انا لله وانا اليه راجعون... نسألكم الدعاء بالرحمة والمغفرة لوالد ووالدة المشرف العام ( أبو سيف ) لوفاتهما رحمهما الله ... نسأل الله تعالى أن يتغمدهما بواسع رحمته . اللهم آمـــين

العودة   منتديات الحور العين > .:: المنتديات الشرعية ::. > ملتقيات علوم الغاية > القرآن الكريم

القرآن الكريم [أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوبٍ أقفالها] .

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #41  
قديم 05-23-2013, 11:05 PM
صابر عباس حسن صابر عباس حسن غير متواجد حالياً
قـــلم نــابض
 




افتراضي


بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(موسى عليه السلام)
وبعض آيات من سورة القصص
(4)

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)

********

مرحلة الشباب

وبلوغ الأشد اكتمال القوى الجسمية . والاستواء اكتمال النضوج العضوي والعقلي . وهو يكون عادة حوالي سن الثلاثين . فهل ظل موسى في قصر فرعون , ربيبا ومتبنى لفرعون وزوجه حتى بلغ هذه السن ? أم إنه افترق عنهما , واعتزل القصر ,

وترد آيات سورة الشعراء على هذا التسائل :

قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ -18 وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ – 19

قال فرعون لموسى ممتنًا عليه : ألم نُرَبِّك في منازلنا صغيرًا , ومكثت في رعايتنا سنين من عُمُرك وارتكبت جنايةً بقتلك رجلًا من قومي حين ضربته ودفعته , وأنت من الجاحدين نعمتي المنكرين ربوبيتي ؟

********

وَدَخَلَ ٱلْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَـٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَـٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ, فَٱسْتَغَاثَهُ ٱلَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى ٱلَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ,فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ, قَالَ هَـٰذَا مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ - 15

قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ - 16 قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ -17


********
جاء في تفسير الجلالين

﴿ودخل﴾ موسى ﴿ المدينة ﴾ مدينة فرعون وهي منف بعد أن غاب عنه مدة ﴿ على حين غفلة من أهلها ﴾ وقت القيلولة ﴿ فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته ﴾ أي من بني إسرائيل ﴿ وهذا من عدوه ﴾ أي قبطي يسخره ليحمل حطبا إلى مطبخ فرعون.
﴿ فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه ﴾ فقال له موسى خل سبيله..
فقيل إنه قال لموسى لقد هممت أن أحمله عليك..
﴿ فوكزه موسى ﴾ أي ضربه بجمع كفه وكان شديد القوة والبطش ﴿ فقضى عليه ﴾ أي قتله ولم يكن يقصد قتله ودفنه في الرمل..
﴿ قال هذا ﴾ أي القتل ﴿ من عمل الشيطان ﴾ المهيج غضبي ﴿ إنه عدو ﴾ لابن آدم ﴿ مضل ﴾ له ﴿ مبين ﴾ بين الإضلال..

********

ثم استطرد موسى عليه السلام في فزع مما دفعه إليه الغضب , يعترف بظلمه لنفسه أن حملها هذا الوزر , ويتوجه إلى ربه , طالبا مغفرته وعفوه:

( قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ ). .

واستجاب الله إلى ضراعته , وحساسيته , واستغفاره:

( فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ). .

وكأنما أحس موسى بقلبه المرهف وحسه المتوفز في حرارة توجهه إلى ربه , أن ربه غفر له .
والقلب المؤمن يحس بالاتصال والاستجابة للدعاء , فور الدعاء , حين يصل إرهافه وحساسيته إلى ذلك المستوى ; وحين تصل حرارة توجهه إلى هذا الحد . . وارتعش وجدان موسى - عليه السلام - وهو يستشعر الاستجابة من ربه , فإذا هو يقطع على نفسه عهدا , يعده من الوفاء بشكر النعمة التي أنعمها عليه ربه :

( قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ ). .

