، وتحويل ثمن المنتجات الغربية إلى أصحابها في الغرب. مما أفضى إلى تضاعف الاستهلاك من البضائع المصنعة الغربية وبذلك ارتبط الاقتصاد السوري على المدى البعيد بالاقتصاد الغربي.
- إن الارتباط الاقتصادي الناتج عن تلك الحوادث قد مهّد في المستقبل القريب إلى احتلال سياسي وعسكري لسورية ولبنان وغيرهما من البلدان العربية تحت عناوين مثل "الانتداب" أو "الحماية" بحجة أن هذه البلاد غير مهيأة لمواكبة التمدُّن والتقدُّم الحضاري والصناعي.
- ولضرب أي أمل بعودة الترابط الاقتصادي والصناعي بين لبنان ودمشق وبلاد حوض البحر الأبيض المتوسط من بلاد عربية وأجنبية قام الانتداب الفرنسي بخلق (لبنان الكبير) عام1920م كحاجز جغرافي سياسي واقتصادي بضم ميناءي صيدا وطرابلس لهذا البلد الجديد بالإضافة إلى الأقضية الأربعة وسهل البقاع وهي المناطق الإنتاجية النشطة والغنية المحيطة بجبل لبنان المحدود الموارد بإقامة نظام سياسي فيه يعكس الوضع الطائفي السيادي للجبل بتخلف نمطية علاقاته المجتمعية والسياسية على لبنان والمنطقة، وقام الانتداب بإيجاد حدود مُصطنعة تحرص على فك الروابط الاقتصادية بين البلدين بهدف خنق دمشق والداخل السوري بقطع صلته بمناطق إنتاج الحرير وأسواقه بالمنافذ البحرية المتمثلة بصيدا، بيروت، طرابلس التي لم تزل قائمة حتى اليوم.
ثم أشار الكاتب إحدى وقائع تلك الحوادث قائلاً: "ومن هنا نتساءل مرة أخرى عن سبب استهداف الحي المسيحي في (القيمرية)، ولقبها (الهند الصغرى).. ولم يتم استهداف الحي المسيحي في نفس المدينة في حي الميدان؟!. إننا نرى أن السبب يعود إلى أن المسيحيين في حي الميدان كانوا يتعاطون تجارة الحبوب، أما في حي القيمرية فكان المسيحيون فيه يتعاطون صناعة وتجارة الحرير، وكانت تُقيم فيه الطبقة البرجوازية الصناعية التجارية، كما نتساءل أيضاً: إذا كانت تلك الحوادث بسبب الفتنة الدينية فلماذا لم تنتقل إلى مدنٍ أخرى كحلب وحمص وحماة؟. لم يحصل ذلك في رأينا لأن الهدف المحدد والمرسوم من قبل المخططين للحوادث والمذابح كان تدمير المركز الصناعي والتجاري في دمشق فقط".
وحول الدور العثماني يقول الباحث: "من المُلفت للنظر أيضاً أن الرأس المنفذ للمؤامرة - وهو والي دمشق العثماني - أحمد باشا قد أُعدم مباشرةً وبلا محاكمة"!، وهو الذي قيل بأن تعيينه والياً على دمشق قد جاء إثر مساعٍ لإحدى السفارات الأجنبية في استانبول. لم تُجرِ له أية محاكمة في حين أن الذين قتلوا البادري توما الكبوشي اللاتيني عام 1840م وعددهم على الأكثر عشرة أشخاص قد أعدت لهم محاكمة دامت شهوراً وتدخلت دول غربية عديدة لإبطال تنفيذ الأحكام الصادرة بحقهم ومنها فرنسا وإنكلترا والنمسا؟!".
أمريكا والأرمن:


الأرمن طائفة مسيحية شرقية أيضاً تستغلها أمريكا منذ أكثر من 100 عام لابتزاز تركيا. وأساس القضية هي أن الأرمن يدّعون أن الدولة العثمانية ارتكبت في حقهم حرب إبادة أودت بحوالي مليون أرمني خلال الفترة ما بين 1914م و 1918م ، وتحولت القضية إلى وسيلة ضغط وابتزاز فعالة أشبه بمحرقة الهولوكوست لدى اليهود.
بدأت العلاقات التركية (العثمانية) الأمريكية خلال القرن الثامن عشر الميلادي، حسب ما ذكره الدكتور زبير خلف الله مدير مركز الدراسات العربية التركية والعثمانية باستانبول..وقال زبير – في مجلة (المجلة) – إن أمريكا بعد إعلان استقلالها عن الاحتلال البريطاني فتحت عدة قنصليات في مدن تركية، وفي سنة 1895م حدث خلاف وتوتر في العلاقات بين البلدين على إثر تعيين أمريكا ممثل قنصلي لها في مدينة أرضروم التركية التي لم يكن فيها ولا أمريكي واحد، بل فيها كثافة سكانية أرمينية. لكن أمريكا نجحت في فتح القنصلية سنة 1897م؛ وهو ما سيكون له الصدى الكبير في الأزمنة اللاحقة.
وعندما بدأت ملامح انهيار الدولة العثمانية تظهر في الأفق تحركت الدول الأوروبية إلى تقاسم ممتلكات (الرجل المريض)، وكانت أمريكا تخطط من قبل سنة 1918م في تقسيم تركيا وإنشاء كيان أرمني وآخر يهودي داخلها؛ حتى تستطيع بسط نفوذها وبشكل كبير على هذه التركة المتهاوية. ولأجل ذلك أوكل الأمر إلى رئيس الأركان الأمريكي آنذاك هاربورد، الذي بدأ يضغط على الدولة العثمانية بواسطة هيئة مكونة من 46 شخصاً مدنياً وعسكرياً، وتحمل اسماً له دلالته وأبعاده في الوقت الراهن وهو (المهمة العسكرية الأمريكية في أرمينيا)، ورصدت لهذه الهيئة ميزانية تقرب من مليار دولار في ذلك الزمن. وكان من بين أعضاء الهيئة أمريكان من أصول أرمينية كانوا يعدون العدة لتأسيس دولة أرمينية متعللين بقضية الإبادة.
ويواصل زبير القول: حصل الأرمن على دعم أمريكي كبير، وفتحت لهم الأبواب منذ سنة 1919م للهجرة إلى أراضيها، وسمحت لهم بتأسيس جمعيات ومنظمات سياسية تشتغل لصالحها وضد تركيا، ويلعبون دوراً أمريكياً كبيراً داخل تركيا..بدأت العلاقات بين البلدين تأخذ مساراً جديداً بعد سقوط الدول العثمانية وظهور تركيا الأتاتوركية العلمانية التي ابتعدت عن العالم الإسلامي، وارتمت كلية في أحضان الغرب.
لكن السياسة الأمريكية ظلت قائمة على منطق ما يسمى (العصا والجزرة)؛ فهي من ناحية تبدي تقارباً مع تركيا العلمانية، ومن ناحية ثانية تفرق هذا البلد في الديون وإحداث الفتن الداخلية حتى يسهل السيطرة عليها في الأزمنة اللاحقة..ولا شك أن قضية الأرمن واحدة من وسائل التدخل والابتزاز لكن وفق ما تقرره المصالح على اعتبار أن تركيا بلد مهم في المنطقة؛ حيث يربط بين ثلاث مناطق في غاية الأهمية هي منطقة الشرق الأوسط، ومنطقة بحر قزوين، ومنطقة آسيا الوسطى، وهي في الوقت نفسه ثلاث مناطق توتر رئيسية ومستمرة.
كما أن تركيا تعد همزة الوصل بين العالمين الإسلامي والعربي، وحاجز رئيسي أمام المد السوفييتي وبالتالي حرص الغرب ومعه أمريكا على بقاء العلاقات مع تركيا، فكان أن حصلت على عضوية الناتو سنة 1952م..ولهذا تحرص أمريكا على الموازنة بين استغلال القضية الأرمينية والمحافظة على المصالح الإستراتيجية في المنطقة، فالوقت الذي تجده أمريكا مناسباً لابتزاز تركيا تقوم باستغلال الأرمن كالذي حصل سنة 2007م عندما قبلت أمريكا تقديم المذكرة المتعلقة بإبادة الأرمن إلى مجلس الشيوخ الأمريكي، وهو ما دفع تركيا إلى رفض هذا الأسلوب واعتبره الرئيس التركي مهزلة لا تليق بأمريكا.
وحول دوافع تقديم هذه المذكرة يقول الدكتور زبير إنها نشأت بعد فوز حزب العدالة والتنمية سنة 2002م ووصوله إلى السلطة وانتهاجه سياسة خارجية ناجحة، حيث استطاعت تركيا أن تحسن علاقاتها مع سوريا التي كانت عدوة بالأمس، وحسنت علاقتها باليونان التي كانت على وشك إعلان الحرب ضد تركيا بسبب المسألة القبرصية.
كذلك نجحت تركيا في ربط علاقات مع إيران وروسيا وكثير من الدول التي كانت في نظر السياسة الأمريكية تمثل مراكز قلق بالنسبة إليها..هذا الانفتاح في السياسة الخارجية التركية أزعج أمريكا، وبدأت تنظر إلى كون تركيا تسعى مع بعض الدول المجاورة للعراق إلى تكوين حلف إستراتيجي إقليمي، ومحاصرة أمريكا إستراتيجيا، فعمدت إلى الضغط على تركيا من خلال إثارة موضوع الأرمن.
قضية ناغورني قره باغ:
نواصل الحديث – باختصار- حول المسألة الأرمينية، ولكن في قضية أخرى.
خلاصة هذه القضية – كما جاء في تقرير الجزيرة نت- هي النزاع بين أذربيجان وأرمينيا على إقليم (ناغورني قره باغ) الواقع داخل الأراضي الأذربيجانية..والنزاع امتداد لعداء تاريخي بين المسيحيين الأرمن والمسلمين الأذرو الأتراك، والبعض يقول إنه صراع عرقي.
كانت أذربيجان وأرمينيا جمهوريتين تابعتين للإتحاد السوفييتي. وفي سنة 1923م قام استالين بضم إقليم (قره باغ) إدارياً إلى جمهورية أرمينيا، رغم أنه يقع في قلب أذربيجان، بالمقابل – ولكي تتم سياسة تأجيج الصراع العرقي – قام استالين بضم منطقة ناختشيفان إدارياً إلى أذربيجان، رغم أنها تقع في الأراضي الأرمينية، وجاءت سياسة (فرق تسد) التي انتهجها استالين من كون أغلب سكان (قره باغ) هم من الأرمن، وأغلب سكان ناختشيفان من الأذر، وبهذا بدأ الصراع في (قره باغ) واستمر..وتطور النزاع إلى حرب طاحنة بين أذربيجان وأرمينيا استمرت من سنة 1992م وحتى سنة 1994م، راح ضحيتها أكثر من 35 ألف شخص وتشريد حوالي مليون مواطن.
تتعامل الدول مع هذه القضية وفق مصالحها فقط؛ فروسيا تقف في صف أرمينيا، رغم أنها أحد الوسطاء الدوليين لحل الأزمة؛ وهذا ما دفع البعض إلى التساؤل عن مدى حقيقة الدور (المحايد) لروسيا في هذا الصراع..لاسيما بعدما كشف عن إمداد روسيا لأرمينيا بالسلاح خلال حرب 1992م -1994م ولروسيا قاعدة عسكرية في العاصمة الأرمينية يريفان.
أما أوروبا فلها اهتمام في حل هذه الأزمة أو على الأقل استمرار تجميدها؛ لضمان الاستقرار على هوامش أوروبا وضمان وصول نفط قزوين إلى السوق الدولية، خصوصاً بعد مد خط الأنابيب (باكو – تبليسي – جيهان)..أما الموقف الأمريكي فمتناقض بين رغبتها في المحافظة على مصالحها الحيوية هناك، وبين ضغط اللوبي الأرمني داخل أمريكا.
فواشنطن تنظر إلى أذربيجان على أنها شريك سياسي واقتصادي إستراتيجي في المنطقة، وبوابة بين أوروبا وموارد وأسواق الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وأحد الموردين الرئيسيين للنفط في أوروبا في القرن الـ 21..لكن في كثير من الأحيان تتعرض العلاقة بين البلدين للتوتر بسبب نفوذ اللوبي الأرمني القوي في الكونجرس وهو نفس اللوبي الذي يشتغل ضد تركيا.
ونتيجة للنفوذ الأرمني يخصص الكونجرس معونة خارجية لأرمينيا تجاوزت قيمتها كل موازنة أرمينيا وجعلت منها ثاني أكبر دولة منتفعة من المعونة الأمريكية بعد إسرائيل (على أساس حسابات دخل الفرد سنة 1996م). وفي الوقت نفسه لم تحصل أذربيجان على أي معونة من أمريكا.
الطائفية في لبنان:


