انا لله وانا اليه راجعون... نسألكم الدعاء بالرحمة والمغفرة لوالد ووالدة المشرف العام ( أبو سيف ) لوفاتهما رحمهما الله ... نسأل الله تعالى أن يتغمدهما بواسع رحمته . اللهم آمـــين

العودة   منتديات الحور العين > .:: المنتديات العامة ::. > التاريخ والسير والتراجم

التاريخ والسير والتراجم السيرة النبوية ، والتاريخ والحضارات ، وسير الأعلام وتراجمهم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #11  
قديم 04-14-2009, 11:29 PM
أبومالك أبومالك غير متواجد حالياً
قـــلم نــابض
 




افتراضي

نفع الله بك يا حبيب .
رد مع اقتباس
  #12  
قديم 04-16-2009, 01:15 PM
أبو أنس الأنصاري أبو أنس الأنصاري غير متواجد حالياً
II كَانَ اللهُ لَهُ II
 




افتراضي




مشكلة سبتة والعناية الإلهية


استطاع موسى بن نصير أن يتغلب على قلة عدد الجيش من خلال البربر أنفسهم ، كذلك تغلب على العقبة المتمثلة في قلة السفن نسبياً ببناء موانئ وسفن جديدة ، وبقيت أرض الأندلس كما هي أرضاً مجهولةً لهُ ، وكذلك ظلت مشكلة ميناء سبتة قائمةً لم تُحل ، وهي -كما ذكرنا - ميناءٌ حصينٌ جداً يحكمه النصراني يوليان ، وقد استنفد موسى بن نصير جهده وطاقته وفعل كل ما في وسعه ولم يجد حلاً لهاتين المشكلتين ، وهنا وفقط كان لابد للأمر الإلهي والتدبير الربانيُّ أن يتدخل : { إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } [الحج:38] . { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى } [الأنفال:17] . وهذا بالفعل ما حدث وتجسد في فعل يوليان صاحب سبتة وكان على النحو التالي :



- فكَّرَ يوليان جدياً في الأمر من حوله ، وكيف أن الأرض بدأت تضيق عليه وتتآكل من قِبَل المسلمين الذين يزدادون قوة يوماً بعد يومٍ ، وإلى متى سيظل صامداً أمامهم إن هم أتوا إليه ؟

- كان يوليان مع ذلك يحمل الحقد الدفين على لذريق حاكم الأندلس ذلك الذي قتل غيطشة صاحبه الأول ، وقد كان بينهما علاقات طيبة ، حتى إن أولاد غيطشة من بعده استنجدوا بيوليان هذا ليساعدهم في حرب لذريق ، ولكن هيهات فلا طاقة ليوليان بلذريق ولا طاقة لأولاد غيطشة أيضاً به ، ومن هنا فكان ثمة عداء متأصل بين صاحب سبتة وحاكم الأندلس ؛ ومن ثم فإلى أين سيفرُّ يوليان إن استولى المسلمون على ميناء سبتة ؟

- الأمر الأخير الذي دار في خلد يوليان هو أن أولاد غيطشة القريبين منه كان لهم من الضياع الضخمة في الأندلس الكثير والتي صادرها وأخذها منهم لذريق قاتل أبيهم ، وكان يوليان يريد أن يستردها لهم ، وكان لذريق أيضاً قد فرض على شعبه الضرائب الباهظة وأذاقهم الأمرّين ؛ فعاشوا في فقر وبؤس شديد بينما هو في نعيم دائم ومُلك يتصرف فيه كيف يشاء ؛ ومن هنا فكان شعبه يكرهه ويتمنى الخلاص منه .




عرضٌ ثمينٌ !!

ومن تدبير رب العالمين أن اختمرت هذه الأفكار جيدا ًفي عقل يوليان - وموسى بن نصير آنذاك قد استنفد جهده وحار في أمره - فإذا به يُرسل إلى طارق بن زياد والي طنجة (على بعد عدة كيلو مترات من ميناء سبتة ) برسل من قِبَله يعرض عليه عرضاً للتفاوض ، أما تدبير العناية الإلهية والمفاجأة فكانت في بنود هذا العرض وهذا الطلب العجيب الذي نص على ما يلي :


1 - نسلمك ميناء سبتة . تلك المعضلة التي حار المسلمون أعواماً في الاهتداء إلى حل لها؛ حيث كانت فوق مقدراتهم .

2 - نمدك ببعض السفن التي تساعدك في عبور مضيق جبل طارق إلى الأندلس . وكأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يقول : سأتم ما لم يستطع المسلمون إتمامه ووقفت عندهم قدراتهم ، حتى ولو كان ذلك من قِبَل أعدائهم ، وقد علمنا مدى احتياج موسى بن نصير لهذه السفن .

3 - نمدك بالمعلومات الكافية عن أرض الأندلس .


أما المقابل فهو : ضياع وأملاك غيطشة التي صادرها لذريق . وكان لغيطشة ثلاث آلاف ضيعة ( ضيعة تعني عقَارُ وأرضٌ مُغِلَّةُ ) ، وكانت ملكاً لأولاده من بعده ، فأخذها منهم لذريق وصادرها .


وبهذا العرض فقد أراد يوليان صاحب سبتة أن يتنازل للمسلمين عن سبتة ويساعدهم في الوصول إلى الأندلس ، ثم حين يحكمها المسلمون يسمع يوليان ويطيع ، على أن يرد المسلمون بعد ذلك ضيعات وأملاك غيطشة ، فما أجمل العرض وما أحسن الطلب ! وما أعظم السلعة وما أهون الثمن !


المسلمون لم يفكروا يوماً في مغنم أو ثروة أو مال حال فتوحاتهم البلاد ، لم يرغبوا يوماً في دنيا يملكها غيطشة أو يوليان أو لذريق أو غيرهم ، كان جلَّ هدفهم تعليم الناس الإسلام وتعبيدهم لرب العباد ، فإذا دخل الناس في الإسلام كان لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ، بل لو لم يدخلوا في الإسلام وأرادوا دفع الجزية فحينئذ يُترك لهم كل ما يملكون ، وسنتحدث عن الجزية في الإسلام بعد قليل .

ومن هنا فكان الثمن هيناً جداً والعرض غاية الآمال ، فبعث طارق بن زياد إلى موسى بن نصير وكان في القيروان عاصمة الشمال الإفريقي آنذاك ( وهي في تونس الآن ) يخبره هذا الخبر، فسُرّ سرورا عظيما، ثم بعث موسى بن نصير بدوره إلى الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك يطلعه أيضاً الخبر ويستأذنه في فتح الأندلس .


وهنا أذن له الوليد بن عبد الملك إلا أنه شرط عليه شرطاً كان قد فكر فيه قبل ذلك موسى بن نصير نفسه، وهو : ألا تدخل بلاد الأندلس حتى تختبرها بسرية من المسلمين ، فمن أدراك أن المعلومات التي سيقدمها لك يوليان عن الأندلس ستكون صحيحة ؟ ومن يضمن لك ألا يخون يوليان عهده معك أو يتفق من ورائك مع لذريق أو مع غيره عليك ؟






التعديل الأخير تم بواسطة أبو أنس الأنصاري ; 07-21-2009 الساعة 07:58 PM
رد مع اقتباس
  #13  
قديم 04-16-2009, 01:36 PM
أبو أنس الأنصاري أبو أنس الأنصاري غير متواجد حالياً
II كَانَ اللهُ لَهُ II
 




افتراضي




بشائر الفتح الإسلامي وموقعة وادى برباط

جهز موسى بن نصير بالفعل سرية من خمسمائة رجل وجعل على رأسهم طَريف بن مالك - أو: " ملوك " كما جاء في روايات أخرى - وكان طريف أيضاً من البربر كما كان القائد طارق بن زياد، وهذه مزية تفرد بها الإسلام كما ذكرتُ ، خاصةً وأن طريف من البربر حديثي العهد بالإسلام وهو الآن وبعد أن كان يحارب الإسلام صار قائداً مدافعاً عن الإسلام وناشراً لهُ .


سار طريف بن مالك من المغرب على رأس خمسمائة من المسلمين صوب الأندلس ، وقد وصلها في رمضان سنة واحد وتسعين من الهجرة ، وقام بمهمته في دراسة منطقة الأندلس الجنوبية والتي سينزل بها الجيش الإسلامي بعد ذلك على أكمل وجه ، ثم عاد بعد انتهائه منها إلى موسى بن نصير وشرح له ما رآه ، وفي أناةٍ شديدةٍ وعملٍ دؤوبٍ ظلَّ موسى بن نصير عاماً كاملاً بعد عودة طريف بن مالك يجهز الجيش ويعد العدة ، حتى أعد في هذه السنة سبعة آلاف مقاتل ، وبهم بدأ الفتح الإسلامي رغم الأعداد الضخمة لقوات النصارى هناك .



الصدام الأول وبدايات الفتح الإسلامي للأندلس

في شعبان من سنة اثنتين وتسعين من الهجرة تحرك هذا الجيش المكون من سبعة آلاف فقط ، وعلى رأسه القائد طارق بن زياد ، تحرك هذا الجيش وعبر مضيق جبل طارق ، والذي ما سُمّي بهذا الاسم ( مضيق جبل طارق ) إلا في هذا الوقت ؛ وذلك لأن طارق بن زياد حين عبر المضيق نزل عند هذا الجبل، وقد ظل إلى الآن حتى في اللغة الإسبانية يسمى جبل طارق ومضيق جبل طارق .
ومن جبل طارق انتقل طارق بن زياد إلى منطقة واسعة تسمى الجزيرة الخضراء ، وهناك قابل الجيش الجنوبي للأندلس ، وهو حامية جيش النصارى في هذه المنطقة فلم تكن قوة كبيرة ، وكعادة الفاتحين المسلمين فقد عرض طارق بن زياد عليهم : الدخول في الإسلام ويكون لكم ما لنا وعليكم ما علينا ونترككم وأملاككم ، أو دفع الجزية ونترك لكم أيضا ما في أيديكم ، أو القتال ، ولن نؤخركم إلا لثلاث ، لكن تلك الحامية أخذتها العزة وأبت إلا القتال ، فكانت الحرب وكانت سجالاً بين الفريقين حتى انتصر عليهم طارق بن زياد ، فأرسل زعيم تلك الحامية رسالة عاجلة إلى لذريق وكان في طليطلة عاصمة الأندلس ، يقول له فيها: أدركنا يا لذريق ؛ فإنه قد نزل علينا قوم لا ندري أهم من أهل الأرض أم من أهل السماء ؟!