فهو عهد مطلق ألا يقف في صف المجرمين ظهيرا ومعينا . وهو براءة من الجريمة وأهلها في كل صورة من صورها . حتى ولو كانت اندفاعا تحت تأثير الغيظ , ومرارة الظلم والبغي . ذلك بحق نعمة الله عليه في قبول دعائه ; ثم نعمته في القوة والحكمة والعلم التي آتاه الله من قبل . وهذه الإرتعاشة العنيفة , وقبلها الإندفاع العنيف , تصور لنا شخصية موسى - عليه السلام - شخصية انفعالية , حارة الوجدان , قوية الاندفاع . وسنلتقي بهذه السمة البارزة في هذه الشخصية في مواضع أخرى كثيرة .

*******

اليوم التالي

فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ – 18

ومر يوم وأصبح في المدينة خائفا من انكشاف أمره , يترقب الافتضاح والأذى .
ولفظ ( يترقب ) يصور هيئة القلق الذي يتلفت ويتوجس , ويتوقع الشر في كل لحظة . . وهي سمة الشخصية الانفعالية تبدو في هذا الموقف كذلك . والتعبير يجسم هيئة الخوف والقلق بهذا اللفظ , كما أنه يضخمها بكلمتي ( في المدينة ) فالمدينة عادة موطن الأمن والطمأنينة , فإذا كان خائفا يترقب في المدينة , فأعظم الخوف ما كان في مأمن ومستقر !

وحالة موسى هذه تلهم أنه لم يكن في هذا الوقت من رجال القصر . وإلا فما أرخص أن يزهق أحد رجال القصر نفسا في عهود الظلم والطغيان ! وما كان ليخشى شيئا فضلا على أن يصبح ( خائفا يترقب ) لو أنه كان ما يزال في مكانه من قلب فرعون وقصره .

وبينما هو في هذا القلق والتوجس إذا هو يطلع : ( فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه ) !

إنه صاحبه من بني إسرائيل الذي طلب بالأمس نصرته على القبطي . إنه هو مشتبكا مع قبطي آخر ; وهو يستصرخ موسى لينصره ; ولعله يريد منه أن يقضي على عدوهما المشترك بوكزة أخرى !

ولكن صورة قتيل الأمس كانت ما تزال تخايل لموسى . وإلى جوارها ندمه واستغفاره وعهده مع ربه . ثم هذا التوجس الذي يتوقع معه في كل لحظة أن يلحقه الأذى . فإذا هو ينفعل على هذا الذي يستصرخه , ويصفه بالغواية والضلال:

قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ.

غوي بعراكه هذا الذي لا ينتهي واشتباكاته التي لا تثمر إلا أن تثير الثائرة على بني إسرائيل . وهم عن الثورة الكاملة عاجزون , وعن الحركة المثمرة ضعفاء . فلا قيمة لمثل هذه الاشتباكات التي تضر ولا تفيد .
ولكن الذي حدث أن موسى - بعد ذلك - انفعلت نفسه بالغيظ من القبطي , فاندفع يريد أن يقضي عليه كما قضى على الأول بالأمس !
ولهذا الاندفاع دلالته على تلك السمة الانفعالية التي أشرنا إليها , ولكن له دلالته من جانب آخر على مدى امتلاء نفس موسى - عليه السلام - بالغيظ من الظلم , والنقمة على البغي , والضيق بالأذى الواقع على بني إسرائيل .

فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ – 19

لقد طال الظلم ببني إسرائيل , فضاقت به نفس موسى - عليه السلام - حتى رأيناه يندفع في المرة الأولى

ويندم , ثم يندفع في المرة الثانية لما ندم عليه حتى ليكاد يفعله , ويهم أن يبطش بالذي هو عدو له ولقومه .
لذلك لم يتخل الله عنه , بل رعاه , واستجاب له , فالله العليم بالنفوس يعلم أن للطاقة البشرية حدا في الاحتمال . وأن الظلم حين يشتد , وتغلق أبواب النصفة , يندفع المضطهد إلى الهجوم والاقتحام . فلم يهول في وصف الفعلة التي فعلها موسى , كما تهول الجماعات البشرية التي مسخ الظلم فطرتها بإزاء مثل هذا العمل الفطري مهما تجاوز الحدود تحت الضغط والكظم والضيق .

