انا لله وانا اليه راجعون... نسألكم الدعاء بالرحمة والمغفرة لوالد ووالدة المشرف العام ( أبو سيف ) لوفاتهما رحمهما الله ... نسأل الله تعالى أن يتغمدهما بواسع رحمته . اللهم آمـــين

العودة   منتديات الحور العين > .:: المنتديات العامة ::. > التاريخ والسير والتراجم

التاريخ والسير والتراجم السيرة النبوية ، والتاريخ والحضارات ، وسير الأعلام وتراجمهم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #31  
قديم 06-07-2009, 07:47 PM
أبو مصعب السلفي أبو مصعب السلفي غير متواجد حالياً
الراجي سِتْر وعفو ربه
 




افتراضي

أأنتهيت يارعاكَ الله..؟!
التوقيع

قال الشاطبي في "الموافقات":
المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المُكَلَّف عن داعية هواه, حتى يكون عبداً لله اختيارًا, كما هو عبد لله اضطراراً .
اللـــه !! .. كلام يعجز اللسان من التعقيب عليه ويُكتفى بنقله وحسب .
===
الذي لا شك فيه: أن محاولة مزاوجة الإسلام بالديموقراطية هى معركة يحارب الغرب من أجلها بلا هوادة، بعد أن تبين له أن النصر على الجهاديين أمر بعيد المنال.
د/ أحمد خضر
===
الطريقان مختلفان بلا شك، إسلام يسمونه بالمعتدل: يرضى عنه الغرب، محوره ديموقراطيته الليبرالية، ويُكتفى فيه بالشعائر التعبدية، والأخلاق الفاضلة،
وإسلام حقيقي: محوره كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأساسه شريعة الله عز وجل، وسنامه الجهاد في سبيل الله.
فأي الطريقين تختاره مصر بعد مبارك؟!
د/أحمد خضر

من مقال
رد مع اقتباس
  #32  
قديم 06-07-2009, 11:23 PM
أبو أنس الأنصاري أبو أنس الأنصاري غير متواجد حالياً
II كَانَ اللهُ لَهُ II
 




افتراضي

لم ننتهِ بعدُ يا حبيبُ، فمازالَ المتبقي كثير.
رد مع اقتباس
  #33  
قديم 06-11-2009, 12:33 PM
أبو أنس الأنصاري أبو أنس الأنصاري غير متواجد حالياً
II كَانَ اللهُ لَهُ II
 




افتراضي





عهد ملوك الطوائف



كانت الأندلس في عهد ملوك الطوائف مقسمة إلى عدد من الدويلات، إضافة إلى أن هذه الدويلات كانت مقسمة داخليًّا، ووصل تعداد الدويلات إلى اثنتين وعشرين دويلة، عُرفت بدول الطوائف أو
ملوك الطوائف
. وكانت أوضاع هذه الدويلات في غاية السوء؛ فقد كانت هناك نزاعات بين الإخوة فيما بينهم، الأمر الذي تطور إلى أن يستعين البعض بالنصارى في حربه ضد المسلمين.

هل كان هناك من لا يوافق على هذه الأوضاع؟!
والإجابة هي نعم، كان هناك من يرفض هذه الأوضاع ولا يقبل أن يدفع الجزية للنصارى، مثل المتوكل بن الأفطس وكان يحكم مملكة بطليوس، ورفض دفع الجزية لألفونسو السادس، وكان هناك علماء أيضًا يرفضون هذه الأوضاع، وينادون بالإصلاح مثل الفقيه الإسلامي ابن حزم، وابن عبد البر أيضًا، وكذلك ابن حيان، وأبو الوليد الباجي، وغيرهم من أبناء الأندلس نفسها، ولكن كان من المستحيل جمع وتوحيد المسلمين من اثنتين وعشرين دولة في دولة واحدة بمجهودهم فقط.

ولكن هل باقي أمراء الأندلس على نفس موقف المتوكل بن الأفطس والعلماء؟ وما نتيجة تخاذل هؤلاء الأمراء؟
والإجابة هي لا، فلم يكن باقي الأمراء على شاكلة المتوكل بن الأفطس ولا على شاكلة العلماء، بل كان كل هدفهم هو الدنيا والتنافس بين بعضهم البعض والاستعانة بالنصارى، وكانت نتيجة هذا التخاذل هي سقوط طُلَيْطِلَة، أما النتيجة الثانية لهذا التخاذل هي حصار إشبيلية.

ولكن حدث شيء يعطي الأمل في الإصلاح!


بعد محاولة ألفونسو السادس حصار إشبيلية هدده المعتمد على الله بن عباد إن لم ينسحب سيستعين بالمرابطين، فانسحب على الفور.
والمرابطون هم أبطال مجاهدون، لا يهابون الموت، أقاموا دولة إسلامية تربّعت على المغرب العربي وما تحته.

اتفق بعض أمراء المسلمين مثل المعتمد على الله بن عباد والمتوكل بن الأفطس، وعبد الله بن بلقين صاحب غرناطة أن يرسلوا إلى دولة المرابطين، ويطلبوا منها أن تأتي للقضاء على النصارى، وكان هذا جزءًا من التوجه الشعبي العام لاستدعاء المرابطين لنصرتهم؛ فأرسلوا إلى يوسف بن تاشفين (410- 500 هـ/ 1019- 1106م) لكي يأتي ويحارب النصارى.


مزيد من التفاصيل





عهد ملوك الطوائف ( 400 - 484 هـ 1009 - 1091 م ) هو ذلك العهد الذي قسمت فيه بلاد الأندلس إلى سبع مناطق رئيسة هي كما يلي:

- أولًا: بنو عَبَّاد:
وهم من أهل الأندلس الأصليين الذين كان يطلق عليهم اسم المولدين، وقد أخذوا منطقة إشبيلية.

- ثانيًا: بنو زيري:
وهم من البربر، وقد أخذوا منطقة غرناطة، وكانت إشبيلية وغرناطة في جنوب الأندلس.

- ثالثًا: بنو جهور:

وهم الذين كان منهم أبو الحزم بن جهور زعيم مجلس الشورى، وقد أخذوا منطقة قرطبة وسط الأندلس.

- رابعًا: بنو الأفطس:

وكانوا أيضًا من البربر، وقد استوطنوا غرب الأندلس، وأسسوا هناك إمارة بطليوس الواقعة في الثغر الأدنى.

- خامسًا: بنو ذي النون:

كانوا أيضًا من البربر، واستوطنوا المنطقة الشمالية والتي فيها طليطلة وما فوقها - الثغر الأوسط -.

- سادسًا: بنو عامر:

وهم أولاد بني عامر والذين يعود أصلهم إلى اليمن، استوطنوا شرق الأندلس، وكانت عاصمتهم بلنسية.

- سابعًا: بنو هود:

وهؤلاء أخذوا منطقة " سَرْقُسْطَة " - الثغر الأعلى -، تلك التي تقع في الشمال الشرقي.


وهكذا قسمت بلاد الأندلس إلى سبعة أقسام شبه متساوية، كل قسم يضم إما عنصرًا من العناصر، أو قبيلة من البربر، أو قبيلة من العرب، أو أهل الأندلس الأصليين، بل إن كل قسم أو منطقة من هذه المناطق كانت مقسمة إلى تقسيمات أخرى داخلية، حتى وصل تعداد الدويلات الإسلامية داخل أراضي الأندلس عامة إلى اثنتين وعشرين دويلة، وذلك رغم وجود ما يقرب من خمس وعشرين بالمائة من مساحة الأندلس في المناطق الشمالية في أيدي النصارى.


وقد سادت الأندلس - بعد سقوط الخلافة - حالة من الارتباك والحيرة تبينت خيوطها السوداء بقيام دول متعددة فيه، عُرفت بدول الطوائف ( دويلات أو ملوك أو أمراء الطوائف ).
هذه التسمية واضحة المدلول في وصف حال الأندلس الذي توزعته عدة ممالك، وإن تفاوتت قوتها وأهميتها ومساحتها ودورها في أحداث الأندلس، كان بعضها يتربص ليحوز ما بيد غيره من الأمراء، مثلما كانت سلطات أسبانيا النصرانية تتربص بهم جميعًا، لا تميّز حتى من كانت له معها صداقة أو عهد. ذلك ديدن سلطات أسبانيا النصرانية، وقبل هذه الظروف يوم كانت تتمتع الأندلس بالقوة؛ فكيف الآن وقد تغير ميزان القوى في الجزيرة الأندلسية، وغدت هذه السلطات هي الأقوى؟!!!



اثنتين وعشرين دويلةونظرة عامة إلى واقع الفُرقة!



ذكرنا سابقًا أنه بعد موت عبد الرحمن بن المنصور العامري، الحاجب الذي كان يتولّى الحجابة على هشام بن الحكم الخليفة الصورة، حدث انهيار مروّع وانفرط العقد تمامًا في أرض الأندلس، وقُسّمت البلاد إلى اثنتين وعشرين دويلة، رغم تآكل مساحة الأندلس عليهم من قِبل النصارى في الشمال.


وإذا نظرنا إلى واقع هذه الدويلات وواقع هذا التفتت وتلك الفرقة نجد الملامح التالية:

- أولًا:

تلّقب كل حاكم ممن حكموا هذه الدويلات بلقب أمير المؤمنين، ليس فقط أمير مدينة ولكنه أمير المؤمنين، وكأنه يستحق أن يكون أمير المؤمنين في الأرض.

فكان الرجل في هذا الوقت يسير مسيرة اليوم والليلة فيمر على ثلاثة من أمراء المؤمنين؛ لأن كل دويلة من هده الدويلات كانت مساحتها صغيرة جدا ربما لا تتجاوز مساحة محافظة من المحافظات في أي دولة الآن!، وكان لكل دويلة أمير وجيش خاص بها، وسياج من حولها وسفراء وأعلام، وهي لا تملك من مقوّمات الدولة شيء.

وليت كل (أمير) بعد هذه المآسي التي ألمّت بالمسلمين ليته قد ظلّ في منطقته ولم يطمع في أرض أخيه المجاورة له، إلا أنه ورغم هذا بدأ كل منهم بافتعال الصراعات بسبب الحدود، وأصبحت المدن الإسلامية وحواضر الإسلام في الأندلس وللأسف تحارب بعضها بعضًا، فهذه "قرطبة" تتصارع مع "إشبيلية"، وهذه "بَلَنْسِيَّة" تتصارع و"سراقسطة"، وعلى هذا الوضع ظلّ الصراع بين المالك الإسلامية في هذه الفترة.

وإنه لأمر يدعو إلى الدهشة ويجعل المرء ليتساءل: إذا كان هذا الأمير الذي يحارب أخاه شريرًا، ورجلًا خارجًا عن القانون، وبعيدًا عن تعاليم الشرع، ويحارب من أجل الدنيا، فأين شعب هذا الأمير؟! أين الجيش الذي هو من عامة الشعب؟! وكيف زُيّن للشعوب أن يحاربوا إخوانهم المسلمين المجاورين لهم؟!!!

وفي محاولة لتحليل هذا الوضع نقول: كانت هناك أمور مخجلة في المجتمع الأندلسي في ذلك الوقت، فالإعلام السائد في هذه الفترة وهو الشعر الذي يمجّد فيه الشعراءُ القادة أو الأمراء، ويصورونهم وكأنهم أنصاف آلهة، فهم أهل الحكمة والتشريع، وأهل العظمة والبأس، وأهل النخوة والنجدة، وهم (الأمراء) أهل الإنجازات الضخمة والأموال العظيمة، فيُفتن الناس والشعوب بمثل هذه الصفات وهذا العلوّ في الأرض فيتبعونهم فيما يقولون [فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ] {الزُّخرف:54}.

وهناك أيضا تحكُّم وضغط شديدين من قِبل الجيوش التي تتبع الحكام على الشعوب، فكانوا يحكمونهم بالحديد والنار؛ فلا يستطيعون أن ينبثوا بمخالفة أو اعتراض أمام الطواغيت.

وبالإضافة إلى هذا فقد ظهر أيضًا في هذه الفترة الفتاوى الخاصة والتي تصرّح لهؤلاء الأمراء بفعل ما يحلو لهم، ففتوى تصرح لقرطبة غزو إشبيلية، وأخرى تصرح لإشبيلية غزو بطليوس، وثالثة تصرح لبطليوس غزو ما حولها.

- ثانيًا:

كان هناك أيضا كارثة محققة وجريمة كبرى اقترفها أمراء بعض هذه الدويلات، وظلت ملمحًا رئيسيًا في هذه الفترة، وهي استجداء النصارى والاستقواء بهم، فقد كانت كل دويلة ذات جيش لكنه جيش ضعيف البنية قليل السلاح، ومن ثَمّ فلا بد لهم من معين يستقوون به في حربهم ضد إخوانهم، فتزلّفوا إلى النصارى في شمال الأندلس يتخذونهم أولياء ونصراء على إخوانهم، فمنهم من توجه إلى أمير "قشتالة"، ومنهم من توجّه إلى أمير "أراجون"، وأيضا إلى أمير "ليون".

هذه الممالك النصرانية التي لم تكن تمثّل أكثر من 24 % فقط من أرض الأندلس، وكانت تدفع الجزية إلى عبد الرحمن الناصر والحكم بن عبد الرحمن الناصر ومن بعده الحاجب المنصور.

- ثالثًا:

وأشد وأنكى مما سبق فقد بدأ أمراء المؤمنين في هذه الفترة يدفعون الجزية للنصارى، فكانوا يدفعون الجزية لألفونسو السادس حاكم إمارة "قشتالة"، تلك التي توسعت على حساب المسلمين في هذا العهد (عهد ملوك الطوائف) وضمّت إليها أيضًا مملكة "ليون"، فأصبحت "قشتالة" و"ليون" مملكة واحدة تحت زعامة ألفونسو السادس أكبر الحكام النصارى في ذلك الوقت.

فكان أمراء المؤمنين -!! - يدفعون الجزية حتى يحفظ لهم ألفونسو السادس أماكنهم وبقاءهم على الحكم في بلادهم، كانوا يدفعون له الجزية وهو يسبّهم في وجوههم فما يزيدون على أن يقولوا له: ما نحن إلا جباة أموال لك في بلادنا على أن تحافظ لنا على مكاننا في هذه البلاد حاكمين.

وكأن قول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ. فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ] {المائدة:51،52}.
كأنه قد نزل في أهل الأندلس في ذلك الوقت؛ حيث يتعلّلون ويتأولّون في مودة وموالاة النصارى بالخوف من دائرة تدور عليهم من قبل إخوانهم.


وهنا يعلّق سبحانه وتعالى بقوله: [فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ] {المائدة:52}.

وهو بعينه الذي سيحدث في نهاية هذا العهد كما سنرى حين يكون النصر فيُسِرّ هؤلاء في أنفسهم ما كان منهم من موالاة النصارى في الظاهر والباطن، ويندمون حين يفضحهم الله ويظهر أمرهم في الدنيا لعباده المؤمنين، وذلك بعد أن كانوا مستورين لا يدرى أحدٌ كيف حالهم.

وإنها لعبرة وعظة يصورها القرآن الكريم منهج ودستور الأمة في كل زمان ومكان: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] {المائدة:57}.


رد مع اقتباس
  #34  
قديم 06-11-2009, 12:35 PM
أبو أنس الأنصاري أبو أنس الأنصاري غير متواجد حالياً
II كَانَ اللهُ لَهُ II
 




افتراضي



صور عابرة من أوضاع الطوائف والدويلات


أولًا: أنفة وعزّة في زمن عزَّ أن تُشُمّ رائحتهما!!!



كما رأينا حال وواقع كل الممالك وأمراء المؤمنين في هذه الفترة، وكلٌّ يدفع الجزية إلى ألفونسو السادس ومن معه، إلا أنه كان هناك رجل واحد يملك عزّة وأنفًا، ولم يرضَ بدفع الجزية، وهو "المتوكل بن الأفطس" أمير مملكة "بطليوس".

فرغم ذلك الجو المليء بالذل والخزي، ورغم أن مملكة "بطليوس" هذه كانت صغيرة جدًا، إلا إن "المتوكل بن الأفطس" لم يكن يدفع الجزية للنصارى، وبالطبع فقد كان النصارى يعلمون أن هذا الرجل مارق وخارج عن الشرعية، تلك التي كانت تحكم البلاد في ذلك الوقت؛ حيث خرج عن المألوف واعتزّ بإسلامه ولم يقبل الذلّ كغيره من أبناء جلدته.

وهنا أرسل له ألفونسو السادس رسالة شديدة اللهجة يطلب فيها منه أن يدفع الجزية كما كان يدفعها إخوانه من المسلمين في الممالك الإسلامية المجاورة، فكان من نبأ "المتوكل بن الأفطس" أنه أرسل له ردًا عجيبًا، أرسل إليه برسالة حفظها التاريخ ليعلم الناس جميعًا أن المؤمن وهو في أشد عصور الانحدار والانهيار إذا أراد أن تكون له عزّة فهي كائنة لا محالة، يقول المتوكل بن الأفطس في رسالته:

(( وصل إلينا من عظيم الروم كتاب مدعٍ في المقادير وأحكام العزيز القدير، يرعد ويبرق، ويجمع تارةً ثم يفرق، ويهدد بجنوده المتوافرة وأحواله المتظاهرة، ولو علم أن لله جنودًا أعز بهم الإسلام وأظهر بهم دين نبيه محمد عليه الصلاة والسلام أعزّة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله لا يخافون، بالتقوى يُعرفون وبالتوبة يتضرعون، ولإن لمعت من خلف الروم بارقة فبإذن الله وليعلم المؤمنين، وليميز الله الخبيث من الطيب ويعلم المنافقين.

أما تعييرك للمسلمين فيما وهى من أحوالهم فبالذنوب المركومة، ولو اتفقت كلمتنا مع سائرنا من الأملاك لعلمت أي مصاب أذقناك كما كانت آباؤك تتجرعه، وبالأمس كانت قطيعة المنصور على سلفك لما أجبر أجدادك على دفع الجزية حتى أهدى بناته إليه. وكان ملك " نافار" جد " ألفونسو السادس" قد أرسل ابنته هديه إلى المنصور حتى يأمن جانبه، وهي أم عبد الرحمن بن المنصور الذي انتهت بحكمه الدولة العامرية كما ذكرنا )).

ويضيف " المتوكل بن الأفطس" قائلًا:(( أما نحن فإن قلّت أعدادنا وعُدم من المخلوقين استمدادنا، فما بيننا وبينك بحر نخوضه ولا صعب نروضه، ليس بيننا وبينك إلا السيوف، تشهد بحدها رقاب قومك، وجلاد تبصره في نهارك وليلك، وبالله تعالى وملائكته المسوّمين نتقوى عليك ونستعين، ليس لنا سوى الله مطلب، ولا لنا إلى غيره مهرب، وما تتربصون بنا إلا إحدى الحسنيين، نصر عليكم فيا لها من نعمة ومنة، أو شهادة في سبيل الله فيا لها من جنة، وفي الله العوض مما به هددت، وفرج يفرج بما نددت ويقطع بما أعددت )).

ما كان من " ألفونسو السادس " إلا أن وجم ولم يفكر ولم يستطع أن يرسل له جيشًا، فقد غزا كل بلاد المسلمين في الأندلس خلا "بطليوس"، لم يتجّرأ على أن يغزوها، فكان يعلم أن هؤلاء الرجال لا يقدر أهل الأرض جميعهم على مقاومتهم، فأعزّ الإسلامُ ورفع من شأن "المتوكل بن الأفطس" ومن معه من الجنود القليلين حين رجعوا إليه، وبمجرد أن لوّحوا بجهاد لا يرضون فيه إلا بإحدى الحسنيين، نصر أو شهادة.