حقاً فهم أناس غريبون ، فقد كان من المعروف عندهم أن الفاتح أو المحتل لبلد آخر إنما تقتصر مهمته على السلب والنهب لخيرات البلد ، والذبح والقتل في كثير من الأحيان ، أما أن يجدوا أناساً يعرضون عليهم الدخول في دينهم ويتركون لهم كل شيء ، أو أن يدفعوا لهم الجزية وأيضاً يتركون لهم كل شيء ، فهذا مما لم يعهدوه من قبل في تاريخهم وفي حياتهم ، وفضلاً عن هذا فقد كانوا في قتالهم من المهرة الأكفاء ، وفي ليلهم من الرهبان المصلين ، فلم يدري قائد الحامية في رسالته إلى لذريق أهُم من أهل الأرض، أم هم من أهل السماء ؟! وصدق وهو كذوب ؛ فهم من جند الله ومن حزبه
{ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ المُفْلِحُونَ } [المجادلة:22] .


حين وصلت رسالة قائد الحامية إلى لذريق جن جنونه ، وفي غرور وصلف جمّع جيشا قوامه مائة ألف من الفرسان ، وجاء بهم من الشمال إلى الجنوب يقصد جيش المسلمين ، كان طارق بن زياد في سبعة آلاف فقط من المسلمين جلهم من الرّجّالة وعدد محدود جداً من الخيل ، فلما أبصر أمر لذريق وجد صعوبة جداً في هذا القياس ، سبعة آلاف أمام مائة ألف ، فأرسل إلى موسى بن نصير يطلب منه المدد ، فبعث إليه طريف بن مالك على رأس خمسة آلاف آخرين رجالة أيضاً .

وصل طريف بن مالك إلى طارق بن زياد وأصبح عدد جيش المسلمين اثني عشر ألف مقاتل ، وبدأ طارق بن زياد يستعد للمعركة ، فكان أول ما صنع بحث عن أرض تصلح للقتال حتى هداه البحث إلى منطقة تسمى في التاريخ وادي البرباط ، وتسمى في بعض المصادر وادي لُقّة أو لِقة بالكسر، وتسميها بعض المصادر أيضا وادي لُكّة .



ولقد كان لاختيار طارق بن زياد لهذا المكان أبعاد استراتيجية وعسكرية عظيمة ، فقد كان من خلفه وعن يمينه جبل شاهق ، وبه حمى ظهره وميمنته فلا يستطيع أحد أن يلتف حوله ، وكان في ميسرته أيضا بحيرة عظيمة فهي ناحية آمنة تماما ، ثم وضع على المدخل الجنوبي لهذا الوادي ( أي في ظهره ) فرقة قوية بقيادة طريف بن مالك ؛ حتى لا يباغت أحد ظهر المسلمين ، ومن ثم يستطيع أن يستدرج قوات النصارى من الناحية الأمامية إلى هذه المنطقة، ولا يستطيع أحد أن يلتف من حوله ، ومن بعيد جاء لذريق في أبهى زينة ، يلبس التاج الذهبي والثياب الموشاة بالذهب ، وقد جلس على سرير محلى بالذهب يجره بغلين ، فلم يستطع أن يتخلى عن دنياه حتى وهو في لحظات الحروب والقتال ، وقدم على رأس مائة ألف من الفرسان ، وجاء معه بحبال محملة على بغال ؛ لتقييد المسلمين بها وأخذهم عبيدا بعد انتهاء المعركة ، وهكذا في صلف وغرور ظن أنه حسم المعركة لصالحه ؛ فبمنطقه وبقياسه أن اثني عشر ألفا يحتاجون إلى الشفقة والرحمة ، وهم أمام مائة ألف من أصحاب الأرض مصدر الإمداد .



وفي الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة اثنتين وتسعين من الهجرة يتم اللقاء في وادي برباط ، وتدور معركة هي من أشرس المعارك في تاريخ المسلمين ، وإن الناظر العادي إلى طرفي المعركة ليدخل في قلبه الشفقة حقا على المسلمين الذين لا يتعدى عددهم الاثني عشر ألفا وهم يواجهون مائة ألف كاملة ، فبمنطق العقل كيف يقاتلون فضلا عن أن يَغلبوا ؟!



نظرة إلى الفريقين :


رغم المفارقة الواضحة جدا بين الفريقين إلا أن الناظر المحلل ليرى أن الشفقة كل الشفقة على جيش المائة ألف ، فالطرفان { خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } [الحج:19] ، وشتان بين الخصمين ، شتان بين فريق خرج طائعا مختارا ، راغبا في الجهاد ، وبين فريق خرج مُكرها مضطرا مجبورا على القتال ، شتان بين فريق خرج مستعدًا للاستشهاد ، مسترخصا الحياة من أجل عقيدته ، متعالياً على كل روابط الأرض ومنافع الدنيا ، أسمى أمانيه الموت في سبيل الله ، وبين فريق لا يعرف من هذه المعاني شيئا ، أسمى أمانيه العودة إلى الأهل والمال والولد ، شتان بين فريق يقف فيه الجميع صفا واحدا كصفوف الصلاة ، الغني بجوار الفقير ، والكبير بجوار الصغير ، والحاكم بجوار المحكوم ، وبين فريق يمتلك فيه الناس بعضهم بعضا ويستعبد بعضهم بعضا ، فهذا فريق يقوده رجل رباني طارق بن زياد يجمع بين التقوى والحكمة ، وبين الرحمة والقوة ، وبين العزة والتواضع ، وذاك فريق يقوده متسلط مغرور ، يعيش مترفا مُنعّما بينما شعبه يعيش في بؤس وشقاء وقد ألهب ظهره بالسياط ، هذا جيش توزع عليه أربعة أخماس الغنائم بعد الانتصار ، وذاك جيش لا ينال شيئا ، وإنما يذهب كله إلى الحاكم المتسلط المغرور وكأنما حارب وحده ، هذا فريق ينصره الله ويؤيده ربه خالق الكون ومالك الملك سبحانه وتعالى، وذاك فريق يحارب الله ربه ويتطاول على قانونه وعلى شرعه سبحانه وتعالى ، وبإيجاز فهذا فريق الآخرة وذاك فريق الدنيا ، فعلى من تكون الشفقة إذن ؟! على من تكون الشفقة وقد قال سبحانه وتعالى: { كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [المجادلة:21] . على من تكون الشفقة وقد قال سبحانه وتعالى : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } [النساء:141] . فالمعركة إذن باتت وكأنها محسومة قبلاً .



وادي برباط وشهر رمضان :
هكذا وفي شهر مضان بدأت معركة وادي برباط الغير متكافئة ظاهرياً والمحسومة بالمنطق الرباني ، بدأت في شهر الصيام والقرآن ، الشهر الذي ارتبط اسمه بالمعارك والفتوحات والانتصارات ، ولكن وللأسف تحول هذا الشهر الآن إلى موعد مع الزمن لإنتاج أحدث المسلسلات والأفلام وغيرها ، تحول إلى نوم بالنهار وسهر بالليل لا للقرآن أو للقيام ، ولكن لمتابعة أو ملاحقة المعروضات الجديدة على الفضائيات وغير الفضائيات ، تحول إلى شهر المراوغة من العمل ، وقد كان المسلمون ينتظرونه للقيام بأشق الأعمال وأكدّها ، تحول إلى شهر الضيق وافتعال المضايقات ، وهو شهر الصبر والجهاد وتهذيب للنفس ، ففي هذا الشهر الكريم وقبل العيد بيوم أويومين - وهكذا كانت أعياد المسلمين - وعلى مدى ثمانية أيام متصلة دارت رحى الحرب ، وبدأ القتال الضاري الشرس بين المسلمين والنصارى ، أمواج من النصارى تنهمر على المسلمين ، والمسلمون صابرون صامدون .. {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } [الأحزاب:23] .
وعلى هذا الحال ظل الوضع طيلة ثمانية أيام متصلة انتهت بنصر مؤزّر للمسلمين بعد أن علم الله صبرهم وصدق إيمانهم ، وقتل لذريق ، وفي رواية أنه فر إلى الشمال ، لكنه اختفى ذكره إلى الأبد ، وقد تمخض عن هذه المعركة عدة نتائج كان أهمها:

1 - طوت الأندلس صفحة من صفحات الظلم والجهل والاستبداد ، وبدأت صفحة جديدة من صفحات الرقي والتحضر من تاريخ الفتح الإسلامي .

2 - غنم المسلمون غنائم عظيمة كان أهمها الخيول ، فأصبحوا خيّالة بعد أن كانوا رجّالة .

3 - بدأ المسلمون المعركة وعددهم اثنا عشر ألفا ، وانتهت المعركة وعددهم تسعة آلاف ، فكانت الحصيلة ثلاثة آلاف شهيد رووا بدمائهم الغالية أرض الأندلس ، فأوصلوا هذا الدين إلى الناس ، فجزاهم الله عن الإسلام خيراً .







التعديل الأخير تم بواسطة أبو أنس الأنصاري ; 07-21-2009 الساعة 08:03 PM
رد مع اقتباس
  #14  
قديم 04-17-2009, 05:30 PM
أبو أنس الأنصاري أبو أنس الأنصاري غير متواجد حالياً
II كَانَ اللهُ لَهُ II
 




افتراضي


طارق بن زياد وقضية حرق السفن !!!

قبل الانتقال إلى ما بعد وادي برباط كان لا بد لنا من وقفة أمام قضية اشتهرت وذاع صيتها كثيرا في التاريخ الإسلامي بصفة عامة والتاريخ الأوروبي بصفة خاصة ، وهي قضية حرق طارق بن زياد للسفن التي عَبَر بها إلى بلاد الأندلس قبل موقعة وادي برباط مباشرة .



فما حقيقة ما يقال من أن طارق بن زياد أحرق كل السفن التي عبر عليها ؟ وذلك حتى يحمس الجيش على القتال ، وقد قال لهم : البحر من ورائكم والعدو من أمامكم فليس لكم نجاة إلا في السيوف .