رغم صغر مساحته (10 آلاف كم)، وقلة سكانه (قرابة الأربعة ملايين نسمة)، إلا أن هذا البلد يعد من أكثر الدول العربية – إن لم يكن أكثرها – تنوعاً طائفياً، حيث يعيش فيه 18 طائفة دينية معترف بها قانوناً..وقد شهد هذا البلد الكثير من الصراعات الدينية خلال مراحله التاريخية المختلفة، وقد أدت هذه الصراعات إلى خلق ثقافة طائفية شملت كل جوانب الحياة تقريباً..يرى البعض أن ظهور الصراع الطائفي في لبنان بدأ مع الصراع العثماني الأوروبي في المنطقة.
ولكن الواضح أن البداية الأساسية كانت أثناء الحملات الصليبية الغربية على بلاد المسلمين (1096-1291م) . ففي الوقت الذي كان المسلمون يقاومون الهجمات الصليبية، انقسم المسيحيون الشرقيون إلى فريقين فريق شارك في مقاومة الصليبيين ومن بينهم (الروم الأرثوذكس)، وكانت مقاومتهم تهدف إلى منع الصليبيين الغربيين من فرض هيمنة الكنيسة الغربية (التي قادت تلك الحملات) على الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية.
الفريق الآخر من المسيحيين الشرقيين وقف مع الحملات الصليبية وساندها في مواجهة المسلمين، وأشهر من قام بذلك (الطائفة المارونية) التي هاجرت من أنطاكيا إلى لبنان في القرن السابع الميلادي، وهي طائفة انفصلت عن الكنيسة الشرقية، وأصبحت تدين بالولاء لبابا الفاتيكان..كما وقفت هذه الطائفة في وجه الدولة العثمانية، وكانت باباً للتدخل الفرنسي في لبنان.
وبصفة عامة كانت الطائفية في لبنان ذريعة للتدخلات الأوروبية؛ بحجة حماية الطوائف خلال فترات الصراع العثماني الأوروبي. فقد عملت فرنسا على رعاية الطائفة المارونية، وروسيا على حماية الأرثوذكس والنمسا على حماية الكاثوليك، وبريطانيا على حماية الدروز، بينما بقيت الطائفتان السنية والشيعية تحت رعاية الدولة العثمانية. وكانت فرنسا أكثر الدول الغربية تدخلاً في الشأن اللبناني.
التدخل الفرنسي في لبنان:
جاء في رسالة لويس التاسع ملك فرنسا - سنة 1250م - إلى موارنة لبنان: "إننا موقنون أن هذه الأمة التي قامت تحت اسم القديس مارون، هي جزء من الأمة الفرنسية"..وترسخت الحماية الفرنسية بتعهد لويس الرابع عشر - سنة 1649م - بحماية الكنيسة المارونية وطائفتها، إذ يقول في رده على رسالة من البطريرك – "ليكن معلوماً أننا نضع تحت حمايتنا ورعيتنا بطريرك ورعايا وإكليروس المارونية المسيحية، الذين يعيشون ويعملون في جبل لبنان"..وقد جدد الملوك الفرنسيون اللاحقون هذا التعهد، حتى أصبح – في القرن الثامن عشر الميلادي- تقليداً محدد الأسس، حسب ما جاء في دراسة حول التاريخ اللبناني نشرها موقع (يا بيروت).
وفي سنة1860م نزلت في بيروت قوة فرنسية مكونة من 6 آلاف جندي لحماية الموارنة والمسيحيين من المسلمين، وتبنى المندوب السامي الفرنسي المطالب المارونية..وقد كان الاحتلال الفرنسي، وتوحيد لبنان وفرنسا، مطلباً قومياً مارونياً؛ إذ يخلصهم من السيطرة العثمانية الإسلامية..وفي ظل الدعم الفرنسي استطاع المارونيون تحقيق مكاسب سياسية مهمة جعلتهم الطائفة الأقوى في لبنان سياسياً واقتصادياً وتعليمياً.. ومما ساعد على ذلك مراحل الضعف التي مرت بها الدولة العثمانية؛ فانعكس ذلك سلباً على وضع المسلمين في لبنان.
وفي 31 أغسطس سنة 1920م أعلن المندوب السامي الفرنسي في سوريا ولبنان نشوء دولة لبنان الكبير التي ضمت المنطقة الساحلية ووادي البقاع (ذات الأغلبية المسلمة) إلى منطقة جبل لبنان (ذات الأغلبية المارونية)؛ فتحقق حلم الموازنة القديم الساعي إلى إنشاء دولة مسيحية مستقلة. بالمقابل تلاشت آمال المسلمين الراغبين في دولة عربية موحدة..وأدى إنشاء دولة لبنان الكبير إلى انقسام اجتماعي عميق، عملت فرنسا، من خلاله، على تغذية الطائفية، وبث روح الفرقة بين المسيحيين والمسلمين، سياسة (فرق تسد). كما كانت المناطقية عنصراً آخر، أعاق اندماج السكان المختلفين في بوتقة واحدة: الموارنة في شمالي لبنان ووسطه. والدروز في شرقيه وجنوبيه، في حاصبيّا وراشيّا. والشيعة في صور وجبل عامل وشمالي سهل البقاع ووسطه. والسُّنة في المدن الساحلية الرئيسية وسهل عكار. والروم الأرثوذكس في الكورة وبيروت وطرابلس. والروم الكاثوليك في جنوبي البلاد وزحلة. وتَوزَّعت بيروت (المركز السياسي والاقتصادي للبلاد) على كافة الطوائف بأعداد متساوية.
ثم جاء التدخل البريطاني المنافس للتدخل الفرنسي ليعمق الانقسام اللبناني الداخلي، إذ عمل كل من الاحتلالين على زعزعة مواقف الطرف الآخر في المنطقة العربية..فوقف البريطانيون مع العرب لتشديد شروطهم في اتفاق إنهاء الحرب مع فرنسا. ووقفت فرنسا مع مسيحيي لبنان من أجل تقوية ادعاءاتها في سوريا ولبنان..وامتد التنافس البريطاني الفرنسي إلى تقسيم بلاد الشام بينهما على شكل غنائم بعد انهيار الدولة العثمانية.
وكانت المحصلة خسارة العرب لقضيتهم الرئيسية (فلسطين)، وتعرضهم للغدر البريطاني. كذلك مسيحيو لبنان كانوا من بين الخاسرين نتيجة الدعم الفرنسي الذي تسبب في زيادة العداء بين المسيحيين والمسلمين بل وتعرض الوسط المسيحي اللبناني لحالة من النفور الداخلي جراء العناية الفرنسية الخاصة بطائفة مسيحية واحدة فقط (المارونية)؛ مما دفع بالروم الأرثوذكس إلى عدم إظهار ولائهم الكامل للدولة التي سيطر عليها الموارنة، رغم أن الروم دعموا الموارنة في إقامة دولة مسيحية داخل لبنان، ولم تكتف فرنسا بسلخ مناطق عن سورية، وضمها إلى لبنان - الدولة التي يهيمن عليها المسيحيون- بل عمدت إلى تقسيم سورية نفسها إلى دويلات، على أساس طائفي، وعيّنت عليها حكاماً فرنسيين.
فأنشأت دولة في جبل الدروز، وأخرى في اللاذقية وجبال العلويين، ودولة في لواء الإسكندرونة، وأخرى في الداخل السوري. وقد وجدت السياسة الفرنسية أرضاً خصبة في لبنان، ولاسيما بين زعماء المسيحيين، الذين استماتوا في المطالبة بالانتداب الفرنسي؛ مما أشعر سكان المناطق، التي سلخت عن سورية، وضمت إلى لبنان، بالظلم الذي سيلحق بهم، من جراء تسلط الانتداب الفرنسي، ومحاباته لفئة من أبناء وطنهم.
كذلك لم يترك الفرنسيون مجالاً لزرع الفتن بين الطوائف، إلاّ استغلّوه. فلم يترددوا في سياسة قهر المناطق الإسلامية، وحرمانها أبسط حقوقها الاقتصادية، في مقابل تنمية المناطق والقطاعات، التي تتلاءم مع أهدافهم التجارية، فحصل المسيحيون منها على نصيب الأسد..ولم يقتصر هدف الاستعمار الفرنسي على السيطرة على الاقتصاد، ونهب خيرات البلاد، وتصريف المنتجات فقط، وإنما عمد إلى إعداد بنية اجتماعية، فيها من التناقضات، ما يسمح له بالبقاء فترة طويلة. وجاءت ظروف الانقسام الطائفي، لتشكل لهذا الاستعمار أرضاً خصبة، تمكنه من تعميق التباعد بين الطوائف، على الصعيد، الثقافي والاجتماعي والسياسي. وبذلك تكون الطائفية سبب الاختلاف الاجتماعي ونتيجته..فالنضال ضدها كان يفرض استعمال كل الوسائل لخلق جيل موحَّد، ذي وطنية حقة، وهو ما عملت عكسه الإرساليات والمدارس الأجنبية؛ إذ جعلت الولاء أولاً للطائفة، وليس للوطن، ثمّ لهذه الدولة الاستعمارية أو تلك.
كذلك المؤسسات التعليمية الوطنية الطائفية التي كان معظمها يتلقى المساعدات الأجنبية ويوفَد إليها أساتذة التعليم، وكان تلاميذها يتقدمون لنيل الشهادات الأجنبية، وأغلبيتها الساحقة كانت مسيحية قدرت بنحو 650 مدرسة عام 1900م ؛ وكان التغلغل الثقافي، من طريق الإرساليات، وجهاً من وجوه الاستعمار. أدى إلى إرساء الطائفية وترسيخها في البنية الاجتماعية، حتى أصبحت عقيدة لها أتباع ومدافعون في جمعيات وأحزاب وتنظيمات، بل لها فلاسفة يبررونها، ويعزون إليها وجود لبنان، حسب ما جاء في الدراسة التي نشرها موقع (يا بيروت) بعنوان (التركيبة اللبنانية).
الدور الإسرائيلي في لبنان:
في 29 يوليو 1937م قال رئيس وزراء إسرائيل الأسبق بن جوريون - تعليقاً على لجنة بيل -: "إن إحدى الميزات الأساسية في الخطة الصهيونية، هي أنها تجعل لنا حدوداً مشتركة مع لبنان. فهو الحليف الطبيعي لفلسطين اليهودية. وهو محاط، مثلنا، ببحر إسلامي. وهو، مثلنا، جزيرة حضارية في صحراء بدائية. ولذلك، فلبنان في حاجة إلى دعمنا وصداقتنا، قدر ما نحن في حاجة إلى دعمه وصداقته. وسوف تجد الدولة اليهودية فيه حليفاً وفياً، منذ اليوم الأول لوجودها. ولن يكون مستبعداً أننا سنجد، عبْر لبنان، الفرصة لتوسيع عملنا مع جيراننا".
ولإسرائيل مطامع معروفة في جنوبي لبنان حتى نهر الليطاني تحدث عنها حاييم وايزمان في مؤتمر باريس قبل قرن من الزمان. فضلاً عما كشفته الرسائل المتبادلة بين بن جوريون وموشي شاريت (زعيم صهيوني) وإلياهو ساسون (مسؤول إسرائيلي سابق)، موضحة أن بن جوريون اقترح، عام 1954م، العمل على إنشاء دولة مارونية مستقلة في لبنان، وأن ذلك يخدم مصالح إسرائيل. ولكن موشي شاريت، عارض الفكرة. أمّا ساسون، فأبدى شكوكه في إمكانية تحقيق ذلك.
إذا كان هذا هو الموقف في الماضي، فإن الموقف، قبْل الحرب الأهلية مباشرة، عبرت عنه جريدة (هاآرتس) الإسرائيلية، في يناير عام 1975م، حين رأت أنه يجب على إسرائيل، أن تدرس الوسائل الفاعلة، لدفع نظام الحكم في لبنان إلى العمل على تقليص عمليات "المخربين" من أراضيه. وأوضح تعليق لحاييم هرتسوج، من إذاعة إسرائيل، بعد خمسة أيام، أن هناك شعوراً بأن النشاط العسكري الإسرائيلي في جنوبي لبنان، ليس فاعلاً. ولذلك، كان لا بدّ من البحث عن وسيلة أخرى. ويذكر إسحاق رابين، بعد اندلاع الحرب الأهلية، وكان رئيساً للوزارة الإسرائيلية، "أن الحرب اللبنانية، قد تركت المستعمرات الإسرائيلية على الحدود اللبنانية تحس بالأمان".
وذلك يعني - بحسب الدراسة اللبنانية السابق ذكرها-:
* أن إسرائيل ترى في موقف الموارنة حليفاً طبيعياً، منذ البداية. -* أن نشوء دولة للموارنة في لبنان، هو في مصلحة إسرائيل، التي سعت إلى تحقيقه. -*أن إسرائيل تفهمت جيداً سلبيات تجربة الحكم في لبنان، فأمكنها التعامل معها. -* أن استمرار أزمة لبنان، يحقق لإسرائيل الراحة والأمان من العمل الفدائي. -* أن ما طرحه بيار الجميل، في يناير 1975، على الساحة اللبنانية، هو عينه ما طالبت به إسرائيل.
ودحضت حقائق عدة نفي إسرائيل لأي دعم أو تنسيق، بينها وبين (الجبهة اللبنانية) (تحالف من عدة أحزاب). لعل أولاها الاجتماعات بين قيادة الجبهة وإسرائيل، إثر زيارة شربل القسيس، رئيس الرهبانيات، إلى إسرائيل، في 5 أبريل 1975م، والتي انتهت مساء 13 أبريل، أي بعد ساعات من مذبحة عين الرمانة. ثم متابعة الاجتماعات، من طريق البحر، في إسرائيل، أو في ميناء جونيه، البلدة التي عدتها (الجبهة اللبنانية) عاصمة لها. وقد أعلن عبد الحليم خدام، وزير خارجية سورية آنذاك، أن كميل شمعون (ثاني رئيس للبنان بعد الاستقلال) اتصل بإسرائيل أربع مرات، حتى 10 يناير 1976م، وأن شمعون بيريز - وزير دفاع إسرائيل سابقا - زار جونيه 3 مرات، آخرها كان في 10 أغسطس 1977م، واجتمع خلالها بكميل شمعون.
وكانت أولاها في مايو 1976م، حين تحركت ثلاث سفن صاروخية، من ميناء حيفا إلى جونيه، وكانت إحداها تحمل إسحاق رابين، رئيس وزراء إسرائيل، وشمعون بيريز، وزير الدفاع. وانضم إليها سفينتان، تحمل الأولى كميل شمعون، وكان وزيراً للداخلية. والأخرى تحمل بيار الجميل، ويقودها رجال الضفادع البشرية الإسرائيليين. كما أن الزعيمين رفضا التقاء رابين معاً. وقد طلب كلٌّ منهما التدخل الإسرائيلي المباشر في الحرب الأهلية.
وقدرت المساعدات الإسرائيلية لـ(الجبهة اللبنانية) بما قِيمته 35 مليون دولار، مساعدة مباشرة، ترتفع إلى 100 مليون، بالمساعدات غير المباشرة. ومنها نفقات فرض الحصار على الساحل اللبناني. وضمت قائمة الأسلحة، التي قدمتها إسرائيل إلى الجبهة، 110 دبابات، مع 5 آلاف بندقية آلية، علاوة على 12 ألف بندقية، إضافة إلى الملابس والمأكولات. ودربت إسرائيل في معسكراتها 1500 من متطوعي الجبهة. فضلاً عن أن ضباط إسرائيل كانوا على اتصال هاتفي مباشر مع قوات الجبهة.
وقد بلغ تدفق الأسلحة إلى (الجبهة اللبنانية) حدّاً، أقفل معه ميناء جونيه، في أول يوليو، لأسبوعين، أفرغت - خلالهما - سفينتا شحن إسرائيليتان حمولتهما من الأسلحة؛ إذ لم يقتصر دور السفن الإسرائيلية على شحن الأسلحة الإسرائيلية، بل تعداه إلى شحن أسلحة حلف شمال الأطلسي، المرسلة إلى الموارنة، وشاركتها في الشحن منظمة إيوكا القبرصية. وأكد دين براون، المبعوث الأمريكي إلى لبنان، أن إسرائيل قدمت المساعدات العسكرية إلى (الجبهة اللبنانية)، التي وجّه قادتُها خطاب شكر إلى وزير الدفاع شمعون بيريز، لدعمه قرى الجنوب اللبناني.
يتبع بإذن الله الجزء الثالث من التحليل

