انا لله وانا اليه راجعون... نسألكم الدعاء بالرحمة والمغفرة لوالد ووالدة المشرف العام ( أبو سيف ) لوفاتهما رحمهما الله ... نسأل الله تعالى أن يتغمدهما بواسع رحمته . اللهم آمـــين


عقيدة أهل السنة يُدرج فيه كل ما يختص بالعقيدةِ الصحيحةِ على منهجِ أهلِ السُنةِ والجماعةِ.

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 11-25-2015, 04:00 PM
عبدالله الأحد عبدالله الأحد غير متواجد حالياً
قـــلم نــابض
 




افتراضي شعب الإيمان وخصاله

 

بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:
أيها المؤمنون، عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله - تعالى - ومراقبته في السرِّ والعلانية، فإن تقوى الله - جل وعلا - هي خير زاد يبلغ إلى رضوان الله، وهي عنوان السعادة، وسبيل الفلاح في الدنيا والآخرة.

عباد الله:
إن من المعروف لدى الجميع أن لغة الضمان تجد في أوساط الناس اهتمامًا بالغًا وعناية كبيرة، في بيعِهم وشرائهم وعموم تجارتهم، فليست السِّلع المضمونة والبضائع التي عليها ضمانات في المكانة لدى الناس كالسلع التي ليس عليها ضمان، وهذا يؤكِّد شدة اهتمام الناس بالشيء المضمون أكثر من غيره مَن ما ليس كذلك، على تفاوت كبير فيها من حيث مِصداقيتها، ولهذا يشتدُّ اهتمام الناس أكثر إذا كان صاحب الضمان معروفًا بالصدق، متحليًا بالوفاء والأمانة، وكانت الأمور التي ينال بها الضمان أمور يسيرة سهلة لا تلحق الناس شططًا ولا تكلفهم عنتًا.

عباد الله:
فكيف إذا كان الضامن هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصادق المصدُوق الذي لا ينطق عن الهوى؛ إن هو إلا وحي يُوحى؟! وكيف إذا كان المضمون جنّةٌ؟ جنة عرضها كعرض السماء والأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وكيف إذا كانت الأمور التي ينال بها الضمان أمورًا سهلة وأعمالاً يسيرة لا تتطلَّب جهدَّا عظيمَّا ولا كبير مشقة، فتأملوا - رعاكم - الله نصَّ هذا الضمان العظيم، روى الإمام أحمد في مسنده، وابن حِبَّان في صحيحه، والحاكم في مستدركه وغيرهم، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((اضمنوا لي ستًّا من أنفسكم، أضمن لكم الجنة؛ اصدقوا إذا حدّثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتُمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفُّوا أيديكم))؛ حديث صحيح.

عباد الله:
إنه ضمان بضمان، ووفاء بوفاء، اضمنوا لي ستًّا من أنفسكم، أضمن لكم الجنّة، ستة من الأعمال ما أيسرها، وأمور من أبواب الخير ما أخفها وأسهلها، من قام بها في حياته وحافظ عليها إلى مماته، فالجنة له مضمونة وسبيله إليها مؤكدة مأمونة؛ ﴿ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴾ [ق : 31 - 35].

عباد الله:
فأمَّا الأول من هذه الخصال، فهو الصدق في الحديث، فالمؤمن صادق في حديثه لا يعرف الكذب إليه سبيلاً، ولا يزال محافظًا على الصدق في حياته إلى أن يفضي به صدقه إلى الجنة، وفي الحديث: ((عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البرّ، والبر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحري الصدق؛ حتى يكتب عند الله صدِّيقًا)).

وأما الخصلة الثانية، فهي الوفاء بالوعد والالتزام بالعهد، وهي سمة من سمات المؤمنين، وعلامة من علامات المتقين، فهم لا يعرفون خُلْفًا في الوعود، ولا نقضًا للعهود، والوفاء صفة أساسية في بنية المجتمع المسلم؛ حيث تشتمل سائرَ المعاملات، فالمعاملات كلُّها والعلاقات الاجتماعية جميعها والوعود والعهود تتوقف على الوفاء، فإذا انعدم الوفاء انعدمت الثقة وساء التعامل وساد التنافر.

وأما الخصلة الثالثة عباد الله، فهي أداء الأمانة، وهي من أعظم الصفات الخلقية التي مدح الله أهلها وأثنى على القائمين بها، وهي من كمال إيمان المرء وحُسن إسلامه، وبالأمانة - عباد الله - يُحفظ الدين وتُحفظ الأعراض والأموال، والأجسام والأرواح والعلوم وغير ذلك، وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((المؤمن من أَمِنَه الناس على دمائهم وأموالهم))، وإذا سادت الأمانة في المجتمع، عظم تماسكه وقوي ترابطه، وعمَّ فيه الخير والبركة.