في حقيقة الأمر فإن هناك من المؤرخين من يؤكد صحة هذه الرواية ، ومنهم من يؤكد بطلانها ، والحق أن هذه الرواية من الروايات الباطلة التي أُدخلت إدخالاً على تاريخ المسلمين ، وذلك للأسباب الآتية :

أولاً : أن هذه الرواية ليس لها سند صحيح في التاريخ الإسلامي ، فعلم الرجال وعلم الجرح والتعديل الذي تميز به المسلمون عن غيرهم يحيلنا إلى أن الرواية الصحيحة لا بد أن تكون عن طريق أناس موثوق فيهم، وهذه الرواية لم ترد أبدا في روايات المسلمين الموثوق في تأريخهم ، وإنما أتت إلينا من خلال المصادر والروايات الأوروبية التي كتبت عن موقعة وادي برباط .

ثانياً : أنه لو حدث فعلا إحراق لهذه السفن كان لا بد أن يحدث رد فعل من قِبَل موسى بن نصير أو الوليد بن عبد الملك استفسارا عن هذه الواقعة ، فكان لا بد أن يكون هناك حوار بين موسى بن نصير وطارق بن زياد حول هذه القضية ، ولا بد أن يكون هناك تعليق من الوليد بن عبد الملك ، وأيضا لابد أن يكون هناك تعليق من علماء المسلمين : هل يجوز هذا الفعل أم لا يجوز ؟ وكل المصادر التاريخية التي أوردت هذه الرواية وغيرها لم تذكر على الإطلاق أي رد فعل من هذا القبيل ؛ مما يعطي شكا كبيرا في حدوث مثل هذا الإحراق .

ثالثاً : أن المصادر الأوروبيّة قد أشاعت هذا الأمر ؛ لأن الأوروبيين لم يستطيعوا تفسير كيف انتصر اثنا عشر ألفا من المسلمين الرجّالة على مائة ألف فارس من القوط النصارى في بلادهم وعقر دارهم ، وفي أرض عرفوها وألفوها ؟!

ففي بحثهم عن تفسير مقنع لهذا الانتصار الغريب قالوا : إن طارقا قام بإحراق سفنه لكي يضع المسلمين أمام إحدى هاتين : الغرق في البحر من ورائهم ، أو الهلاك المحدق من قبل النصارى من أمامهم ، وكلا الأمرين موت محقق ؛ ومن ثم فلم يكن هناك حلا لهذه المعادلة الصعبة إلا بالاستماتة في القتال للهروب من الموت المحيط بهم ، فكانت النتيجة الطبيعية الانتصار ، أما إذا كانت الظروف طبيعية لكانوا قد ركبوا سفنهم وانسحبوا عائدين إلى بلادهم .

وهكذا فسّر الأوروبيين النصارى السر الأعظم في انتصار المسلمين في وادي برباط ، وهم معذورون في ذلك ؛ فهم لم يُجربوا ولم يفقهوا القاعدة الإسلامية المشهورة والمسجلة في كتابه سبحانه وتعالى والتي تقول : { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [البقرة:249] .

فالناظر في صفحات التاريخ الإسلامي يجد أن الأصل هو أن ينتصر المسلمون وهم قلة على أعدائهم الكثيرين ، بل ومن العجيب أنه إذا زاد المسلمون على أعدائهم في العدد فتكون النتيجة هي الهزيمة للمسلمين ، وذلك هو ما حدث يوم حنين { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } [التوبة:25] .

ومن هنا فقد حاول الأوروبيون على جهل منهم وسوء طوية أن يضعوا هذا التفسير وتلك الحجة الواهية حتى يثبتوا أن النصارى لم يُهزموا في ظروف متكافئة ، وأن المسلمين لم ينتصروا إلا لظروف خاصة جدا .

رابعاً: متى كان المسلمون يحتاجون إلى مثل هذا الحماس التي تُحرّق فيه سفنهم ؟! وماذا كانوا يفعلون في مثل هذه المواقف - وهي كثيرة - والتي لم يكن هناك سفن ولا بحر أصلا ؟! فالمسلمون إنما جاءوا إلى هذه البلاد راغبين في الجهاد طالبين الموت في سبيل الله ؛ ومن ثم فلا حاجة لهم بقائد يحمسهم بحرق سفنهم وإن كان هذا يعد جائزا في حق غيرهم .

خامساً: ليس من المعقول أن قائدا محنكا مثل طارق بن زياد رحمه الله يقدم على إحراق سفنه وإحراق خط الرجعة عليه ، فماذا لو انهزم المسلمون في هذه المعركة وهو أمر وارد وطبيعي جدا ؟ ألم يكن من الممكن أن تحدث الكرة على المسلمين خاصة وهم يعلمون قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ } [الأنفال:15-16]

فهناك إذن احتمال من أن ينسحب المسلمون من ميدان المعركة ؛ وذلك إما متحرفين لقتال جديد ، وإمّا تحيزا إلى فئة المسلمين ، وقد كانت فئة المسلمين في المغرب في الشمال الأفريقي ، فكيف إذن يقطع طارق بن زياد على نفسه التحرف والاستعداد إلى قتال جديد ، أو يقطع على نفسه طريق الانحياز إلى فئة المسلمين ؟!

ومن هنا فإن مسألة حرق السفن هذه تعد تجاوزا شرعيا كبيرا لا يقدم عليه من هو في ورع وعلم طارق بن زياد رحمه الله ، وما كان علماء المسلمين وحكّامهم ليقفوا مكتوفي الأيدي حيال هذا الفعل إن كان قد حدث .

سادساً : وهو الأخير في الرد على هذه الرواية أن طارق بن زياد كان لا يملك كل السفن التي كانت تحت يديه ؛ فبعضها كان قد أعطاها له يوليان صاحب سبتة بأجرة ليعبر عليها ثم يعيدها إليه بعد ذلك فيعبر بها هو ( يوليان ) إلى إسبانيا كما وضحنا سابقا ، ومن ثم فلم يكن من حق طارق بن زياد إحراق هذه السفن .

لكل هذه الأمور نقول : إن قصة حرق السفن هذه قصة مختلقة ، وما أُشيعت إلا لتهون من فتح الأندلس وانتصار المسلمين .





التعديل الأخير تم بواسطة أبو أنس الأنصاري ; 07-31-2009 الساعة 05:53 PM
رد مع اقتباس
  #15  
قديم 04-17-2009, 05:35 PM
أبو أنس الأنصاري أبو أنس الأنصاري غير متواجد حالياً
II كَانَ اللهُ لَهُ II
 




افتراضي




طارق بن زياد بعد وادي برباط

بعد النصر الكبير الذي أحرزه المسلمون في وادي برباط ورغم فقدهم ثلاثة آلاف شهيد ، وجد طارق بن زياد أن هذا الوقت هو أفضل الفرص لاستكمال الفتح وإمكان تحقيقه بأقل الخسائر ؛ وذلك لما كان يراه من الأسباب الآتية :



1 - النتيجة الحتمية لانتصار اثني عشر ألفا على مائة ألف ، وهي الروح المعنوية العالية لدى جيش المسلمين .
2 - وفي مقابل ذلك ما كان من أثر الهزيمة القاسية على القوط النصاري ، والتي جسدت انعدام تلك الروح وفقدانها تماما
3 - وإضافة إلى انعدام الروح المعنوية فقد قتل من القوط النصارى وتفرق منهم الكثير ؛ فأصبحت قوتهم من الضعف والهوان بمكان كبير.
4 - وجد طارق بن زياد أن كون لذريق المستبد بعيدا عن الناس وعن التأثير فيهم ؛ وذلك كونه قُتل أو فر، وكون الناس له كارهين - وجد أن في هذا فرصة كبيرة لأن يُعلّم الناس دين الله سبحانه وتعالى ، ومن ثم فقد يقبلوه ويدخلون فيه .
5 - لم يضمن طارق بن زياد أن يظل يوليان صاحب سبتة على عهده معه مستقبلا ؛ ومن ثم فعليه أن ينتهز هذه الفرصة ويدخل بلاد الأندلس مستكملا الفتح .
ولهذه الأسباب فقد أخذ طارق بن زياد جيشه بعد انتهاء المعركة مباشرة واتجه شمالا لفتح بقية بلاد الأندلس ، فاتجه إلى إشبيلية وكانت أعظم مدن الجنوب على الإطلاق ، وكانت تتميز بحصانتها وارتفاع أسوارها وقوة حاميتها ، لكن رغم كل هذا فقد تحقق فيها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يرويه البخاري عن جَابِر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً .




ففتحت المدينة أبوابها للمسلمين دون قتال ، وصالحت على الجزية ، ولا بد هنا وقبل استكمال مسيرة الفتح من وقفة مع مصطلح الجزية لبيان كنهه وحقيقته .

وقفة مع الجزية :

لم يكن المسلمون بدعا بين الأمم حين أخذوا الجزية من البلاد التي فتحوها ودخلت تحت ولايتهم ، فإن أخذ الأمم الغالبة للجزية من الأمم المغلوبة أمر حدث كثيرا ويشهد به التاريخ ، ورغم ذلك فقد كثر الكلام حول أمر الجزية في الإسلام ، ودعوة القرآن لأخذها من أهل الكتاب ، حتى رأى البعض أن الجزية هذه ما هي إلا صورة من صور الظلم والقهر ، والإذلال للشعوب التي دخلت تحت ولاية المسلمين ، وهذا فيه إجحاف كبير ومغايرة للحقيقة ، نحن بصدد الكشف عنه وبيانه فيما يلي :

أولاً : تعريف الجزية

الجزية في اللغة مشتقة من مادة ( ج ز ي ) بمعنى جَزاهُ بما صنع، تقول العرب : جزى يجزي ، إذا كافأ عما أسدي إليه ، والجزية مشتق من المجازاة على وزن فِعلة ، بمعنى أنهم أعطوها جزاءَ ما مُنحوا من الأمن .

وهي في الاصطلاح تعني : ضريبة يدفعها أهل الكتاب بصفة عامة ، ويدفعها المجوس والمشركون في آراء بعض الفقهاء الغالبة ، نظير أن يدافع عنهم المسلمون ، وإن فشل المسلمون في الدفاع عنهم ترد إليهم جزيتهم وقد تكرر هذا في التاريخ الإسلامي كثيرا .