المصدر : http://www.awda-dawa.com/pages.php?ID=12419
إسم الموقع : مآساتنا و الحل عودة و دعوة
رابط الموقع : www.awda-dawa.com
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 08-04-2009, 11:20 PM
أبو أنس الأنصاري أبو أنس الأنصاري غير متواجد حالياً
II كَانَ اللهُ لَهُ II
 




افتراضي عقيدة الغرب في تفتيت العالم الإسلامي – تحليل (الجزء الثالث)


عقيدة الغرب في تفتيت العالم الإسلامي – تحليل (الجزء الثالث)

أحمد الشجاع - عودة ودعوة

تقسيم العراق:


ذكر الباحث النرويجي ريدار فيسير – في ورقة علمية نشرتها مجلة (المستقبل بالعربي) العدد 347- أن دعوات إلى (تقسيم هادئ) للعراق تصاعدت في دوائر أمريكية، ويقوم التقسيم على مستوى إثني- طائفي..وتساءل الباحث: بأي حق يفرض سياسيون أجانب الحدود الإدارية الداخلية لبلد ذي سيادة؟. ثم هناك مسألة التطبيق العملي: ما هي فرص أن يثبت تقسيم (هادئ) في العراق أنه أقل عنفاً من تقسيم الهند سنة 1947م..كما أن هناك تحذيرات من خبراء بالعلاقات الدولية، إذ يرى كثير منهم تقسيم العراق بمثابة الخطوة الأولى في تأجيج العنف على نطاق أوسع بحيث يربك كل دولة مجاورة على امتداد حدود العراق..والمشكلة العراقية هي أن لها امتدادات تاريخية، يحاول البعض استدعاءها لصناعة عراق ممزق..وعلى امتداد التاريخ الإسلامي كان العراق مقسم إلى ولايات إسلامية كالبصرة والكوفة وبغداد.
ولكنها تقسيمات إدارية في ظل دولة إسلامية كاملة. ومنذ الدولة الإسلامية الأولى وحتى الدولة العثمانية كان الوضع – في الغالب – قائماً على هذا الأساس، ولم يكن في ذلك مشكلة، خاصة إذا وجد نظام قادر على إدارة شئون كافة أجزاء الدولة بالشكل الصحيح..وقد ذكر الباحث ريدار أن حالات التمرد التي قامت بها بعض الولايات العراقية ضد الدول الإسلامية الحاكمة كانت بمجملها أسرية أو قبلية، ولم تكن طائفية ومضمون كلام الباحث أن أسباب حالات التمرد كانت إما احتجاجية على أوضاع معينة أو رغبة في الانفصال وحباً للزعامة وإقامة دولة مستقلة.
وأشار الباحث – مستدركاً- إلى وجود بعض حالات التمرد الطائفي، لكنها كانت الاستثناء للقاعدة بشكل واضح، وقليلة جداً كالذي حصل في الحملة القرن الحادي عشر وأوائل القرن الثاني عشر الميلادي، عندما قامت قبيلة بني أسد بمحاولة إقامة دولة شيعية، ومع هذا كان لهم ولاء مبدئي للحكم في بغداد، كما أنهم لم يأتوا بنظرية سياسية شيعية محددة تمدهم بشرعية لإقامة دولة انفصالية، وفوق ذلك قامت قبائل شيعية منافسة بإخراج بني أسد من العراق الأوسط. وقد عرف العراق منذ ثلاثينات القرن العاشر الميلادي بعض حالات الصراع الطائفي الشيعي السني.
الاحتلال والطائفية:
بصفة عامة تقول الباحثة نيفين مسعد – في (المستقبل العربي - العدد 364)- إن التدخل الدولي يلعب – من الناحية التاريخية- دوراً تكوينياً في توجيه التفاعلات السياسية، ومنها العلاقات الإثنية (دينية ومذهبية وعرقية) في الوطن العربي..وهو دور يتجاوز نظيره في أي منطقة أخرى في العالم؛ بسبب الموقع الإستراتيجي والنفط وإسرائيل، فقد دعم البريطانيون تأسيس دولة آشورية شمال العراق، وأخرى درزية في لبنان بعد الحرب العالمية الأولى، وكرسوا انفصال جنوب السودان كما أن فرنسا قربت بين أمازيغ المغرب وأقباط مصر، وأدت دورها المتصل في رعاية موارنة لبنان، بدءاً من مذابح دير القمر مع الدروز سنة 1860م وصولاً إلى أزمة انتخابات الرئاسة سنة 2007م.
وكذلك كان الدور الفرنسي – البريطاني المشترك في هندسة الحدود العربية وفق اتفاقيات سايكس – بيكو، والدور الروسي وعلاقته بطائفة الروم الأرثوذكس..والدور الأمريكي في تزعم حملة حماية الأقليات، والتدخلات الأمريكية التي لا تتوقف في لبنان والصومال ومصر والسودان والعراق، ومعاييرها المزدوجة في التعامل مع أكراد العراق وأكراد تركيا. وتنسيقها مع القوى الإقليمية (تركيا، وإيران، وإثيوبيا) بدرجات متفاوتة، ومع الجماعات الإثنية في المهجر، وأثر ذلك كله في تشكيل الخرائط الإثنية في الداخل العربي.
الاحتلال والعراق:
سياسة الاحتلال الأمريكي في العراق لا تخرج عن سياسة التدخلات الدولية في العالم الإسلامي، فكلها تتفق في إنتاج الكوارث، وإن اختلفت في مواصفات كل كارثة..وكما يقول الأستاذ في كلية الإعلام بجامعة بغداد (ياس خضير البياتي) - (المستقبل العربي - العدد 345)- فإن الاحتلال الأمريكي حاول تكريس مبدأ سياسة الفوضى البناءة والطائفية والعرقية.
ولم تكن هذه الأعوام – في الرؤية الأمريكية- أعوام البناء والإعمار والديمقراطية وحقوق الإنسان (التي يروج لها الأمريكيون)، وإنما كانت أعواماً مليئة بالتناقضات السياسية والمجازر الوحشية وإشعال فتيل الحرب الطائفية – والعرقية والقومية وتكريسها، وتدمير البنية التحتية للدولة العراقية.. وافتعال الأزمات تمرير المخططات، وتعميق ظاهرة الانفلات الأمني، وفقدان الأمان النفسي والاجتماعي، وانتشار البطالة والفقر..ولم يكن احتلال العراق – والكلام للبياتي – بمعزل عن نظريات المحتل وأفكاره التي عمرها أكثر من نصف قرن، وهو الزمن الأول لبلورة فكرة احتلال العراق منذ السبعينات، واجتياحه وتقسيمه طائفياً وقومياً عبر سيناريوهات لأكثر من سياسي أمريكي، فكانت نظريات كيسنجر وبريجنسكي تتجه إلى ضرورة تفتيت العراق من الداخل عبر فكرة ضرب التوجه القومي بتوجه طائفي، وافتعال الأزمات الدينية والقومية وتطويق العراق وعزله عن بيئته العربية وإضعافه بحروب الجيران وإطالة أمد الحصار.
وبالفعل جاءت المخططات والنظريات – التي أشار إليها البياتي – ليترجمها الواقع في سياقه العملي، وقد مهد الأمريكيون الطريق إلى ذلك منذ سنوات طويلة ، فقد دعموا العراق وغيران في حربهما التي استمرت ثمان سنوات وخرج البلدان ضعيفان مرهقان، ثم دفعوا بالعراق – بصورة غير مباشرة- إلى احتلال الكويت، فخرج العراق أكثر ضعفاً، تلا ذلك حصار وتجويع أقعده، ثم جاء قاسمة الظهر باحتلاله سنة 2003م بعد موجة واسعة من الأكاذيب والبهتان ضد العراق..ثم .. بدأت عمليات تقطيع الأوصال وإثارة النعرات الطائفية، وهي أشد النعرات خطورة على أي مجتمع.
خطوات التقسيم الطائفي:
من بين خطوات تقسيم العراق طائفياً – كما جاء في تقرير (مركز النخبة للدراسات) نشر في إسلام أون لاين-:
• حلّ مؤسسات الدولة العراقية وخصوصا العسكرية والأمنية بحجة ارتباطها بالنظام السابق، وهو الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه بشأن إعادة تركيب الدولة العراقية على أسس طائفية.
• سعي الحاكم المدني في العراق بول بريمر، بعد حل مؤسسات الدولة إلى بناء نظام سياسي على أساس طائفي بحت، فكان قانون إدارة الدولة الذي قسم العراق، ليس إلى ثلاثة أقاليم فقط، وإنما أعطى الحق لكل محافظة بالاستقلال تحت يافطة الفيدرالية أو الحكم اللامركزي.
• تثبيت نظم المحاصصة الطائفية ليس فقط على مستوى النظام السياسي وتشكيل مؤسسات الدولة بل أيضا على مستوى توزيع الثروات الاقتصادية، وتمثل ذلك في قانون النفط الذي سعى الاحتلال عبر إقراره من قبل البرلمان العراقي.
• تعزيز عملية الاستقطاب بأشكالها المختلفة: طائفياً وإثنياً بالتركيز على دفع الكتلة السكانية العراقية إلى التخلي عن تمركزها الوطني والقومي العربي، والتوجه نحو التجمع والتمركز ضمن 3 كتل فرعية، هي: الشيعة، السنة، الأكراد. وسياسيا بتدعيم عملية تسييس الكيانات الطائفية والإثنية العراقية، وذلك عن طريق دعم تكوين وتعزيز قوة الأحزاب الطائفية.