وأما الخصلة الرابعة عباد الله، فهي حفظ الفروج؛ أي: من أن تفعل الحرام أو تقع في الباطل؛ ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾ [المؤمنون: 5 - 7]، وفي حفظ الفروج - عباد الله - حفظ للنسل، ومحافظة على الأنساب وطهارةٌ للمجتمع، وسلامة من الآفات والأمراض، ودخولٌ والتزامٌ بطاعة ربِّ العالمين.

والخصلة الخامسة من هذه الخصال العظيمة، هي: غض البصر؛ أي: من النظر إلى الحرام والله - جل وعلا - يقول: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾ [النور : 30 - 31].

وغض البصر - عباد الله - فيه فوائد عظيمة، فهو يُورِث العبد حلاوة الإيمان ونورَ الفؤاد وقوّة القلب، وزكاء النفس وصلاحها، وفيه وقايةٌ من التطلع للحرام والتشوّف للباطل.

وأما الخصلة السادسة، فهي كفُّ الأيدي؛ أي: من إيذاء الناس أو الاعتداء عليهم، أو التعرُّض لهم بسوء، والمؤذي لعباد الله يمقته الله ويمقته الناس وينبذه المجتمع، وهو دليل على سوء خُلُقه وانحطاطِ أدبه، وإذا كفَّ الإنسان أذاه عن الناس، دلَّ ذلك على نبيل أخلاقه وكريم آدابه وطيب معاملته، وحَظِيَ بعظيم موعود الله - جل وعلا - في ذلك.

فكيف عباد الله، إذا سما خلق الإنسان وعظم أدبه، ولم يكتفِ بذلك حتى بذل نفسه في إماطة الأذى عن سبيل المؤمنين وجادّتهم، روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مرَّ رجلٌ بغصن شوك على ظهر الطريق، فقال: والله لأنحيَّنَّ هذا عن المسلمين لا يؤذيهم، فأُدخل الجنة)).

عباد الله:
فهذه أبواب الجنة مشرعة، ومناراتها ظاهرة وسبيلها ميسرة، فلنغتنم ذلك قبل الفوات، ولنستكثر لأنفسنا من الخير قبل الممات، ونسأل الله - جل وعلا - أن لا يكلنا وإياكم إلى أنفسنا طرفة عين، وأن يستعملنا في طاعته، وأن يعيننا على تحقيق خصال الخير وتتميمها، والبعد عن خصال الشر والإعراض عنها؛ إنه - تبارك وتعالى - خير مسؤول، ونعم المرجو ونعم المعين.

الخطبة الثانية
الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله - تعالى - ومراقبته في السر والعلانية.

ثم اعلموا - رحمكم الله - أن مسؤولية الآباء عن الأبناء عظيمة، وواجبهم اتجاههم كبير، فعنهم يُسألون يوم القيامة، كلُّ أبٍ يسأل عن أبنائه يوم القيامة عندما يقف بين يدي العظيم - سبحانه - فلا بد - عباد الله - من العناية بتربية الأبناء وتأديبهم، وملاحظة أخلاقهم وسلوكهم، ومعاملتهم والحرص على تنشئتهم تنشئة صالحة على الالتزام بكتاب الله واتباع سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والحذر من رديء الأخلاق وسفاسف الأمور.

عباد الله:
وقد يجهل بعض الأبناء بعض الخِصال الكريمة، والخلال العظيمة لأسباب متنوعة ومتفرقة، ويأتي هنا دور الأب والأم في التوجيه والإصلاح، والإرشاد والبيان، والنصيحة والتحذير؛ حتى يقوم عود الشاب، ويستقيم على طاعة الله، ويلتزم بأوامره - سبحانه وتعالى.