ثانيًا: ضعف وخور وذل وهوان


لم يكن عموم الوضع في أرض الأندلس على شاكلة الصورة السابقة في موقف المتوكل بن الأفطس من ألفونسو السادس، ونحن لسنا في معرض الخوض في تفاصيل باقي الدويلات الاثنتين والعشرين؛ إذ هي موجودة في كتب التاريخ، ولكن نعرض لبعض الصور من باقي هذه الدويلات، تكفي لتصور الوضع في هذه الفترة، ومدى التدني الذي وصل إليه المسلمون في الأندلس آنذاك.

والصورة الأولى من الشمال الشرقي للأندلس وبالقرب من فرنسا، وبالتحديد في "سرقسطة" التي كان يحكمها كما ذكرنا بنو هود، فحين وافت حاكم " سرقسطة " المنيّة أراد أن يستخلف من بعده، وكان له ولدان، الكبير، وكان الأولى لكبره كما هي العادة في توارث الحكم، والصغير، وهو الأنجب والأفضل من الكبير، ولئلا يظلم أيًا منهما كما خُيّل له فقد قام الأب الحاكم بعمل غريب لم يتكرر في التاريخ؛ حيث قسم الدويلة، الأرض والشعب والجيش، كل شيء إلى نصفين لكل منهما النصف!!!

يموت الأب وتمرّ الأيام ويختلف الأخوان على الحدود فيما بينهما، فيقوم أحدهما بالهجوم على أخيه لتحرير حقه وأرضه المسلوبة، ولأنه لم يكن له طاقة بالهجوم لأن الجيش مقسّم والكيان ضعيف، فما كان من هذا الأخ إلا أنه استعان بملك نصراني ليحرر له أرضه من أخيه المسلم!!


لم يستمع هذا الأخ ما قيل له من أن هذا الملك النصراني سيأخذ هذه الأرض ويضمها إلى أملاكه، فكان اعتقاده أن ملك برشلونة (مملكة أراجون) رئيس دولة صديقة، ويستطيع أن يأخذ له حقه من أخيه، وكان كل همّه أن يظل ملكًا على دويلته، وملكه لا بدّ وأن يعود إلى حوزته.



مأساة بربُشْتَر


جاء النصارى بالفعل ودخلوا البلاد، وفي مملكة " سرقسطة " أحدثوا من المآسي ما يندّ له الجبين، ومن أشهر أفعالهم فيها ما عرف في التاريخ بمأساة بربُشْتَر.

دخل النصارى على بربُشْتَر ( مدينة عظيمة في شرقي الأندلس من أعمال بربَطَانية ) البلد المسلم ليحرروه ويعطوه للأخ المسلم الذي ادعى أن أخاه قد اغتصبه منه.

بدأ الأمر بالحصار وذلك في جمادى الآخرة سنة 456 هـ= مايو 1064 م وظل مداه طيلة أربعين يومًا، والمسلمون في الداخل يستغيثون بكل أمراء المؤمنين في كل أرض الأندلس، ولكن لا حراك، فالقلوب تمتلئ رهبة من النصارى، وأمراء المسلمين يعتقدون بأنهم ليس لهم طاقة بحربهم أو الدفاع عن إخوانهم ضدهم، وفكروا بأن يستعينوا بدولة أخرى غير تلك الدولة الصديقة المعتدية، وظلوا الأربعين يومًا يتفاوضون ويتناقشون حتى احتل النصارى بربُشْتَر.

ما إن دخل النصارى بربُشْتَر، وفي اليوم الأول من دخولهم قتلوا من المسلمين أربعين ألفًا، ( من رواية ياقوت الحموي، وهناك رواية أخرى تزيدهم إلى مائة ألف ) وسبوا سبعة آلاف فتاة بكر منتخبة ( أجمل سبعة آلاف فتاة بكر في المدينة ) وأعطين هدية لملك القسطنطينية، وأحدثوا من المآسي ما تقشعر منه الأبدان وتنخلع منه القلوب؛ إذ كانوا يعتدون على البكر أمام أبيها وعلى الثيًب أمام زوجها، والمسلمون في غمرة ساهون!!!

ومثل هذه الصورة لا نعدمها عبر التاريخ في حقل الصراع بين المسلمين والنصارى حتى عصرنا الشاهد، وليس ببعيد عنا ما قام به النصارى وإخوانهم اليهود في البوسنة والهرسك، حيث اغتصاب لخمسين ألف فتاة وقتل مائتين وخمسين ألف مسلم، غير ما حدث في كشمير وكوسوفا، وما يقومون به اليوم في فلسطين والعراق وغيرها من بلاد المسلمين الممتحنة.



مأساة بَلَنْسِيَّة


ومثلها أيضًا كانت مأساة بَلَنْسِيَّة في سنة 456 هـ= مايو 1064 م سنة 456 هـ= مايو 1064 م، حيث قتل ستون ألف مسلم في هجوم للنصارى عليها. ولم يتحرك من المسلمين أحد.

أووااااااااهُ يا أُمَّـــةَ الإســـلامِ!!!



غنى فاحش وأموال في غير مكانها


رغم ما كان من صور الضعف والمآسي السابقة وأمثالها الكثير والكثير إلا إن أمراء المسلمين كانوا لاهين غير عابئين بما يدور حولهم، فقد كانوا يملكون من المال الكثير، والذي شغلهم بدنياهم عن دينهم، ومما جاء في ذلك أن زوجة حاكم إشبيلية المعتمد على الله بن عباد كانت تقف ذات مرة في شرفة قصرها فشاهدت الجواري وهن يلعبن في الطين خارج القصر، فاشتهت نفسها أن تفعل مثلهن وتلعب في الطين، فما كان من حاكم إشبيلية ( المعتمد على الله ) إلا أن صنع لها طينًا خاصًا، فاشترى كميات كبيرة من المسك والعنبر وماء الورد، وخلطها وجعلها طينًا خاصًا بالملوك، حتى وإن كان من أموال المسلمين، لعبت زوجة الملك بهذا الطين ثم سأمت منه، ومرت الأيام وضاع ملك المعتمد على الله، وحدث شجار مع زوجته تلك في أحد الأيام فقالت له كعادة من يكفرن العشير: ما رأيت منك من خير قط، فرد عليها واثقًا: ولا يوم الطين؟!
فسكتت واستحيت خجلًا من الأموال ( أموال المسلمين ) التي أُنفقت عليها في لُعبة كانت قد اشتهتها.

ورغم ذلك فقد كان هناك الشعر الذي يصف " المعتمد على الله بن عباد " بكل صفات العزة والكرامة والعظمة والمجد والبأس، وغيرها مما هو مخالف للواقع، وبما يعكس صورة الإعلام المقلوبة في ذلك الوقت وفي كل وقت يعلو فيه الظلم وترتفع رايات الباطل وتتبدل فيه الموازيين.


رد مع اقتباس
  #35  
قديم 06-14-2009, 04:17 AM
أبو أنس الأنصاري أبو أنس الأنصاري غير متواجد حالياً
II كَانَ اللهُ لَهُ II
 




افتراضي






الأندلس بعد حصار إِشْبِيلِيّة


في سنة 478 هـ= 1085 م - كما ذكرنا - كانت قد سقطت طُلَيْطِلَة، ومنذ سقوطها في ذلك التاريخ لم تُعد للمسلمين حتى الآن، ثم حوصرت إِشْبِيلِيّة مع أنها كانت تقع في الجنوب الغربي للأندلس وبعيدة عن مملكة "قشتالة" النصرانية التي تقع في الشمال، وكاد المعتمد على الله بن عباد أن يحدث معه مثلما حدث مع بربشتر أو بلنسية لولا أن مَنّ الله عليه بفكرة الاستعانة أو التلويح بالاستعانة بالمرابطين.

وحيال ذلك فكّر أمراء المؤمنين في الأندلس في تلك الكارثة التي حلّت بدارهم، وكانوا يعلمون أنه إن عاجلًا أو آجلًا ستسقط بقية المدن، فإذا كانت طُلَيْطِلَة واسطة العقد قد سقطت فمن المؤكد أن تسقط قرطبة وبطليوس وغرناطة وإِشْبِيلِيّة والكثير من حواضر الإسلام في الأندلس، فاتفقوا على عقد مؤتمر القمة الأندلسي الأول، وكان أول مؤتمر يجتمعون فيه للاتفاق على رأي موحّد تجاه هذا الوضع.

كان أول قرارات ذلك المؤتمر هو التنديد بشدة بالاحتلال القشتالي لطُلَيْطِلَة، فقشتالة دولة صديقة كيف تقدم على هذا الفعل غير العادي، لا بدّ أن تُشتكى قشتالة لدولة محايدة من دول المنطقة، حتى لا نكون محاربين لدولة صديقة، فنحن نريد السلام العادل والشامل في المنطقة كلها وهو خيارنا الوحيد خاصّة وأننا نمرّ بمنعطف خطير يهدد أمن البلاد وسلامتها والحرب لا يأتي منها إلا الدمار والخراب...

ولأن الخير لا يُعدَم أبدًا في كل مكان وزمان، فقد اجتمع الأمراء ومعهم العلماء، وكان العلماء يفهمون حقيقة الموقف ويعرفون الحلّ الأمثل له فأشاروا بالجهاد، وهم يعلمون أن في التاريخ ما يثبت أن المسلمين إذا ما ارتبطوا بربهم وجاهدوا في سبيله كان النصر حتمًا حليفهم وإن كانوا قلة، فـ [ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ] {البقرة: 249}

قُوبل هذا الرأي بالرفض تمامًا، ورُدّ عليه بأنهم يريدون وقف نزيف الدماء، أهم ما في الأمر أن نوقف الحرب ونحاول حل الموقف بشيء من السلام مع " قشتالة "، نجلس مع " ألفونسو السادس " على مائدة المفاوضات، فربما تكون في نيته فرصة في أن يترك " طُلَيْطِلَة "، أو يأخذ جزءًا منها ويترك الباقي، ثم نعيش جنبًا إلى جنب في سلام وأمان، وكانت هذه إشارات مترجمة لحال الأمراء الرافضين لحل العلماء السابق.

رأى العلماء استحالة الجهاد، حيث الذل والهوان قد استبدّ بالناس فألفوه، وظلوا لأكثر من سبعين سنة يدفعون الجزية ولا يتحرّجون من هذا العار، فمن الصعب أن يَدَعُوا الدنيا ويحملوا السلاح ويجاهدوا في سبيل الله، فأشار عليهم العلماءُ برأيٍ آخر يستبعدُ الجهاد وهو أن يرسلوا إلى دولة المرابطين، ويطلبوا منها أن تأتي وتقاوم النصارى وتهاجمهم في موقعة فاصلة تبعدهم بها عن أرضهم.

ورغم عقلانية هذا الرأي إلا أن الأمراء لم يقبلوا به أيضًا؛ خوفًا من أن تسيطر دولة المرابطين القوية على أرض الأندلس بعد أن تهزم النصارى، وبعد جدال طويل فيما بينهم أنعم الله سبحانه وتعالى على رجل منهم وهو " المعتمد على الله بن عباد "، والذي كان منذ قليل قد لوّح باسم المرابطين ففكّ " ألفونسو السادس " الحصار عنه، فلم يجد مانعًا يمنعه - إذن - من الاستعانة بهم بالفعل...

قال صاحب نفح الطيب:


وفشا في الأندلس توقيع ابن عباد - أي توقيعه على ظهر رسالة ألفونسو: والله لئن لم ترجع لأروحنّ لك بمروحة من المرابطين - وما أظهر من العزيمة على جواز يوسف بن تاشفين، والاستظهار به على العدو، فاستبشر الناس، وفرحوا بذلك، وفتحت لهم أبواب الآمال. وأما ملوك طوائف الأندلس فلما تحققوا عزم ابن عباد وانفراده برأيه في ذلك، اهتموا منه - أي صاروا مهمومين مما عزم عليه - ومنهم من كاتبه، ومنهم من كلمه مواجهة، وحذروه عاقبة ذلك، وقالوا له: الملك عقيم، والسيفان لا يجتمعان في غمد واحد، فأجابهم ابن عباد بكلمته السائرة مثلاً: رعي الجمال خير من رعي الخنازير، ومعناه أن كونه مأكولاً ليوسف بن تاشفين أسيراً له يرعى جماله في الصحراء خير من كونه ممزقاً للأذفونش أسيراً له يرعى خنازيره في قشتالة.
وقال لعذاله ولوامه: يا قوم إني من أمري على حالتين: حالة يقين، وحالة شك، ولا بد لي من إحداهما، أما حالة الشك فإني إن استندت إلى ابن تاشفين أو إلى الأذفونش ففي الممكن أن يفي لي ويبقى على وفائه، ويمكن أن لا يفعل، فهذه حالة الشك، وأما حالة اليقين فإني إن استندت إلى ابن تاشفين فأنا أرضي الله، وإن استندت إلى الأذفونش أسخطت الله تعالى، فإذا كانت حالة الشك فيها عارضة، فلأي شيء أدع ما يرضي الله وآتي ما يسخطه فحينئذ قصر أصحابه عن لومه.


زلزل هذا الخطاب قلوب البعض وحرّك فيهم مكامن النخوة، فقام " المتوكل بن الأفطس "، وهو الرجل الوحيد الذي لم يدفع الجزية طيلة حياته - كما ذكرنا ورأينا رسالته في ذلك - قام ووافق " المعتمد على الله " على هذا الأمر، ومن بعده قام " عبد الله بن بلقين " صاحب غرناطة ووافقه أيضًا، فأصبحت ( غرناطة وإشبيلية وبطليوس ) الحواضر الإسلامية الضخمة متفقة على الاستعانة بالمرابطين، في حين رفض الباقون، ووصفوا خطبة المعتمد على الله ابن عباد بالحماسية المنفعلة.

وفور موافقة الأمراء الثلاثة جعلوا منهم وفدًا عظيمًا مهيبًا، يضمُّ العلماء والوزراء، ليذهب إلى بلاد المغرب العربي، ويطلب العون من زعيم المرابطين هناك لينقذهم من النصارى المتربصين...

دور الشعوب في تحقيق النصر


لم يكن الأمراء هم أصحاب السبق في فكرة استدعاء المرابطين لنصرة المسلمين وحمايتهم من بطش النصارى بل سبقهم إلى ذلك العلماء والشعوب وكانت استجابة الأمراء جزءًا من التوجه الشعبي العام لاستدعاء المرابطين لنصرتهم، وقبل هذا الوفد الذي بعثه أمراء ( غرناطة وإشبيلية وبطليوس ) كانت الوفود الأخرى من عموم الشعب ومن العلماء قد ذهبت إلى يوسف بن تاشفين ( 410 - 500 هـ= 1019 - 1106 م ).
قال صاحب الروض المعطار في خبر الأقطار: وكان يوسف بن تاشفين لا يزال يفد عليه وفود ثغور الأندلس مستعطفين مجهشين بالبكاء ناشدين الله والإسلام مستنجدين بفقهاء حضرته ووزراء دولته، فيستمع إليهم ويصغي إلى قولهم وترق نفسه لهم...


مصلحون ولكن!!!


كسنّة من سنن الله أيضًا في المسلمين فإن أعمال الخير والدعوات الإصلاحية لم تُعدم ولن تُعدم إلى قيام الساعة برغم ما يحدث مما هو في عكس طريقها؛ فقد كانت هناك محاولات إصلاحية في هذا العهد، وأخرى تبدي عدم موافقتها لهذا الوضع المزري في البلاد، لكنها كانت دعوات مكبوتة، لم تستطع أن ترى النور.

يقول أحد الشعراء واصفًا هذه الفترة:

مِمَّا يُزَهِّدُنِي فِي أَرْضِ أَنْدَلُسٍ أَلْقَـابُ مُعْتَضِـدٍ فِيهَـا وَمُعْتَمِدِ

أَلْقَابُ مَمْلَكَةٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا كَالهِرِّ يَحْكِي انْتِفَاخًا صَُورَةَ الْأَسَدِ


فقد كان في كل بلد من بلاد الأندلس قادر بالله ومعتمد على الله ومعتضد بالله ومعتصم بالله ومستكفٍ بالله ومؤيد بالله، وكلهم يدفعون الجزية لألفونسو السادس بما فيهم حاكم إشبيلية (المعتمد على الله) والتي تقع في أقصى الجنوب الغربي من بلاد الأندلس، والتي تبعد كثيًرا جدًا عن مملكة "قشتالة".

كان من المصلحين في هذا العهد الفقيه الإسلامي المشهور ابن حزم، وأيضًا ابن عبد البر، وكذلك ابن حيان، وأبو الوليد الباجي، وغيرهم الكثير من أبناء الأندلس نفسها، والحق أنهم حاولوا قدر استطاعتهم أن يُخرجوا الشعوب من هذا الموقف الحرج، ويجمّعوا الناس ويوحدوا الصفوف، لكن كان من المستحيل جمع وتوحيد المسلمين من اثنتين وعشرين دولة في دولة واحدة بمجهودهم فقط.

فمن الممكن الاتفاق على مبدأ الوحدة والتجمع، لكن العقبة عند الأمراء كانت تكمن فيمن سيكون الرئيس الأوحد، هل هو حاكم قرطبة أم هو حاكم إشبيلية، أم هو كل من يرى نفسه الأولى والأجدر؟!

فإن كان الظاهر هو الاتفاق لكن الواقع الغالب كان رفض الوحدة، حتى في وجود مثل هؤلاء الأفاضل من علماء المسلمين؛ ففرطوا في واحدة من أعظم نعم الله تعالى على المسلمين، يقول تعالى: [ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ] {آل عمرن:103}.

تلك النعمة التي حذّر من التهاون فيها سبحانه وتعالى فقال: [ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ] {الأنفال:46}، وقال أيضا: [ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ] {آل عمران:105}.

وإنها لأسئلة يوجهها لسان الحال إلى هؤلاء الأمراء المنقسمين على أنفسهم: أما سمعتم عن عزّة الإسلام والمسلمين زمن عبد الرحمن الناصر في الدولة الإسلامية الموحدة، وكيف كانت؟! لماذا تفرطون في مثل هذه العزة في الدنيا وذاك الثواب العظيم في الآخرة؟! أمن أجل أيام معدودات على مدينة من مدن المسلمين تحكمونها؟! أم من أجل الاستكبار وعدم الرغبة في أن تكونوا تحت إمرة رجل واحد من المسلمين؟! أم من أجل التزلّف والاستعباد لملك من ملوك النصارى؟!

سقوط طُلَيْطِلَة.. والبقية تأتي!


ما زلنا في عهد ملوك الطوائف وقد تصاعدت المأساة كثيرًا في بلاد الأندلس، ففي سنة 478 هـ= 1085م تسقط "طُلَيْطِلَة"...

يسقط الثغر الإسلامي الأعلى في بلاد الأندلس تلك المدينة العظيمة التي كانت عاصمة للقوط قبل دخول المسلمين في عهد " موسى بن نصير " و" طارق بن زياد " رحمهما الله.

"طُلَيْطِلَة" التي فتحها طارق بن زياد بستة آلاف، فتحها بالرعب قبل مسيرة شهر منها...

"طُلَيْطِلَة" الثغر الذي كان يستقبل فيه عبد الرحمن الناصر الجزية من بلاد النصارى، ومنه كان ينطلق هو ومن تبعه من الحكام الأتقياء لفتح بلادهم في الشمال...

"طُلَيْطِلَة" المدينة العظيمة الحصينة التي تحوطها الجبال من كل النواحي عدا الناحية الجنوبية.