وكشف تقرير لصحيفة نيويورك تايمز - نشر في 2007م- عن تنامي اهتمام إدارة الرئيس بوش بخطط تقسيم العراق، خاصة الخطة التي وضعها السيناتور الديمقراطي جوزيف بايدن (حاليا هو نائب الرئيس الأمريكي باراك أوباما)، والتي تتحدث عن تقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات: سني وشيعي وكردي، تحت مظلة حكومة مركزية واحدة، لكن ضعيفة..وأشار التقرير إلى أن مسئولا أمريكيا في إدارة بوش أكد أن الإدارة أصبحت "قريبة من خطة بايدن"، في وقت نُسب فيه التقرير إلى محلل سياسي قوله: "إن الإدارة أعطت إشارات إيجابية بشأن هذه الخطة".
وكشف تقرير الصحيفة الأمريكية عن زيارة السناتور بايدن إلى نيويورك للتباحث في هذا الشأن مع أعضاء دائمين في مجلس الأمن الدولي الذين أبدوا استجابة جيدة للخطة..وشدّد التقرير على أن خطة تقسيم العراق إلى 3 أجزاء بمظلة حكومة مركزية غير فاعلة يحظى بتأييد متزايد وصريح من خبراء الشرق الأوسط الذين يؤشرون فشل السنة والشيعة في تحقيق المصالحة الوطنية فضلا عن التطهير الطائفي الذي يشهده العراق..ولفت إلى أنه بموجب هذه الخطة سيتشكل كيان للسنة غرب العراق، وثان للشيعة في الجنوب، فضلا عن إقليم كردستان في الشمال، مشيرا إلى أن مدن بغداد وكركوك والموصل ذات التنوع الديموغرافي شهدت تطهيرا جعلها مؤهلة بدورها لأن تنخرط في هذه الكيانات.
مراكز البحوث تروج للتقسيم:
وكانت هناك دراسة أصدرها مركز (سابن) بمعهد (بروكينجز للدراسات السياسية والإستراتيجية) في واشنطن، وأعدها جوزيف إدوار، وشاركه في إعدادها مايكل هانلون الباحث المتخصص في شئون الأمن القومي الأمريكي بالمعهد، حملت عنوان (حالة التقسيم السهل للعراق)، وحاولت الإجابة عن العديد من الأسئلة حول مدى إمكانية تطبيق الفيدرالية في العراق ونسبة النجاح مقارنة بالوضع الحالي، إلى جانب الصعوبات التي ستواجه الأطراف المختلفة إذا تم تطبيق هذا الخيار الذي أطلقت عليه الدراسة (الخطة ب).
وتقول الدراسة إن الواقع الحالي في العراق يجعل التقسيم أفضل الخيارات المتاحة، كما أن التجربة أثبتت عدم صحة المبدأ القائل إن العراقيين يريدون العيش معا داخل دولة واحدة ذات حكومة مركزية، حيث صوّت العراقيون في الانتخابات في السنوات الأخيرة وفقا لمصالح الطوائف التي يدينون لها بالولاء، إلى جانب أن العنف الطائفي كشف أن العراقيين يشعرون بالأمان حين يعيشون في منطقة معظم سكانها من نفس الطائفة، وهذا ما ظهر بوضوح خلال حركات النزوح التي قام بها آلاف العراقيين هربا من العنف.
وتقترح الدراسة بناء اثنين أو أكثر من المناطق المتمتعة بالحكم الذاتي، بالتوازي مع منطقة الحكم الذاتي الكردية في الجزء الشمالي من البلاد، واحدة للمسلمين السنة والثانية للشيعة..وبعبارات أخرى، فإن العراق سيصبح فيدرالية أو كونفدرالية يحكم بشكل غير محكم من بغداد حيث تتولّى السلطة المركزية مراقبة مسائل مثل الدفاع الوطني والمشاركة العادلة لعائدات النفط بين المناطق الثلاث، تاركة للحكومات المحلية إدارة باقي المسائل.
ويقترح أوهانلون حلاّ من 7 خطوات للمساعدة على جعل المرحلة الانتقالية سلمية:
1- احتفاظ الولايات المتحدة بنحو 150 ألفا من جنودها في المستقبل القريب، ومن بعدها خفض هذا العدد إلى ما بين 50 ألفا و75 ألفا، يجب أن تبقى في العراق لسنوات عديدة مقبلة. 2- السعي لرسم حدود للمناطق وأين يجب رسم هذه الحدود. 3- وضع خطط لحماية المواطنين العراقيين أثناء قيامهم بعملية التموضع والانتقال بين المناطق. 4- وضع خطط لمساعدة العراقيين على أن يبدءوا حياتهم الجديدة بعدما يقومون بإعادة التموضع. 5- وضع خطط لكيفية تقسيم عائدات النفط. 6- العمل على إصدار بطاقات هوية للعراقيين تجعل من الصعب على إرهابيي القاعدة العمل في غرب بغداد للتسلل إلى الأحياء الشيعية المجاورة. 7- إعادة بناء المؤسسات.
ويمكن وصف تلك الخطوات بأنها (مرحلة الإنتاج) لتأتي بعدها (مرحلة الاستغلال)، وهي مرحلة لا زالت مستمرة إلى الآن، ومظاهر هذه المرحلة تتمثل في زيادة الصراع الطائفي في النواحي العقدية والسياسية والأمنية، بحيث إذا هدأ الصراع في جانب من الجوانب يبقى مشتعلاً في جانب آخر على الأقل؛ ليصل الأمر إلى نتيجة مفادها أن الحل هو تقسيم البلاد وعزل الطوائف عن بعضها في دويلات أو كيانات منفصلة.
والاقتتال الطائفي في ظل الاحتلال يعد الأسوأ في تاريخ العراق؛ وبالتالي فالاحتلال الأمريكي هو المتهم الأول في هذه الحوادث؛ كونه المسيطر على مفاصل الدولة السياسية والعسكرية والأمنية والاستخباراتية، طبعاً بالاشتراك مع أطراف دولية وإقليمية متغلغلة داخل المجتمع العراقي..ولا يمكن استبعاد حوادث تفجيرات المزارات الشيعية والمساجد السنية والكنائس المسيحية من دائرة مسئولية الاحتلال فهو المستفيد الأول من هذه الحوادث التي تتلاءم مع أهدافه وخططه على الأقل الظاهرة فما بالك بالأهداف والخطط المستورة.
ولن تغرنا التصريحات والأقوال الأمريكية الرسمية حول المصالحة العراقية والاستقرار الأمني، فهي تخالف الواقع المشاهد. ورغم تراجع الاقتتال الطائفي والتحسن الأمني، لكنه في الجانب السياسي والعقدي لا زال الوضع على حاله مشتعلاً..ولن تستقر الأمور وتهدأ تماماً إلا إذا شمل الاستقرار كافة جوانب الصراع، وكف الأجنبي عن تدخلاته، وكف المتصارعون عن الاستعانة بالخارج..ولا شك أن تقسيم العراق طائفياً وعرقياً لن يحل مشكلة الصراع الداخلي بل سيزيده تعقيداً؛ لأسباب منها:
إن الانقسام سيضعف كل الكيانات؛ مما يجعلها دائماً مستعينة بالخارج ومحتاجة إليه، ومن مصلحة الأطراف الخارجية أن تظل هذه الكيانات ضعيفة لممارسة النفوذ، إضافة إلى أن الأطراف الخارجية لن تكون دائماً على وفاق؛ فينعكس التنافس الخارجي على الوضع الداخلي..أيضاً المصالح التي تغري البعض للمطالبة بالانفصال أو الاستقلال قد تكون مصدراً آخر للصراع، كما هو حاصل على نفط الشمال والجنوب، إلى جانب أن البعض الآخر سيتضرر، وهذا سيكون عامل توتر آخر..أيضاً لم يعد الصراع محصوراً بين الطوائف، بل أصبح موجوداً – إلى حد كبير- داخل كل طائفة..فهناك صراع شيعي/ شيعي حول هوية التشيع العراقي (عربي أو فارسي)، وخلاف حول الموقف من الاحتلال، وصراع على المصالح، وصراع على الزعامات أيضاً.
وداخل الطائفة السنية زرع الاحتلالُ بؤراً للصراع الداخلي، تمثلت في مجالس الصحوة التي أنشأها الأمريكيون بحجة محاربة تنظيم القاعدة. وتحولت هذه المجالس إلى مصدر للقلق بين العشائر السنية، إضافة إلى النزاع بين هذه المجالس والحكومة حول التوظيف والتجنيد، وقد انعكس هذا النزاع سلباً على سُنة العراق، وهذا ما حصل قبل أشهر عندما شنت الحكومة العراقية (الطائفية) حملة عسكرية دموية ضد مساكن عراقيين سُنة بحجة البحث عن عناصر متمردة في مجالس الصحوة..أما الأكراد في الشمال فتاريخهم مشحون بالصراع الداخلي وإلى عهد قريب جداً، وأساس الصراعات التنافس على النفوذ والموارد..إضافة إلى أن تركيا لن تسمح بوجود دولة كردية بجوارها، وهي على استعداد لأن تكتسح كردستان العراق بمجرد إعلان دولة كردية مستقلة حسب قول محمد حسنين هيكل في إحدى حواراته مع قناة الجزيرة.
تفتيت باكستان:


عندما ظهرت باكستان للوجود في عام 1947م عقب استقلال شبه الجزيرة الهندية عن الحكم البريطاني وتقسيمها إلي دولتين: الأولى هي الهند وتضم سكان شبه الجزيرة من الهندوس، والثانية باكستان التي تضم سكانها من المسلمين والبالغ عددهم في ذلك الوقت 76 مليون نسمة..ولم تكن أراضي باكستان متصلة جغرافيا عند نشأتها ولكنها كانت مقسمة إلى إقليمين: هما باكستان الشرقية - وغالبية سكانها من المسلمين البنغال - وباكستان الغربية التي تضم خليطا من الأعراق والقبائل المختلفة، مثل الباشتون والبلوش والبنجابيين المسلمين، ويفصل بين الإقليمين مساحة تمتد إلى 1500 كم من الأراضي الهندية.
وفي عام 1971 تآمرت الهند مع مجيب الرحمن زعيم باكستان الشرقية للقيام بحرب انفصالية عن باكستان الأم، كانت نتيجتها ظهور دولة بنجلاديش مقتطعة مساحة نسبتها 14.9% من إجمالي مساحة باكستان الأصلية، في حين احتفظت دولة باكستان الحالية بـ85.1 % من المساحة الأصلية بمساحة إجمالية قدرها 997 ألف كم2..وفي حين كانت باكستان الشرقية - بنجلاديش حاليا - متحدة عرقيا، حيث كان البنغال يمثلون 98.4 % من إجمالي سكانها، فإن باكستان الحالية ضمت خمس مجموعات عرقية شكلت تداخلا واسعا بين باكستان والدول المحيطة بها، إذ مثل البنجاب 26.2 % من إجمالي سكان باكستان قبل الانفصال وفقا لإحصاء عام 1961م، ومثل الباشتون 6.8%ن والسند 5%، أما الأُرديون فقد مثلوا 3.3%، فضلا عن مجموعة من الأقليات العرقية المختلفة مثل الهندوس والسيخ والتاميل يمثلون 2%.
ولعل أهم ما يميز التركيبة العرقية والقبلية في باكستان هو ذلك التمايز الجغرافي الذي تتصف به هذه المجموعات، حيث تتمركز كل مجموعة عرقية في إقليم خاص بها، ففي إقليم البنجاب يمثل العرق البنجابي حوالي 95% من سكانه، ويمثل الباشتون 90% من سكان شمال غرب باكستان، بينما يمثل متحدثو لغة السند ما بين 95-97% من سكان إقليم السند..هذا الخليط من القوميات العرقية يهدد - بسبب التدخلات الأجنبية - وحدة الدولة الباكستانية، وقد قال الكاتب الأمريكي سليغ هاريسون إن الضغوط الأمريكية للقيام بعمل عسكري حيال طالبان وحلفائها من (القاعدة) تزيد من تفاقم هذا المزيج.
وتاريخياً كانت التدخلات الأجنبية سبباً رئيسياً في تقسيم قبائل تلك المناطق، فقد كانت قبائل الباشتون - قبل الاحتلال الإنجليزي - تعيش في إقليم جغرافي متصل يمتد داخل أفغانستان والهند، وكانوا موحدين سياسياً، وكان ملوك الباشتون هم من أسسوا أفغانستان، وبسطوا نفوذ حكمهم على نطاق 40 ألف ميل مربع.. إلى أن قام الإنجليز باستئجار هذا الإقليم من حكومة كابول عام 1893م لمدة 100 عام في أعقاب احتلالهم شبه القارة الهندية، إذ قاموا بابتداع ما يعرف بخط (ديوراند)، الذي ضم أجزاءً من الأراضي الأفغانية ومن ثم سلموه إلى باكستان؛ مما أدى إلى تقسيم الباشتون - العرقية الأولى في المجتمع الأفغاني- بين البلدين. ولكن هذا الخط لم تقبل به أفغانستان مطلقاً، فمنذ ذلك الحين، وعلى فترات متنوعة، عارضت الحكومات الأفغانية أحقية باكستان في بسط نفوذها وحكم مناطق الباشتون.
حتى طالبان - أثناء حكمها - رفضت الاعتراف بخط (ديوراند) الحدودي على الرغم من ضغوط إسلام آباد. كما رفض الرئيس الأفغاني الحالي حميد كرزاي الاعتراف به أيضا، ووصفه بأنه "خط الكراهية الذي يضع حاجزاً بين الأشقاء"، على حد قول الكاتب الأمريكي سليغ هاريسون في صحيفة (الشرق الأوسط) 6/6/2009م..وتشهد منطقة القبائل حاليا في شمال غرب باكستان دعوة قومية من جانب الباشتون - تقودها الحركة القومية الباشتونية - تطالب بإقامة (باشتونستان الكبرى) بحيث تضم كل الباشتونيين الموجودين في المنطقة بأسرها.
ومما يدفع الباشتون إلى تبني هذه النزعة هو الحرب التي يشنها الجيش الباكستاني حالياً على طالبان؛ والسبب هو أن الجيش الباكستاني يتألف من البنجابيين، فيما تتألف طالبان كلية من الباشتون، وعلى مدار قرون طويلة، حارب الباشتون القاطنين بالمناطق الحدودية الجبلية بين باكستان وأفغانستان، لإسقاط وطرد الغزاة من سكان السهول البنجابية. ومن ثم، فإن إرسال الجنود البنجابيين إلى إقليم الباشتون لمحاربة الجهاديين، يدفع البلاد كاملة إلى شفير الحرب الأهلية العرقية، كما سيقوي من عاطفة الباشتون لتكوين دولة باشتونستان مستقلة لهم، ومن شأن حدوث ذلك تأسيس دولة تضم 41 مليون نسمة، على امتداد رقعة كبيرة من الأرض في باكستان وأفغانستان.
والشيء الوحيد الذي يوحد الباكستانيين هو الإسلام، حيث يعتبر الباكستانيون أن الدين الإسلامي هو المقوم الأساسي الجامع للأمة الباكستانية؛ إذ نظرا للتنوع العرقي واللغوي الكبير للشعب الباكستاني، فإنه لم يتبق له أي رابط مشترك ومجمع سوى الدين الإسلامي.. إلا أن الاختلافات العرقية والمذهبية في باكستان - التي يبلغ عدد سكانها 156 مليون نسمة - ظلت رغم ذلك عاملا مؤثرا في علاقاتها بالدول المجاورة، لاسيما الهند وأفغانستان وإيران، بحسب موقع (مفكرة الإسلام). ففي حين تسيطر الأغلبية السنية علي الحكم في باكستان فإن الشيعة الباكستانيين لا يكفون عن افتعال المواجهات مع السنة عامة، وفي إقليم البنجاب بصفة خاصة، وذلك بدعم من إيران الجارة الشيعية لباكستان، بينما السيخ الذين يمثلون أقلية ضئيلة لهم امتدادهم في ولاية البنجاب الهندية التي تسكنها أغلبية من السيخ، ويعدون أحد العوامل المغذية للتوتر المستمر بين الهند وباكستان؛ نظراً لدعمهم المستمر للحركات الانفصالية لطائفة السيخ بولاية البنجاب الهندية.
الرؤية الأمريكية:
تحدثت كثيراً مراكز البحوث الأمريكية عن الوضع الباكستان ومستقبل الدولة التي يتهددها التقسيم. ومن ذلك التقرير الذي أصدرته مؤسسة (راند للأبحاث)- المعروفة بارتباطاتها القوية بالمؤسسات العسكرية الأمريكية - في 14 أغسطس 1999م ذكرت فيه أن باكستان الإسلامية سيسودها الانفلات الأمني والقلاقل المختلفة مع حلول عام 2010م. تحديد هذا التاريخ يثير التساؤلات والشكوك حول ما يحدث حالياً في وادي سوات من موجهات عنيفة بين الجيش الباكستاني وطالبان بفعل الضغوط الأمريكية والهندية الممارسة على الحكومة الباكستانية.
وحسب التقرير فإنه بعد عام 2010م، تتحول باكستان إلى دولة تتناحر فيها الجماعات العرقية والدينية والطائفية وتسود فيها النعرة العرقية، وتؤدي إلى تفكيكها إلى إمارات صغيرة في كل من السند وسرحد وبلوشستان والبنجاب وستحولها هذه الصراعات إلى دولة فاشلة، وسينتهي حلم باكستان بإبقائها دولة موحدة في عام 2020م حسب التقرير الأمريكي، وبذلك يكون هذا التاريخ هو نهايتها وتغيب دولة باكستان عن خريطة العالم، لتتحول إلى دويلات صغيرة منها: دولة السند ودولة البشتون، ودولة بلوشستان..وقريب مما جاء في تقرير راند أصدرت مؤسسة (ريجان للدراسات) - القريبة من التيار الصهيوني - تقريرًا في عام 2007م تحدثت فيه عن أن باكستان مهددة بالقلاقل الأمنية بعد عام 2010م. وأن الصراعات الطائفية والعرقية ستنخرها في الأعوام القادمة، وتجعل الداخل مهددًا..وحسب هذا التقرير الأمريكي فإنه بعد عام 2010م تتحول باكستان إلى دولة تتناحر فيها الجماعات العرقية والدينية والطائفية، وتسود فيها النعرة العرقية وتؤدي إلى تفكيكها بين جماعات سندية وبشتونية وبلوشستانية وبنجابية وستهددها كدولة وأمة.
أفغانستان وخطر التقسيم:


وعلى خطى باكستان تهدد أفغانستان مخاطر التقسيم العرقي؛ كونها أيضاً تضم مجموعة من العرقيات (البشتون - الطاجيك - الأوزبك - الهزارة، وغيرها). وفي ظل عدم وجود دولة قائمة وقوية، تبقى نزعات الانفصال العرقي خطراً على البلاد، يضاف إلى ذلك وجود الاحتلال الأجنبي الذي اعتاد على إضعاف أي بلد محتل بتدميره وزرع بذور الصراع الداخلي..يقول الباحث في مؤسسة راند الأمريكية جراهام فولر - في مقالة للجزيرة نت - إن أحداث السنوات العشرين الأخيرة تهدد أفغانستان بخطر التقسيم بين المجموعات العرقية المختلفة، ويدعم هذا الاتجاه عدة أمور، من بينها:
* كل جماعة من المجاهدين كانت خلال الحرب الأهلية تستمد تنظيمها بشكل رئيسي من مجموعة عرقية معينة.
* على مدى أكثر من عشرين عاما، لم تكن هناك حكومة مركزية مقبولة تمثل جميع الأفغان.
* كانت أفغانستان مفصولة عن شعوب آسيا الوسطى خلال حكم الشيوعيين وفترة (الستار الحديدي)، لكن انهيار الاتحاد السوفياتي أوجد دولاً عرقية جديدة شمالي أفغانستان من بينها أوزبكستان وطاجيكستان وتركمانستان. وربما يفضل الأوزبك والطاجيك والتركمان في أفغانستان الاتحاد في نهاية المطاف مع تلك الدول في الشمال إذا لم يكن هناك نظام في أفغانستان يحميهم ويدعم مصالحهم.
* عودة تحالف الشمال إلى كابل الآن يقوي مرة أخرى غير البشتون على البشتون.
* كل دولة حول أفغانستان لها أتباعها الخاصون بها من الأفغان: أوزبكستان وطاجيكستان وتركمانستان، وإيران (تدعم الشيعة الهزارة) وباكستان (تدعم البشتون).
ولكن الشيء الذي لم يذكره الباحث الأمريكي هو أن الاحتلال الغربي لأفغانستان ساهم في تعزيز النزعة العرقية، فالدعم الغربي لتحالف الشمال ضد طالبان عسكرياً وسياسياً لا شك أنه سيساهم في زيادة حدة الخصومية بين البشتون وقبائل الشمال؛ مما يدفع البلاد إلى حروب عرقية ما لم توجد دولة توفر تضمن الحقوق العادلة للجميع، وهذا لن يحدث قطعاً في ظل الاحتلال القائم.
التدخلات الأجنبية في إندونيسيا:


يقول مدير معهد البحوث والدراسات الآسيوية في كلية العلوم السياسية (جامعة القاهرة) الدكتور محمد السيد سليم - في دراسة للجزيرة نت - تعتبر إندونيسيا من أوائل البلاد الإسلامية التي تعرضت لتدخلات القوى الاستعمارية، مما خلفت آثاراً مهمة على السياسة الإندونيسية المعاصرة تمثلت في الطابع التقليدي للسياسة والحكم وتهميش دور الإسلام في النظام السياسي لجاكرتا.
وبعد الاستقلال دخلت إندونيسيا معترك السياسة الدولية، وتأثرت حركتها السياسية الداخلية بأنماط التدخلات الأجنبية. فبعد انتهاء الحرب الباردة سنة 1991 عادت التدخلات الأجنبية لتطرح آثارها بشدة على إندونيسيا، ويتمثل ذلك في الأزمة المالية الإندونيسية، وأزمة انفصال تيمور الشرقية، وتفاقم الصراع الإسلامي المسيحي في إندونيسيا، ودور البعثات التبشيرية في إذكاء الصراع الطائفي في تلك الدولة.
فقد بدأ التدخل الأجنبي في إندونيسيا أوائل القرن السادس عشر؛ نظراً لثراء بعض الجزر الإندونيسية وهي جزر الملوك (أو جزر التوابل)، ورغبة الدول الأوروبية في الحصول على تلك الموارد. وقد تمركز البرتغاليون منذ سنة 1516م في منطقة ملقا على الساحل الغربي لشبه جزيرة الملايا، ومن هذا الموقع حاولوا السيطرة على مناطق إنتاج التوابل في الجزر الإندونيسية. ونتيجة للتدخل البرتغالي ظهرت مجموعة من الإمارات الإسلامية (حيث إن الإسلام كان قد انتشر في الجزر الإندونيسية مع نهاية القرن الثالث عشر) حاولت الرد على هذا التدخل ونجحت في ذلك.
وفي أوائل القرن السابع عشر ظهر الهولنديون على المسرح في الجزر الإندونيسية في إطار شركة الهند الشرقية الهولندية التي تأسست سنة 1602م.. ومن خلال استعمال القوة المسلحة والتحالفات مع القيادات المحلية استطاع الهولنديون أن يمدوا نطاق الهيمنة الهولندية؛ مما أدى إلى منع الإمارات الإسلامية الإندونيسية من الاشتغال بالتجارة الدولية للتوابل، واستطاعت الشركة الهولندية أن تحتكر تجارة التوابل حيث سمحت بزراعة التوابل في جزر آمبون وباندا وحظرتها في الجزر الأخرى. كذلك أدخلت الشركة نظام التوريد الإجباري للمحاصيل، ولتحقيق ذلك شجعت الهجرة الصينية إلى الجزر الإندونيسية، إذ تعاون معها التجار الصينيون. ويعد ذلك بداية وجود الأقلية الصينية في إندونيسيا التي أصبحت فيما بعد إحدى القوى الاقتصادية المحورية في إندونيسيا، وأداة من أدوات التدخل الأجنبي في الشأن الإندونيسي.
من ناحية أخرى أدى التدخل الهولندي في شؤون إمارة ماترام الإسلامية في وسط جاوا إلى تقسيم تلك الإمارة سنة 1755م إلى قسمين سوراكرتا ويوجياكرتا. ومع تدهور شركة الهند الشرقية الهولندية وإفلاسها في نهاية القرن الثامن عشر، ثم حل الشركة سنة 1799م واستيلاء الحكومة الهولندية على أملاكها في الجزر الإندونيسية، تم تدشين التدخل الهولندي الصريح..وفي سنة 1927م كون بعض الزعماء الإندونيسيين مثل أحمد سوكارنو، ومحمد حتي (الحزب القومي الإندونيسي)، وقد طالب الحزب لأول مرة بالاستقلال الكامل عن هولندا.
وإبان الحرب العالمية الثانية أصبحت إندونيسيا مسرحا للتنافس الاستراتيجي بين القوى المتحاربة، ففي عام 1942م احتلت اليابان الجزر الإندونيسية. وقد أسهم الاحتلال الياباني في تقوية الحركة القومية الإندونيسية، إذ إن اليابانيين أعطوا سوكارنو قدراً من الحرية السياسية في محاولة منهم لاجتذاب ولاء الإندونيسيين. كذلك أنشأ اليابانيون مليشيات إندونيسية مدربة عسكرياً في جاوا وبالي وسومطره لمساعدتهم في مواجهة احتمالات هجوم الحلفاء على إندونيسيا. وقد أصبحت تلك المليشيات نواة الحركة القومية الإندونيسية المسلحة بعد الحرب. كذلك أقام اليابانيون نظاماً للحكم الذاتي..وفي 17 أغسطس سنة 1945 أي بعد يومين من استسلام اليابان أعلن سوكارنو وحتي استقلال إندونيسيا وأصبح الأول رئيسا للجمهورية والثاني نائباً له.
رغم طول فترة التدخل الأجنبي في إندونيسيا فإنها ظلت تقريبا تحت حكم دولة واحدة هي هولندا، مما أنشأ روابط قوية بينهما ما زالت مستمرة حتى اليوم. فلم تتعرض إندونيسيا لصراعات القوى الأجنبية حولها باستثناء فترة الاحتلال الياباني أثناء الحرب العالمية الثانية.
من ناحية أخرى فقد أدى الاحتلال الهولندي إلى تحويل المسلمين في إندونيسيا إلى مواطنين من الدرجة الثالثة في السلم الاجتماعي، حيث احتل الأوروبيون المرتبة الأولى، ومثل الصينيون المرتبة الثانية. وأصبح من يمثلون الدرجتين الأولى والثانية هم صلب النخبة الإندونيسية، واستمر هؤلاء يشكلون نواة النخبة الحاكمة حتى بعد الاستقلال. وفي هذا الإطار جرى الترويج لفكرة أن وحدة إندونيسيا تستند إلى تهميش دور الدين الإسلامي. ولذلك فإن الدستور الإندونيسي الصادر بعد الاستقلال والذي مازال قائما لا يشير إلى الإسلام من قريب أو بعيد، وإنما يشير إلى أن إندونيسيا تقوم على مبادئ البانجاسيلا وهي مبادئ خمسة (الربانية، الإنسانية، والوحدة، والعدالة، والشورى).
وفي ظل الاحتلال الهولندي بدأت عمليات التنصير المسيحي بين المسلمين، واستمرت تلك العمليات حتى بعد الاستقلال. وذهبت إلى حد محاولة تنصير أول وزير إندونيسي للشؤون الدينية بعد الاستقلال وهو محمد رشيد. ويمكن أن نلمس هنا جذور العلاقات العدائية بين المسلمين والمسيحيين في إندونيسيا حيث يشكل المسلمون 88% على الأقل من السكان.. وابتداء من سنة 1997 بدأت إندونيسيا تشهد نمطا جديداً من التدخلات الأجنبية يجمع بين خصائص التدخل الاستعماري التقليدي الهادف إلى السيطرة على الموارد الطبيعية وخصائص الصراع الحضاري الإسلامي المسيحي الهادف إلى إبعاد إندونيسيا عن العالم الإسلامي وتسهيل عملية التبشير المسيحي فيها والتقريب بين إندونيسيا وإسرائيل. وقد تمثلت تلك التدخلات في اندلاع الأزمة المالية الإندونيسية سنة 1997م، وتغاضي الغرب عن سقوط حليفه الاستراتيجي سوهارتو سنة 1998م، ثم ضغوط الغرب على إندونيسيا للقبول باستقلال تيمور الشرقية عنها.
وكانت أمريكا - خلال الحرب الباردة - تنتهج سياسة مختلفة بغرض كسب إندونيسيا في مواجهاتها للاتحاد السوفييتي، فقد دبرت انقلابا ضد سوكارنو تزعمه قائد الجيش الإندونيسي آنذاك سوهارتو. وقد قام الأخير بتصفية الحزب الشيوعي الإندونيسي تصفية دموية كاملة. ومقابل ذلك ساندت الولايات المتحدة حكم سوهارتو، بل وتغاضت عن ضمه تيمور الشرقية سنة 1975م، وعن حكمه الدكتاتوري. وقامت الولايات المتحدة بمنح المعونات إلى إندونيسيا مما أدى إلى تحويلها لتكون إحدى دعائم النفوذ الغربي في جنوب شرق آسيا.
الأزمة المالية الإندونيسية:
في يوليو1997م شهدت تايلاند هبوطا مفاجئا في أسعار عملاتها وأوراقها المالية، وما لبث هذا الهبوط أن انتشر إلى دول أخرى في جنوب شرق آسيا أبرزها إندونيسيا..وللتعامل مع الأزمة وافق الرئيس الإندونيسي سوهارتو على التوقيع على اتفاق مع صندوق النقد الدولي يقوم الأخير بموجبه بتوفير قروض من مصادر مختلفة قيمتها 43 مليار دولار لمساعدة إندونيسيا على الخروج من الأزمة مقابل التزام إندونيسيا "بروشتة" الإدارة الاقتصادية التي يقدمها الصندوق للجميع، وهي تحرير التجارة الخارجية، وتخفيض التعريفات الجمركية، والإسراع في الخصخصة بالسماح للشركات الأجنبية بشراء الشركات المحلية، وإلغاء مشروعات التصنيع الكبرى في إندونيسيا، ولما تفاقمت الأزمة في يناير1998م حاول سوهارتو أن يتحلل من بعض التزاماته إزاء الصندوق، ولكن قادة الدول الغربية الكبرى (الولايات المتحدة، وأستراليا، وألمانيا) واليابان تدخلوا بشكل فوري وشخصي لحث سوهارتو على الالتزام باتفاقه مع الصندوق رغم الآثار الاجتماعية السيئة التي كان الاتفاق قد أثمرها.
وقد اختلف الباحثون حول تحديد مصادر الأزمة المالية الآسيوية عموما. وعزا بعضهم هذه الأزمة (وفي مقدمتهم مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا، وساكاكيبارا نائب وزير مالية اليابان السابق) إلى تدخل الولايات المتحدة من ناحية، والخطأ الذي ارتكبته الدول الشرق آسيوية بالاندماج المبكر مع تيار العولمة. هذا بينما عزا البعض الآخر الأزمة (مدرسة صندوق النقد الدولي عموما) إلى خطأ الأصول الاقتصادية التي تأسست عليها النماذج الشرق آسيوية للتنمية.