ويبدو أن رائحة فاحت عن قتيل الأمس , وأن شبهات تطايرت حول موسى . لما عرف عن كراهيته من قبل لطغيان فرعون وملئه , إلى جانب ما يكون قد باح به صاحبه الإسرائيلي سرا بين قومه , ثم تفشى بعد ذلك خارج بني إسرائيل .

فلما أراد موسى أن يبطش بالقبطي الثاني واجهه هذا بالتهمة , لأنها عندئذ تجسمت له حقيقة , وهو يراه يهم أن يبطش به , وقال له تلك المقالة : ( أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس ? ).
أما بقية عبارته: ( إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين ). . فتلهم أن موسى كان قد اتخذ له في الحياة مسلكا يعرف به أنه رجل صالح مصلح , لا يحب البغي والتجبر . فهذا القبطي يذكره بهذا ويوري به ; ويتهمه بأنه يخالف عما عرف عنه . يريد أن يكون جبارا لا مصلحا , يقتل الناس بدلا من إصلاح ذات البين , وتهدئة ثائرة الشر . وطريقة خطابه له وموضوع خطابه , كلاهما يلهم أن موسى لم يكن إذ ذاك محسوبا من رجال فرعون . وإلا ما جرؤ المصري على خطابه بهذه اللهجة ,

والظاهر أن موسى لم يقدم على ضربه بعد إذ ذكره الرجل بفعلة الأمس , وأن الرجل أفلت لينهي إلى الملأ من قوم فرعون أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس..

*******
كانت مصادر تفسير هذا اللقاء :
(في ظلال القرآن) (التفسير الميسر) (تفسير السعدي) (تفسير الجلالين)


*******
وإلى الملتقى إن شاء الله تعالى
رد مع اقتباس
  #42  
قديم 05-31-2013, 04:47 PM
صابر عباس حسن صابر عباس حسن غير متواجد حالياً
قـــلم نــابض
 




افتراضي



بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(موسى عليه السلام)
وبعض آيات من سورة القصص
(5)

مرحلة الشباب

وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ (22)

**********

إن القتل شئ بشع , أدرك "موسى" على الفور فداحة هذا الأمر الذي لم يقصده أصلا , وأصيب بالغم ..

قال تعالى: وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ..40 طه

فالإنسان في فسحة من دينه مالم يصب دما كما ورد في الحديث الشريف ...

ونقرأ ذلك ونتعجب اليوم على هذا الكم الهائل من القتلى يوميا عمدا مع سبق الإصرار والترصد لأبرياء من نساء وأطفال وشيوخ , فلا يدري القاتل لماذا يقتل ولا يدري المقتول لماذا قتل.

*******

مشهد جديد . رجل يجيء إلى موسى من أقصى المدينة , يحذره ائتمار الملأ من قوم فرعون به , وينصح بالهرب من المدينة إبقاء على حياته:

وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ.

إنه قدر الله ومشيئته لإنقاذ موسى في اللحظة المطلوبة ....
لقد عرف الملأ من قوم فرعون , وهم رجال حاشيته وحكومته والمقربون إليه أنها فعلة موسى .
وما من شك أنهم أحسوا فيها بشبح الخطر . فهي فعلة طابعها الثورة على الظلم , والانتصار لبني إسرائيل .
وإذن فهي ظاهرة خطيرة تستحق التآمر . ولو كانت جريمة قتل عادية ما استحقت أن يشتغل بها فرعون والملأ والكبراء .

ونلاحظ قدرة الله تعالى في إنقاذ موسى عليه السلام..
جاء واحدا من الملأ . الأرجح أنه الرجل المؤمن من آل فرعون الذي يكتم إيمانه , والذي جاء ذكره في سورة [ غافر ] ساقه الله ليسعى إلى موسى ( من أقصى المدينة ) في جد واهتمام ومسارعة , ليبلغه قبل أن يبلغه رجال فرعون : ( إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك , فاخرج إني لك من الناصحين ). .

فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ..

خرج منزعجاً بنذارة الرجل الناصح، لم يتزود ولم يتخذ دليلاً. ولكن نلاحظ شيئا عظيما آلا وهو التعلق بربه مستسلما له...

التوجه المباشر بالطلب إلى الله , والتطلع إلى حمايته ورعايته , والالتجاء إلى حماه في المخافة , وترقب الأمن عنده والنجاة: ( رب نجني من القوم الظالمين ). .

ثم يتبعه السياق خارجا من المدينة , خائفا يترقب , وحيدا فريدا , غير مزود إلا بالاعتماد على مولاه ; والتوجه إليه طالبا عونه وهداه:

وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ..

ومرة أخرى نجد موسى ـ عليه السلام ـ في قلب المخافة، بعد فترة من الأمن. بل من الرفاهية. ونجده وحيداً مجرداً من قوى الأرض الظاهرة جميعاً، يطارده فرعون وجنده، ويبحثون عنه في كل مكان، لينالوا منه اليوم ما لم ينالوه منه طفلاً.

ولكن اليد التي رعته وحمته هناك ترعاه وتحميه هنا، ولا تسلمه لأعدائه أبداً. فها هو ذا يقطع الطريق الطويل، ويصل إلى حيث لا تمتد إليه اليد الباطشة بالسوء...

**********

كانت مصادر تفسير هذا اللقاء :
(في ظلال القرآن) (التفسير الميسر) (تفسير السعدي) (تفسير الجلالين)


وإلى الملتقى إن شاء الله تعالى


رد مع اقتباس
  #43  
قديم 06-07-2013, 06:46 PM
صابر عباس حسن صابر عباس حسن غير متواجد حالياً
قـــلم نــابض
 




افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(موسى عليه السلام)
وبعض آيات من سورة القصص
(6)

مرحلة الشباب

نستكمل بعون الله تعالى الرحلة المباركة لنبي الله موسى عليه السلام..حيث توجه إلى مدينة مدين..

وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّيۤ أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ -22

وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن
دُونِهِمُ ٱمْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرِّعَآءُ
وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ – 23

فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى ٱلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ – 24


اتجه موسى ـ عليه السلام ـ فريداً وحيداً عبر الصحراء في اتجاه مدين في جنوبي الشام وشمالي الحجاز. مسافات شاسعة، وأبعاد مترامية، لا زاد ولا استعداد، فقد خرج من المدينة خائفاً يترقب،

*******

ومرة أخرى نجد موسى ـ عليه السلام ـ في قلب المخافة، بعد فترة من الأمن. بل من الرفاهية. ونجده وحيداً مجرداً من قوى الأرض الظاهرة جميعاً، يطارده فرعون وجنده، ويبحثون عنه في كل مكان، لينالوا منه اليوم ما لم ينالوه منه طفلاً...

ولكن اليد التي رعته وحمته هناك ترعاه وتحميه هنا، ولا تسلمه لأعدائه أبداً. فها هو ذا يقطع الطريق الطويل، ويصل إلى حيث لا تمتد إليه اليد الباطشة بالسوء .

********

لقد انتهى به السفر الشاق الطويل إلى ماء لمدين. وصل إليه وهو مجهد. وإذا هو يطلع على مشهد لا تستريح إليه النفس ذات المروءة، السليمة الفطرة، كنفس موسى ـ عليه السلام ـ وجد الرعاة الرجال يوردون أنعامهم لتشرب من الماء , ووجد هناك امرأتين تمنعان غنمهما عن ورود الماء. والأولى عند ذوي المروءة والفطرة السليمة، أن تسقي المرأتان وتصدرا بأغنامهما أولاً، وأن يفسح لهما الرجال ويعينوهما ...

*****

ويعود بنا الحديث عن مكانة المرأة في الإسلام . حيث العناية بها وتكريمها....

وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : ما أكرم النساء إلا كريم ، و لا أهانهن إلا لئيم ...