وكان قد سبق سقوط "طُلَيْطِلَة" استقبالٌ لملك من ملوك النصارى مدة تسعة أشهر كاملة، حيث كان قد فرّ هاربًا من جرّاء خلاف حدث معه في بلاد النصارى، ومن ثَمّ فقد لجأ إلى (صديقه) المقتدر بالله حاكم "طُلَيْطِلَة"، والذي قام بدوره (حاكم طُلَيْطِلَة) في ضيافته على أكمل وجه، فأخذ يتجول به في كل أنحاء البلد، في كل الحصون وكل المداخل، وعلى الأنهار الداخلة لمدينة "طُلَيْطِلَة".

وحين عاد الرجل النصراني إلى بلاده حاكمًا كان أول خطوة خطاها هي الهجوم على طُلَيْطِلَة، فقام بفتحها وضمها إلى بلاده، وقد كان معاونًا وصديقًا قبل ذلك، فكان كما أخبر سبحانه وتعالى: [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ] {الممتحنة:1}.

فَضَلَّ المقتدر بالله سواء السبيل، وأَسَرَّ لملك النصارى بأسرارها، فسقطت طُلَيْطِلَة!

وبسقوط طُلَيْطِلَة اهتزّ العالم الإسلامي في الشرق والغرب، وحدث إحباط شديد في كل بلاد الأندلس، وفي تصوير بارع لهذا الإحباط نرى ابن عسّال أحد الشعراء المعاصرين لهذا السقوط يقول:

شُدُّوا رَوَاحِلَكُمْ يَا أَهْلَ أَنْدَلُسِ فَمَـا الْمَقَـامُ فِيهَـا إِلَّا مِـنَ الْغَلَطِ

الثَّـوْبُ يَنْسَـلُّ مـِنْ أَطْرَافِهِ وَأَرَى ثَوْبَ الْجَزِيرَةِ مَنْسُولًا مِنَ الْوَسَطِ

مَنْ جَاوَرَ الشَّرَّ لَا يَأْمَنْ بَوَائِقَهُ كَيْفَ الْحَيَـاةُ مَـعَ الْحَيَّاتِ فِي سَفَطٍ


وهي صورة عجيبة ينقلها ذلك الشاعر (إعلام ذلك الوقت) المحبط، حتى لكأنه يدعو أهل الأندلس جميعًا بكل طوائفه ودويلاته إلى الهجرة والرحيل إلى بلاد أخرى غير الأندلس؛ لأن الأصل الآن هو الرحيل، أما الدفاع أو مجرد البقاء فهو ضرب من الباطل أو هو (الغلط) بعينه، ولقد سانده وعضد موقفه هذا أن من الطبيعي إذا ما انسلّت حبة من العقد مثلا فإن الباقي لا محالة مفروط، فما الحال إذا كان الذي انسلّ من العقد هو أوسطه "طُلَيْطِلَة" أوسط بلاد الأندلس، فذاك أمر ليس بالهزل، بل وكيف يعيشون بجوار هؤلاء (الحيّات) إن هم رضوا لهم بالبقاء؟! فما من طريق إلا الفرار وشدّ الرّحال.


حصار إِشْبِيلِيّة



مع هذا الحدث السابق المؤسف تزامن حصار إِشْبِيلِيّة، وإن تعجب فعجب لماذا تُحاصر إِشْبِيلِيّة وحاكمها يدفع الجزية لألفونسو السادس، وهي أيضًا بعيدة كل البعد عن مملكة قشتالة، حيث تقع في الجنوب الغربي من الأندلس؟!

وإن العجب ليكمن خلف قصة هذا الحصار، حيث أرسل " ألفونسو السادس " حاكم "قشتالة" وزيرًا يهوديًا على رأس وفد إلى إِشْبِيلِيّة لأخذ الجزية كالمعتاد، فذهب الوفد إلى المعتمد على الله بن عباد وحين أخرج له الجزية وجد الوزير اليهودي يقول له متبجحًا: إن لي طلبًا آخر غير الجزية، فتساءل (المعتمد على الله ) عن هذا الطلب، وفي صلف وغرور وإساءة أدب أجابه الوزير اليهودي بقوله: إن زوجة "ألفونسو السادس" ستضع قريبًا، وألفونسو السادس يريد منك أن تجعل زوجته تلد في مسجد قرطبة!!!

تعجب المعتمد على الله وسأله عن هذا الطلب الغريب الذي لم يتعوده، فقال له الوزير اليهودي في ردّ يمثل قمّة في التحدي ولا يقل إساءة وتبجحًا عن سابقه: لقد قال قساوسة "قشتالة" لألفونسو السادس إنه لو ولد لك ولد في أكبر مساجد المسلمين دانت لك السيطرة عليهم.

وكعادة النفوس التي قد بقي بها شيء من عوالق الفطرة السوية أخذت الغيرة المعتمد على الله، فرفض هذا الطلب المزري ووافق على دفع الجزية فقط، وبطبيعته فما كان من الوزير اليهودي إلا أن أساء الأدب وسبّه في حضرة وزرائه.


وبنخوة كانت مفقودة قام المعتمد على الله وأمسك بالوزير اليهودي وقطع رأسه، ثم اعتقل بقية الوفد، ثم أرسل رسالة إلى ألفونسو السادس مفادها أنه لن يدفع الجزية ولن يحدث أن تلد زوجتك في مسجد قرطبة.

جنّ جنون ألفونسو السادس، وعلى الفور جمع جيشه وأتى بحدّه وحديده، فأحرق كل القرى حول حصن إِشْبِيلِيّة الكبير، وحاصر البلاد، وطال الحصار فأرسل إلى المعتمد على الله: إن لم تفتح سأستأصل خبركم.


طاول "المعتمد على الله" في التحصن خوفًا من نتيجة فكّ هذا الحصار، وفي محاولة لبثّ الهزيمة النفسية في قلوب المسلمين والفتّ في عضدهم أرسل ألفونسو السادس رسالة قبيحة أخرى إلى المعتمد على الله بن عباد يقول فيها: إن الذباب قد آذاني حول مدينتك، فإن أردت أن ترسل لي مروحة أروح بها عن نفسي فافعل.


يريد وبكل كبرياء وغرور أن يخبره أن أكثر ما يضايقه في هذا الحصار هو الذباب أو البعوض، أما أنت وجيشك وأمتك وحصونك فهي أهون عندي منه.

وبنخوة أخرى وفي ردّ فعل طبيعي أخذ "المعتمد على الله بن عباد" الرسالةَ وقلبها وكتب على ظهرها ردًا وأرسله إلى "ألفونسو السادس"...

لم يكن هذا الردّ طويلًا، إنه لا يكاد يتعدى السطر الواحد فقط، وما إن قرأه "ألفونسو السادس" حتى تَمَلّكهُ الخوف والرعب والفزع وأخذ جيشه، ورجع من حيث أتى...

تُـرى مـا هـو هـذا الـردّ؟!!

في بداية عهد جديد من عهودالأندلس ودورة أخرى من دورات التاريخ بعد هذا الضعف وذاك السقوط، كانت رسالة "المعتمد على الله" إلى "ألفونسو السادس" - والتي أثارت الرعب والفزع في قلبه بمجرد أن قرأها فأخذ جيشه وعاد إلى "قشتالة" - كانت تلك الرسالة هي مهد ذلك العهد وبداية تلك الدورة الجديدة.

فحين أرسل "ألفونسو السادس" رسالته المهينة إلى "المعتمد على الله بن عباد" يطلب منه متهكمًا مروحةً يروّح بها عن نفسه، أخذها "المعتمد على الله" وقلبها ثم كتب على ظهرها: والله لئن لم ترجع لأروحنّ لك بمروحة من المرابطين.

لم يكن أمام المعتمد على الله غير أسلوب التهديد هذا، فقط لوّح بالاستعانة بالمرابطين، وقد كان "ألفونسو السادس" يعلم جيدًا من هم المرابطون، فهو مطّلع على أحوال العالم الخارجي، فما كان منه إلا أن أخذ جيشه وانصرف.

تُرى من هم المرابطون الذين كانوا بمجرد أن تذكر أسماؤهم تتغير كل الأوضاع؟

إنهم أبطال مجاهدون، لا يهابون الموت.
أقاموا دولة إسلامية تملّكت كل مقوماتِ القوّة، تربّعت على المغرب العربي وما تحته.
وقبل أن نتحدث عن دولتهم تلك؛ نتعرف أولًا على أحوال بلاد الأندلس بعد حصار إشبيلية؛ حتى نعي الوضع جيدًا قبل بداية عهدهم.


ومـــن إسبانيــــا

..
.







رد مع اقتباس
  #36  
قديم 07-15-2009, 09:56 AM
أبو أنس الأنصاري أبو أنس الأنصاري غير متواجد حالياً
II كَانَ اللهُ لَهُ II
 




افتراضي







دولة المرابطين




ماذا تعني كلمة المرابطين؟ وما أصلهم؟



تعني القيام باتخاذ خيامًا على ثغور المسلمين لحمايتها والدفاع عنها، ومن هنا أطلق عليهم اسم المرابطين. ويُنسب المرابطون إلى قبيلة جدالة بموريتانيا.



كيف تحولوا من قمة الفساد إلى هذا الصلاح؟ وكيف بلغت هذه القوة؟



كانت أوضاع جدالة في منتهى الفساد والانحلال، ففكر قائدهم يحيى بن إبراهيم: ماذا يفعل ليصلح أحوال قبيلته؟

فاستدعى رجلاً يدعى عبد الله بن ياسين لكي يعظ هؤلاء الناس، وتنشأ دولة المرابطين من هذه الدعوة.

وبعد وفاة عبد الله بن ياسين في سنة 451 هـ/ 1059م، يتولى أبو بكر بن عمر اللمتوني زعامة المرابطين بعد أن كان قد انضم هو وقبيلته إلى المرابطين، ويزداد أعداد المرابطين في عهده، وتتوسع الدولة، وينيب عنه ابن عمه يوسف بن تاشفين زعيمًا على المرابطين، ويذهب لنشر الإسلام في السنغال وغيرها من بقاع إفريقيا. أما يوسف بن تاشفين فلقد حارب حاييم بنمنّ الله، وحارب صالح بن طريف؛ لأنهم ادَّعوا النبوة، وبدأ ينشر الإسلام، حتى عاد أبو بكر بن عمر اللمتوني، فلما وجد يوسف بن تاشفين وقد نشر الإسلام وحارب أعداء الدين؛ فتنازل له عن الحكم وذهب إلى إفريقيا لنشر الإسلام، وقبل وفاته كانت دولة المرابطين تسيطر على ثلث إفريقيا.




المرابطون بالأندلس


في سنة 478 هـ/ 1085م يعبر يوسف بن تاشفين إلى الأندلس ويتحد مع الأندلسيين ويهزم ألفونسو السادس في موقعة "الزَّلاَّقة" من أشهر مواقع التاريخ الإسلامي، ويوحد المغرب والأندلس تحت راية واحدة، وبعد وفاة يوسف بن تاشفين حرر المسلمون الكثير من الأراضي الإسلامية المحتلة.


ولكن هل تنتهي دولة المرابطين؟


نعم، كان لا بد من نهاية لهذه الدولة، ويعود السبب في ذلك إلى الفتنة بالدنيا والأموال، وانشغال المرابطين بالأمور الخارجية عن الأمور الداخلية، وكثرة الذنوب سواء في بلاد المغرب أو في الأندلس، وتعمق العلماء في الفروع دون الأصول. ومن العوامل المسئولة عن الانهيار أيضًا حدوث أزمة اقتصادية في آخر عهد المرابطين؛ بسبب البعد عن الطريق الصحيح.







مَنْ هُم المُرَابِطُون؟


قبيلة جُدَالة وأصل المرابطين


كان التاريخ هو سنة 478 هـ= 1085 م، حيث سقطت طُلَيْطِلَة، وحوصرت إِشْبِيلِيّة، وعُقد مؤتمر القمة، ومن هذا التاريخ نعود إلى الوراء ثمانية وثلاثين عامًا، وبالتحديد في 440 هـ= 1048 م حيث أحداث "بربشتر" و"بلنسية" السابقة، لنكون مع بداية تاريخ المرابطين.
وكما غوّرنا في أعماق التاريخ، نعود ونغوّر في أعماق صحراء موريتانيا البلد الإسلامي الكبير، وبالتحديد في الجنوب القاحل، حيث الصحراء الممتدة، والجدب المقفر، والحرّ الشديد، وحيث أناس لا يتقنون الزراعة ويعيشون على البداوة.
في هذه المناطق كانت تعيش قبائل البربر، ومن قبائل البربر الكبيرة كانت قبيلة "صنهاجة"، وكانت قبيلتي "جُدَالَة ولَمْتُونة" أكبر فرعين في "صنهاجة"...
كانت "جُدَالة" تقطن جنوب موريتانيا، وكانت قد دخلت في الإسلام منذ قرون، وكان على رأس جدالة رئيسهم يحيى بن إبراهيم الجدالي، وكان لهذا الرجل فطرة سوّية وأخلاق حَسَنة.
نظر يحيى بن إبراهيم في قبيلته فوجد أمورًا عجيبة (كان ذلك متزامنًا مع مأساة بربشتر وبلنسية)، وجد الناس وقد أدمنوا الخمور، وألِفوا الزنى، حتى إن الرجل ليزني بحليلة جاره ولا يعترض جاره، تمامًا كما قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: [وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المُنْكَرَ] {العنكبوت:29}.

ولماذا يعترض الجار وهو يفعل نفس الشيء مع جاره؟!

فقد فشى الزنى بشكل مريع في جنوب موريتانيا في ذلك الزمن، وكثر الزواج من أكثر من أربعة، والناس ما زالوا مسلمين ولا ينكر عليهم أحد ما يفعلونه، فالسلب والنهب هو العرف السائد، القبائل مشتتة ومفرقة، القبيلة القوية تأكل الضعيفة، والوضع شديد الشبه بما يحدث في دويلات الطوائف، بل هو أشدّ وأخزى.

((وكان المغرب الأقصى في ذلك الوقت في محنة سياسية ودينية، حيث ظهرت دعوات منحرفة عن الإسلام وحقيقته وجوهره الأصيل، واستطاعت بعض الدعوات الكفرية أن تشكل كيانًا سياسيًا تحتمي به))...
لقد كانت هذه الأوضاع سواء في بلاد الأندلس أو في موريتانيا أشد وطأةً مما نحن عليه الآن، فلننظر كيف يكون القيام، ولنتدبّر تلك الخطوات المنظّمة والتي سار أصحابها وفق منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بناء الدولة وإصلاح أحوال الأمة...


يحيى بن إبراهيم وهم المسلمين


كان يحيى بن إبراهيم الجُدالي صاحب الفطرة النقيّة يعلم أن كلّ ما يفعله قومه من المنكرات، لكنه لم يكن بمقدوره التغيير؛ فالشعب كله في ضلال وعمى، وبعيد كل البعد عن الدين، كما أن الرجل نفسه لا يملك من العلم ما يستطيع به أن يغيّر الناس.
وبعد حيْرة وتفكّر هداه ربُّه لأن يذهب إلى الحج، ثم وهو في طريق عودته يُعرّج على حاضرة الإسلام في المنطقة وهي مدينة القيروان (في تونس الآن)، فيكلّم علماءَها المشهورين بالعلم لعلّ واحدًا منهم أن يأتي معه فيُعلّم قبيلته الإسلام.
وبالفعل ذهب إلى الحج وفي طريق عودته ذهب إلى القيروان، وقابل هناك أبا عمران موسى بن عيسى الفاسي (368 - 430 هـ= 979 - 1039 م )، وهو شيخ المالكية في مدينة القيروان (كان المذهب المالكي هو المنتشر في كل بلاد الشمال الإفريقي وإلى عصرنا الحاضر، كما كان هو المذهب السائد في بلاد الأندلس)، قال عنه الحميدي صاحب جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس - (جـ 1 / صـ 121) موسى بن عيسى بن أبي حاج واسم أبي حاج: يحج أبو عمران الفاسي، فقيه القيروان، إمام في وقته دخل الأندلس وله رحلة إلى المشرق، وصل فيها إلى العراق، فمن مشايخه بالأندلس أبو الفضل أحمد بن قاس بن عبد الرحمن صاحب قاسم بن أصبغ، وأبو زيد عبد الرحمن بن يحيى العطار، وأبو عثمان سعيد بن نصر، وسمع بالقيروان من أبي الحسن علي بن محمد بن خلف القابسي وغيره، وبمصر من أبي الحسين عبد الكريم بن أحمد ابن أبي جدار وغيره، وبمكة من أبي القاسم عبيد الله بن محمد بن أحمد السفطي وغيره، والعراق من أبي الفضل عبيد الله بن عبد الرحمن الزهري وغيره؛ وكان مكثراً عالماً...
وقال عنه الحِميري صاحب الروض المعطار في خبر الأقطار - (جـ 1 / ص 435) : الفقيه الإمام المشهور بالعلْم والصلاح...
وقال عنه ابن فرحون صاحب الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب - (جـ 1 / ص 172) قال حاتم بن محمد: كان أبو عمران من أحفظ الناس وأعلمهم جمع حفظ المذهب المالكي إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفة معانية وكان يقرأ القرآن بالسبع ويجوده مع معرفته بالرجال وجرحهم وتعديلهم.
أخذ عنه الناس من أقطار المغرب والأندلس واستجازه من لم يلقه وله كتاب التعليق على المدونة كتاب جليل لم يكمل وغير ذلك وخرج من عوالي إلى حديث نحو مائة ورقة.
قال حاتم: ولم ألق أحداً أوسع علماً منه ولا أكثر رواية.... هـ.
فلما التقى به يحيى بن إبراهيم الجدالي حكى له قصته وسأله عن الدواء، فما كان من أبي عمران الفاسي إلا أن أرسل معه شيخًا جليلًا يعلّم النّاس أمور دينهم.


تُرى من هوَ هذا الشيخ؟!

كان الشيخ عبد الله بن ياسين ( الزعيم الاول للمرابطين، وجامع شملهم، وصاحب الدعوة الإصلاحية فيهم. ت451 هـ= 1059 م)من شيوخ المالكية الكبار، له طلاب علم كثيرون في أرض المغرب والجزائر وتونس، كانوا يأتون إليه ويستمعوه منه، وكان يعيش في حاضرة من حواضر الإسلام على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وها هو الذي قبِل القيام بهذه المهمة الكبيرة، وفضّل أن يُغوّر في الصحراء ويترك كل ما هو فيه ليعلم الناس الإسلام، ويقوم بمهمة الرسل، وهي الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
لم يكن عبد الله بن ياسين فقيهًا فحسب وإنما استوعب العلوم والمناهج التي كانت في زمانه من أصول وفقه وحديث ولغة وغير ذلك وعاش تجارب كثيرة وأحاط بالكثير من مجريات الأمور التي تدور حوله، إضافة إلى ذلك اتصف ابنُ ياسين رحمه الله بالكثير من الصفات الأخلاقية والقيادية منها ما كان فطريًا ومنها ما اكتسبه بمجاهدته لنفسه وطول عبادته لربه، وهذه الأمور مجتمعةً جعلته أهلًا لأن يحمل هذه الأمانة العظيمة وجعلته حريًا أن يختاره شيوخه للقيام بهذه المهمة العظيمة في ذلك الوقت العصيب من تاريخ تلك المنطقة لتصبح بعد سنواتٍ قليلة منبعَ الخير للأمة كلها ومحضنَ المجاهدين وقبلة الراغبين في الجنة...
ومن أهمّ ما يميّز الشيخ أيضًا فهمه للواقع وأخذه بفقه الأولويات ومعرفة هدفه والعمل له بجدٍ واجتهادٍ وهمةٍ عاليةٍ وعزيمة صادقة، دون الصدام مع من يريدون لدعوته الفناء حرصًا على مصالح شخصية ومنافع دنيوية وأهداف دنيئة...