والراجح - في رأي الدكتور محمد سليم - أن الأزمة المالية الإندونيسية لم تكن بعيدة عن مخططات القوى الغربية مستعملة صندوق النقد الدولي واجهة للتدخل، وأن الهدف كان هو السيطرة على الاقتصاد الإندونيسي من خلال إجبار إندونيسيا على فتح أسواقها أمام التجارة الغربية وشراء الشركات الإندونيسية التي تضررت من الأزمة، ودفع إندونيسيا إلى إيقاف مشروعاتها الاقتصادية العملاقة (كبناء الطائرات والتصنيع الحربي).
التدخل الأجنبي ومشكلة تيمور الشرقية:
يواصل الدكتور محمد سليم حديثه قائلاً: تعتبر مشكلة تيمور الشرقية نموذجا لأثر التدخلات الأجنبية في الشأن الإندونيسي من ناحية، ولازدواجية المعايير في "النظام العالمي الجديد" من ناحية أخرى..ففي سنة 1975 انسحبت البرتغال من مستعمرة تيمور الشرقية التي تقع إلى الجنوب الشرقي من إندونيسيا، وقد سلمت البرتغال السلطة في تيمور الشرقية للجبهة الثورية لتيمور الشرقية (فريتلين). ولكن حكومة سوهارتو في إندونيسيا قامت بالاستيلاء على تيمور الشرقية في ديسمبر من السنة نفسها، وقامت بضمها باعتبارها المحافظة الرابعة والعشرين.
لم تساند الولايات المتحدة وأوروبا فريتلين في السعي نحو الاستقلال، وساندت إندونيسيا بالسكوت. وقد كان ذلك راجعا إلى ظروف الحرب الباردة؛ حيث كانت إندونيسيا أحد أركان النفوذ الأمريكي في منطقة جنوب شرق آسيا بعد أن قام سوهارتو بتصفية الحزب الشيوعي الإندونيسي سنة 1965م،وقد حدث ذلك رغم أن أغلبية سكان تيمور الشرقية من المسيحيين.
بعد اختفاء الاتحاد السوفييتي فقدت إندونيسيا تدريجيا قيمتها الإستراتيجية للولايات المتحدة. ومن ثم فإن الأخيرة وأوروبا وأستراليا بدأت تساند حركة استقلال تيمور الشرقية، وتمارس ضغوطا على إندونيسيا للموافقة على منح تيمور الشرقية الاستقلال. وقد انتهزت الدول الغربية فرصة الهزة الاقتصادية التي أصابت إندونيسيا نتيجة الأزمة المالية ثم توقيعها على اتفاق مع صندوق النقد الدولي يوفر أداة للضغط الاقتصادي عليها، انتهزت ذلك كله للضغط على حكومة الرئيس يوسف حبيبي للموافقة على مبدأ استقلال تيمور الشرقية.
ولعل من أهم الشواهد على ذلك هو أنه في اليوم الذي أعلن فيه الرئيس السابق حبيبي موافقته في 28 أبريل 1999م على تحديد موعد للاستفتاء حول مستقبل تيمور الشرقية في 8 أغسطس 1999م وافق البنك الدولي للإنشاء والتعمير على تقديم قرض لإندونيسيا قيمته 600 مليون دولار. وتحت إشراف دولي أجري استفتاء في تيمور الشرقية في أغسطس1999م أسفر عن رغبة 78% من السكان في الاستقلال، وهو ما اضطرت إندونيسيا إلى التسليم به.
إن أهمية هذا التطور هو أنه فتح الباب على مصراعيه للحركات الأخرى الراغبة في الاستقلال، وخاصة الحركات المتمركزة في إقليم آتشه وجزر آمبون وجزر الملوك، مما أدى إلى دخول إندونيسيا في دوامة العنف السياسي التي مازالت تعاني منه حتى اليوم..من ناحية أخرى فإن استقلال تيمور الشرقية لم يكن كافيا لدى الغرب، وإنما بدأ يطالب بمحاكمة القادة العسكريين الإندونيسيين المتهمين بقمع حركة الاستقلال في تيمور الشرقية. وكانت المطالبة هي أن تتم المحاكمة أمام محكمة دولية، وهو ما رفضه الرئيس الإندونيسي حبيبي، ولكن خليفته عبد الرحمن واحد اضطر إلى التضحية بوزير الدفاع ويرانتو وبعض القادة العسكريين للتخفيف من الضغوط الغربية.
ومن المفيد أن نقارن بين الضغوط التي مورست على إندونيسيا للتسليم باستقلال تيمور الشرقية وإجراء استفتاء تحت حماية دولية، ورفض الغرب أن يمارس أي ضغط على إسرائيل للتسليم باستقلال فلسطين أو مجرد إرسال قوة حماية دولية إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة..كذلك فإنه لأول مرة قبلت إندونيسيا أن تجرى الانتخابات التشريعية التي أجريت في يونيو 1999م تحت إشراف 500 مراقب دولي كان منهم الرئيس الأمريكي السابق كارتر.
ختاماً:
ذكرتُ في الجزء الأول أن الأديان والمعتقدات والأجناس جزء من طبيعة الحياة البشرية، فلا مناص من تنوع المعتقدات والأفكار وتعدد الاتجاهات، واختلاف التوجهات، والعبرة هي كيفية التعامل مع المخالف بما يحقق الأمن والاستقرار للناس، بدرء المفاسد وجلب المصالح، وهو مقصد الشرع الإسلامي.
فالمشكلة الكبرى هي أن يتحول هذا التعدد والتنوع إلى بؤر مشتعلة تحرق ذاتها وغيرها، وهناك أسباب وعوامل داخلية وخارجية تخلق هذا المناخ الملتهب، فالأهواء والتصورات الخاطئة والجهل وتضارب المصالح، وغياب العدل والتدخلات الاستغلالية.. وغيرها، هي جملة من تلك الأسباب الخاطئة والعوامل السيئة..ومن بين أسوأ هذه العوامل التدخلات الخارجية الاستغلالية، مع العلم أن التدخل الخارجي لا يمكن له أن ينجح إلا بعد أن تصبح البيئة الداخلية المستهدفة مهيأة لهذا التدخل بفعل العوامل الذاتية.
والمجتمع الإسلامي من أكثر المجتمعات عرضة للتدخلات الخارجية منذ صدر الإسلام، وقد أنعم الله على المسلمين بكافة وسائل الدفاع التي تحصنهم }واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا{، [المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً]..وأرشدهم الله تعالى إلى كيفية الحفاظ على ذلك: }واعتصموا بحبل الله جميعاً، ولا تفرقوا{. فحبل الله هو العاصم الوحيد من الفرقة وتبعاتها.
إذاً، كانت البداية إلغاء أسباب العداء ومظاهره (الصراع والضعف والفرقة) بواسطة الإسلام، فتحول الحال إلى الضد (الأخوة) ومظاهرها (التآلف والتكاتف)؛ أي تغير الأمر – كما يقال - من (التآكل) إلى (التكامل)، وبتآلف القلوب صفت النفوس وازدهرت العقول؛ فأصبح المجتمع شديد البنيان لا يضره معول الهدم. وظهر أثر ذلك في التاريخ الإسلامي العظيم..ولكن للأسف عادت مظاهر ما قبل الإسلام: ترك المسلمون حبل الله العاصم، فتفرقوا، فغزى الجهلُ العقلَ فتاه، وغزت الأهواء القلوب فهوت وخلت؛ فوجد العدو قلباً خالياً فتمكن، وعقلاً تائهاً فتحكم، وبنياناً متصدعاً فهدّم، ومجتمعاً مفككاً فهيمن. فعادت المشكلة إلى أصلها (رجعتم أعداء).. وبين (كنتم) و(رجعتم) نظل في الماضي.. ولا عزاء للضعفاء.
المصادر:
- الإستراتيجية الإسرائيلية إزاء شبه الجزيرة العربية – إبراهيم خالد عبد الكريم – مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية -ط2000 - صدام الحضارات إعادة صنع النظام العالمي – صامويل هنتنجتون – ترجمة طلعت الشايب- ط ثابتة 1999م - الجزيرة العربية والنظام العالمي الجديد – عبد الجليل محمد حسين كامل- ط 2003م.
حلف الأطلنطي – مهام جديدة في بيئة أمنة مغايرة – الدكتور عماد جاد – مركز الدراسات السياسية الإستراتيجية في مؤسسة الأهرام- القاهرة / مصر.
- الفرق والمذاهب المسيحية منذ ظهور الإسلام وحتى اليوم – دراسة تاريخية دينية سياسية اجتماعية – سعد رستم- ط 2004م.
* المجلة / 1463 – 24 /2 /2008م * المجلة / 1468 – 3 /3 2008م * نيوزوبك / 432 – 30 9 / 2008م * صحيفة (لوموند ديبلوماتيك) الفرنسية ( الطبعة العربية) – يونيو 2009م * المستقبل العربي 345 – نوفمبر 2007م * المستقبل العربي 347 – يناير 2008م * المستقبل العربي 357 – نوفمبر 2008م * المستقبل العربي 364 – يونيو 2009م * نيوزويك العدد 143 – 11 / 3 / 2003م - التقرير الارتيادي الإستراتيجي الثاني (مجلة البيان).

المصدر : http://www.awda-dawa.com/pages.php?ID=12420
إسم الموقع : مآساتنا و الحل عودة و دعوة
رابط الموقع : www.awda-dawa.com
رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

 

منتديات الحور العين

↑ Grab this Headline Animator

الساعة الآن 03:25 AM.

 


Powered by vBulletin® Version 3.8.4
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
.:: جميع الحقوق محفوظة لـ منتدى الحور العين ::.