ثم عباد الله، إن من أهمِّ ما ينبغي أن يُغرس في نفس الشاب، وأن يُغرس في نفوس الأبناء، أن يعلموا قيمة المساجد ومكانتها، وعظيم حُرْمتها ووجوب المحافظة عليها، وأن يحذروا أشد التحذير من الاعتداء على المساجد بأيِّ نوعٍ من الاعتداء، وبأي نوع من المخالفة، وقد امتدت أيدي بعض الأبناء في هذا الحي إلى هذا المسجد بكسر بعض الأشياء فيه، وهذه بادرة سيئة من بعض هؤلاء لجهلٍ بالغٍ وتصرُّف مشين تجاه بيت من بيوت الله - تبارك وتعالى - فلنحذر ولنتقي الله نحن الآباء والأبناء، الأب يوجه والأم تبيِّن والأبناء يتقون الله - عز وجلّ - ويتناصحون ويعرفون لبيوت الله - تبارك وتعالى - حُرْمتها ومكانتها، وهذا الخطأ وإن كان في جانب قد يكون قليلاً إلا أن عِظم المكان وشدة حرمته يدعو إلى التخوف وشدة البيان؛ لنتقِ الله - تبارك وتعالى - في بيوت الله التي أَذِنَ الله أن ترفع ويُذكر فيها اسمه.

وأسأل الله - جل وعلا - بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلى أن يرزقنا جميعًا نحن الآباء والأبناء، أن يرزقنا جميعًا معرفةً بمكانة بيوت الله ومراعاة لحرمتها، ومحافظة على حقوقها، وأن يبارك لنا جميعًا في أبنائنا، وأن يصلح شأنهم، وأن يأخذ بنواصيهم للخير، وأن يجنبهم سُبل الردى.

اللهم إنا نتوجه إليك بأسمائك الحُسنى وصفاتك العُلى، وبأنَّك أنت الله الذي وسعت كلَّ شيء رحمة وعلمًا، يا من بيده مقاليد الأمور وأَزِمَّةُ كلِّ شيء، نسألك يا حي يا قَيُّوم: أن تصلح أبنائنا، وأن تبصرهم بالحق والهدى، وأن تَقِيهم سُبل الشر والردى، لا حول لنا ولا قوة إلا بك؛ فلا تكلنا إلى أنفسنا، ولا إلى أحد غيرك طرفة عين يا ذا الجلال والإكرام، هذا وصلوا وسلّموا على محمد بن عبدالله كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب : 56]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن صلى عليَّ واحدة، صلى الله عليه بها عشرًا))، اللهم صلِّي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين؛ أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذي النورين وأبي السبطين علي، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واحمِ حوزة الدين يا رب العالمين، اللهم أمنَّا في أوطاننا وأصلح أئمتنا، وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفقنا لما تحب وترضى وأعنا على البرِّ والتقوى، وسددنا في أقوالنا وأعمالنا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفق ولي أمرنا لكلِّ خير، اللهم سدده في أقواله وأعماله يا رب العالمين، اللهم آتِ نفوسنا تقواها وزكِّها؛ أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها.

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير والموت، راحة لنا من كل شر، اللهم إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا، لنكوننَّ من الخاسرين، ربنا اغفر لنا ذنبنا كله؛ دِقَّه وجله، أوله وآخره، سره وعلنه، اللهم اغفر ذنوب المذنبين وتبْ على التائبين، واقضِ الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا، ومرضى المسلمين،، اللهم أصلح ذات بيننا، وألِّف بين قلوبنا، واهدنا سُبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا، وأزواجنا وذرياتنا وأموالنا واجعلنا مباركين أين ما كنا، اللهم اجعلنا شاكرين لنعمك مستعملين لها في طاعتك، محافظين عليها كما تحب ربنا وترضى، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وإلحاقًا لما سبق أقول: إن مقصودي بقولي: في هذا الحي، أي وُجدوا في هذا الحي، ولا يعني أنهم من أهله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.


شعب الإيمان[*]

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الإيمانُ بضعٌ وسبعون - أو بضعٌ وستون - شُعبةً، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطريق، والحياءُ شعبةٌ من الإيمان))؛ رواه الشيخان، واللفظ لمسلم[1].

زاحمني في الكتابة على هذا الحديث رئيسُ تحرير هذه المجلة في جزئها السابق، فبينا أنا ماضٍ في إعداد العُدَّة لشرْحه، ووقف النظر والفِكر والجُهْد له، طلعَتْ علينا المجلة بمقالته المؤمنة الصادقة الخيِّرة، فما أنْ قرأتها حتى أزمعت الكتابة في حديث غيره، بيْدَ أنه - وقد عتبتُ عليه في هذه المزاحمة - أقنعني بالمضِي في تبيان هذا الحديث الجامع، الذي يُعَد بحقٍّ أساسًا للدين كلِّه؛ فرائضِه وشرائِعِه، وحدودِهِ وسُننِه، ويَنْبُوعًا قويًّا فياضًا لبيان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديه[2].