عبد الله بن ياسين ومهمة الأنبياء


اتجه الشيخ عبد الله بن ياسين صوب الصحراء الكبرى، مخترقا جنوب الجزائر وشمال موريتانيا حتى وصل إلى الجنوب منها، حيث قبيلة جدالة، وحيث الأرض المجدبة والحر الشديد، وفي أناة شديدة، وبعد ما هاله أمر الناس في ارتكاب المنكرات أمام بعضهم البعض ولا ينكر عليهم منكر، بدأ يعلم الناس، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر.

ولكن - وللأسف - فقد ثار عليه أصحاب المصالح والشعب وجميع الفصائل، فالكل يريد أن يعيش شهواته وملذاته ودون قيد أو حجْر، وأصحاب المصالح هم أكبر مستفيد مما يحدث، فبدأ الناس يجادلونه ويصدونه عما يفعل، ولم يستطع يحيى بن إبراهيم الجدالي زعيم القبيلة أن يحميه، وذلك لأن الشعب كان لا يعرف الفضيلة، وفي ذات الوقت كان رافضا للتغيير، ولو كان أصر يحيى بن إبراهيم الجدالي على موقفه هذا لخلعه الشعب ولخلعته القبيلة!

لم يقنط الشيخ عبد الله بن ياسين، وحاول المرة تلو المرة، فبدأ الناس يهددونه بالضرب، وحين استمر على موقفه من تعليمهم الخير وهدايتهم إلى طريق رب العالمين، قاموا بضربه ثم هددوه بالطرد من البلاد أو القتل.

لم يزدد موقفه إلا صلابة، ومرت الأيام وهو يدعو ويدعو حتى قاموا بالفعل بطرده من البلاد، ولسان حالهم دعك عنا، اتركنا وشأننا، ارجع إلى قومك فعلمهم بدلاً منا، دع هذه البلاد تعيش كما تعيش فليس هذا من شأنك!!!

وكأنّا نراهُ رأي العين وهو يقف خارج القبيلة، تنحدر دموعه على خده، ويقول بحسرة تقطع قلبه [يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُون] {يس26}.
يريد أن يغيّر ولا يستطيع، أنفس تتفلت منه إلى طريق الغواية والحيدة عن النهج القويم ولا سبيل إلى تقويمها، حزّ في نفسه أن يولد الناس في هذه البلاد فلا يجدون من يعلمهم ويرشدهم، فأراد أن يبقى، ولكن كيف يبقى؟ أيدخل جدالة من جديد؟ لكنه سيموت، ولو كان الموت مصلحًا فأهلا بالموت، لكن هيهات ثم هيهات.


عبد الله بن ياسين ونواة دولة المرابطين


جلس رحمه الله يفكر ويفكر ثم هداه ربه سبحانه وتعالى، فما كان منه إلا أن تعمّق في الصحراء ناحية الجنوب، وبعيدا عن الحواضر والمدنية، حتى وصل إلى شمال السنغال (لا نعرف عن السنغال سوى فريقها القومي، رغم كونها بلدًا إسلاميًا كبيرًا، حيث أكثر من تسعين بالمائة من سكانه من المسلمين).

وهناك وفي شمال السنغال وعلى مصب نهر من الأنهار في غابات أفريقيا يصنع خيمة بسيطة له ويجلس فيها وحده، ثم يبعث برسالة إلى أهل جدالة في جنوب موريتانيا، تلك التي أخرجه أهلها منها يخبرهم فيها بمكانه، فمن يريد أن يتعلم العلم فليأتني في هذا المكان.

كان من الطبيعي أن يكون في جدالة بعض الناس خاصة من الشباب الذين تحركت قلوبهم للفطرة السوية ولهذا الدين، لكن أصحاب المصالح ومراكز القوى في البلاد كانوا يمنعونهم من ذلك، فحين علموا أنهم سيكونون بعيدين عن قومهم، ومن ثم يكونون في مأمن مع شيخهم في أدغال السنغال، تاقت قلوبهم إلى لقياه، فنزلوا من جنوب موريتانيا إلى شمال السنغال، وجلسوا مع الشيخ عبد الله بن ياسين ولم يتجاوز عددهم في بادئ الأمر الخمسة نفر واحدا بعد الآخر.

وفي خيمته وبصبر شديد أخذ الشيخ عبد الله بن ياسين يعلمهم الإسلام كما أنزله الله سبحانه وتعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وكيف أن الإسلام نظام شامل متكامل ينتظم كل أمور الحياة، وبدأ يعلمهم العقيدة الصحيحة، والجهاد في سبيل الله، وكيف يركبون الخيل ويحملون السيوف، وكيف يعتمدون على أنفسهم في مطعمهم ومشربهم، وكيف ينزلون إلى الغابات فيصطادون الصيد ويأتون به إلى الخيمة يطبخونه ويأكلونه ولا يستجدون طعامهم ممن حولهم من الناس.

ذاق الرجال معه حلاوة الدين، ثم شعروا أن من واجبهم أن يأتوا بمعارفهم وأقربائهم وذويهم، لينهلوا من هذا المعين، ويتذوقوا حلاوة ما تذوقوه، فذهبوا إلى جدالة - وكانوا خمسة رجال - وقد رجع كل منهم برجل فأصبحوا عشرة، ثم زادوا إلى عشرين، وحين ضاقت عليهم الخيمة أقاموا خيمة ثانية فثالثة فرابعة، وبدأ العدد في ازدياد مستمر.

هذا ولم يمل الشيخ عبد الله بن ياسين تعليمهم الإسلام من كل جوانبه، وكان يكثر من تعليمهم أنه إذا ما تعارض شيء مع القرآن أو السنة فلا ينظر إليه، وأنه لا بد من المحافظة على هذه الأصول كي تبني ما تريد وتصل إلى ما تبغي.

بداية المرابطين، وبداية الرسول صلى الله عليه وسلم


مع كثرة الخيام وازدياد العدد إلى الخمسين فالمائة فالمائة وخمسين فالمائتين، أصبح من الصعب على الشيخ توصيل علمه إلى الجميع، فقسمهم إلى مجموعات صغيرة، على كل منها واحد من النابغين، وهو نفس منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم بداية من دار الأرقم بن أبي الأرقم، وحين كان يجلس صلى الله عليه وسلم مع صحابته في مكة يعلمهم الإسلام، ومرورا ببيعة العقبة الثانية حين قسم الاثنين والسبعين رجلاً من أهل المدينة المنورة إلى اثني عشر قسمًا، وجعل على كل قسم (خمسة نفر) منهم نقيبًا عليهم، ثم أرسلهم مرة أخرى إلى المدينة المنورة حتى قامت للمسلمين دولتهم.

وهكذا أيضا كان منهج الشيخ عبد الله بن ياسين، حتى بلغ العدد في سنة أربع وأربعين وأربعمائة من الهجرة، بعد أربعة أعوام فقط من بداية دعوته ونزوحه إلى شمال السنغال إلى ألف نفس مسلمة [نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ] {الصَّف13}.

فبعد أن طرد الرجل وأوذي في الله وضرب وهدد بالقتل، إذا به ينزل بمفرده إلى أعماق الصحراء حتى شمال السنغال وحيدًا طريدًا شريدًا، ثم في زمن لم يتعدى الأربع سنوات يتخرج من تحت يديه ألف رجل على أفضل ما يكون من التبعية والتعليم.

وفي قبائل صنهاجة المفرقة والمشتتة توزع هؤلاء الألف الذين كانوا كما ينبغي أن يكون الرجال، فأخذوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، يعلمون الناس الخير ويعرفونهم أمور دينهم، فبدأت جماعتهم تزداد شيئا فشيئا، وبدأ الرقم يتخطى حاجز الألف إلى مائتان وألف ثم إلى ثلاثمائة وألف، يزداد التقدم ببطء لكنه تقدم ملموس جدا.

معنى المرابطون


أصل كلمة الرباط هي ما تربط به الخيل، ثم قيل لكل أهل ثغر يدفع عمن خلفه رباط، فكان الرباط هو ملازمة الجهاد، وهو في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (( رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا )).

ولأن المرابطين أو المجاهدين كانوا يتخذون خيامًا على الثغور يحمون فيها ثغور المسلمين، ويجاهدون في سبيل الله، فقد تَسمى الشيخ عبد الله بن ياسين ومن معه ممن كانوا يرابطون في خيام على نهر السنغال بجماعة المرابطين، وعُرفوا في التاريخ بهذا الاسم.
كما تطلِق عليهم بعض المصادر الملثمين فيُقال أمير الملثمين ودولة الملثمين، ويرجع سبب هذه التسمية كما يذكر ابن خلّكان في وفيات الأعيان إلى أنهم قوم يتلثمون ولا يكشفون وجوههم، فلذلك سموهم الملثمين، وذلك سنّة لهم يتوارثونها خلفاً عن سلف، وسبب ذلك على ما قيل أن "حمير" كانت تتلثم لشدة الحرّ والبرد يفعله الخواص منهم، فكثر ذلك حتى صار يفعله عامتهم. وقيل كان سببه أن قوماً من أعدائهم كانوا يقصدون غفلتهم إذا غابوا عن بيوتهم فيطرقون الحي فيأخذون المال والحريم، فأشار عليهم بعض مشايخهم أن يبعثوا النساء في زي الرجال إلى ناحية ويقعدوا هم في البيوت ملثمين في زي النساء، فإذا أتاهم العدو ظنّوهم النساء فيخرجون عليهم، ففعلوا ذلك وثاروا عليهم بالسيوف فقتلوهم، فلزموا اللثام تبركاً بما حصل لهم من الظفر بالعدو.
وقال شيخنا الحافظ عز الدين ابن الأثير في تاريخه الكبير ما مثاله: وقيل إن سبب اللثام لهم أن طائفة من لَمْتونة خرجوا مغيرين على عدو لهم فخالفهم العدو إلى بيوتهم، ولم يكن بها إلا المشايخ والصبيان والنساء، فلما تحقق المشايخ أنه العدو أمروا النساء أن تلبس ثياب الرجال ويتلثمن ويضيقنه حتى لا يعرفن، ويلبسن السلاح، ففعلن ذلك، وتقدم المشايخ والصبيان أمامهن واستدار النساء بالبيوت، فلما أشرف العدو رأى جمعاً عظيماً فظنه رجالاً وقالوا: هؤلاء عند حريمهم يقاتلون عنهن قتال الموت، والرأي أن نسوق النعم ونمضي، فإن اتبعونا قاتلناهم خارجاً عن حريمهم، فبينما هم في جمع النعم من المراعي إذ أقبل رجال الحي، فبقي العدو بينهم وبين النساء، فقتلوا من العدو وأكثروا وكان من قبل النساء أكثر، فمن ذلك الوقت جعلوا اللثام سنّة يلازمونه فلا يُعرف الشيخ من الشاب ولا يزيلونه ليلاً ولا نهاراً.


ومما قيل في اللثّام:
قومٌ لهم درك العلا في حمير وإن انتموا صنهاجة فهم هم
لما حووا إحراز كل فضيلة غلب الحيـاء عليهم فتلثمو. هـ




كيف كانتِ الحياة في الرباط؟



كان هذا الرباط الذي أقامه الداعية الرباني الفقيه عبد الله بن ياسين بمثابة جامعة عظيمة تخرّج فيها الكثير من القادة والمربين على يد هذا الشيخ الجليل وعلى يد من تربوا على يديه، ولنقترب أكثر من الشيخ وتلامذته في هذا الرباط لنرى حياتهم عن قرب ونعيش بعض مواقفهم ونعرف أسلوب حياتهم في هذا المكان...
أولًا: كان المقبلون على الشيخ في هذا المكان البعيد عن العمران هم الصفوة من بين أهل تلك البلاد التي رفض أهلها بقاء الشيخ بينهم، ورفضوا دعوته اتباعًا لأهوائهم وإيثارًا لدنياهم على آخرتهم، فكان هؤلاء الصفوة الذين انقطعوا إلى الشيخ وتركوا أهلهم وذويهم أهلًا لأن يتربوا على يد هذا المربى العظيم، بل كانوا أهلًا لأن يكون أساتذةً لجيل المرابطين المجاهدين بعد ذلك...
ثانيًا: بدأ الشيخ المربي العظيم عبد الله بن ياسين يعلّم هؤلاء الصفوة ويربيهم على الأسس الإسلامية الصحيحية وعلى الفهم الشامل العميق للإسلام، وكانت تربيته عملية لا نظرية فهم يطبّقون ما يتعلمونه على الفور، وكان الشيخ بفهمه الواضح ونظرته الثاقبة يعرف أولولياته ويرتّبها ولا يستعجل الخطى بل يسير مع تلامذته في أناة شديدة حتى يكون النضج على أحسن ما يكون.
ثالثًا: عاش هذا الجيل من المرابطين في هذا المكان - الرباط - حياة الجهاد والتقشف وكان يعتمدون إلى حدٍّ كبير على الصيد ويقتسمون بينهم ما يرزقهم الله به ويؤثرون بعضهم بعضًا، وربما آثر أحدهم أن ينام جائعًا ويطعم أخاه، فقد أصّل الشيخ فيهم معاني الإيثار والحب في الله والأخوة الإسلامية...قال صاحب كتاب (دولة المرابطين): "وكان أهل الرباط في قمة من الصفاء الروحي، ويعيشون حياة مثالية في رباطهم فيتعاونون على قوتهم اليومي معتمدين على ما توفره لهم جزيرتهم من الصيد البحري يقنعون بالقليل من الطعام، ويرتدون الخشن من الثياب".
وإن هذه النماذج لتذكرنا بالجيل الأول الذي رباه الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم والذين قال الله فيهم: [لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ]{الحشر 8} ولا عجب فإن عبد الله بن ياسين رحمه الله قد اتّبع في تّرْبية تلاميذه من المرابطين المنهج النبوي العظيم الذي اتبعه الرسول صلى الله عليه وسلم فكانت تلك ثمرته المرجوّة، ومتى اتبع المربّون والمعلّمون هذا المنهج في بناء الأجيال الإسلامية فليس هناك من شك أن هذه الأجيال سترفع راية الإسلام عالية خفّاقة على ربوع العالم كله وسيُعيد المسلمون كل ما افتقدوه من أرض ومقدسات، فهل من مجيب؟!
رابعًا: جمع الشيخ في تربيته للمرابطين بين تربيته لنفوسهم وأرواحهم على الصفاء والنقاء والطاعة لله وبين تربية أجسادهم على القوة والمتانة وتحمّل الصعاب وذلك لأنه يعدّهم لأمر مهم وخطب جلل لا يصلح له إلا من تربى عقلُه على العلم والفقه وروحه على الصفاء والنقاء وجسدُه على الخشونة وقوّة التحمّل.
خامسًا: تدرّج الشيخ - رحمه الله - في بناء القوة في تلامذته المرابطين فبدأ بتأصيل العقيدة الصحيحة في نفوسهم ولم يكن الشيخ يكثر في ذلك من مطالعة العلوم الكلامية والخلافات بين الفرق والتقعّر والتعمّق في أمور لا طائل من ورائها وإنما كان يربي عندهم العقيدة السليمة من خلال التفكر في خلق الله ونعمِهِ ومن خلال العبادة الدائمة من ذكر وصيام وقيام وتهجد وتلاوة للقرآن...وفي خطٍ موازٍ لتأصيل العقيدة الصحيحة في النفوس كان الشيخ - رحمه الله - يبني في جانب آخر من جوانب القوة ألا وهو قوة الإخاء والحب فيما بين المرابطين وهو جانب لا يستهان به بحال من الأحوال، فقوة الأخوة في الله ينبني عليها الكثير من مقوّمات النصر والتمكين، ويحسنُ بها الترابط بين الجنود فيؤثر كل منهم صاحبه على نفسه، ويفتديه بما يستطيع، ويسمع له ويطيع - إن أُمّر عليه - في المنشط والمكره انطلاقًا من هذا الحب وتلك الأخوة...
ومع هاتين القوتين اللّتين حرص الشيخ على بنائهما في جنوده المرابطين لم يكن - رحمه الله - ليُغفل جانبًا مهمًّا من جوانب القوّة ألا وهو قوّة الساعد والسلاح فقد كان الشيخ - رحمه الله - وكما ذكرنا سابقًا يربى تلامذته على الخشونة في المطعم والملبس كما كانوا يتدربون أيضًا على فنون القتال المختلفة استعدادًا لما ينتظرهم من أمور عظيمة، بها عزّ الإسلام ونصرة المسلمين.
وقد انطلق الشيخ - رحمه الله - في كل هذه الأمور من قول الله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ] {الأنفال 60}
يقول الأستاذ سيد قطب رحمهُ اللهُ: يجب على المعسكر الإسلامي إعداد العدة دائماً واستكمال القوة بأقصى الحدود الممكنة؛ لتكون القوة المهتدية هي القوة العليا في الأرض؛ التي ترهبها جميع القوى المبطلة؛ والتي تتسامع بها هذه القوى في أرجاء الأرض، فتهاب أولاً أن تهاجم دار الإسلام؛ وتستسلم كذلك لسلطان الله فلا تمنع داعية إلى الإسلام في أرضها من الدعوة، ولا تصد أحداً من أهلها عن الاستجابة، ولا تدّعي حق الحاكمية وتعبيد الناس، حتى يكون الدين كله لله...
إن من يقرأ عن الشيخ عبد الله بن ياسين والمرابطين الذين كانوا معه قراءة عابرة يظن أنهم جماعة من الناس اعتزلوا قومهم ليعبدوا الله بعيدًا عن ضوضاء العمران ومشاكل الناس فحسب، ولم يكن الأمر كذلك على الإطلاق بل كان هذا الاعتزال جزءًا من خطة كبيرة يتم تنفيذها خطوة بعد خطوة بفهم سليم وعمق في التفكير ودقة في التخطيط وبراعة في التنفيذ.
ومما يلفت النظر كذلك في هذا الرباط المبارك الدقة العالية في التنظيم والتي اتبعها الشيخ ونفذها في هذا الرباط فقد قسّم الشيخ مَن معه إلى مجموعات كثيرة جعل على كلٍ منها واحدًا يعلمهم ويفقههم ويربيهم وعن طريقه تصل إليهم تعليمات الشيخ وتوجيهاته، كما تم تقسيم قادة هذه المجموعات إلى مجموعات أخرى على كلٍ منها أحد النابغين الأذكياء وهكذا يكبر هذا الهرم ليكون في قمّته الشيخ المربي - رحمه الله - يصدر تعليماته فتصل إلى الجميع في انسياب وسهولة دون تعقيد أو تغيير...
كوّن الشيخ - رحمه الله - من نجباء تلاميذه مجلسًا للشورى، كما شكّل إدارات متعددة لتقوم بأمر الرباط والمرابطين، خاصة بعد أن أن صاروا من الكثرة بمكان...