ثانياً: على مَن تُفرض الجزية ؟

من رحمة الإسلام وعدله أن خص بالجزية طائفة ومنعها عن آخرين، فهي :

- تؤخذ من الرجال ولا تؤخذ من النساء.

- تؤخذ من الكبار البالغين ولا تؤخذ على الأطفال.

- تؤخذ من الأصحاء ولا تؤخذ على المرضى وأصحاب العاهات الغير قادرين على القتال .

- تؤخذ من الغني ولا تؤخذ من الفقير ، بل إن الفقير من أهل الكتاب ( النصارى واليهود ) والمجوس والمشركين قد يأخذون من بيت مال المسلمين إن كانوا في بلد يحكم فيها بالإسلام .

فهي تؤخذ من القادرين الذين يستطيعون القتال فقط ، ولا تؤخذ من القادرين الذين تفرغوا للعبادة.

ثالثاً: قيمة الجزية :

لا حظ إذن لمن طعن في أمر الجزية وقال بأنها من صور الظلم والقهر والإذلال للشعوب ، خاصة حين يعلم أنها تُدفع في مقابل الزكاة التي يدفعها المسلمون ، بل ما الخطب إذا علم أن قيمة الجزية هذه أقل بكثير من قيمة ما يدفعه المسلمون في الزكاة ؟

في هذا الوقت الذي دخل فيه المسلمون الأندلس كان قيمة ما يدفعه الفرد ( ممن تنطبق عليه الشروط السابقة ) من الجزية للمسلمين هو دينارا واحدا في السنة ، بينما كان المسلم يدفع ٥ر٢% من إجمالي ماله إن كان قد بلغ النصاب وحال عليه الحول ، وفي حالة إسلام الذمي تسقط عنه الجزية ، وإذا شارك مع المسلمين في القتال دفعوا له أجره ، فالمبالغ التي كان يدفعها المسلمون في الزكاة كانت أضعاف ما كان يدفعه أهل الكتاب وغيرهم في الجزية ، تلك الزكاة التي هي نفسها أقل من أي ضريبة في العالم ؛ فهناك من يدفع 10 و 20 % ضرائب ، بل هناك من يدفع 50 وأحيانا 70 % ضرائب على ماله ، بينما في الإسلام لا تتعدى الزكاة 2.5 % ، فالجزية كانت أقل من الزكاة المفروضة على المسلمين ، وهي بهذا تعد أقل ضريبة في العالم ، بل كانت أقل بكثير مما كان يفرضه أصحاب الحكم أنفسهم على شعوبهم وأبناء جلدتهم .

وفوق ذلك فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ألا يُكلّف أهل الكتاب فوق طاقاتهم ، بل توعّد صلى الله عليه وسلم من يظلمهم أو يُؤذيهم فقال في الحديث الشريف الذي رواه أبو داود والبيهقي في سننهما : أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا ، أَوْ انْتَقَصَهُ ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . أي أنا الذي أخاصمه وأحاجه يوم القيامة .


التعديل الأخير تم بواسطة أبو أنس الأنصاري ; 07-31-2009 الساعة 05:53 PM
رد مع اقتباس
  #16  
قديم 04-19-2009, 02:34 PM
أبو أنس الأنصاري أبو أنس الأنصاري غير متواجد حالياً
II كَانَ اللهُ لَهُ II
 




افتراضي




طارق بن زياد يتجه نحو الشمال

توجه طارق بن زياد بعد فتح أَشبيليّة إلى مدينة أَسْتُجّة ، و هي أيضا من مدن الجنوب ، وفي أستجة قاتل المسلمون قتالا عنيفا ، لكنه - بلا شك - أقل مما كان في وادي برباط ؛ فقد فَقَدَ النصارى معظم قواتهم في موقعة وادي برباط ، وقبل أن ينتصر المسلمون في آواخر المعركة فتح النصارى أبوابهم وقالوا قد صالحنا على الجزية .



وثمة فارق كبير جدا بين أن يصالح النصارى على الجزية ، وبين أن يفتح المسلمون المدينة فتحا ؛ لأنه لو فتح المسلمون هذه المدينة فتحا ( أي بالقتال ) لكان لهم أن يأخذوا كل ما فيها ، أمّا إن صالح النصارى على الجزية ، فإنهم يظلون يملكون ما يملكون ولا يدفعون إلا الجزية ، والتي كانت تقدّر آنذاك بدينار واحد في العام كما وضحنا سابقا .


ومن أستجة وبجيش لا يتعدى التسعة آلاف رجل يبدأ طارق بن زياد بإرسال السرايا لفتح المدن الجنوبية الأخرى، وينطلق هو بقوة الجيش الرئيسة في اتجاه الشمال حتى يصل إلى طُلَيْطِلة عاصمة الأندلس في ذلك الزمن، فقد بعث بسرية إلى قرطبة ، وسرية إلى غِرناطة ، وسرية إلى مَالْقة ، وسرية إلى مُرْسِيَه ، وهذه كلها من مدن الجنوب المنتشرة على ساحل البحر الأبيض المتوسط ، والمطلة على مضيق جبل طارق ، وكان كل من هذه السرايا لا يزيد عدد الرجال فيها عن سبعمائة رجل ، ومع ذلك فقد فُتحت قرطبة على قوتها وعظمتها بسرية من تلك التي لا تتعدى السبعمائة رجل [ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى ] {الأنفال:17} . ثم ظل طارق بن زياد رحمه الله متوجها ناحية الشمال حتى وصل إلى مدينة جَيّان وهي من مدن النصارى الحصينة جدا .




على أعتاب طُليطلة !!

وكان موسى بن نصير رحمه الله - الذي اتسم بالحكمة والأناة - قد أوصى طارق بن زياد ألا يتجاوز مدينة جَيّان أو لا يتجاوز مدينة قرطبة ، و أمره ألا يسرع في الفتح في طريقه إلى العاصمة طليطلة حتى لا يحوطه جيش النصارى.

لكن طارق بن زياد وجد أن الطريق أمامه مفتوحًا ، ووجد أن الطريق إلى طليطلة ليس فيه من الصعوبة شيء ؛ فاجتهد برأيه ، وعلى خلاف رأي الأمير موسى بن نصير وجد أن هذا هو الوقت المناسب لفتح طليطلة العاصمة، وقد كانت تعد أحصن مدن النصارى على الإطلاق ، فرأى أنه إن هاجمها في هذه الفترة التي يكتنف النصارى فيها ضعفا شديدا لا يستطيعون معه مقاومة جيش المسلمين فقد يتمكن من فتحها، الأمر الذي قد يتعذر بعد ذلك فلا يستطيع فتحها .

وكان الأفضل في هذا الأمر أن يستشير طارق بن زياد موسى بن نصير في المغرب ، وأن يرسل إليه ولو رسالة يشرح له فيها طبيعة الموقف ، وأن الطريق مهيأ أمامه لفتح طليطلة ، ويستوضح رأيه ورده في ذلك.

أما طارق بن زياد فقد أسرع في اتجاه طليطلة دون استئذان من موسى بن نصير، وكان موسى بن نصير قد علم بتقدم طارق لفتح طليطلة ، ولكن لطول المسافات لم يستطع أن يلحق به فيكون مددا له .

كانت مدينة طليطلة من أحصن مدن الأندلس ، بل هي أحصن مدينة في الأندلس ؛ فقد كانت محاطة بجبال من جهة الشمال والشرق والغرب ، أما الجهة المفتوحة وهي الجنوب فعليها حصن كبير جدا .

ومع ذلك فقد فتحت أبوابها لطارق بن زياد وصالحت على الجزية !!!




التعديل الأخير تم بواسطة أبو أنس الأنصاري ; 07-31-2009 الساعة 05:54 PM
رد مع اقتباس
  #17  
قديم 04-19-2009, 02:44 PM
أبو أنس الأنصاري أبو أنس الأنصاري غير متواجد حالياً
II كَانَ اللهُ لَهُ II
 




افتراضي





موسى وطارق


لم ينل تقدم طارق بن زياد بهذه السرعة في بلاد الأندلس قبولاً لدى موسى بن نصير ؛ إذ وجد فيه تهورا كبيرا لا تُؤْمن عواقبه ، وكان قد عُرف عن موسى بن نصير الأناة والحكمة والصبر في كل فتوحاته في شمال أفريقيا حتى وصل إلى المغرب ، ومن ثم فقد بعث برسالة شديدة اللهجة إلى طارق بن زياد يأمره فيها بالكف عن الفتح وبالانتظار حتى يصل إليه ؛ وذلك خشية أن تلتف حوله الجيوش النصرانية .



وفي أثناء ذلك بدأ موسى بن نصير يُعد العدة لإمداد طارق بن زياد بعد أن انطلق إلى هذه الأماكن البعيدة الغائرة في وسط الأندلس ، فجهز من المسلمين ثمانية عشر ألفا .

ولكن من أين جاءوا وقد كان جيش الفتح لا يتعدى الاثنا عشر ألفا ؟!

وذلك أن الناس من مشارق الأرض و مغاربها قد انهمروا على أرض الأندلس حين علموا أن فيها جهادا، فقد كان جل الاثني عشر ألف مسلم الذين فتحوا الأندلس مع طارق بن زياد من البربر ، أما هؤلاء الثمانية عشر ألفا فهم من العرب الذين جاءوا من اليمن والشام والعراق ، اجتازوا كل هذه المفاوز البعيدة حتى وصلوا إلى بلاد المغرب ، ثم عبروا مع موسى بن نصير إلى بلاد الأندلس نصرة ومددا لطارق بن زياد .

موسى بن نصير في طريقه إلى طارق بن زياد :



عبر موسى بن نصير بجيشه إلى بلاد الأندلس وكان ما توقعه ؛ فقد وجد أن النصارى قد نقضوا عهدهم مع طارق في أشبيلية ، وهي المدينة الحصينة الكبيرة التي كانت قد صالحت طارقا على الجزية ، وكانوا قد جهّزوا العدة كي يأتوا طارقا من خلفه ، ولكن يُقدّر الله أن يفاجَئوا بجيش موسى بن نصير رحمهُ اللهُ وهو قادم فيحاصر أشبيليه .