*****

ولم يقعد موسى الهارب المطارد، المسافر المكدود ، ليستريح وهو يشهد هذا المنظر المنكر المخالف للمعروف. بل تقدم للمرأتين يسألهما عن أمرهما الغريب :

قال: ما خطبكما ؟..
قالتا : لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير...

فأَطلعتاه على سبب انزوائهما وتأخرهما وذودهما لغنمهما عن الورود. إنه الضعف، فهما امرأتان وهؤلاء الرعاة رجال. وأبوهما شيخ كبير لا يقدر على الرعي ومجالدة الرجال...

وثارت نخوة موسى ـ عليه السلام ـ وفطرته السليمة. فتقدم لإقرار الأمر في نصابه.
تقدم ليسقي للمرأتين أولاً، كما ينبغي أن يفعل الرجال ذوو الشهامة وهو غريب في أرض لا يعرفها، ولا سند له فيها ولا ظهير. وهو مكدود قادم من سفر طويل بلا زاد ولا استعداد. وهو مطارد ، من خلفه أعداء لا يرحمون. ولكن هذا كله لا يقعد به عن تلبية دواعي المروءة والنجدة والمعروف، وإقرار الحق الطبيعي الذي تعرفه النفوس المؤمنة :

فسقى لهما .

مما يشهد بنبل هذه النفس التي صنعت على عين الله تعالى. كما تدل على قوته التي ترهب حتى وهو في إعياء السفر الطويل. ولعلها قوة نفسه التي أوقعت في قلوب الرعاة رهبته أكثر من قوة جسمه. فإنما يتأثر الناس أكثر بقوة الأرواح والقلوب....

ثم تولى إلى الظل فقال : رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير....

رب إني في خيرك الدائم ونعمك التي لا تعد ولا تحصى.. رب إني فقير..

******

فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى ٱسْتِحْيَآءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ ٱلْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ – 25

قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يٰأَبَتِ ٱسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ ٱسْتَأْجَرْتَ ٱلْقَوِيُّ ٱلأَمِينُ - 26

قَالَ إِنِّيۤ أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ٱبْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ, سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ
اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ – 27

قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا ٱلأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ - 28

******

وما نكاد نستغرق مع موسى ـ عليه السلام ـ في مشهد المناجاة حتى يعجل السياق بمشهد الفرج، معقباً في التعبير بالفاء،
فجاءته إحداهما تمشي على استحياء. قالت: إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا..

ونلاحظ هنا أخلاق الحياء عند الفتاة...
وقد جاءته ( تمشي على استحياء ) مشية الفتاة الطاهرة الفاضلة العفيفة النظيفة حين تلقى الرجال. ( على استحياء ). في غير ما تبذل ولا تبرج ولا تبجح ولا إغواء. جاءته لتنهي إليه دعوة في كلمات معدودة ( إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ). فمع الحياء الإبانة والدقة والوضوح..

ويستجيب "موسى" للقاء الشيخ الكبير.

( فلما جاءه وقص عليه القصص، قال: لا تخف. نجوت من القوم الظالمين )

فقد كان موسى في حاجة إلى الأمن؛ كما كان في حاجة إلى الطعام والشراب. ولكن حاجة نفسه إلى الأمن كانت أشد من حاجة جسمه إلى الزاد. ومن ثم أبرز السياق في مشهد اللقاء قول الشيخ الوقور: ( لا تخف ) فجعلها أول لفظ يعقب به على قصصه ليلقي في قلبه الطمأنينة، ويشعره بالأمان. ثم بين وعلل: ( نجوت من القوم الظالمين ) فلا سلطان لهم على مدين، ولا يصلون لمن فيها بأذى ولا ضرار.

( قالت: إحداهما: يا أبت استأجره. إن خير من استأجرت القوي الأمين ).