بين المرابطينَ في الثغور والمرابطينَ في مرج الزهور


تذكرنا نشأة المرابطين هذه بقضيتنا المعاصرة - قضية فلسطين - فعندما أبعد الصهاينة في ديسمبر 1992 م ما يزيد على أربعمائة من إخواننا في فلسطين، من بينهم أكثر من 200 من خطباء المساجد ومن بينهم أساتذة جامعات، وأطباء، ومهندسون، وصيادلة، ومدرسون، وطلاب...
لقد أراد اليهود بإبعاد هؤلاء الصفوة أن يفرّغوا فلسطين من رجالاتها حتى تصفو لهم وطنًا، وحتى لا يعكّر حياتهم هؤلاء المجاهدون، فتآمروا لإبعادهم إلى لبنان ومن ثَمّ تلحق بهم أسرهم وأهليهم وتكون الخطة الصهيونية قد نجحت، ولكن المجاهدين فقهوا الأمر جيدًا وأبوا أن يدخلوا لبنان وعسكروا في مكان سمّوه "مرج الزهور" وهي أقرب قرية إلى المكان الذي تم إبعادهم إليه - وكانت القرية السنيّة الوحيدة في تلك المنطقة - وكانت تلك المنطقة معسكرًا سابقًا للجيش اليهودي وكان المكان مزودًا بالطرق والشوارع المرصوفة، وبالقرب منه عين ماء وهو في منطقة في غاية الروعة والجمال...
يقول أحد الذين كانوا مع المبعدين: كان مخيم المبعدين أشبه بالدولة المصغرة فقد قسم للجان مختلفة منها: اللجنة الإعلامية التي يترأسها د. عبد العزيز الرنتيسي- رحمه الله- المتحدث باسم المبعدين باللغة العربية والدكتور عزيز دويك المتحدث باللغة الإنجليزية، وكانت مهمة هذه اللجنة الحديث مع وسائل الإعلام العربية والعالمية، وهناك أيضا اللجنة المالية واللجنة الاجتماعية واللجنة الرياضية ولجنة الدعوة وغيرها من اللجان الفاعلة، وقمنا كذلك بتأسيس جامعة تضم مختلف العلوم أسميناها "جامعة ابن تيمية"، وكان هناك دورات التجويد وحفظ القرآن ودورات الكراتية والخط والخطابة ودورات باللغة الإنجليزية وغيرها الكثير من الخبرات والعلوم التي تلقينها أثناء فترة الإبعاد والتي ساهمت بإكسابنا العديد من المهارات والعلوم الدينية والدنيوية.
أما عن المبعدين فقد كانوا من مختلف الشرائح الاجتماعية منهم الطبيب والمهندس والشيخ والعامل والموظف والقاضي والتاجر، وكانت تضم خيرة أبناء شعبنا في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وقال العائدون من مرج الزهور: إن رحلة الإبعاد عادت عليهم بالخير الكبير على عكس ما أراد الاحتلال، ويذكر الأستاذ حسني البوريني ذلك بالقول: "أرادت الحكومة (الإسرائيلية) من عملية الإبعاد إيقاف المقاومة وأضعاف الحركة الإسلامية بإبعاد رجالاتها، إلا أن إرادة الله فوق كل اعتبار فحولنا المنحة إلى محنة زادت من رصيد الحركة الإسلامية ليست الفلسطينية فحسب بل العالمية، فقد دخل بعض زوار المخيم من الصحفيين في الإسلام من خلال حسن تعاملنا، ومن خلال عملية الإبعاد وصل صوت الحركة الإسلامية إلى أكثر من 100 دولة من خلال جيش الصحفيين والتي كانت الوفود منهم يومية، فعرضنا وجهة نظرنا وأسمعنا العالم صوتنا، وعرف العالم حقيقة الحكومة الصهيونية التي تدعي حماية حقوق الإنسان.
ويتذكر الشيخ داود أبو سير عدداً كبيراً من رفاق رحلة الإبعاد الذين هم الآن إما شهداء مثل الشيخين جمال سليم وجمال منصور وصلاح دروزة والدكتور عبد العزيز الرنتيسي والعشرات غيرهم، وإما أسرى في سجون الاحتلال مثل الشيخ أحمد الحاج علي، وجمال أبو الهيجاء وحسن يوسف، ويجمع المتحدثون على أن أكثر الشخصيات التي تأثروا بها هي شخصية الدكتور عبد العزيز الرنتيسي الذي كان يستقبل الوفود الأجنبية والعربية، وكان ذو روح مرحة، يوصل الليل بالنهار لخدمة إخوانه...
نعود مرة أخرى من فلسطين إلى الشمال الإفريقي...



يحيى بن عمر اللمتوني والمرابطون


وفي سنة خمس وأربعين وأربعمائة من الهجرة يحدث ما هو متوقع وليس بغريب عن سنن الله سبحانه وتعالى فكما عهدنا أن من سنن الله سبحانه وتعالى أن يتقدم المسلمون ببطء في سلم الارتفاع والعلو، ثم يفتح الله عليهم بشيء لم يكن هم أنفسهم يتوقعونه، وكما حدث للمسلمين - كما ذكرنا - في عهد عبد الرحمن الناصر من دخول سرقسطة وموت عمر بن حفصون، أيضا في هذه البلاد تحدث انفراجة كبيرة، ويقتنع بفكرة الشيخ عبد الله بن ياسين وجماعته من شباب قبيلة جدالة يحيى بن عمر اللمتوني زعيم ثاني أكبر قبيلتين من قبائل صنهاجة - القبيلة الأولى هي جدالة كما ذكرنا - وهي قبيلة لمتونة.

فدخل في جماعة المرابطين، وعلى الفور وكما فعل سعد بن معاذ رضي الله عنه حين دخل الإسلام وذهب إلى قومه وكان سيدًا عليهم وقال لهم إن كلام رجالكم ونسائكم وأطفالكم عليّ حرام، حتى تشهدوا أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، قام يحيى بن عمر اللمتوني وفعل الأمر نفسه، وذهب إلى قومه وأتى بهم ودخلوا مع الشيخ عبد الله بن ياسين في جماعته، وأصبح الثلاثمائة وألف سبعة آلاف في يوم وليلة، مسلمون كما ينبغي أن يكون الإسلام.

وفي مثال لحسن الختام وبعد قليل من دخول قبيلة لمتونة في جماعة المرابطين يموت زعيمهم الذي دلهم على طريق الهداية الشيخ يحيى بن عمر اللمتوني، ثم يتولى من بعده زعامة لمتونة الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني.

دخل الشيخ أبو بكر بن عمر المتوني بحماسة شديدة مع الشيخ عبد الله بن ياسين، وبدأ أمرهم يقوى وأعدادهم تزداد، وبدأ المرابطون يصلون إلى أماكن أوسع حول المنطقة التي كانوا فيها في شمال السنغال، فبدءوا يتوسعون حتى وصلت حدودهم من شمال السنغال إلى جنوب موريتانيا، وأدخلوا معهم جدالة، فأصبحت جدالة ولمتونة وهما القبيلتان الموجودتان في شمال السنغال وجنوب موريتانيا جماعة واحدة تمثل جماعة المرابطين.

أما الشيخ عبد الله بن ياسين ففي إحدى جولاته وهو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في إحدى القبائل، حاربوه وقاتلوه حتى استشهد رحمه الله سنة إحدى وخمسين وأربعمائة من الهجرة، وبعد أحد عشر عاما من الدعوة، خلّف على إثرها اثنا عشر ألف رجل على منهج صحيح في فهم الاسلام.

أبو بكر بن عمر اللمتوني وزعامة دولة المرابطين


بعد الشيخ عبد الله بن ياسين يتولى الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني زعامة جماعة المرابطين، وفي خلال سنتين من زعامته لهذه الجماعة الناشئة يكون قد ظهر في التاريخ ما يعرف بدويلة المرابطين، وأرضها آنذاك شمال السنغال وجنوب موريتانيا، وهي بعد لا تكاد تُرى على خريطة العالم.

وبعد سنتين من تولي الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني زعامة المرابطين، وفي سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة من الهجرة يسمع بخلاف قد نشب بين المسلمين في جنوب السنغال في منطقة بعيدة تماما عن دويلة المرابطين، وبعلمه أن الخلاف شر وأنه لو استشرى بين الناس فلن يكون هناك مجال للدعوة، فينزل بعجالة ليحل هذا الخلاف رغم أن الناس ليسوا في جماعته وليسوا من قبيلته، لكنه وبحكمة شديدة يعلم أنه الحق ولا بد له من قوة تحميه.

وفي السنة المذكورة كان قد وصل تعداد المرابطين قرابة الأربعة عشر ألفا، فأخذ نصفهم وجاب أعماق السنغال في جنوبها ليحل الخلاف بين المتصارعين هناك، تاركا زعامة المرابطين لابن عمه يوسف بن تاشفين رحمه الله.

يستطيع أبو بكر بن عمر اللمتوني أن يحل الخلاف الذي حدث في جنوب السنغال، لكنه يُفاجأ بشيء عجيب، فقد وجد في جنوب السنغال وبجانب هذه القبائل المتصارعة قبائل أخرى وثنية لا تعبد الله بالكلية، وجد قبائل تعبد الأشجار والأصنام وغير ذلك، وجد قبائل لم يصل إليها الإسلام بالمرة.

حزّ ذلك في نفسه رحمه الله حيث كان قد تعلم من الشيخ عبد الله بن ياسين أن يحمل همّ الدعوة إلى الله، وأن يحمل همّ هداية الناس أجمعين حتى إن لم يكونوا مسلمين، وأن يسعى إلى التغيير والإصلاح بنفسه، فأقبل الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني بالسبعة آلاف الذين معه يعلمونهم الإسلام ويعرفونهم دين الله، فأخذوا يتعلمون ويتعجبون كيف لم نسمع بهذا الدين من قبل! كيف كنا بعيدين عن هذا الدين الشامل المتكامل! حيث كانوا يعيشون في أدغال أفريقيا ويفعلون أشياء عجيبة، ويعبدون أصناما غريبة، ولا يعرفون لهم ربًا ولا إلهًا.

وبصبر شديد ظل أبو بكر بن عمر اللمتوني يدعوهم إلى الإسلام، فدخل منهم جمع كثير وقاومه جمع آخر؛ ذلك لأن أهل الباطل لا بد وأن يحافظوا على مصالحهم، حيث هم مستفيدون من وجود هذه الأصنام، ومن ثم فلا بد وأن يقاوموه، فصارعهم أيضا والتقى معهم في حروب طويلة.

ظل الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني يتوسع في دعوته ويتنقل من قبيلة إلى قبيلة، ثم في سنة ثمان وستين وأربعمائة من الهجرة، وبعد خمس عشرة سنة كاملة من تركه جنوب موريتانيا وهو زعيم على دويلة المرابطين، يعود رحمه الله بعد مهمة شاقة في سبيل الله عز وجل يدعو إلى الله على بصيرة، فيُدخل في دين الله ما يُدخل، ويحارب من صد الناس عن دين الله سبحانه وتعالى حتى يرده إلى الدين أو يصده عن صده.
((لقد كان أبو بكر بن عمر من أعظم قادة المرابطين، واتقاهم وأكثرهم ورعًا ودينًا وحبًا للشهادة في سبيل الله، وساهم في توحيد بلاد المغرب، ونشر الإسلام في الصحارى القاحلة وحدود السنغال والنيجر، وجاهد القبائل الوثنية حتى خضعت وانقادت للإسلام والمسلمين، ودخل من الزنوج أعداد كبيرة في الإسلام، وساهموا في بناء دولة المرابطين الفتيّة، وشاركوا في الجهاد في بلاد الأندلس وصنعوا مع إخوانهم المسلمين في دولة المرابطين حضارة متميّزة)) د. الصلابي - الجوهر الثمين بمعرفة دولة المرابطين




التعديل الأخير تم بواسطة أبو أنس الأنصاري ; 07-15-2009 الساعة 10:43 AM
رد مع اقتباس
  #37  
قديم 07-16-2009, 06:35 AM
أبو أنس الأنصاري أبو أنس الأنصاري غير متواجد حالياً
II كَانَ اللهُ لَهُ II
 




افتراضي





يوسف بن تاشفين ومهام صعبة!





قال "الذهبي" في "سير أعلام النبلاء": كان ابن تاشفين (410 - 500 هـ= 1019 - 1106 م ) كثير العفو، مقربًا للعلماء، وكان أسمر نحيفًا، خفيف اللحية، دقيق الصوت، سائسًا، حازمًا، يخطب لخليفة العراق...

ووصفه "ابن الأثير" في "الكامل" بقوله:
كان حليمًا كريمًا، دينًا خيرًا، يحب أهل العلم والدين، ويحكّمهم في بلاده، ويبالغ في إكرام العلماء والوقوف عند إشارتهم، وكان إذا وعظه أحدُهم، خشع عند استماع الموعظة، ولان قلبُه لها، وظهر ذلك عليه، وكان يحب العفو والصفح عن الذنوب العظام...

= منذ أن ترك الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني دويلة المرابطين في جنوب موريتانيا وشمال السنغال في سنة 453 هـ= 1061 م والشيخ يوسف بن تاشفين ينتظر وصوله، مرّ يوم ويومان وشهر وشهران ولم يرجع، وحين علم أنه قد توغّل في أفريقيا ما كان منه رحمه الله إلا أن بدأ ينظر في الشمال باحثًا عمن ابتعد عن دين الله يعلّمه ويردّه إليه.

نظر يوسف بن تاشفين في شمال موريتانيا (المنطقة التي تعلوه) وفي جنوب المغرب العربي فرأى من حال البربر الذين يعيشون في هذه المنطقة وبالتحديد في سنة 453 هـ= 1061 م رأى أمورًا عجبًا، هذه بعض منها:

أولًا: قبيلة غمارة:
هي من قبائل البربر وقد وجد فيها رجلًا يُدعى حاييم بن منّ الله يَدّعي النبوة وهو من المسلمين، والغريب أنه لم ينكر نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل قال إنه نبي على دين الإسلام، ثم أخذ يُشرّع للناس شرعًا جديدًا وهم يتبعونه في ذلك ويظنون أن هذا هو الإسلام.
فرض حاييم بن منّ الله على قبيلته صلاتين فقط في اليوم والليلة، إحداها في الشروق والأخرى في الغروب، وبدأ يؤلّف لهم قرآنًا بالبربرية، ووضع عنهم الوضوء، ووضع عنهم الطُّهر من الجنابة، كما وضع عنهم فريضة الحج، وحرّم عليهم أكل بيض الطيور وأحلّ لهم أكل أنثى الخنزير، وأيضا حرّم أكل السمك حتى يُذبح.

وإنه لخلط وسَفه بَيّنٌ خاصة حين يَدّعي أنّه من المسلمين، كما أنه من العجب أن يتبعه الناس على هذا الأمر ويعتقدون أن هذا هو الاسلام.

قبيلة برغواطة:
هي قبيلة أخرى من قبائل البربر في تلك المنطقة، على رأسها كان رجل يُدعى صالح بن طريف بن شمعون، ذلك الذي لم يكن بصالح ادّعى أيضًا النبوة، وفرض على الناس خمس صلوات في الصباح وخمس في المساء، وفرض عليهم نفس وضوء المسلمين بالإضافة إلى غسل السُّرّة وغسل الخاصرتين، كما فرض عليهم الزواج من غير المسلمات فقط، وجوّز لهم الزواج بأكثر من أربعة، وأيضًا فرض عليهم تربية الشعر للرجال في ضفائر وإلا أثموا، ومع كل هذا فقد كان يدّعي أنه من المسلمين.



قبيلة زناتة:
كانت قبيلة زناته من القبائل السنيّة في المنطقة، وكانت تعرف جزءًا من الإسلام، هو جانب العبادات وأمور العقيدة، فقد كانوا يصلون كما ينبغي أن تكون الصلاة، ويزكون كما يجب أن تكون الزكاة، لكنهم كانوا يسلبون وينهبون مَنْ حولهم، والقوي فيهم يأكل الضعيف، فَصَلُوا الدين تماما عن أمور الدنيا وسياسة الحياة العامة، فلم يكن الدين عندهم إلا صلاة وصيام وحج، وفي غير ذلك من المعاملات افعل ما بدا لك ولا حرج.

كان من هذا القبيل الكثير والكثير الذي يكاد يكون قد مرق من الدين بالكلية، وقد كانت هناك قبيلة أخرى تعبد الكبش وتتقرب به إلى رب العالمين، وبالتحديد في جنوب المغرب، تلك البلاد التي فتحها عقبة بن نافع ثم موسى بن نصير رضي الله عنهما.


يوسف بن تاشفين وصناعة النصر والحضارة


شق ذلك الوضع كثيرًا على يوسف بن تاشفين رحمه الله فأخذ جيشه وانطلق إلى الشمال ليدعو الناس إلى الإسلام، دخل معه بعضهم لكن الغالب قاومه وحاربه، فحاربه حاييم بن منّ الله، وحاربه صالح بن طريف، وحاربته كل القبائل الأخرى في المنطقة، حتى حاربته قبيلة زناتة السنية، فحاربهم بالسبعة آلاف رجل الذين تركهم معه أبو بكر بن عمر اللمتوني رحمه الله، وبمرور الأيام بدأ الناس يتعلمون منه الإسلام ويدخلون في جماعته المجاهدة.

وبعد رجوع الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني في سنة 468 هـ= 1076 م وبعد خمس عشرة سنة من الدعوة - كما ذكرت - في جنوبالسنغال وأدغال أفريقيا، يرى يوسف بن تاشفين رحمه الله الذي كان قد تركه فقط على شمال السنغال وجنوب موريتانيا في سنة 453 هـ= 1061 م يراه أميرًا على: السنغال بكاملها، وموريتانيا بكاملها، والمغرب بكاملها، والجزائر بكاملها، وتونس بكاملها، وعلى جيش يصل إلى مائة ألف فارس غير الرجالة، يرفعون راية واحدة ويحملون اسم المرابطين.

وجد أبو بكر بن عمر اللمتوني كذلك أن هناك مدينة قد أُسست على التقوى لم تكن على الأرض مطلقا قبل أن يغادر، وتلك هي مدينة "مراكش"، والتي أسسها الأمير يوسف بن تاشفين، وكان أول بناء له فيها هو المسجد الذي بناه بالطين والطوب اللبن، تمامًا كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يحمل بنفسه الطين مع الناس تشبهًا أيضًا بالرسول صلى الله عليه وسلم وهو الأمير على مائة ألف فارس.

وكذلك وجد الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني رجلًا قد أسس حضارة لم تُعرف في المنطقة منذ سنوات وسنوات، ثم هو بعد ذلك يراه زاهدا متقشفًا ورعًا تقيًا، عالمًا بدينه طائعًا لربه، فقام الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني بعمل لم يحدث إلا في تاريخ المسلمين فقط، حيث قال ليوسف بن تاشفين: أنت أحق بالحكم مني، أنت الأمير، فإذا كنتُ قد استخلفتُك لأجلٍ حتى أعود فإنك تستحق الآن أن تكون أميرًا على هذه البلاد، أنت تستطيع أن تجمع الناس، وتستطيع أن تملك البلاد وتنشر الإسلام أكثر من ذلك، أما أنا فقد ذقت حلاوة دخول الناس في الإسلام، فسأعود مرة أخرى إلى أدغال أفريقيا أدعو إلى الله هناك.


أبو بكر بن عمر اللمتوني رجل الجهاد والدعوة


نزل الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني رحمه الله مرة أخرى إلى أدغال أفريقيا يدعو من جديد، فأدخل الإسلام في غينيا بيساو جنوب السنغال، وفي سيراليون، وفي ساحل العاج، وفي مالي، وفي بوركينا فاسو، وفي النيجر، وفي غانا، وفي داهومي، وفي توجو، وفي نيجريا وكان هذا هو الدخول الثاني للإسلام في نيجريا؛ حيث دخلها قبل ذلك بقرون، وفي الكاميرون، وفي أفريقيا الوسطى، وفي الجابون.