كان موسى بن نصير قائدا محنّكا ، له نظرة واعية وبُعد نظر ثاقب ، ولم يكن يومًا كما يدعي أناس أنه عطّل طارق بن زياد عن الفتح حسدا أن ينسب إليه وحده فتح بلادالأندلس ، ومن ثم أراد أن يُشْرَك في الأمر معه .

فإن طارق بن زياد من عمال موسى بن نصير ، وواليه على الأندلس ، وحسنات طارق بن زياد تعد في ميزان موسى بن نصير رحمهما الله ؛ فقد دخل الإسلام على يديه ، وقد كان أقصى مراد موسى بن نصير هو النصر لجيش المسلمين وعدم الهلكة له بعيدا عن أرضه . ومن ثم فقد قدم موسى بن نصير وحاصر أشبيليه حصارا شديدا غاب مداه شهورا حتى فتحت أبوابها أخيرا ، ثم جوّزها موسى بن نصير إلى الشمال، ولم يكن يفتح المناطق التي فتحها طارق بن زياد ، وإنما اتجه ناحية الشمال الغربي وهو الاتجاه الذي لم يسلكه طارق بن زياد ؛ فقد أراد استكمال الفتح ومساعدة طارق بن زياد وليس أخذ النصر أو الشرف منه .

واصل موسى بن نصير سيره نحو طارق بن زياد وفي طريقه فتح الكثير من المناطق العظيمة حتى وصل إلى منطقة تسمى مَرْدَه ، كل هذا وطارق بن زياد في طليطلة ينتظر قدومه ، وكانت مرده هذه من المناطق التي تجمّع فيها كثير من القوط النصارى ، فحاصرها موسى بن نصير حصارا بلغ مداه أيضا شهورا ، كان آخرها شهر رمضان ، ففي أواخره وفي عيد الفطر المبارك وبعد صبر طويل فتحت المدينة أبوابها ، وصالح أهلها موسى بن نصير على الجزية ، فهكذا كانت تمر الأعياد على المسلمين.

لم يكتف موسى بن نصير بذلك ، بل أرسل ابنه عبد العزيز بن موسى بن نصير رحمهمُ اللهُ الذي تربى كأبيه وجده على الجهاد ؛ ليفتح مناطق أوسع ناحية الغرب ، وقد توغل عبد العزيز في الغرب كثيرا ، حتى إنه في فترات معدودة فتح كل غرب الأندلس والتي تسمى حاليا دولة البرتغال ، فقد وصل إلى لشبونة وفتحها ثم فتح البلاد التي في شمالها ، وبهذا يُعد عبد العزيز بن موسى بن نصير فاتح البرتغال.



ذكرت بعض المصادر أنه لما التقى موسى بن نصير وطارق بن زياد أمسك موسى بطارق وعنفه ووبّخه ، بل تذكر أنه قيّده وضربه بالسوط . والحقيقة أن مثل هذا لم يأت إلا من خلال الروايات الأوروبية فقط، وهو لم يحدث على الإطلاق ، والذي حدث أن موسى بن نصير قد عنّف طارق بن زياد بالفعل على معصيته له بعدم البقاء في قرطبة أو جيّان واستمراره حتى طليطلة كما ذكرنا ، وقد كان تعنيفا سريعا إلا أنه كان لقاء حارا بين بطلين افترقا منذ سنتين كاملتين ، منذ رمضان سنة اثنتين وتسعين من الهجرة وحتى ذي القعدة سنة أربع وتسعين .. فقد أخذت الحملة التي قادها طارق بن زياد حتى وصل إلى طليطلة عاما كاملا، وكذلك استغرقت الحملة التي قادها موسى بن نصير حتى قابل طارق في نفس المكان عاما كاملا.



وبعد اللقاء اتحدا سويا واتجها معا إلى فتح منطقة الشمال والشمال الشرقي والشمال الغربي، فبدآ بمنطقة الشمال ومرّا بمناطق عدة، كان منها على سبيل المثال منطقة برشلونة ففتحاها سويا ( الكثير لا يعلم عن برشلونة إلا أن هذا اسم فريق كرة قدم متميز ، ولم يدر بخلده أنه في يوم ما كان قد دخلها المسلمون الفاتحون وحكّموا فيها شرع الله سبحانه وتعالى ).


وهكذا كانت همم الأجداد المسلمين التي ناطحت السحاب، فقد اتجها بعد ذلك سويا إلى مدينة سَرَقُسْطَة وهي أعظم مدن الشمال الشرقي ففتحوها ، واتجها أيضا إلى منطقة شمال الوسط ، ثم إلى الشمال الغربي.


وفي منطقة الشمال قام موسى بن نصير بعمل يُحسد عليه ؛ فقد أرسل سرية خلف جبال البِرِينيه ، وهي الجبال التي تفصل بين فرنسا وبلاد الأندلس ، وتقع في الشمال الشرقي من بلاد الأندلس ، عبرت هذه السرية جبال البرينيه ثم وصلت إلى مدينة تُسمّى أربونة ، وتقع هذه المدينة على ساحل البحر الأبيض المتوسط ، وبذلك يكون موسى بن نصير قد أسس نواة لمقاطعة إسلامية سوف تكبر مع الزمان كما سيأتي بيانه بمشيئة الله .

وبعد هذه السرية الوحيدة التي فتحت جنوب غرب فرنسا اتجه موسى بن نصير بجيشه إلى الشمال الغربي حتى وصل إلى آخره ، وقد ظل المسلمون يفتحون مدن الأندلس المدينة تلو الأخرى حتى تم الانتهاء من فتح كل بلاد الأندلس ، إلا منطقة واحدة في أقصى مناطق الشمال الغربي وتُسمى منطقة الصخرة أو صخرة بيليه ، وهي تقع على خليج بسكاي عند التقائه مع المحيط الأطلنطي .

ففي زمن قُدّر بثلاث سنوات ونصف السنة ، ابتدأ من سنة اثنتين وتسعين من الهجرة ، وانتهى في آخر سنة خمس وتسعين من الهجرة كان قد تم للمسلمين فتح كل بلاد الأندلس خلا صخرة بيليه هذه ، ورغم أن المسلمين حاصروها حصارا طويلا إلا أنهم لم يستطعوا أن يفتحوها ، وعزم موسى بن نصير رحمه الله على أن يتم فتح هذه الصخرة ويستكمل الفتح إلى نهايته ، إلا أنه حدث ما لم يجل بخاطره .




التعديل الأخير تم بواسطة أبو أنس الأنصاري ; 07-31-2009 الساعة 05:55 PM
رد مع اقتباس
  #18  
قديم 04-21-2009, 06:39 AM
أبو أنس الأنصاري أبو أنس الأنصاري غير متواجد حالياً
II كَانَ اللهُ لَهُ II
 




افتراضي




نهاية عهد الفتوحات وبداية عهد الولاة


من أقصى بلاد المسلمين.. من دمشق .. من أمير المؤمنين " الوليد بن عبد الملك " تصل رسالة إلى موسى بن نصير وطارق بن زياد بأن يعودا أدراجهما إلى دمشق ولا يستكملا الفتح !!
أمر عجيب وغريب ! حزن له موسى بن نصير وأسف أشد الأسف ، لكن لم يكن بُدّا من الاستجابة والعودة كما أُمر .

ولنا أن نندهش مع موسى بن نصير لماذا هذا الأمر الغريب ؟! ولماذا كان في هذا التوقيت بالذات ؟! إلا أن هذه الدهشة سرعان ما تتبخر حين نعلم سبب ذلك عند الوليد بن عبد الملك ، وكان ما يلي :
1 - كان الوليد بن عبد الملك يشغله همّ توغل المسلمين بعيدا عن ديارهم ، فهو المسئول عن المسلمين الذين انتشروا في كل هذه المناطق الواسعة ، وقد رأى أن المسلمين توغلوا كثيرا في بلاد الأندلس في وقت قليل ، وخشي رحمه الله أن يلتف النصارى من جديد حول المسلمين ، فإن قوة المسلمين مهما تزايدت في هذه البلاد ، فهي قليلة وبعيدة عن مصدر إمدادها ، فأراد ألا يتوغل المسلمون أكثر من هذا .
٢- كان من الممكن للوليد بن عبد الملك أن يوقف الفتوح دون عودة موسى بن نصير وطارق بن زياد ، لكن كان هناك أمر آخر عجيب قد سمعه الوليد بن عبد الملك جعله يُصرّ على عودة موسى بن نصير وطارق بن زياد إلى دمشق ، وهو أنه قد وصل إلى علمه أن موسى بن نصير يريد بعد أن ينتهي من فتح بلاد الأندلس أن يفتح كل بلاد أوروبا حتى يصل إلى القسطنطينية من الغرب.
كانت القسطنطينية قد استعصت على المسلمين من الشرق ، وكثيرا ما ذهبت جيوش الدولة الأموية إليها ولم تُوفّق في فتحها . وهنا فكر موسى بن نصير أن يخوض كل بلاد أوروبا ، فيفتح فرنسا ثم إيطاليا ثم يوغوسلافيا ثم رومانيا ثم بلغاريا ثم منطقة تركيا ، حتى يصل إلى القسطنطينية من جهة الغرب ؛ أي أنه سيتوغل بالجيش الإسلامي في عمق أوروبا منقطعا عن كل مدد . فأرعب هذا الأمر الوليد بن عبد الملك ، وفكر فيما لو احتاج هذا الجيش إلى مدد ؟ فالمدد على بعد شهور منه ، ويفصل بينه وبين بلاد المسلمين بحار وجبال وأراض واسعة ، فخشي الوليد بن عبد الملك على جيش المسلمين من الهلكة وعجل بأمر عودة موسى بن نصير وطارق بن زياد .

هِمّـةٌ عاليـة !..