إنها وأختها تعانيان من رعي الغنم ، ومن مزاحمة الرجال على الماء، ومن الاحتكاك الذي لا بد منه للمرأة التي تزاول أعمال الرجال. وهي تتأذى وأختها من هذا كله؛ وتريد أن تكون امرأة تأوي إلى بيتها؛ والمرأة العفيفة الروح ، النظيفة القلب، السليمة الفطرة ، لا تستريح لمزاحمة الرجال ، ولا للتبذل الناشئ من هذه المزاحمة...

وها هو ذا شاب قوى أمين. رأت من قوته ما يهابه الرعاء فيفسحون له الطريق ويسقي لهما. ورأت من أمانته ما يجعله عف اللسان والنظر حين توجهت لدعوته.
فهي تشير على أبيها باستئجاره ليكفيها وأختها مؤنة العمل والاحتكاك والتبذل. وهو قوي على العمل، أمين على المال. فالأمين على العرض هكذا أمين على ما سواه.
فالعفة تتضح في التصرف العادي البسيط بلا تكلف ولا اصطناع.

واستجاب الشيخ لاقتراح ابنته. ولعله أحس من نفس الفتاة ونفس موسى ثقة متبادلة، وميلاً فطرياً سليماً، صالحاً لبناء أسرة.

( قال: إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين، على أن تأجرني ثماني حجج. فإن أتممت عشراً فمن عندك. وما أريد أن أشق عليك. ستجدني إن شاء الله من الصالحين )

وهكذا في بساطة وصراحة عرض الرجل إحدى ابنتيه من غير تحديد ـ
ولقد كان الآباء يعرضون بناتهم على الرجال على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
بل كانت النساء تعرض نفسها على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو من يرغب في تزويجهن منهم.

كان يتم هذا في صراحة ونظافة وأدب جميل، لا تخدش معه كرامة ولا حياء..
عرض عمر ـ رضي الله عنه: ابنته حفصة على أبي بكر فسكت وعلى عثمان فاعتذر، فلما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا طيب خاطره، عسى أن يجعل الله لها نصيباً فيمن هو خير منهما. ثم تزوجها ـ صلى الله عليه وسلم .

وعرضت امرأة نفسها على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاعتذر لها. فألقت إليه ولاية أمرها يزوجها ممن يشاء. فزوجها رجلاً لا يملك إلا سورتين من القرآن، علمها إياهما فكان هذا صداقها.


وبمثل هذه البساطة والوضاءة سار المجتمع الإسلامي يبني بيوته ويقيم كيانه. في غير تصنع ولا التواء.

وهكذا صنع الشيخ الكبير ـ صاحب موسى ـ فعرض على موسى ذلك العرض واعداً إياه ألا يشق عليه ولا يتعبه في العمل؛ راجياً بمشيئة الله أن يجده موسى من الصالحين في معاملته ووفائه.
وهو أدب جميل في التحدث عن النفس وفي جانب الله. فهو لا يزكي نفسه، ولا يجزم بأنه من الصالحين. ولكن يرجو أن يكون كذلك، ويكل الأمر في هذا لمشيئة الله.

وقبل موسى العرض وأمضى العقد؛ في وضوح ودقة، وأشهد الله فهو الشهيد الموكل بالعدل بين المتعاقدين. وكفى بالله وكيلاً.

( قال: ذلك بيني وبينك. أيما الأجلين قضيت فلا عدوان عليّ. والله على ما نقول وكيل )

سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الأجلين قضى موسى ؟ قال : أبعدهما وأطيبهما.
المصدر: صحيح البخاري – عن عبدالله بن عباس - الصفحة أو الرقم: 2684

***********
كانت مصادر تفسير هذا اللقاء :
(في ظلال القرآن) (التفسير الميسر) (تفسير السعدي) (تفسير الجلالين)


وإلى الملتقى إن شاء الله تعالى
رد مع اقتباس
  #44  
قديم 06-23-2013, 01:33 AM
صابر عباس حسن صابر عباس حسن غير متواجد حالياً
قـــلم نــابض
 




افتراضي


بسم الله الرحمن الرحيم

أنبياء الله في القرآن العظيم
(موسى عليه السلام)
وبعض آيات من سورة القصص
(8)