المنهاج النبوي في التربية:
أنزل الله إلى نبيه الذِّكْرَ ليبيِّن للناس ما نُزِّل إليهم، وقد فعل، فبيَّن لهم، وعلَّمهم كل ما يحتاجون إليه مما فيه سعادتهم ومجدهم وارتفاع درجاتهم في الدنيا والآخرة، ولم يَدَعْ شأنًا من شؤون العقائد، والعبادات والمعاملات، والأخلاق، والبر، والتقى، في الحل والترحال، والمطْعَم والمشْرب، والملبس والمنكح، والنوم واليقظة، والاجتماع والانفراد، حتى دخول الخلاء والخروج منه - إلا بيَّنَه بيانًا شافيًا، فكان من بيانه وهديه هذا المنهاجُ المنير، وتلك التربيةُ القوية المُثْلى الصالحة لكل زمان ومكان، ولكل جيل وقبيل، تلك التي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثلها، لا يأتون بمِثْلِها، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا.

وكانت طريقته - صلى الله عليه وسلم - في هذا المِنهاج أمثلَ طرائق التعليم والتربية، مما يدع المعلمين والمربِّين مشدوهين متسائلين حيارى: أنَّى لهذا الأمي تلك الطريقة العجيبة في التقويم والتربية؟!

نعم، إنه لم يتلقَّ عِلمًا من بشر، ولم يجلس - حياتَه - بين يدَيْ مربٍّ ولا معلم، ولكن علَّمَه العليم الخبير، الذي وسع كل شيء علمًا، وجلس بين يدي الرُّوح الأمين بأمر رب العالمين، حتى أتمَّ هذا المنهاج الذي أعجز الأولين والآخرين أن يأتوا بمثله، أو أن يجدوا سعادتهم - حتى الدنيوية منها - في غيره!

البيان الإجمالي والتفصيلي:
ومن منهاج هذه الطريقة المثلى أن يُحدِّث أصحابَه بمثل هذا الحديث الجامع، ثم يُفصِّله بعض التفصيل بمثل حديث جبريل في سؤاله عن الإسلام والإيمان والإحسان، ثم عن الساعة، فيجيبه - صلوات الله وسلامه عليه - بأمهات هذه الشُّعَب البضع والسبعين، ثم يقول لهم: ((هذا جبريل - عليه السلام - أتاكم يُعلِّمكم دينكم))[3].

أم السنة:
وحديث جبريل من الشهرة بالمكان الذي لا يجهله أحد، وقد جمع وظائفَ العبادات الظاهرة والباطنة: من عقود الإيمان، وأعمال الجوارح، وإخلاص السرائر، والتحفُّظ في الأعمال، حتى سمي - بحق -: أُمَّ السُّنَّة، كما سُمِّيت الفاتحة بأم الكتاب.

ثمَّ يُفصِّل حديث جبريل ويبسطه، في هديه وتعليمه وإرشاده، وشرحه لهذه الشعب في مختلف المقامات والمناسبات.

حصر الشُّعب وتحديدها:
وقد جدَّ كثير من العلماء وتكلَّفوا حصر هذه الشعب وتحديدها، ولخصها صاحب الفتح في تسعٍ وستين خَصلةً طباقًا لإحدى روايتَيِ الحديث، ثم قال: ويمكن عدُّها تسعًا وسبعين خصلةً باعتبار إفراد ما ضُمَّ بعضه إلى بعض[4]... أيريد بهذا مطابقة الخصال للرواية الثانية؟ وكلتا الروايتين واردة في الصحيح.

ولا تخرج هذه الشُّعَب - كما قال صاحب الفتح - عنَ أعمال القلب، وأعمال اللسان، وأعمال البدن.

فأعمال القلب: المعتقدات والنيات، وتشتمل على أربعٍ وعشرين خصلة، أعلاها إيمانٌ بالله، وتوحيده، وتنزيهه، وأنه ليس كمِثْله شيء، وعن التوحيد يصدر كل خير، وأعمال اللسان سبع: منها: الدعاء، والذكر، والاستغفار، واجتناب اللغو.

وأعمال البدن ثمان وثلاثون: منها: التطهير حسًّا وحكمًا، ومنها: إطعام الطعام، وإكرام الضيف، ومنها: تربية الأولاد، وصِلة الرحم، ومنها: ردُّ السلام، وتشميت العاطس، وكف الأذى عن الناس، واجتناب اللهو، وإماطة الأذى عن الطريق.