وهنا لا بد لنا أن نقف وقفة عند هذه الهمّة العالية التي كانت بادية عند موسى بن نصير ، خاصة إذا علمنا أنه عندما كان يفكر هذا التفكير كان يبلغ من العمر خمسة وسبعين سنة !!!.
فلله دره.. شيخ كبير ومع ذلك يجاهد في سبيل الله ويركب الخيول ويفتح المدينة تلو المدينة ، يحاصر أشبيليّة شهورا ويحاصر مرده شهورا ، ثم يفتح برشلونة وسرقسطة والشمال الشرقي ، ثمّ يتجه إلى الشمال الغربي ويتجه إلى الصخرة فيحاصرها ، ثم يريد أن يفتحها ويتجه إلى فرنسا وإيطاليا وغيرها حتى يصل إلى القسطنطينيّة .
أي همّة هذه التي عند هذا الشيخ الكبير التي تجعله يفعل كل هذا ويؤمّل لهذا التفكير وسنهُ خمس وسبعون سنة ! إنه ليضرب المثل لرجالات المسلمين اليوم وشيوخهم الذين بلغوا سنه أو أقل منه وظنوا أنهم قد ( خرجوا على المعاش ) وانتهت رسالتهم بخروجهم هذا ، فهي رسالة واضحة لهم بأن رسالتهم في الحياة لم تنته بعد ، فمن لتعليم الأجيال ؟! ومن لتوريث الخبرات ؟! ومن لتصحيح المفاهيم ؟!
فقد بدأ موسى بن نصير فتح الشمال الإفريقي وقد تجاوز أكثر من ستين سنة ، أي تجاوز سن المعاش في زمننا هذا ، ثم وهو في سن الخامسة والسبعين يحزن حزنا شديدا ولكن على ماذا كان حزنه ؟
حزن أولا على أمر الوليد بن عبد الملك له بتركه أرض الجهاد ، فقد كان متشوقا جدا له ؛ ليتعرض للشهادة لكنها لم تصبه . ثم حزن ثانيا حزنا شديدا لأن الصخرة لم تفتح بعد ، ثم حزن ثالثا وكان حزنه أشد لأنه لم يستكمل حلم فتح القسطنطينية من قِبَل الغرب كما كان يتمنى .


عودة وأُمنية ..

لم يجد موسى بن نصير إلا أن يسمع و يطيع لأمر الوليد بن عبد الملك ، فأخذ طارق بن زياد وعاد أدراجه إلى دمشق ، وعندما وصل وجد الوليد بن عبد الملك في مرض الموت ، وما هي إلا ثلاثة أيام حتى مات وتولى الخلافة من بعده أخوه سليمان بن الملك ، وكان على رأي أخيه في استبقاء موسى بن نصير في دمشق خوفا على هلكة جيش المسلمين في توغله داخل بلاد أوروبا نحو القسطنطينية .
وبعد عام من قدوم موسى بن نصير وسنة سبع وتسعين من الهجرة كان سليمان بن عبد الملك ذاهبا إلى الحج ، الأمر الذي وافق اشتياقا كبيرا من قِبَل موسى بن نصير ؛ فقد عاش في أرض الجهاد في شمال أفريقيا وبلاد الأندلس أكثر من عشر سنين لم يعد فيها مرة واحدة ، فما كان منه إلا أن رافق سليمان بن عبد الملك في طريقه إلى الحج في ذلك العام .
وفي طريقه إلى هناك قال موسى بن نصير : اللهم إن كنت تريد ليَ الحياة فأعدني إلى أرض الجهاد ، وأمتني على الشهادة ، وإن كنت تريد ليَ غير ذلك فأمتني في مدينة رسول الله صلى الله عليه و سلم. ووصل رضي الله عنه إلى الحج ، وبعد حجه وفي طريق عودته مات في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم دفن مع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين .

وهكذا كانت همم الصالحين وقلوب الموصولين برب العالمين، بلغ من العمر عِتِيّا إلا أنه قَدّم أكثر مما عاش ، ظل قلبه معلقا بحب ربه سبحانه وتعالى حتى دعاه فكانت الخاتمة وكانت الإجابة ، عاش بين الأسنّة في أقصى بلاد الأندلس إلا أنه مات بعد الحج في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلله دره من قائد وقدوة .

أما رفيق الدرب طارق بن زياد فقد انقطعت أخباره كلية عند هذه المرحلة عند عودته إلى دمشق مع موسى بن نصير ، ولا أحد يدري هل عاد مرة أخرى إلى الأندلس أم بقي في دمشق ؟! وإن كان هناك بعض الروايات التي لم يتوثق من صحتها تقول أنه توفي سنة مائة واثنتين أي بعد العودة من الأندلس بخمس أو ست سنين تقريبا ، لكن لم يعرف أفي دمشق أم في غيرها .


الصخرة .. والدرس الصعب

عاد موسى بن نصير وطارق بن زياد من الأندلس بعد أن تخطى المسلمون بلاد الأندلس ووصلوا بفتوحاتهم إلى غرب فرنسا ، إلا أنه كانت هناك منطقة صغيرة جدا في أقصى الشمال الغربي من بلاد الأندلس لم تفتح بعد ، ولم يخطر على بال أحد من المسلمين أنه سيأتي يوم ما وتكون تلك المنطقة هي نواة الممالك النصرانية التي ستنشأ فيما بعد ، وصاحبة اليد الطولى في سقوط الأندلس بعد ذلك بقرون .
تلك هي منطقة الصخرة التي لم يستكمل المسلمون فتحها وتهاونوا فيها ، وكان فيها طائفة كبيرة من النصارى ، و أغلب الظن أنه لو كان موسى بن نصير أو طارق بن زياد في هذا المكان ما تركوها ، إلا أننا نستطيع أن نقول : إن التهاون في أمر بسيط جدا قد يؤدي إلى ويلات عظيمة على مرور الزمن ، فلا بد أن يأخذ المسلمون كل أمورهم بالعزم والحزم وعدم الطمأنينة إلا في استكمال النهايات على أتمها .


التعديل الأخير تم بواسطة أبو أنس الأنصاري ; 07-31-2009 الساعة 05:55 PM
رد مع اقتباس
  #19  
قديم 04-21-2009, 06:43 AM
أبو أنس الأنصاري أبو أنس الأنصاري غير متواجد حالياً
II كَانَ اللهُ لَهُ II
 




افتراضي





وبهذا نكونُ قدِ انتهينا مِنَ العهدِ الأوَّلِ من عهودِ الأندلسِ ، وهوَ عهدُ الفتحِ الإسلاميِّ ، وكما ترونَ أنّها كانت مرحلةً حافلةً بالبطولاتِ والعُظماءِ فلن نستطيعَ أن ننسى بعدَ ذلكَ من هوَ موسى بن نصير الذي جاهَدَ في اللهِ حقَّ جهادِهِ حتّى استجابَ اللهُ دعوتَهُ في آخِـرِ عمـرِهِ إكراماً لهُ وأماتهُ في مدينةِ نبيهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ، ولن ننسى طارقَ بنَ زيادٍ الذي فتحَ الأمصارَ وهُوَ ليسَ بعربِيٍّ بل هُوَ مِنَ البربرِ ... فقيَّدَهُ اللهُ لهذا الدينِ ...
فهلّا تشبهنا بهؤلاءِ ؟..
وهلّا بكينا أو حتى تباكينا على هذا العهدِ لعلَّ هذا يكون دافعاً لنا لاسترجاعهِ ؟!....



نتوقَّـفُ قليلاً ثُـمَّ نعـودُ إلى عهـدِ الوُلاةِ إن شـاءَ اللهُ
ومن إسبانيـــا

رد مع اقتباس
  #20  
قديم 04-22-2009, 09:19 AM
أبو أنس الأنصاري أبو أنس الأنصاري غير متواجد حالياً
II كَانَ اللهُ لَهُ II
 




افتراضي




عَهْــدُ الْــوُلاةُ ..
بصفةٍ إجماليةٍ فقد تميزتِ الفترة الأولى من عهدِ الولاةِ بعدةِ أمورٍ ، كانَ من أهمها :

1 - نشر الإسلام في بلاد الأندلس ..
وذلك أن المسلمين بعد أن تمكنوا من توطيد أركان الدولة الإسلامية في هذه البلاد بدءوا يُعَلِّـمون الناس الإسلام ، ولأن الإسلام دين الفطرة فقد أقبل عليه أصحاب الفِطَر السوية من الناس عندما عرفته ، واختارته بلا تردد .
= وجد الإسبان في الإسلام ديناً متكاملاً شاملاً ينظم كل أمور الحياة ؛ وجدوا فيه عقيدةً واضحةً وعباداتٍ منتظمةٍ . وجدوا فيه تشريعات في السياسة والحكم والتجارة والزراعة والمعاملات . وجدوا فيه تواضعاً كبيراً جداً للقادةِ ، ووجدوا فيه كيفية التعامل والتعايش مع الأخ والأب والأم والزوجة والأبناء والجيران والأقرباء والأصدقاء ، وجدوا فيه كيفية التعامل مع العدو والأسير ، مع من تعرف ومن لا تعرف .
= لقد تعود الإسبان فصلاً كاملاً بين الدين والدولة ؛ فالدين عندهم لا يعدو أن يكون مجرد مفاهيم لاهوتيه غير مفهومه ، يتعاطونها ولكن لا يستطيعون تطبيقها ، وفي التشريعات والحكم فيشرع لهم من يحكمهم وفق هواه وما يراه ، أما في الإسلام فقد وجدوا الأمر غاية في الاختلاف ؛ فلم يستطيعوا أن يتخلفوا عن الارتباط به والانتساب إليه فدخلوا فيه أفواجا .
وفي فترة قليلة جدا أصبح عموم أهل الأندلس ( السكان الأصليين ) يدينون بالإسلام ، وأصبح المسلمون من العرب والبربر قلة بينهم، وأصبح أهل الأندلس هم جند الإسلام وأعوان هذا الدين ، وهم الذين اتجهوا بعد ذلك إلى فتوحات بلاد فرنسا.

2 - نشأة جيل المولَّـدين ..
كان من جرّاء انصهار وانخراط الفاتحين بالسكان الأصليين أن نشأ جيل جديد عُرف باسم جيل المولَّدين ، فقد كان الأب عربي أو بربري والأم أندلسية .