فكانت أكثر من خمس عشرة دولة أفريقية قد دخلها الإسلام على يدِ هذا المجاهد البطل الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني رحمه الله هذا الرجل الذي كان إذا دعا إلى الجهاد في سبيل الله - كما يذكر ابن كثير في البداية والنهاية - كان يقوم له خمسمائة ألف مقاتل، أي نصف مليون من المقاتلين الأشداء غير من لا يقومون من النساء والأطفال، وغير بقية الشعوب في هذه البلاد من أعداد لا تحصى قد هداها الله على يديه.

وما من شك أنه كلما صلى رجل صلاة في النيجر أو في مالي أو في نيجريا أو في غانا، كلما صلى رجل صلاة هناك، وكلما فعل أحد منهم من الخير شيئا أُضيف إلى حسنات الشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني ومن معه رحمهم الله.

قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية: "أبو بكر بن عمر أمير الملثمين كان في أرض فرغانة، اتفق له من الناموس ما لم يتفق لغيره من الملوك، كان يركب معه إذا سار لقتال عدو خمسمائة ألف مقاتل، كان يعتقد طاعته، وكان مع هذا يقيم الحدود ويحفظ محارم الاسلام، ويحوط الدين ويسير في الناس سيرة شرعية، مع صحة اعتقاده ودينه، وموالاة الدولة العباسية، أصابته نشابة في بعض غزواته في حلقه فقتلته..."

ها هو رحمه الله وبعد حياة طويلة متجردة لله سبحانه وتعالى يستشهد في إحدى فتوحاته في سنة 480 هـ= 1087 م، وما استمتع بملكٍ قط بل كان يغزو في كل عام مرتين، يفتح البلاد ويعلّم الناس الإسلام، لتصبح دولة المرابطين قبل استشهاده رحمه الله ومنذ سنة 478 هـ= 1085 م متربعة على خريطة العالم ممتدة من تونس في الشمال إلى الجابون في وسط أفريقيا، وهي تملك أكثر من ثلث مساحة أفريقيا.

لذلك حين قرأ "ألفونسو السادس" رد "المعتمد على الله بن عباد" أمير إشبيلية المحاصرة من قِبل الأول: لأروحنّ لك بمروحة من المرابطين، علم أنه سيواجه ثلث أفريقيا، وعلم أنه سيقابل أقوامًا عاشوا على الجهاد سنوات وسنوات، فقام من توّه بفكّ الحصار ثم الرحيل.


دولة المرابطين ويوسف بن تاشفين أمير المسلمين وناصر الدين


كانت بداية حديثنا عن تاريخ المرابطين هو سنة 440 هـ= 1048 م وكانت البداية برجل واحد فقط هو الشيخ عبد الله بن ياسين، ثم كان الصبر والتربية المتأنية في الدعوة إلى الله على النهج الصحيح القويم ليصل عدد المرابطين وينتشرون بهذا الحجم الذي أشرنا إليه، والذي يمثّل الآن أكثر من عشرين دولة أفريقية.

فقط كان ذلك بعد ثمان وثلاثين سنة، وتحديدًا في سنة 478 هـ= 1085م، ويصبح يوسف بن تاشفين رحمه الله زعيم هذه الدولة العظيمة، ويسمي نفسه: أمير المسلمين وناصر الدين، وحين سُئِل لماذا لا تتسمى بأمير المؤمنين؟ أجاب: هذا شرف لا أدّعيه، هذا شرف يخصّ العباسيين وأنا رجلهم في هذا المكان.

كان العباسيون في هذه الفترة لا يملكون سوى بغداد فقط، وكان يوسف بن تاشفين يريد للمسلمين أن يكونوا تحت راية واحدة، ولم يُرِد رحمه الله أن يشق عصا الخلافة، ولا أن ينقلب على خليفة المسلمين، وكان يتمنى أن لو استطاع أن يضم قوته إلى قوة الخليفة العباسي هناك، ويصبح رجلًا من رجاله في هذه البلاد فقال مجمّعا مؤمّلا: وأنا رجلهم في هذا المكان، وهذا هو الفقه الصحيح والفهم الشامل للإسلام...

يوسف بن تاشفين ووفد الأندلس


في سنة 478 هـ= 1085م وفي مراكش يستقبل يوسف بن تاشفين الوفد الذي جاء من قِبل بعض ملوك الطوائف - كما ذكرنا - يطلبون العون والمساعدة في وقف وصدّ هجمات النصارى عليهم، وإذا به رحمه الله يتشوّق لمثل ما يطلبون، حيث الجهاد في سبيل الله ومحاربة النصارى، فيالها من نعمة، ويالها من أمنية.

ما كان منه رحمه الله إلا أن انطلق معهم وبنحو سبعة آلاف فقط من المجاهدين، رغم أن قوته في الشمال الأفريقي مائة ألف مقاتل، وكان لديه في الجنوب خمسمائة ألف، وقد كان هذا ملمح ذكاءٍ منه؛ إذ لم يكن رحمه الله وهو القائد المحنك ليخرج ويلقِي بكل قواته في الأندلس، ويتحرك بعشوائية تاركًا وراءه هذه المساحات الشاسعة في شمال وجنوب أفريقيا بلا حراسة ولا حماية، ومن ثَمّ فقد رأى أن يظلّ أحد الجيوش رابضًا في تونس وآخر في الجزائر ومثله في المغرب وهكذا في كل البلاد الإفريقيه التي فُتحت.

أعدّ العدة رحمه الله وجهّز السفن، وبينما يعبر مضيق جبل طارق، وفي وسطه يهيج البحر وترتفع الأمواج وتكاد السفن أن تغرق، وكما كان قائدًا يقف هنا قدوة وإمامًا، خاشعًا ذليلًا، يرفع يديه إلى السماء ويقول:
اللهم إن كنت تعلم أن في عبورنا هذا البحر خيرا لنا وللمسلمين فسهّل علينا عبوره، وإن كنت تعلم غير ذلك فصعّبه علينا حتى لا نعبره، فتسكن الريح، ويعبر الجيش، وعند أول وصول له، والوفود تنتظره ليستقبلونه استقبال الفاتحين، يسجد لله شكرًا أن مكنّه من العبور، وأن اختاره ليكون جنديًا من جنوده سبحانه وتعالى ومجاهدًا في سبيله.


يوسف بن تاشفين وقدوة كانت قد افتقدت وغُيّبت!


يدخل يوسف بن تاشفين أرض الأندلس، ويدخل إلى إشبيلية والناس يستقبلونه استقبال الفاتحين، ثم يعبر في اتجاه الشمال إلى ناحية مملكة "قشتالة" النصرانية، تلك التي أثارت الرعب في قلوب كل الأمراء الموجودين في بلاد الأندلس في ذلك الوقت، يتجه إليها في عزّة نفس ورباطة جأش منقطعة النظير بسبعة آلاف فقط من الرجال.

كان الأندلسيون ومنذ أكثر من سبعين سنة، في ذلّ وهوان وخنوع يدفعون الجزية للنصارى، وحينما شاهدوا هؤلاء الرجال الذين ما ألِفوا الذلّ يومًا، وما عرفوا غير الرباط في سبيل الله، حينما شاهدوهم يعبرون القفار ويتخطون البحار حاملين أرواحهم على أكفّهم من أجل عزِّ الإسلام وإعلاء كلمة الله ورفعة المسلمين، حينما شاهدوهم على هذه الحال تبدّلوا كثيرًا، وتاقت نفوسهم إلى مثل أفعالهم، فأقبلوا على الجهاد، وأذّنوا بحي على خير العمل.

قال المقري في نفح الطيب: واجتمع بالمعتمد بن عباد بإشبيلية، وكان المعتمد قد جمع عساكره أيضاً، وخرج من أهل قرطبة عسكر كثير، وقصده المطوعة من سائر بلاد الأندلس، ووصلت الأخبار إلى الأذفونش فجمع عساكره، وحشد جنوده، وسار من طليطلة...

وبدأ يلحق بركب يوسف بن تاشفين الرجل من قرطبة والرجل من إشبيلية، وآخر من بطليوس، وهكذا حتى وصل الجيش إلى الزَّلَّاقة في شمال البلاد الإسلامية على حدود "قشتالة"، وعدده يربو على الثلاثين ألف رجل.

ولا نعجب فهذه هي أهمية القدوة وفعلها في المسلمين وصورتها كما يجب أن تكون، تحركت مكامن الفطرة الطيبة، وعواطف الأخوّة الصادقة، والغيرة على الدين الخاتم، تلك الأمور التي توجد لدى عموم المسلمين بلا استثناء، وتحتاج فقط إلى من يحرّكها من سباتها.


بين جيش المسلمين وجيش النصارى


تحرّك الثلاثون ألف رجل بقيادة يوسف بن تاشفين ليصلوا إلى الزَّلَّاقَة، وهو ذلك المكان الذي دارت فيه موقعة هي من أشهر المواقع الإسلاميه في التاريخ، وذلك المكان الذي لم يكن يُعرف بهذا الاسم قبل ذلك، لكنه اشتهر به بعد الموقعة، وسنعرف قريبًا لماذا سُمَّيتْ بالزّلاقة.

في الوقت الذي يصل فيه يوسف بن تاشفين وجيشه إلى الزلاقة يصله نبأ مفزع من بلاده بالمغرب، إنه يحمل مصيبة قد حلت به وبداره، فابنه الأكبر قد مات، لكنه ورغم ذلك فلم تفتّ هذه المصيبة في عضدِه، ولم يفكر لحظة في الرجوع، ولم يرض أن يرسل قائدًا من قوّاده ويرجع هو، بل ذهب وهو الأمير على ثلث أفريقيا وأخذ معه أكبر قوّاد المرابطين وهو داود بن عائشة، وأرسل وزيره ليحكم البلاد في غيابه.

كان النصارى قد استعدّوا لقدوم يوسف بن تاشفين بستين ألفًا من المقاتلين، على رأسهم "ألفونسو السادس" بعد أن جاءه العون من فرنسا وإيطاليا وإنجلترا وألمانيا، وبعد أن أخذ وعودًا من البابا وصكوكًا بالغفران لكل من شارك في هذه الحرب ضد المسلمين.

قدم "ألفونسو السادس" يحمل الصلبان وصور المسيح وهو يقول: بهذا الجيش أقاتل الجن والإنس وأقاتل ملائكة السماء وأقاتل محمدًا وصحبه، فهو يعرف تمامًا أنها حرب صليبية ضد الإسلام.


الرسائل والحرب الإعلامية


وكعادة الجيوش في ذلك الوقت في تبادل الرسائل، أرسل يوسف بن تاشفين برسالة إلى "ألفونسو السادس" يقول له فيها: بلغنا أنك دعوت أن يكون لك سفنًا تعبر بها إلينا، فقد عبرنا إليك، وستعلم عاقبة دعائك، وما دعاء الكافرين إلا في ضلال، وإني أعرض عليك الإسلام، أو الجزية عن يد وأنت صاغر، أو الحرب، ولا أؤجلك إلا لثلاث.

تسلم "ألفونسو السادس" الرسالة وما إن قرأها حتى اشتاط غضبًا، إذ كيف يدفع الجزية وقد أخذها هو من المسلمين، ومن قبله آباؤه وأجداده؟! فأرسل ليوسف بن تاشفين متوعدًا ومهددًا: فإني اخترت الحرب، فما ردّك على ذلك؟ وعلى الفور أخذ يوسف بن تاشفين الرسالة، وقلبها وكتب على ظهرها: الجواب ما تراه بعينك لا ما تسمعه بأذنك، والسلام على من اتبع الهدى.

فلما وقف "ألفونسو" على هذا الجواب ارتاع له، وعلم أنه بُلي برجل لا طاقة له به.

قال صاحب "الروض المعطار في خبر الأقطار": ولما تحقق ابن فرذلند - ألفونسو السادس - جواز يوسف استنفر جميع أهل بلاده وما يليها وما وراءها، ورفع القسيسون والرهبان والأساقفة صلبانهم ونشروا أناجيلهم، فاجتمع له من الجلالقة والافرنجة وما يليهم ما لا يحصى عدده، وجعل يصغي إلى أنباء المسلمين متغيظاً على ابن عباد حانقاً ذلك عليه متوعداً له، وجواسيس كل فريق تتردد بين الجميع، وبعث - ألفونسو السادس - إلى ابن عباد أن صاحبكم يوسف قد تعنى من بلاد بعيدة وخاض البحور، وأنا أكفيه العناء فيما بقي، ولا أكلفكم تعباً، أنا أمضي إليه وألقاكم في بلادكم رفقاً بكم وتوفيراً عليكم، وقال لأهل وده ووزرائه: إني رأيت إن أمكنتهم من الدخول إلى بلادي فناجزوني بين جدرها ربما كانت الدائرة علي فيكتسحون البلاد ويحصدون من فيها في غداة واحدة، لكن أجعل يومهم معي في حوز بلادهم، فان كانت علي اكتفوا بما نالوه ولم يجعلوا الدروب وراءهم إلا بعد أهبة أخرى، فيكون في ذلك صون لبلادي وجبر لمكاسري، وإن كانت الدائرة عليهم كان مني فيهم وفي بلادهم ما خفت أنا أن يكون منهم في وفي بلادي إذا ناجزوني في وسطها. ثم برز بالمختار من أنجاد جموعه على باب دربه وترك بقية جموعه خلفه، وقال حين نظر إلى ما اختاره من جموعه: بهؤلاء أقاتل الجن والإنس وملائكة السماء، فالمقلل يقول: كان هؤلاء المختارون من أجناده أربعين ألف دارع، ولا بد لمن هذه صفته أن يتبعه واحد واثنان، وأما النصارى فيعجبون ممن يزعم ذلك ويقوله، واتفق الكل أن عدة المسلمين كانت أقل من عدة المشركين.

ورأى - ألفونسو السادس - في نومه كأنه راكب على فيل يضرب نقيرة طبلٍ فهالته رؤياه وسأل عنها القسوس والرهبان فلم يجبه أحد، ودس يهودياً عن من يعلم تأويلها من المسلمين فدل على عابر فقصها عليه ونسبها إلى نفسه، فقال له العابر: كذبت، ما هذه الرؤيا لك، ولا بد أن تخبرني عن صاحبها وإلا لم أعبرها لك، فقال: اكتم ذلك، هو الفنش بن فرذلند - ألفونسو - فقال العابر: قد علمت أنها رؤياه، ولا ينبغي أن تكون لغيره وهي تدل على بلاء عظيم ومصيبة فادحة تؤذن بصلبه عما قريب، أما الفيل فقد قال الله تعالى: " ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل " وأما ضرب النقيرة فقد قال الله تعالى: " فإذا نقر في الناقور "، فانصرف اليهودي إلى ألفونسو السادس وجمجم له ولم يفسرها له...

وفي محاولة ماكرة لخديعة المسلمين أرسل "ألفونسو السادس" يحدد يوم المعركة، فأرسل أن غدًا الجمعة، وهو عيد من أعياد المسلمين ونحن لا نقاتل في أعياد المسلمين، وأن السبت عيد اليهود وفي جيشنا كثير منهم، وأما الأحد فهو عيدنا، فلنؤجل القتال حتى يوم الإثنين.

استلم يوسف بن تاشفين الرسالة، وبوعي تام وبقيادة تعلم خبايا الحروب وفنون مقدماتها لم يُعلِم جيشه هذه الرسالة، إذ إنه يعلم أن هذا الرجل مخادع، كيف وهم يكذبون على الله فيكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله، وكيف والله قال فيهم: [أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ] {البقرة:100}.


تجهيز الجيش ورؤيا ابن رمُيْلَة


بحذر تام لم يلتفت يوسف بن تاشفين إلى ما جاء في رسالة ألفونسو السادس، وقام بتعبئة الجيش وتجهيزه يوم الخميس، ووضعه على أتمّ الاستعداد، وفي ليلة الجمعة كان ينام مع الجيش شيخ كبير من شيوخ المالكية في قرطبة، وهو ابن رُمَيْلَة ( الفقيه الناسك أبو العباس أحمد ابن رميلة القرطبي ) قال ابن بشكوال في الصلة:أحمد بن محمد بن فرج الأنصاري يعرف: بابن رميلة من أهل قرطبة، يكنى: أبا العباس. كان معتنياً بالعلم، وصحبة الشيوخ وله شعر حسن في الزهد. وكان كثير الصدقة وفعل المعروف. قال لي شيخنا أبو محمد بن عتاب رحمه الله: كان أبو العباس هذا من أهل العلم والورع والفضل والدين، واستشهد بالزلاقة مقبلاً غير مدبر سنة تسع وسبعين وأربع مائة.... هـ

فلم تكن مهمّة الشيخ يومها هي مجرد الجلوس في المسجد أو إلقاء الدروس أو تعليم القرآن فقط، فقد كان هذا الشيخ يفقه أمور دينه ويعلم أن هذا الجهاد هو ذروة سنام هذا الدين.

في هذه الليلة يرى ابن رُمَيْلَة هذا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: يا ابن رمُيْلَة، إنكم منصورون، وإنك ملاقين.

يستيقظ ابنُ رُمَيْلَة من نومه وهو الذي يعلم أن رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام حق؛ لأن الشيطان لا يتمثل به صلى الله عليه وسلم ففي البخاري بسنده عن أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَخَيَّلُ بِي وَرُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ"

يقوم الشيخ فرحًا مسرورًا، لا يستطيع أن يملك نفسه، فقد بشّره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيموت في سبيل الله، فالْحُسْنَيَيْن أمام عينيه، نصر للمؤمنين وشهادة تناله، فيالها من فرحة، وياله من أجر.

وعلى الفور يذهب ابن رُمَيْلَة رحمه الله في جنح الليل فيوقظ يوسف بن تاشفين، ويوقظ المعتمد على الله بن عبّاد الذي كان يقود وحدة كبيرة من قوات الأندلس، ويوقظ المتوكل بن الأفطس وعبد الله بن بلقين، ويوقظ كل قوّاد الجيش، ويقصّ عليهم رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هزّت تلك الرؤيا يوسف بن تاشفين وكلّ قواد الجيش، وقاموا من شدة فرحهم وفي منتصف الليل وأيقظوا الجيش كله على صوت: رأى ابن رُمَيْلَة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: إنكم لمنصورون وإنك ملاقين.

وفي لحظة لم يتذوقوها منذ سنوات وسنوات في أرض الأندلس، يعيش الجيش كله أفضل لحظات السعادة، وتتوق النفوس إلى الشهادة، ويأمر يوسف بن تاشفين بقراءة سورة الأنفال، ويأمر الخطباء بتحفيز الناس على الجهاد، ويمرّ هو بنفسه رحمه الله على الفصائل ينادي ويقول: طوبى لمن أحرز الشهادة، ومن بقي فله الأجر والغنيمة.

قال في الروض المعطار: ووعظ يوسف وابن عباد أصحابهما، وقام الفقهاء والعباد يعظون الناس ويحضونهم على الصبر ويحذرونهم الفرار...


مخابرات ابن عباد تراقب الموقع


ولما ازدلف بعضهم إلى بعض أذكى المعتمد عيونه في محلات الصحراويين خوفاً عليهم من مكايد ابن فرذلند إذ هم غرباء لا علم لهم بالبلاد، وجعل يتولى ذلك بنفسه حتى قيل إن الرجل من الصحراويين - المرابطين - كان يخرج عن طرق محلاتهم لبعض شأنه أو لقضاء حاجته فيجد ابن عباد بنفسه مطيفاً بالمحلة بعد ترتيب الكراديس - الكُرْدُوْسُ الخَيْلُ العَظِيْمَةُ - من خيل على أفواه طرق محلاتهم، فلا يكاد الخارج منهم عن المحلة يخطئ ذلك من لقاء ابن عباد لكثرة تطوافه عليهم...