من عجائب التربية النبوية:
وأيًّا ما كان الأمر، فقد اكتفى النبي بذكر أفضلها وأعلاها، وأيسرها وأدناها، ثم بذكر شعبة من أمهاتها، تبعث عليها، وتيسِّر الطريق لها، وهذا الإجمال من عجائب التربية النبوية، فإنه - صلوات الله وسلامه عليه - لو فصَّل الشُّعب وعدَّها، وهو قادر على عدها، لشقَّ على أمته، ولسدَّ عليهم طريق الاجتهاد فيها، ولو وقفوا عند الذي عدَّه وفصَّله، مع أن كثيرًا منها يُراد منه نوعه ومثيله، لا عينه وذاته، ويتجلَّى ذلك في نوافل الخير، وأعمال البر، وهي كثيرةٌ لا تحصى، كما يتبيَّن في آفات من الشر لم تكن معروفة في عهده - صلى الله عليه وسلم - فتفصيل هذه الشعب - فضلاً عما فيه من الإضجار والإملال - يوقع في حيرة لا فكاك منها، ثم في اختلاف لا رحمة فيه، ولا ثمرة منه.

مفتاح شعب الإيمان:
بدأ - صلى الله عليه وسلم - بمفتاح هذه الشُّعَب الذي لا يُقْبَل شيء منها إلا به، وهو كلمة التوحيد، وليس المراد مجرد النُّطق بها، وإلا كان المنافقون وكثير من الكافرين من أهل الإيمان، إنما المراد النطق المنبعث عن الإيمان بالله وربوبيته، والطمأنينة التي لا تشوبها شائبةُ رِيبة في وحدانيته، الإيمان الذي خالطت بشاشَتُه القلوبَ، وملأت حلاوتُه النفوسَ، فطرِبَت الألسنة بالشهادة الخالصة، وتحرَّكت الجوارح بالأعمال الصالحة.

ونظير هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - لسفيان بن عبدالله الثقفي - رضي الله عنه - حينما قال له: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال: ((قل: آمنت بالله، ثم استقم))[5].

لم يقل له: آمن بالله؛ لأن الإيمان بالله - وإن كان أساسه التصديق الذي لا شك فيه - يتفاوت بحسَبِ مراتب اليقين والطمأنينة، ومحال أن تكون مرتبة عوام المؤمنين، كمرتبة النبيين والصدِّيقين، ولا شكَّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يريد هنا الإيمان الكامل، الذي يفيض على اللسان فينطق بكلمته صادقًا موقنًا، ثم يَفيض على الجوارح فتعمل الصالحات راضيةً مطمئنةً، وهذا شأن المؤمنين الصادقين، الذين قالوا: ربنا الله، ثم استقاموا.

أدنى مراتب شعب الإيمان:
وقَفَّى - صلوات الله وسلامه عليه - بذكر إماطة الأذى عن الطريق؛ ليبيِّن أن إزالة الضرر عن المارة كبيرًا كان أو صغيرًا، ولو غُصنَ شوك، من شعب الإيمان التي لا ينبغي الاستهانة بها؛ فقد يكون فيها رضا الله - عز وجل.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((بينما رجل يمشي بطريق، وجد غصن شوك على الطريق فأخَّره، فشكر الله له فغفر له))[6]؛ ثم ليُبيِّن أن هذه الشُّعب على مراتبَ مختلفة، ودرجاتٍ متفاوتة، لكن الذي يُقدِّرها، ويحصى ثوابَها هو اللهُ - عز وجل.

مكانة الحياء من شعب الإيمان:
وختم الحديث - صلوات الله عليه - بشعبةٍ من أمهات الشعب وأجَلِّها، وهي الحياء.

وإنما اختاره - صلى الله عليه وسلم - ختامًا؛ لأنه يحضُّ على الشُّعَب جميعها، ويتَّجه بصاحبه وجهة الخير والاستقامة، ثم هو حِلْية الأخلاق وزينتها، وماء الحيوية الذي يترقرق فيها[7]، بل هو خُلُق هذه الحنفية السمْحة، كما روى مالك عن زيد بن طلحة بن ركانة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن لكل دين خُلقًا، وخلق الإسلام الحياء))[8].

فكأنه - صلى الله عليه وسلم - يشير بهذا الخِتام العجيب إلى أن الحياء مهيمن على هذه الشعب ومسيطر عليها، فلن يُقْبَل منها، أو لن يكون واقعًا موقع الكمال والرضا إلا ما اتَّسم بسيما الحياء، فمن هنا يخرج المنافقون والمراؤون والكذابون الذين يتظاهرون بعمل الصالحات، وهم عنها مبعدون.