مرحلة تبليغ الرسالة

إن الرسالة تكليف ضخم شاق متعدد الجوانب والتبعات ; يحتاج صاحبه إلى زاد ضخم من التجارب والإدراك والمعرفة والتذوق في واقع الحياة العملي , إلى جانب هبة الله اللدنية , ووحيه وتوجيهه للقلب والضمير .
ورسالة موسى بالذات قد تكون أضخم تكليف تلقاه بشر - عدا رسالة محمد . [ صلى الله عليه وسلم ] .. فموسى مرسل إلى فرعون الطاغية المتجبر , أعتى ملوك الأرض في زمانه , وأقدمهم عرشا , وأثبتهم ملكا , وأعرقهم حضارة , وأشدهم تعبدا للخلق واستعلاء في الأرض .

وموسى مرسل لاستنقاذ قوم قد شربوا من كؤوس الذل حتى استمرأوا مذاقه , فمردوا عليه واستكانوا دهرا طويلا . والذل يفسد الفطرة البشرية حتى تأسن وتتعفن ; ويذهب بما فيها من الخير والجمال والتطلع ومن الاشمئزاز من العفن والنتن والرجس والدنس . فاستنقاذ قوم كهؤلا ء عمل شاق عسير .

وهو مرسل إلى قوم لهم عقيدة قديمة ; انحرفوا عنها , وفسدت صورتها في قلوبهم . فلا هي قلوب خامة تتقبل العقيدة الجديدة ببراءة وسلامة ; ولا هي باقية على عقيدتها القديمة .
ومعالجة مثل هذه القلوب شاقة عسيرة . والالتواءات فيها والرواسب والانحرافات تزيد المهمة مشقة وعسرا .

وهو في اختصار مرسل لإعادة بناء أمة , بل لإنشائها من الأساس . فلأول مرة يصبح بنو إسرائيل شعبا مستقلا , له حياة خاصة , تحكمها رسالة . وإنشاء الأمم عمل ضخم شاق عسير .

********

رفض فرعون وآله للدعوة وإهلاكهم


فَلَمَّا جَاءهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36)
وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)


*********


فَلَمَّا جَاءهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ..


وكأنما هي ذات القولة التي يقولها المشركون لمحمد [ صلى الله عليه وسلم ] في مكة يومذاك . . ( ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين..36 القصص ). . فهي المماراة في الحق الواضح الذي لا يمكن دفعه . المماراة المكرورة حيثما واجه الحق الباطل فأعيا الباطل الجواب . إنهم يدعون أنه سحر , ولا يجدون لهم حجة إلا أنه جديد عليهم , لم يسمعوا به في آبائهم الأولين !

وهم لا يناقشون بحجة , ولا يدلون ببرهان , إنما يلقون بهذا القول الغامض الذي لا يحق حقا ولايبطل باطلا ولا يدفع دعوى .

وموسى - عليه السلام - يحيل الأمر بينه وبينهم إلى الله . فما أدلوا بحجة ليناقشها , ولا طلبوا دليلا فيعطيهم... إنما هم يمارون كما يماري أصحاب الباطل في كل مكان وفي كل زمان , فالاختصار أولى والإعراض أكرم , وترك الأمر بينه وبينهم إلى الله :

وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ.

وهو رد مؤدب مهذب , يلمح فيه ولا يصرح . وفي الوقت ذاته ناصع واضح , مليء بالثقة والطمأنينة إلى عاقبة المواجهة بين الحق والباطل . فربه أعلم بصدقه وهداه , وعاقبة الدار مكفولة لمن جاء بالهدى , والظالمون في النهاية لا يفلحون .
سنة الله التي لا تتبدل . وإن بدت ظواهر الأمور أحيانا في غير هذا الإتجاه . سنة الله يواجه بها موسى قومه ويواجه بها كل نبي قومه .

وكان رد فرعون على هذا الأدب وهذه الثقة ادعاء وتطاولا , ولعبا ومداورة , وتهكما وسخرية :

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ.

يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري . . كلمة فاجرة كافرة , يتلقاها الملأ بالإقرار والتسليم . ويعتمد فيها فرعون على الأساطير التي كانت سائدة في مصر من نسب الملوك للآلهة . ثم على القهر , الذي لا يدع لرأس أن يفكر , ولا للسان أن يعبر . وهم يرونه بشرا مثلهم يحيا ويموت , ولكنه يقول لهم هذه الكلمة فيسمعونها دون اعتراض ولا تعقيب !

ثم يتظاهر بالجد في معرفة الحقيقة , والبحث عن إله موسى , وهو يلهو ويسخر: ( يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى ). . في السماء كما يقول ! وبلهجة التهكم ذاتها يتظاهر بأنه شاك في صدق موسى , ولكنه مع هذا الشك يبحث وينقب ليصل إلى الحقيقة : ( وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) !

وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39)
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ (41)
وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
(43)

********


وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ.

( فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم ).


هكذا في اختصار حاسم . أخذ شديد ونبذ في اليم . نبذ كما تحذف الحصاة أو كما يرمى بالحجر . اليم الذي ألقي في مثله موسى الطفل الرضيع , فكان مأمنا وملجأ . وهو ذاته الذي ينبذ فيه فرعون الجبار وجنوده فإذا هو مخافة ومهلكة . فالأمن إنما يكون في جناب الله , والمخافة إنما تكون في البعد عن ذلك الجناب . ( فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ). .
فهي عاقبة مشهودة معروضة للعالمين . وفيها عبرة للمعتبرين , ونذير للمكذبين . وفيها يد القدرة تعصف بالطغاة والمتجبرين في مثل لمح البصر , وفي أقل من نصف سطر !

وفي لمحة أخرى يجتاز الحياة الدنيا ; ويقف بفرعون وجنوده في مشهد عجيب . . يدعون إلى النار , ويقودون إليها الأتباع والأنصار:

وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ.

فيا بئساها دعوة ! ويا بئساها إمامة !

( ويوم القيامة لا ينصرون ). .

فهي الهزيمة في الدنيا , وهي الهزيمة في الآخرة , جزاء البغي والاستطالة . وليست الهزيمة وحدها , إنما هي اللعنة في هذه الأرض , والتقبيح في يوم القيامة:

وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ.

ولفظة ( المقبوحين ) ترسم بذاتها صورة القبح والفضيحة والتشنيع , وجو التقزز والاشمئزاز . ذلك في مقابل الاستعلاء والاستكبار في الأرض , وفتنة الناس بالمظهر والجاه , والتطاول على الله وعلى عباد الله .

*******

أبعاد رسالة موسى

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.

ويعبر السياق هنا مرحلة الخروج ببني إسرائيل من مصر , وما حدث خلالها من أحداث , ليعجل بعرض نصيب موسى بعد عرض نصيب فرعون :

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.

هذا نصيب موسى . وهو نصيب عظيم . وهذه عاقبة موسى . وهي عاقبة كريمة . . كتاب من الله يبصر الناس كأنه بصائرهم التي بها يهتدون , ( وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون ). . يتذكرون كيف تتدخل يد القدرة بين الطغاة والمستضعفين , فتختم للطغاة بالهلاك والتدمير , وتختم للمظلومين بالخير والتمكين .

وهكذا تنتهي قصة موسى وفرعون في هذه السورة . شاهدة بأن الأمن لا يكون إلا في جانب الله . وأن المخافة لا تكون إلا في البعد عن الله . ذلك إلى تدخل يد القدرة واضحة متحدية للطغيان والطغاة , حين تصبح القوة فتنة ...

********

كانت مصادر تفسير هذا اللقاء :
(في ظلال القرآن) (التفسير الميسر) (تفسير السعدي) (تفسير الجلالين)



وإلى الملتقى إن شاء الله تعالى
رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

 

منتديات الحور العين

↑ Grab this Headline Animator

الساعة الآن 03:25 AM.

 


Powered by vBulletin® Version 3.8.4
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
.:: جميع الحقوق محفوظة لـ منتدى الحور العين ::.