المخابرات الإسلامية تنقل الأخبار بسرعة ودقة


جاء في الليل فارسان من طلائع المعتمد يخبران أنهما أشرفا على محلة "ألفونسو" وسمعا ضوضاء الجيوش واضطراب الأسلحة ثم تلاحق بقية الطلائع محققين بتحرك ابن فرذلند - ألفونسو - ثم جاءت الجواسيس من داخل محلات ابن فرذلند يقولون: استرقنا السمع الساعة، فسمعنا ابن فرذلند يقول لأصحابه: ابن عباد مسعر هذه الحروب، وهؤلاء الصحراويون وإن كانوا أهل حفاظ وذوي بصائر في الجهاد، غير عارفين بهذه البلاد وإنما قادهم ابن عباد، فاقصدوه واهجموا عليه، وإن انكشف لكم هان عليكم هؤلاء الصحراويون بعده ولا أرى ابن عباد يصبر لكم إن صدقتموه الحملة. وعند ذلك بعث ابن عباد كاتبه أبا بكر بن القصيرة إلى يوسف يعرفه بإقبال ابن فرذلند ويستحث نصرته، فمضى ابن القصيرة يطوي المحلات حتى جاء يوسف بن تاشفين فعرفه جلية الأمر...


الجيش الإسلامي وخطة الإعداد والهجوم


بعد ترتيب الجيش وصلاة فجر يوم الجمعة الموافق 12 من شهر رجب 479 هـ= 23 من أكتوبر 1086 م، لم تكن مفاجأة ليوسف بن تاشفين أن يخالف "ألفونسو السادس" طبيعته وينقض عهده ويبدأ بالهجوم في ذلك اليوم، إذ الغدر والخيانة ومخالفة العهود هو الأصل عندهم، وهو ما يجب أن نعلمه جميعًا.

أما المفاجئة فأصابت "ألفونسو السادس" الذي وجد الجيش الإسلامي على أتمّ تعبئة وأفضل استعداد، وبخطة محكمة، كان يوسف بن تاشفين قد قسّم الجيش إلى نصفين، نصف أمامي ونصف خلفي، أما النصف الأمامي فقد طلب المعتمد على الله بن عبّاد أن يكون على قيادته على من معه من الأندلسيين، يريد بذلك أن يكون بين المسلمين وبين النصارى، يريد أن يغسل عار السنين السالفة، يريد أن يمحو الذل الذي أذاقه إياه ألفونسو السادس، إنه يريد أن يتلقى الضربة الأولى من جيش النصارى.

في نصف عدد الجيش، وفي خمسة عشر ألف مقاتل يقف المعتمد على الله بن عبّاد في مقدمة الجيش ومن خلفه داود بن عائشة كبير قوّاد المرابطين، أما النصف الثاني أو الجيش الخلفي ففيه يوسف بن تاشفين رحمه الله يختفي خلف أحد التلال البعيدة تمامًا عن أرض المعركة، ويضم أيضًا خمسة عشر ألف مقاتل، ويستبقي من الجيش الثاني أو الخلفي الذي فيه يوسف بن تاشفين أربعة آلاف مقاتل، فيبعدهم أكثر عن هذا الجيش الخلفي، وقد كان هؤلاء الأربعة آلاف من رجال السودان المهرة، يحملون السيوف الهندية والرماح الطويلة، وكانوا أعظم المحاربين في جيش المرابطين، فاستبقاهم يوسف بن تاشفين في مؤخرة الجيش.

أصبح جيش المسلمين مقسمًا إلى ثلاث فرق، الفرقة الأولى وهي المقدمة بقيادة المعتمد على الله وتضم خمسة عشر ألف مقاتل، والفرقة الثانية خلف الأولى وعلى رأسها يوسف بن تاشفين وتضم أحد عشر ألف مقاتل، ومن بعيد تنتظر الفرقة الثالثة وتضمّ أربعة آلاف مقاتل هم من أمهر الرماة والمحاربين.

لم تكن خطة يوسف بن تاشفين رحمه الله جديدة في حروب المسلمين، فقد كانت هي نفس الخطة التي استعملها خالد بن الوليد رضي الله عنه في موقعة الولجة في فتوح فارس، وهي أيضا نفس الخطة التي استعملها النعمان بن مقرن رضي الله عنه في موقعة نهاوند في فتوح فارس أيضا، فكان رحمه الله رجلا يقرأ التاريخ ويعرف رجالاته ويعتبر بهم.


الزَّلَّاّقةُ ومعركة الوجود الإسلامي في الأندلس


لما كان يوم الجمعة الموافق 12 من شهر رجب 479 هـ= 23 من أكتوبر 1086 م هجم "ألفونسو السادس" بستين ألفًا من النصارى على الجيش الأول للمسلمين المؤلّف من خمسة عشر ألف فقط، وقد أراد يوسف بن تاشفين من وراء ذلك أن تحتدم الموقعة فتُنْهك قوى الطرفين حتى لا يستطيعان القتال، وكما يحدث في سباق الماراثون فيقوم هو ويتدخل بجيشه ليعدل الكفة لصالح صف المسلمين.

وأمام أمواج تتلوها أمواج وأسراب تتبعها أسراب، يصبر المسلمون أمام ستين ألفا من النصارى...


المعتمد بن عباد في قلب المعركة


مال ألفونسو السادس على المعتمد بجموعه وأحاطوا به من كل جهة فاستحر القتل فيهم، وصبر ابن عباد صبراً لم يعهد مثله لأحد، واستبطأ يوسف وهو يلاحظ طريقه، وعضته الحرب واشتد البلاء وأبطأ عليه الصحراويون، وساءت ظنون أصحابه، وانكشف بعضهم وفيهم ابنه عبد الله، وأثخن ابن عباد جراحات وضرب على رأسه ضربة فلقت هامته حتى وصلت إلى صدغه، وجرحت يمنى يديه وطعن في أحد جانبيه وعقرت تحته ثلاثة أفراس كلما هلك واحد قدم له آخر وهو يقاسي حياض الموت يضرب يميناً وشمالاً، وتذكر في تلك الحال ابناً له صغيراً كان مغرماً به، كان تركه بإشبيلية عليلاً اسمه المعلى وكنيته أبو هاشم فقال:

أبا هاشـم هشـمتني الشـفار فلله صبري لذاك الأوار
ذكرت شخيصك تحت العجاج فلم يثنـني ذكره للفرار

ثم كان أول من وافى ابن عباد من قواد ابن تاشفين، داود بن عائشة، وكان بطلاً شهماً فنفس بمجيئه عن ابن عباد...

وهناك وبعد عصر ذلك اليوم يشير يوسف بن تاشفين إلى من معه أن انزلوا وساعدوا إخوانكم، وذلك بعد أن كانت قد أُنهكت قوى الطرفين من المسلمين والنصارى، وبعد طول صبر ينزل يوسف بن تاشفين بالأحد عشر مقاتلًا الذين كانوا معه وهم في كامل قوتهم، فيحاصرون الجيش النصراني.

قسّم يوسف بن تاشفين الجيش الذي كان معه إلى قسمين، فالأول يساعد مقدمة المسلمين، والثاني يلتفّ خلف جيش النصارى، وكان أول فعل له خلف جيش النصارى هو أن حرّق خيامهم، وذلك حتى يعلم النصارى أن يوسف بن تاشفين ومن معه من ورائهم وهم محيطون بهم، فقد كان يعلم رحمه الله أن مثل هؤلاء الناس لا يهمهم من الدنيا إلا أن يظلوا أحياء، وأن ينجوا بأنفسهم.

حين علم النصارى أن المسلمين من ورائهم وأنهم محاصرون دبّت الهزيمة في قلوبهم، وبدأ الخلل يتغلغل في صفوفهم، وبالفعل بدأ الانسحاب التدريجي التكتيكي الذي يحاول أقل خسارة ممكنة، وقد التفّ الناس حول ألفونسو السادس يحمونه، ثم حدثت خلخلة عظيمة في جيشهم.

وفي الضربة الأولى ليوسف بن تاشفين يُقتل من النصارى عشرة آلاف رجل، وفي وصف لهذا القائد في تلك المعركة يقول المؤرخون بأن يوسف بن تاشفين وهو الأمير على ثلث إفريقيا كان في هذه الموقعة يتعرض للموت ويتعرض للشهادة ولا يصيبها، يلقي بنفسه في المهالك، رحمه الله ورضي عنه وعن أمثاله.

تزداد شراسة الموقعة حتى قبيل المغرب، ثم ومن بعيد يشير يوسف بن تاشفين إلى الأربعة آلاف فارس أو الفرقة الثالثة والأخيرة، والتي كانت من رجال السودان المهرة، فيأتون فيعملون القتل في النصارى ويستأصلونهم.

وتنجلي الحقيقة المروّعة لأعداء الله عن قتل خمسين وخمسمائة وتسع وخمسين ألفًا من النصارى من مجموع ستين ألفا منهم، ممن كانوا سيهزمون الإنس والجن والملائكة، في موقعة كانت تنزلق فيها أقتاب الخيول وأرجل الفرسان من كثرة الدماء في هذه الأرض الصخرية، حتى سُمّيت من بعدها بالزلَّاقة.

وكان قد بقي من النصارى أربعمائة وخمسون فارسًا فقط، منهم ألفونسو السادس الذي نجا من الموت بساق واحدة، ثم انسحب في جنح الظلام بمن معه إلى طليطلة، وقد مات منهم في الطريق من أثر الجراح المثخنة ثلاثمائة وخمسون فارسا، وهناك دخل طليطلة بمائة فارس فقط.

فكانت الزلاقة دون مبالغة كاليرموك والقادسية...


لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا



بعد هذه المعركة جمع المسلمون من الغنائم الكثير، لكن يوسف بن تاشفين وفي صورة مشرقة ومشرّفة من صور الإخلاص والتجرد وفي درس عملي بليغ لأهل الأندلس عامة ولأمرائهم خاصة يترك كل هذه الغنائم لأهل الأندلس، ويرجع في زهدٍ عجيب وورع صادق إلى بلاد المغرب، لسان حاله: [لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورً] {الإنسان:9}.

قال المقري في نفح الطيب: وأقامت العساكر بالموضع أربعة أيام، حتى جمعت الغنائم، واستؤذن في ذلك السلطان يوسف، فعفّ عنها، وآثر بها ملوك الأندلس، وعرفهم أن مقصده الجهاد والأجر العظيم، وما عند الله في ذلك من الثواب المقيم، فلما رأت ملوك الأندلس إيثار يوسف لهم بالغنائم استكرموه، وأحبوه وشكروا له ذلك.

يعود رحمه الله إلى بلاد المغرب ليس معه إلا وعودًا منهم بالوحدة والتجمع ونبذ الفرقة، والتمسك بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد نصحهم باتباع سنة الجهاد في سبيل الله، وعاد يوسف بن تاشفين البطل الإسلامي المغوار وعمره آنذاك تسع وسبعون سنة!!!

كان من الممكن له رحمه الله أن يرسل قائدا من قواده إلى أرض الأندلس ويبقى هو في بلاد المغرب، بعيدا عن تخطي القفار وعبور البحار، وبعيدا عن ويلات الحروب وإهلاك النفوس، وبعيدا عن أرض غريبة وأناس أغرب، لكنه رحمه الله وهو الشيخ الكبير يتخطى تلك الصعاب ويركب فرسه ويحمل روحه بين يديه، لسان حاله: أذهب إلى أرض الجهاد لعلّي أموت في سبيل الله، شعاره هو:

إِذَا غَامَرْتَ فِي شَرَفٍ مَرُومٍ فَلَا تَقْنَعُ بِمَا دُونَ النُّجُومِ

فَطَعْمُ الْمَوْتِ فِي أَمْرٍ حَقِيرٍ كَطَعْمِ الْمَوْتِ فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ

لكنه رحمه الله لم يمت هناك، فلا نامت أعين الجبناء.

واستشهد في ذلك اليوم جماعة من الفضلاء والعلماء وأعيان الناس، مثل ابن رميلة صاحب الرؤية المذكورة، وقاضي مراكش أبي مروان عبد الملك المصمودي، وغيرهما، رحمهما الله تعالى... نفح الطيب



المعتمد على الله بن عباد وشرف الجهاد


ولما دخل ابن عباد اشبيلية جلس للناس وهُنئ بالفتح، وقرأت القراء وقامت على رأسه الشعراء فأنشدوه، قال عبد الجليل بن وهبون: حضرت ذلك اليوم وأعددت قصيدة أنشده إياها فقرأ القارئ: [إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ] {التوبة 40} فقلت: بعداً لي ولشعري، والله ما أبقت لي هذه الآية معنى أحضره وأقوم به؛ واستشهد في هذا اليوم جماعة من أعيان الناس كابن رميلة المتقدم الذكر وقاضي مراكش أبي مروان عبد الملك المصمودي وغيرهما، وطار ذكر ابن عباد بهذه الوقيعة وشهر مجده، ومالت إليه القلوب، وسالمته ملوك الطوائف، وخاطبوه جميعاً بالتهنئة، ولم يزل ملحوظاً معظماً إلى أن كان من أمره مع يوسف ما كان... الروض المعطار في خبر الأقطار - الحِميري



مصير ألفونسو السادس


لما بلغ - ألفونسو السادس - إلى بلاده وسأل عن أبطاله وشجعانه وأصحابهم ففقدهم ولم يسمع إلا نواح الثكلى عليهم، اهتمّ ولم يأكل ولم يشرب حتى هلك هماً وغمًا، فكان مصيره جهنم وبئس المصير...


صراعات ملوك الطوائف وعودة يوسف بن تاشفين من جديد


بعد عودة يوسف بن تاشفين إلى أرض المغرب، حدثت الصراعات بين أمراء المؤمنين الموجودين في بلاد الأندلس بسبب الغنائم وتقسيم البلاد المحرّرة.

وهنا ضج علماء الأندلس وذهبوا يستنجدون بيوسف بن تاشفين من جديد، لا لتخليصهم هذه المرة من النصارى، وإنما لإنقاذهم من أمرائهم...

يتورّع يوسف بن تاشفين عن هذ الأمر، إذ كيف يهجم على بلاد المسلمين وكيف يحاربهم؟! فتأتيه رحمه الله الفتاوى من كل بلاد المسلمين تحمّله مسئولية ما يحدث في بلاد الأندلس إن هو تأخر عنها، وتحذّره من ضياعها إلى الأبد، وتطلب منه أن يضمها إلى أملاك المسلمين تحت دولة واحدة وراية واحدة، هي دولة المرابطين.

فجاءته الفتوى بذلك من بلاد الشام من أبي حامد الغزالي صاحب "إحياء علوم الدين"، وقد كان معاصرًا لهذه الأحداث، وجاءته الفتوى من أبي بكر الطرطوشي العالم المصري الكبير، وجاءته الفتوى من كل علماء المالكية في شمال أفريقيا.

لم يجد يوسف بن تاشفين إلا أن يستجيب لمطلبهم، فقام في سنة 483 هـ= 1090 م وبعد مرور أربعة أعوام على موقعة الزَلَّاقة، وجهّز نفسه ودخل الأندلس.

((الواقع يقول أن ابن تاشفين لم يطمع فيالأندلس وتردد كثيرًا قبل العبور، وعف عن الغنائم بعد ذلك وتركها للمعتمد ولأمراء الأندلس ولم يأخذ منها شيئًا، وكان عودته، ثم يعود في الجواز الثاني بسبب اختلافات ملوك الطوائف، وتحالف بعضهم مع عدو الإسلام، وكان الجواز الثالث لوضع حد لمهزلةملوك الطوائف، لقد آن - وباسم الإسلام - لهذه الدويلات الضعيفة المتناحرة المتحالف بعضها مع الأعداء أن تنتهي...))...الزلاقة - د. شوقي أبو خليل


يوسف بن تاشفين ودولة واحدة على المغرب والأندلس


لم يكن دخول يوسف بن تاشفين الأندلس أمرًا سهلًا، فقد حاربه الأمراء هناك بما فيهم المعتمد على الله بن عبّاد، ذلك الرجل الذي لم يجد العزّة إلا تحت راية يوسف بن تاشفين رحمه الله قبل وبعد الزلاقة، قام المعتمد على الله بمحاربته وأنّى له أن يحارب مثله...

(( استعرت نار الحرب بين المرابطين وملوك الطوائف وانتهت بضم كل ممالك الأندلس لدولة المرابطين إلا "سرقسطة" التي حكمها أحمد بن هود، والذي كان كالشوكة في حلق النصارى، فقد قاومهم زمنًا طويلًا، وتراجع النصارى أمام صمود بني هود البطولي، وأظهر بنود هود مقدرة فائقة على قتال النصارى مما جعل المرابطين يحترمونهم، وتوطدت العلاقة الودية بين الأمير يوسف والأمير احمد بن هود الذي كان وفيًا في عهوده، ومخلصًُا في جهاده، وحريصًا على أمته، ورضي المرابطون ببقاء أحمد بن هود حاكمًا تابعًا لهم، وبذلك أصبحت الأندلس ولاية تابعة لدولة المرابطين، وتوارت العناصر والزعامات الهزيلة وانهار سلطان العصبيات الطائفية.)) الأندلس في عصر المرابطين ص 112

فاستطاع يوسف بن تاشفين أن يضمّ كل بلاد الأندلس تحت لوائه، وأن يحرّر "سرقسطة"، تلك التي كان النصارى قد أخذوها بعد أن قسّمها أميرها بين ولديه - كما ذكرنا - واستطاع أن يضمّها إلى بلاد المسلمين، وقد أصبح أميرًا على دولة تملك من شمال الأندلس وبالقرب من فرنسا وحتى وسط أفريقيا، دولة واحدة اسمها دولة المرابطين.

ظلّ هذا الشيخ الكبير يحكم حتى سنة 500 هـ= 1106 م وكان قد بلغ من الكبر عتيًا، وتوفي رحمه الله بعد حياة حافلة بالجهاد وقد وفّى تمام المائة، منها سبع وأربعين سنة في الحكم، وكان تمام ستين سنة على ميلاد دولة المرابطين، تلك التي أصبحت من أقوى دول العالم في ذلك الزمان.


الموقف بعد الزلاقة وقفة تحليلية


كانت الزلاقة- كما ذكرنا- في 12 من شهر رجب 479 هـ= 23 من أكتوبر 1086 م، وبعدها بما يقارب الثلاثة أشهر مات كمدًا وحزنًا "ألفونسو السادس" قائد النصارى في هذه المعركة بعد تلك الهزيمة الساحقة التي نالته، والتي راح ضحيتها تقريبًا كل الجيش الصليبي، وبترت فيها ساقُه.

وقبل موته استخلف ألفونسو السادس ابنه على الحكم، ومع أن الاستخلاف كان سريعا إلا أن النصارى لم يستطيعوا أن يقيموا لهم قوة لمدة عشرين سنة تالية أو أكثر من ذلك؛ حيث لم تحدث مواقع بين المسلمين وبين النصارى إلا بعد سنة خمسمائة من الهجرة، أي بعد حوالي اثنتين وعشرين سنة من الزلاقة.

وعلى الجانب الآخر فقد ظل يوسف بن تاشفين رحمه الله في الحكم حتى وفاته سنة خمسمائة من الهجرة عن مائة عام كاملة، وقد استُخلف على دولة المرابطين من بعده ابنُه عليّ بن يوسف بن تاشفين.