3 - إلغاء الطبقية ..
ألغى المسلمون الطبقية التي كانت سائدة قبل ذلك ؛ حيث جاء الإسلام وساوى بين الناس حتى كان يقف الحاكم والمحكوم سواء بسواء أمام القضاء للتحاكم في المظالم ، وعمل المسلمون في هذه الفترة على إتاحة الحريّة العقائدية للناس ، فتركوا للنصارى كنائسهم ، وما هدموها أبداً ، وما كانوا يحولونها إلى مساجد إلا إذا وافق النصارى على بيعها لهم ، وكان بيع الكنائس للمسلمين يقدّر بأثمان باهظة ، أما إن رفضوا بيعها تركها المسلمون لهم . فلنلاحظ أن ذلك والنصارى محكومون من قِبَل المسلمين ، ولنعي هذا الأمر جيداً ولنقارن صنيع المسلمين هذا بما سيفعله النصارى بعد انتهاء الحكم الإسلامي في بلاد الأندلس فيما عُرف باسم محاكم التفتيش الأسبانية .

4 - الإهتمام بالحضارة المادية ..
اهتم المسلمون في هذه الفترة كذلك بتأسيس الحضارة المادية أو المدنية ، فأسسوا الإدارة وأقاموا العمران وأنشأوا القناطر والكباري ، ومما يدل على براعتهم في ذلك تلك القنطرة العجيبة التي تسمى قنطرة قرطبة ، وهي من أعجب القناطر الموجودة في أوروبا في ذلك الزمن ، كذلك أنشأ المسلمون دياراً كبرى للأسلحة وصناعة السفن ، وبدأت الجيوش الإسلامية تقوى وتتعاظم في هذه المنطقة .

5 - تقليد الإسبان للمسلمين في كل شيء ..
كان من السمات المميّزة أيضا في هذه الفترة الأولى من عهد الولاة أن الأسبان بدءوا يقلدون المسلمين في كل شيء ، حتى أصبحوا يتعلمون اللغة العربية التي يتكلمها الفاتحون ، بل كان الأسبان النصارى واليهود يفتخرون بتعليم اللغة العربية في مدارسهم .

6 - اتخاذ المسلمين قرطبة عاصمة لهم ..
كذلك كان من ضمن السمات المميزة لهذه الفترة أن اتخذ المسلمون قرطبة عاصمة لهم ؛ فقد كانت طليطلة في الشمال قبل ذلك هي عاصمة الأندلس ، ولكن المسلمون وجدوا أنها قريبة من فرنسا وقريبة من منطقة الصخرة وهما من مصادر الخطر عليهم ، فرأوا أن طليطلة بذلك مدينة غير آمنة ومن ثم فلا يمكن أن تكون هي العاصمة ، فكان أن اختاروا مدينة قرطبة في اتجاه الجنوب لانتفاء الأسباب السابقة ، وأيضا حتى تكون قريبة من المدد الإسلامي في بلاد المغرب .

7 - الجهاد في فرنسا ..
الجهاد في فرنسا كان من أهم السمات المميزة جدا لهذه الفترة الأولى من عهد الولاة ، وقد كانت له خطوات كبيرة جدا في هذه الفترة ، ونذكر هنا بعض الولاة الذين كان لهم سبق وظهور حاضر في عملية الجهاد في بلاد فرنسا ، فكان منهم على سبيل المثال :
= السَّمْـح بن مالك الخولاني :
من حسنات الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز رحمهُ اللهُ ولاية السَّمْح بن مالك الخولاني رحمه الله على الأندلس ، فقد حكم عمر بن عبد العزيز رحمهُ اللهُ المسلمين سنتين ونصف على الأكثر ، من سنة تسع وتسعين إلى سنة واحد ومائة من الهجرة ، وفي هذه الفترة الوجيزة عمّ الأمن والرخاء والعدل كل بلاد المسلمين، اختار عمر بن عبد العزيز رحمه الله السمح بن مالك الخولاني ، ذلك القائد الربّاني المشهور في التاريخ الإسلامي ، وهو القائد الذي انطلق إلى بلاد فرنسا مجاهداً ، كان بفرنسا مدينة إسلامية واحدة هي مدينة أربونة ، تلك التي فتحها موسى بن نصير رحمه الله بسرية من السرايا ، لكن السمح بن مالك الخولاني فتح كل منطقة الجنوب الغربي لفرنسا ، ثم أسّس مقاطعة ضخمة جداً وهي مقاطعة سبتمانيا ، وتسمى الآن بساحل الريفييرا ، وتعد من أشهر المنتجعات السياحية في العالم !
أخذ السمح الخولاني في استكمال الفتوح في جنوب غرب فرنسا ، وفي ذات الوقت أرسل يعلم الناس الإسلام ، سواء في فرنسا أو في الأندلس إلى أن لقي ربه شهيداً يوم عرفة سنة اثنتين ومائة من الهجرة .

= عنبسة بن سحيم :
تولى بعد السمح الخولاني بعض الولاة نتجاوزهم حتى نصل إلى عنبسة بن سحيم رحمه الله ، وكان عنبسة قائداً تقياً ورعاً ، وهو الإداري العسكري المشهور ، كان مجاهداً حق الجهاد ، وقد حكم بلاد الأندلس من سنة ثلاث ومائة إلى سنة سبع ومائة من الهجرة ، وقد وصل عنبسة في جهاده إلى مدينة سانس ، وهي تبعد عن العاصمة باريس بنحو ثلاثين كيلو مترا ، وباريس هذه ليست في وسط فرنسا وإنما تقع في أقصى الشمال منها ، وهذا يعني أن عنبسة بن سحيم قد وصل إلى ما يقرب من سبعين بالمائة من أراضي فرنسا ، ويعني هذا أيضا أن سبعين بالمائة من أراضي فرنسا كانت بلاداً إسلامية ، وقد استشهد عنبسة بن سحيم رحمه الله وهو في طريق عودته .





عبد الرحمن الغافقي .. وبلاط الشهداء



بعد استشهاد عنبسة رحمه الله بدأت الأمور في التغير ؛ فقد تولى حكم الأندلس من بعده مجموعة من الولاة على غير عادة السابقين ، كان آخرهم رجل يدعى الهيثم الكلابي ، وكان عربياً متعصباً لقومه وقبيلته .
ومن هنا بدأت الخلافات تدب بين المسلمين ، المسلمون العرب من جهة والمسلمون البربر من جهة أخرى ، خلافات بحسب العرق وبحسب العنصر ، وهو أمر لم يحدث في تاريخ المسلمين منذ فتح المسلمون هذه المناطق حتى هذه اللحظة .
لم تمر خلافات العصبيات هذه مرور الكرام ، وإنما دارت معارك ومشاحنات بين المسلمين العرب وبين المسلمين البربر ، حتى منّ الله على المسلمين بمن قضى عليها ووحّد الصفوف من جديد ، و بدأ يبث في الناس روح الإسلام الأولى التي جمعت بين البربر وبين العرب ، والتي لم تفرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى، ذلك هو عبد الرحمن الغافقي رحمه الله .
بعد أن وحّد عبد الرحمن الغافقي المسلمين وتيقن أن قوة الإيمان قد اكتملت ، توجه بهم ناحية فرنسا ليستكمل الفتح من جديد ، ودخل مناطق لم يدخلها السابقون ، فوصل إلى أقصى غرب فرنسا ، وأخذ يفتح المدينة تلو المدينة، ففتح مدينة آرل ثم مدينة بودو ( وهي موجودة الآن ) ثم مدينة طلوشة ثم مدينة تور ثم وصل إلى بواتيه ، وهي المدينة التي تسبق باريس مباشرة ، والفارق بينها وبين باريس حوالي مائة كيلو متر تقريبا إلى الغرب منها ، وبينها وبين قرطبة حوالي ألف كيلو متر ، أي أنه توغل كثيرًا جدًا في بلاد فرنسا في اتجاه الشمال الغربي .
وفي مدينة بواتيه عسكر عبد الرحمن الغافقي في منطقة تسمى البلاط ( البلاط في اللغه الأندلسية تعني القصر ) ، عند قصر قديم مهجور كان بها ، ثم بدأ في تنظيم جيشه لملاقاة جيش النصارى ، وكان عدد جيشه يصل إلى خمسين ألف مقاتل ؛ ولذا تُعد حملة عبد الرحمن الغافقي هي أكبر حملة تدخل إلى بلاد فرنسا .



سلبيات قادت إلى الهزيمة :



رغم ضخامة حملة عبد الرحمن الغافقي تلك إلا إنه كانت هناك مشكلة كبيرة تكاد تفتك بها ، وهي أن هذه الحملة كانت قد فتحت مدنا كثيرة حتى وصلت إلى بواتيه ، ومن ثم فقد جمعت من الغنائم الكثير الذي زاد وثقل في أيدي المجاهدين ، وهنا بدأ المجاهدون ينظرون إلى هذه الغنائم ويفتنون بهذه الأموال الضخمة التي حصّلوها .
ونتيجة هذا فقد اشتهر بين الناس فكرة العودة إلى بلاد الأندلس لحفظ هذه الغنائم هناك حتى لا يحصل عليها الفرنسيون ، لكن عبد الرحمن الغافقي رحمه الله جمع الناس وقال مخاطباً إياهم : ما جئنا من أجل هذه الغنائم ، وما جئنا إلا لتعليم هؤلاء الناس هذا الدين، ولتعبيد العباد لرب العباد سبحانه وتعالى ، وأخذ يحفزهم على الجهاد والموت في سبيل الله، ثم انطلق بالجيش إلى بواتيه رغما عن أنف الجنود .
عندما وصل عبد الرحمن الغافقي بالجيش إلى بواتيه ظهرت ثمة أمور أخرى جديدة ؛ فقد تجددت العصبيات التي كانت قد اندحرت في بلاد الأندلس بين العرب والبربر من جديد ؛ وذلك بسبب كثرة الغنائم ، فقد اختلفوا في توزيعها رغم أنه معروف ومتفق عليه ، أخذ كلّ ينظر إلى ما بيد الآخر، وكلّ يريد الأكثر ، يقول العرب أنهم أحق لأفضليتهم ، ويقول البربر نحن الذين فتحنا البلاد ، ونسي الجميع أن الفاتحين الأوائل ما فرقوا أبدًا بين عرب وبربر ، بل وبينهم وبين من دخل الإسلام من الأندلسيين بعد ذلك .
وإضافة إلى العصبية وحب الغنائم والحرص عليها فقد اجتمع إلى جوارهما الزهو والاغترار بالكثرة والعدد الضخم ، فخمسون ألفا من المجاهدين عدد لم يسبق في تاريخ الأندلس ، فأخذتهم العزة ، وظنوا أنهم لن يغلبوا بسبب كثرتهم هذه ، ومن بعيد تلوح في الأفق حُنينًا جديدة [ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ] {التوبة:25} ؛ فالمسلمون لم ينتصروا أبداً بعدتهم ولا عتادهم ، وإنما كانوا ينتصرون بطاعتهم لله ومعصية عدوهم له سبحانه وتعالى ، وللأسف الشديد فرغم وجود هذا القائد الرباني التقي الورع إلا أن عوامل الهزيمة داخل الجيش الإسلامي كانت كثيرة وأقوى منه.