الحياء الشرعي المحمود:
ومن هنا يَسْتَبين لمن تأمَّل أنَّ المراد الحياءُ الشرعي المحمود الذي يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، وأما الحياء الذي يحمل صاحبه على الإخلال بالحقوق، والتقصير في الواجبات، فليس حياءً في حقيقة الأمر، وإنما هو عجز ومهانة وخَوَر، وإن سُمِّي بالحياء مجازًا لمشابهته له، وليس هذا مرادًا في الحديث ألبتة، كما أنه ليس المراد الحياء الغَرَزي؛ وإنما المراد الحياء المكتسب الذي يستعمله صاحبه على قانون الشرع، لا يختلف عنه.

الحياء من الحياة:
قال العلماء: والحياء مُشتَق من الحياة، فهو من قوة الحِسِّ ولطفه، وعلى حسَب حياة القلب ولطف الحس يكون الحياء قوةً وضعفًا.

وذكر الماوَرْدِي في "أدب الدنيا والدين" أنَّ الحياء في الإنسان قد يكون على ثلاثة أوجه: حياؤه من الله تعالى، وحياؤه من الناس، وحياؤه من نفسه، وبيَّنها كلَّها، ثم قال: فمتى كمُل حياء الإنسان من وجوهه الثلاثة، فقد كَمُلت فيه أسباب الخير، وانتفت عنه أسباب الشر، وصار بالفضل مشهورًا، وبالجميل مذكورًا[9].

وأما ابن القيم في "مدارج السالكين"، فقد ذهب - ولله دَرُّه! - إلى أن الحياء عشرةُ أوجه[10]، ثم فصَّلها تفصيلاً، وقد نَعرِض لها كلِّها أو بعضِها لمناسبة (الحياء النبوي) الذي نرجو أن يكون موضوع حديثنا في الجزء الآتي بمشيئة الله تعالى ومعونته وتوفيقه[11].

المصدر: من ذخائر السنة النبوية؛ جمعها ورتبها وعلق عليها الأستاذ مجد بن أحمد مكي[*] مجلة الأزهر، العدد الثاني، المجلد الخامس والعشرون 1373.
[1] أخرجه البخاري 9، ومسلم 35، كلاهما في الإيمان.
[2] ولجلالة شأن هذا الحديث؛ صنَّف العلماء في شرْحه وتعيين شعَبِهِ كتبًا كثيرة، ومنها كتاب "شعبُ الإيمان" للحافظ الفقيه: أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي المتوفى سنة 458، ألَّفَه في ستة مجلدات، ثم اختصره أبو جعفر عمر القزويني المتوفى سنة 699 وطُبع المختصر مرتين بالمطبعة المنيرية؛ (طه).
[3] أخرجه مسلم 8.
[4] الفتح 1: 68، 69.
[5] أخرجه مسلم 38.
[6] أخرجه البخاري 652، ومسلم 1914.
[7] تلميح واقتباس من المقالة التي أشرنا إليها أولاً؛ (طه).
[8] رواه مالك في الموطأ 2: 905، ورواه ابن ماجه 4181، وغيره عن أنس مرفوعًا، ورواه أيضًا من طريق صالح بن حسان عن محمد بن كعب القرظي عن ابن عباس قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره.
[9] أدب الدنيا والدين ص181 - 182.
[10] مدارج السالكين 2: 261 - 263.
[11] انظره في "الحياء النبوي" ص 803 - 812.

الالوكة
التوقيع

اكثروا قراءة الاخلاص وسبحان الله عدد ما خلق سبحان الله ملء ما خلق سبحان الله عدد ما في الأرض والسماء سبحان الله ملء ما في الأرض والسماء سبحان الله عدد ما أحصى كتابه سبحان الله ملء ما أحصى كتابه سبحان الله ملء ما أحصى كتابه،سبحان الله عدد كل شيء سبحان الله ملء كل شيء الحمد لله مثل ذلك وسبحان الله وبحمده عددخلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته واكثروا الصلاة على النبي واكثروا السجود ليلاونهارا
رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

 

منتديات الحور العين

↑ Grab this Headline Animator

الساعة الآن 06:25 PM.

 


Powered by vBulletin® Version 3.8.4
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
.:: جميع الحقوق محفوظة لـ منتدى الحور العين ::.