حاول المرابطون بعد دخولهم الأندلس تحرير الأراضي الأندلسية التي أُخذت من المسلمين على مدار السنوات السابقة، فحاربوا في أكثر من جبهة، واستطاعوا أن يحرروا "سرقسطة" في الشمال الشرقي من بلاد الأندلس ويضموها إلى بلاد المسلمين، وقد اقتربت حدود دولة المرابطين من فرنسا.

كما حاولوا كثيرا تحرير "طُلَيْطِلة" (وكانت كما ذكرنا من قبل أنّها من أكثر وأشد مدن الأندلس حصانة على الإطلاق) لكنهم فشلوا في هذا الأمر وإن كانوا قد أخذوا معظم القرى والمدن التي حولها.


المرابطون ومواصلة الانتصارات


بعد موت يوسف بن تاشفين بعام واحد، وفي سنة 501 هـ= 1107 م وبعد ما يقرب من اثنتين وعشرين سنة من الزلاقة، تدور واحدة من أضخم المواقع بين المسلمين وبين النصارى، وهي التي سميت في التاريخ بموقعة أقليش، وقد تولى القيادة فيها على المسلمين عليّ بن يوسف بن تاشفين ( 477 - 537 هـ= 1084 - 1143م) وتولى القيادة على الصليبيين ابن ألفونسو السادس، وانتصر المسلمون أيضًا انتصارًا ساحقًا في هذه الموقعة، وقُتل من النصارى ثلاثة وعشرون ألفًا.

توالت انتصاراتُ المسلمين بعد هذه المعركة، ففي عام 509 هـ= 1115 م استطاع المسلمون أن يفتحوا جزر البليار، تلك التي كانت قد سقطت من جديد في عهد ملوك الطوائف، وقد أصبح المسلمون يسيطرون على جزء كبير من أراضي الأندلس تحت اسم دولة المرابطين.

لقد مرت سياسة المرابطين في الأندلس بمراحل ثلاث:
1 - مرحلة التدخل من أجل الجهاد وإنقاذ المسلمين، وقد انتهت بانسحاب المرابطين بمجرد انتصار الزلاقة.

2 - مرحلة الحذر من ملوك الطوائف، بعد أن ظل وضعهم وضع التنافر والتحاسد والتباغض، ولم يفكروا في الاندماج في دولة واحد، بل فضل بعضهم التقرّب إلى الأعداء للكيد ببعضهم.

3 - مرحلة ضم الأندلس إلى المغرب، فوضعوا حدًا لمهزلة ملوك الطوائف.))
الصلابي - الجوهر الثمين بمعرفة دولة المرابطين 136


وفي سنة 512 هـ= 1118 م تحدث في داخل بلاد المغرب وفي عقر دار المرابطين ثورة تؤدي بأثر سلبي إلى هزيمتين متتاليتين لهم في بلاد الأندلس، كانت الأولى هزيمة قاتندة، والثانية هزيمة القُليّعة.


المرابطون الهزيمة والانحدار.. وقفة متأنية


على إثر قيام ثورة في المغرب في عقر دار المرابطين، وعلى إثر هزيمتين متتاليتين لهم في الأندلس من قِبل النصارى، يحق لنا أن نتساءل: لماذا تقوم الثورة في هذا الوقت في دولة المرابطين؟! ولماذا هذا الانحدار وتلك الهزائم المتتالية؟!

وفي تحليلٍ موضوعيّ لهذه الأحداث نعود بالتاريخ إلى بداية نشأة دولة المرابطين وقيامها، ففي سنة 440 هـ= 1048 م حيث قَدِم الشيخ عبد الله بن ياسين، ظلت الأمور بعده تتدرج ببطء حتى دخل أبو بكر بن عمر اللمتوني رحمه الله مع الشيخ عبد الله بن ياسين وحدثت انفراجة قليلة للمسلمين كانت غير متوقعة في ذلك الوقت، حدث بعدها انتشار بطيء ثم انتشار سريع، ثم فتح عظيم وتمكين، ثم دنيا وسلطان وعزّ كبير للمسلمين، حتى عام 509 هـ= 1115 م كما رأينا سابقًا.

ومن خلال واقع دراستنا تلك، ومن خلال واقع تاريخ المسلمين قبل ذلك، ما الذي يمكن أن نتخيله بعد هذا؟!

فمنذ سنة سنة 440 هـ= 1048 م ولمدة سبعين سنة، وحتى سنة 509 هـ= 1115 م حيث الانتصارات المتتالية، وحيث العلو والارتفاع، وحيث الأموال والغنائم والقصور، وحيث الدنيا التي فتحت على المسلمين، والتي وصلوا فيها إلى درجة عالية من العزّ والسلطان والتمكين، فما هو المتوقع بعد ذلك، وما هي الأحداث الطبيعية التي من الممكن أن تحدث كما سبق ورأينا؟!

لا شكّ أن الشيء الطبيعي والمتوقع حدوثه هو حصول انكسار من جديد للمسلمين، وحدوث فتنة من هذه الدنيا التي فتحت على المسلمين، وفتنه من هذه الأموال التي كثرت في أيديهم.

وقد يتساءل البعض: هل من المعقول بعد انتصارات أبو بكر بن عمر اللمتوني، وانتصارات وأعمال يوسف بن تاشفين، وبعد الزلّاقة، هل من المعقول بعد كل هذا أن يحدث انكسار للمسلمين؟!

وفي معرض الردّ على هذا نقول: كيف نتعجب من حدوث هذا الانكسار الذي حدث بعد وفاة يوسف بن تاشفين، ولا نستغربه وقت أن حدث بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم متجسدًا في الردّة الكبيرة التي حدثت بين المسلمين؟! وهو بلا شكّ أعظم تربية وأقوى أثرًا من يوسف بن تاشفين ومن على شاكلته، وخاصة إذا كانت هناك شواهد بيّنة لهذا الانكسار وتلك الرجعة.


شواهد الانكسار وعوامل السقوط في دولة المرابطين


كدورة طبيعية من دورات التاريخ، ومما لا يعدّ أمرًا غريبًا أو غير متوقع، كانت هناك شواهد بيّنة لانكسار وتراجع دولة المرابطين عما كانت عليه قبل ذلك، نستطيع أن نجملها فيما يلي:

أولًا: فتنة الدنيا وإن ظلّ أمر الجهاد قائمًا
بالرغم من عدم توقف الجهاد، وبالرغم من صولات وجولات علي بن يوسف بن تاشفين التي كانت له مع النصارى وفي أكثر من موقعة، إلا أن المرابطين كانوا قد فُتنوا بالدنيا، وهو يعدّ في بادئ الأمر شيء غريب جدًا، وفي تحليل لمنشأ هذا الشاهد وُجد أن سببه خطأ كبير كان قد ارتكبه المسلمون في دولة المرابطين وهم عنه غافلون، وليتنا نأخذ العظة والعبرة منه، فقد جعلوا جلّ اهتمامهم التركيز على جانب واحد من جوانب الإسلام وتركوا أو أهملوا الجوانب الأخرى، فقد انشغل المرابطون في أرض الأندلس وفي بلاد المغرب وما حولها من البلاد، انشغلوا بالجهاد في سبيل الله عن تعليم الناس وتثقيفهم أمور دينهم، ومهمّة التعليم بالذات مهمّة شاقة خاصة في هذا الزمن؛ فالناس بطبيعتهم متفلّتة من التعلم ومن الالتزام بتعاليم الدين، ولا يحبون من يأتي لهم بقوانين وبرامج تربوية يعتقدون أنهم في غنى عنها، ومن ثَمّ كان لا بد وأن يتضاعف المجهود الضخم الذي يُبذل من أجل هذه المهمة، حتى تتعلم الأمة أمور دينها، وتعرف ما يجوز وما لا يجوز، وتعرف الواجبات من المحرمات من المستحبات، وقد انشغل المرابطون بالجهاد في سبيل الله عن غيره من المهمات ذات الأولوية المطلقة مثل قضية التعليم تلك، ولم يعد الأمر مثل ما كان عليه عهد عبد الله بن ياسين ويوسف بن تاشفين من حرصهم على تعليم الناس وتفقيههم أمور دينهم، وجعلهم جميعًا في رباط وفي مهمة منوطة بهم عليهم أن يؤدوها.

شُغل المرابطون بالجهاد عن إدارة الحكم وعن السياسة داخل البلاد، شُغلوا بالأمور الخارجية عن الأمور الداخلية، والإسلام بطبيعته دين متوازن ونظام شامل لا يغلّب جانبًا على جانب، وقد رأينا مثالًا واضحًا لهذا الأمر في تلك الدولة المتوازنة التي أقامها عبد الرحمن الناصر رحمه الله في نواحي العلم والجهاد والاقتصاد والقانون والعمران والعبادة، وكل شيء، حيث الدولة التي تسدّ حاجات الروح والجسد، فسادت وتمكنّت وظلّت حينًا من الدهر، ومثلها أيضًا كانت بداية دولة المرابطين وإقامة الجماعة المتوازنة على يد الشيخ عبد الله بن ياسين، تلك التي اهتم في قيامها بكل جوانب الحياة وعوامل ومقومات الدولة المتكاملة، التي تعطي كل جانب من مقومّاتها قدرًا مناسبًا من الجهد والوقت والعمل، فتعلّموا أن يكونوا فرسانًا مجاهدين ورهبانًا عابدين، كما تعلّموا أن يكونوا سياسيين بارعين، ومتعاونين على منهج صحيح من الإسلام وأصوله، لكن أن يوجِه المسلمون كل طاقاتهم إلى الجهاد في سبيل الله في سنة خمسمائة من الهجرة وما بعدها، ثم يتركون أمور السياسة الداخلية وتثقيف الناس وتعليمهم أمور دينهم، فتلك هي قاصمة الظهر...

ثانيًا: كثرة الذنوب رغم وجود العلماء
كثرت الذنوب والمعاصي في دولة المرابطين، سواء أكان ذلك في الأندلس أم في أرض المغرب، وهذا مع وجود العلماء الكثيرين في ذلك الوقت، وكثرة الذنوب كان أمرًا طبيعيًا خاصّة بعد أن فُتحت البلاد وكثرت الأموال؛ وذلك لأن معظم الذنوب تحتاج إلى أموال كثيرة جدًا لاقترافها، فالخمر والمخدرات والملاهي الليلية، ذنوب تحتاج إلى كثير مال للحصول عليها واقترافها، تلك الأموال التي لو كثرت ما برحت هذه الذنوب تكثر وتصير إلفًا بين الأقران، وأصحاب النفوس الضعيفة الذين كانوا يقطنون في دولة المرابطين (في المغرب) كانوا يفكرون في الذنوب لكن لا يقدرون عليها، أما الآن وقد فُتحت الدنيا عليهم وكثرت الأموال في أيديهم، فتحرّكت هذه النفوس الضعيفة ناحية الذنوب، وبدأت ترتكب من الذنوب والكبائر ألوانًا وأشكالًا.
ولا شكّ أنه كان هناك الغني الشاكر، لكن الحق أن هذا هو الاستثناء وليس القاعدة، والأصل أن الناس جميعًا يُفتنون بالدنيا ويقعون في الذنوب إذا كثر المال في أيديهم، يقول سبحانه وتعالى في معرض قصة نوحٍ عليه السلام: [فَقَالَ المَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ] {هود:27}. والأراذل هم ضعاف الناس وبسطاء القوم وفقراؤهم، وهم الذين اتبعوا نوحًا عليه السلام، واتبعوا الرسل من بعده، واتبعوا كل الدعاة إلى يوم القيامة، ومن هنا فإن كثرة الذنوب أمر طبيعي ومتوقع كنتيجة مباشرة لكثرة الأموال، لكن أين العلماء الكثيرون المنتشرون في بلاد الأندلس وبلاد المغرب العربي في ذلك الوقت؟!
كيف يُفتن الناس بالدنيا وراية الجهاد خفّاقة، وكيف تُكثر الذنوب رغم وجود العلماء الأجلّاء؟!
وواقع الأمر أن العلماء هم الذين يقع على عاتقهم العبء الأكبر من هذا التدني وذاك الانحدار، إذ نراهم وقد انشغلوا بفرعيات الأمور وأغفلوا أساسياتها، لقد طرقوا أمورًا وتركوا أمورًا أولى وأهمّ منها، أخذوا يؤلّفون المؤلفات ويعقدون المناظرات ويقسّمون التقسيمات في أمور لا ينبني عليها كثير عمل ولا كثير جدوى، بينما أغفلوا أمورًا ما يصحّ لهم أبدًا أن يتركوها أو يغفلوها، شغلوا أنفسهم بوضع اليد أثناء الصلاة، هل توضع على الصدر أم على البطن؟ وإذا كانت على الصدر ففي أي مكان منه؟ وكيف يكون وضع السبابة أثناء التشهد؟ هل تُرفع من بداية التشهد أم من منتصفه؟ وهل ترفع ساكنة أم متحركة؟ وإذا كانت متحركة فهل حركتها رأسية أم هي دائرية؟ ثم ما هو معدل الحركة أسريع هو أم بطيء؟
وهذا بخلاف المناظرات والمجادلات الحادّة والطويلة في أمر الخوارج والشيعة والمرجئة والمعطلة والمشبهة والمجسمة، وغيرها من الأسماء والفرق التي ما كان يراها المسلمون أو يسمعون عنها، أخذوا يُنقّبون في الكتب ويبحثون عن كل غريب من أجل هذه المناظرات وتلك المجادلات التي لا نهاية لها...


النتائج التي ترتبت على تعمق العلماء في الفروع دون الأصول


كان اتّجاه العلماء في ذلك الوقت إلى التعمق في الفروع وإهمال الأصول كمن ترك لُجّة البحر واتجه إلى القنوات الفرعية، فأنى له الوصول وأنى لعمله الفائدة المرجوة منه؟! فكان ونتيجة طبيعية لذلك أن نتج عن هذا القلب الخاطئ وذاك التعمق في الفروع تلك الأمور الخطيرة التالية:

أولًا: جدال عظيم عقيم بين العلماء والعامّة
وذلك أن العلماء لم يفهموا أو لم يستطيعوا أن يتفهموا حاجة العامة، كما لم تعرف العامة ما يتنطع به العلماء، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم وهو أعلم البشر وأحكم الخلق يتكلم بالكلمة فيفهمه علماء الصحابة ويفهمه الأعرابي البسيط، كما كان يفهمه الرجل وتفهمه المرأة والكبير والصغير كل على حد سواء.

ثانيًا: عزلة العلماء عن مجتمعاتهم
باتجاه العلماء إلى دقائق الأمور من الفروع لم يعد يشغلهم حال مجتمعاتهم، ولم يعودوا هم يعرفون شيئا عما يدور فيها وما يحلّ بها من مصائب وذنوب، فتوسّعت الهوّة كثيرًا بينهم وبين مجتمعاتهم، وحدثت بذلك عزلة خطيرة لهم في العهد الخير للمرابطين، فكانت الخمور تُباع وتُشترى بل وتُصنّع في البلاد ولا يتكلم أحد، وكانت الضرائب الباهظة تُفرض على الناس غير الزكاة وبغير وجه حق ولا يتكلم من العلماء أحد، وكان الظلم من الولاة لأفراد الشعب ولا يتكلم من العلماء أحد، وكانت هناك ملاهي الرقص لا تتستر بل تعلن عن نفسها بسفور ولا يتكلم من العلماء أحد، وإنه لعجب والله أن تحدث مثل هذه الأمور في هذا الزمن (من بعد سنة خمسمائة من الهجرة) وتلك الدولة المرابطية، فقد كانت النساء تخرج سافرات بلا حجاب والعلماء لاهون بالحديث عن أمور الجدال العقيمة والمقيتة، ويعتقدون أن مثل هذه الأمور هي التي يجب أن يُشغَل بها المسلمون، وغيرها هي الأقل أهمية من وجهة نظرهم.

ثالثًا: أزمة اقتصادية حادة
كان من بين شواهد الانكسار الأخرى في نهاية دولة المرابطين، وبعد فتنة الدنيا والمال، وغياب الفهم الصحيح لتعاليم الإسلام، وكثرة الذنوب، وجمود الفكر عند العلماء وانعزالهم عن المجتمع كان فوق كل هذه الأمور أن حدثت أزمة اقتصاديّة حادة في دولة المرابطين؛ حيث غاب المطر لسنوات وسنوات، فيبست الأرض وجفّ الزرع وهلكت الدواب، وقد يرى البعض أن هذا من قبيل المصادفة البحتة والعجيبة في نفس الوقت، لكنها والله ليست مصادفة بل هي في كتاب الله عز وجل ومن سننه الثوابت، يقول تعالى في كتابه الكريم: [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] {الأعراف:96}.
وهذا كلام نوح عليه السلام في حديثه لقومه حيث يقول: [فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا(10)يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا(11)وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا(12)مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا] {نوح:10،11،12،13}.

فالله سبحانه وتعالى يبتلي المؤمنين دائمًا بالقحط وبالأزمات الاقتصادية الحادة عندما يبتعدوا عن طريقه وعن نهجه القويم الذي رسَمَهُ لهم، ومن هنا فلو لوحظ تدهور في الحالة الاقتصادية لأحد البلدان أو المجتمعات، وبدأت الأموال تقلّ في أيدي الناس، وبدءوا يعملون لساعات وساعات ولا يحصل لهم ما يكفي لسدّ رمقهم أو ما يكفي لعيشهم عيشة كريمة، فاعلم أن هناك خللاً في العلاقة بين العباد وربهم سبحانه وتعالى، وأن هناك ابتعاد عن منهجه وطريقه المستقيم؛ إذ لو كانوا يطيعونه لبارك لهم سبحانه وتعالى في أقواتهم وأرزاقهم.

وبالطبع أعقب هذه الأحداث التي وقعت في بلاد المرابطين هزائم متعددة من قِبل النصارى، فكانت كما ذكرنا موقعة قاتندة في سنة 514 هـ= 1120 م والتي هُزم فيها المسلمون هزيمة منكرة، ومثلها وبعدها أيضا كانت موقعة القُليّعة في سنة 523 هـ= 1129 م والتي مُني فيها المسلمون أيضًا بالهزيمة المنكرة.
رد مع اقتباس
  #38  
قديم 07-21-2009, 02:07 PM
د. حازم د. حازم غير متواجد حالياً
قـــلم نــابض
 




افتراضي

متابعة متأخرة قليلا
وفقك الله ورعاك وأحسن أليك
رد مع اقتباس
  #39  
قديم 07-21-2009, 06:32 PM
أبو أنس الأنصاري أبو أنس الأنصاري غير متواجد حالياً
II كَانَ اللهُ لَهُ II
 




افتراضي

لا عليكَ أخي الحبيبُ.
أسعدني مروركَ ومتابعتكَ.
وسنواصلُ قريبًا بإذنِ اللهِ تعالى.
رد مع اقتباس
  #40  
قديم 07-31-2009, 01:32 PM
مع الله مع الله غير متواجد حالياً
مشرفة سابقة-جزاها الله خيرًا .
 




افتراضي

جزاكم الله خيراً
موضوع طويل للغاية لكنه شيق جداً
لنا عودة للتكملة بإذن الله
نفع الله بكم
رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

 

منتديات الحور العين

↑ Grab this Headline Animator

الساعة الآن 06:21 AM.

 


Powered by vBulletin® Version 3.8.4
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
.:: جميع الحقوق محفوظة لـ منتدى الحور العين ::.