بلاط الشهداء .. من أشرس المعارك الإسلامية



ما رأينا كان حال جيش المسلمين ، أما جيش النصارى فقد قَدِم من باريس بنحو أربعمائة ألف مقاتل ، أي ما يقرب من ثمانية أضعاف الجيش الإسلامي ، وكان على رأسهم رجل يسمى تشارل مارتل ، ويطلقون عليه في العربية : قارله ، أما مارتل فهو لقبه ويعني المطرقة ، وكان لقّبه به بابا إيطاليا ؛ لأنه كان شديدًا على أعدائه ، وكان من أقوى حكام فرنسا على الإطلاق ، كانت ضخامة جيش الأعداء أمر قد اعتاد عليه المسلمون أو الفاتحون الأوائل ، فلم تكن لتهزّهم مثل هذه الأرقام التي قدم بها النصارى من باريس ، لكن جيش المسلمين كان فيه من عوامل الضعف الكثير ، وفوق ذلك فهو يبعد عن أقرب مركز إمداد له وهو قرطبة بنحو ألف كيلو متر كما ذكرنا قبل قليل .
في منطقة بواتيه ، وفي موقعة من أشرس المواقع الإسلامية على الإطلاق ، التقى الجمعان ودارت رحى الحرب ، جَمْع المسلمين بما فيه من العوامل التي ذكرناها سابقا من جهة ، وجمع النصارى الذي يفوق جيش المسلمين بنحو ثمانية أضعاف كاملة من جهة أخرى ، وكانت البداية في شهر رمضان من سنة مائة وأربعة عشر من الهجرة ، واستمر القتال لمدة عشرة أيّام متصلة ، ورغم عدم تكافؤ القوتين لصالح النصارى ، إلا أن الغلبة في بداية المعركة كانت للمسلمين على قلة عددهم ، لكن النصارى في نهاية المعركة فَطِنوا إلى كمية الغنائم الضخمة التي كانت خلف الجيش الإسلامي ، فالتفوا حول الجيش وهاجموا الغنائم وبدءوا يسلبونها ، ولأن حب الغنائم كان قد أخذ موقعا في قلوب المسلمين ، فكان أن ارتبك المسلمون وأسرعوا يحموا الغنائم الكثيرة ، فحدثت هزة في وحدة صف الجيش الإسلامي وارتباك شديد ، كانت نهايته هزيمة قاسية للجيش الإسلامي في هذه الموقعة ، موقعة بواتيه ، أو موقعة بلاط الشهداء ( بلاط هو القصر الذي دارت عنده الحرب ، والشهداء لكثرة شهداء المسلمين في هذه المعركة ) .
لم تذكر الروايات الإسلامية حصرا دقيقا لشهداء المسلمين في بلاط الشهداء ، إلا أن بعض الروايات الأوروبية بالغت كثيرًا في أعداد قتلى المسلمين فيها ، فتذكر بعضها أن قتلى المسلمين في بلاط الشهداء بلغ خمسة وسبعين وثلاثمائة ألف مسلم ! وهو بلا شك رقم مبالغ فيه جداً ؛ لأن جيش المسلمين في الأساس لم يتعد حاجز الخمسين ألفاً .
وفي رواياتهم يقول الأوروبيون متخوفين أنه لو كان انتصر المسلمون في بلاط الشهداء على الفرنسيين لفتحت أوروبا جميعاً ، ولدُرِّس القرآن في جامعات أوكسفورد وغيرها من الجامعات الأوروبية ، ووالله إنها لتعاسة لهم وخسران أن لم ينتصر المسلمون ، فلو انتصروا لكان قد انتشر الخير في هذه البلاد ، لكنهم ظلوا في ضلالتهم وظلوا في غيهم يعمهون ويعبدون غير الله سبحانه وتعالى ويشركون به .
بعد هذه المعركة انسحب المسلمون إلى الداخل ، ومع أنهم هُزموا وانسحبوا إلا أنها لم تكن هزيمة ساحقة كما صورها الأوربيون ، بدليل أن جيش النصارى لم يتبع جيش المسلمين حيث انسحبوا ، وكان من عادة الجيوش أنها تتتبع الجيش الفار ، بل اكتفى النصارى بما أخذوه من غنائم وما قتلوه من قتلى من المسلمين .



وقفة مع بلاط الشهداء :



يقول الله تعالى في كتابه الكريم: [ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورُ ] {فاطر:5} . فالملاحظ أن المسلمين قد اغتروا بهذه الدنيا التي فتحت عليهم فتنافسوها ، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ .
فسنة لله تعالى في خلقه أنه إن فتحت الدنيا على المسلمين وتنافسوها كما تنافسها من كان قبلهم من الأمم السابقة، فإنها ستهلكهم أيضا كما أهلكت هذه الأمم السابقة [ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا ] {فاطر:43} .
أمر آخر كان في جيش المسلمين وكان من عوامل الهزيمة وهو العنصرية والعصبيّة القبليّة التي كانت بين العرب والبربر في هذه الموقعة ، ولقد شاهد الفرنسيون أثر هذا الذي نشأ بين العرب وبين البربر ، ووعت الكتب الفرنسية هذا الأمر جيداً ، وظل في ذاكرتها على مدار التاريخ حتى مرت الأيام ومرت السنوات ودخلت فرنسا بلاد الجزائر واحتلتها من سنة ألف وثمانمائة وثلاثين ، وحتى سنة ألف وتسعمائة وستين ميلادية ، فحين قامت الحركات الاستقلاليّة منذ سنة ألف وتسعمائة وعشرين وما بعدها ، وحين فكرت فرنسا في القضاء على هذه الحركات الاستقلالية الناشئة لم تجد أمامها إلا إشاعة الفتنة بين العرب والبربر وضربهم ببعضهم البعض، فكانت تشيع داخل البربر أنهم قريبون من العنصر الآري ( وهو العنصر الأوروبي ) ، وبعيدون عن العنصر السامي ( وهم العرب ) ، أي أنتم منا ونحن منكم والعرب بيننا غرباء ؛ وذلك للتشابه الكبير بين البربر والأوروبيين في الشكل الخارجي الأمر الذي لا يعترف به الإسلام ولا يقره على الإطلاق فالمعيار الوحيد في التفاضل في الإسلام هو التقوى.
ولم تكتف فرنسا بذلك، بل قامت بتكثيف تعليم اللغة الفرنسية في مناطق البربر ، ومنعت تعليم اللغة العربية في هذه المناطق أصلا ؛ وذلك حتى يتم فصل البربر عن العرب تماما في منطقة الجزائر ، وهي وإن كانت قد نجحت في أمر اللغة بعض الشيء إلا إنها لم تفلح على الإطلاق في تحويل ديانة البربر الإسلامية إلى النصرانية ، فظل البربر على إسلامهم وإن كانت لغتهم قد تغيّرت ، في بادئ الأمر كان البربر الذين يعيشون في منطقة الجزائر تسمى قبائل الأمازيغ ، وكانوا يمثلون خمسة عشر بالمائة من شعب الجزائر ، ورغم أن لهم لغة خاصة بهم وهي الأمازيغية إلا أنهم كانوا يتمسكون بالعربية ، لكن حين قامت فرنسا بهذا الأمر بدأت تُذْكي الروح البربريّة في اللغة المنفردة لهذه القبائل ؛ فبدأت تعلم اللغة الأمازيغية ، حتى إنها أنشأت في فرنسا عام سبعة وستين وتسعمائة وألف أكاديمية خاصة لتعليم اللغة الأمازيغية ، وبدأت تكتب اللغة الأمازيغية بحروف لاتينية رغم أنها كانت لغة منطوقة وليست مكتوبة ، قامت فرنسا كذلك بحذف الكلمات العربية التي كانت قد دخلت هذه اللغة وأبدلتها بأخرى أصيلة في اللغة البربرية ، وبدأت بالفعل في اجتذاب الشباب من البربر لتعليمهم اللغة الأمازيغية في فرنسا ، حتى إنه في عام ثمانية وتسعين وتسعمائة وألف أنشأت ما يسمى بالأكاديمية العالمية للبربر ، فبدأت تجمع البربر من مناطق المغرب العربي وغرب إفريقيا وتعلمهم اللغة الخاصة بهم ، وكل ذلك لفصل العرب عن البربر ، تلك الجموع التي ما هي إلا جموع إسلامية ارتبطت برباط العقيدة والدين ، لكنها رأت آثار ذلك في وادي برباط وما تلاها فلم تتوان ، وفي ذات الوقت الذي تعمل فيه فرنسا جاهدة على إقامة لغة غير العربية في بلد عربي ، كانت هي فرنسا التي رفضت المشروع الذي تقدم به جوسبان رئيس وزرائها إلى شيراك سنة تسع وتسعين وتسعمائة وألف بإقرار بعض اللغات المحلية داخل فرنسا ، والذي رد عليه شيراك بقوله: إنك بهذا تريد بلقنة فرنسا ، أي تجعلها كدول البلقان ، بلاد متفرقة بحسب العرق وبحسب العنصر ، حلالٌ على الجزائرِ حرامٌ على فرنسا !!!



التعديل الأخير تم بواسطة أبو أنس الأنصاري ; 06-11-2009 الساعة 12:49 PM
رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

 

منتديات الحور العين

↑ Grab this Headline Animator

الساعة الآن 04:21 PM.

 


Powered by vBulletin® Version 3.8.4
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
.:: جميع الحقوق محفوظة لـ منتدى الحور العين ::.