انا لله وانا اليه راجعون... نسألكم الدعاء بالرحمة والمغفرة لوالد ووالدة المشرف العام ( أبو سيف ) لوفاتهما رحمهما الله ... نسأل الله تعالى أن يتغمدهما بواسع رحمته . اللهم آمـــين

العودة   منتديات الحور العين > .:: المنتديات الشرعية ::. > ملتقيات علوم الغاية > عقيدة أهل السنة

عقيدة أهل السنة يُدرج فيه كل ما يختص بالعقيدةِ الصحيحةِ على منهجِ أهلِ السُنةِ والجماعةِ.

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 10-15-2015, 07:30 PM
عبدالله الأحد عبدالله الأحد غير متواجد حالياً
قـــلم نــابض
 




افتراضي ذكر بعض من نسبوا إلى الأشعرية وبيان براءتهم منها

 

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله واله

الإمام الحافظ الحجة محمد بن إسماعيل البخاري "256هـ":
زعم المؤلفان (1) أن البخاري كان موافقاً لابن كلاب في معتقده!! وهي دعوى مردودة، يأباها التحقيق العلمي، والاستقراء التاريخي.
فإن البخاري رحمه الله رأس في الحديث، بل هو إمام الدنيا في عصره وحامل لواء أهل الحديث، وليس هذا بعجب منه، إذ أنه كان تلميذ أئمة السنة، وعلى رأسهم إمام أهل السنة بلا منازع أحمد بن حنبل، وكذا إسحاق بن راهوية، وأبو نعيم الفضل بن دكين، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وغيرهم من أكابر أئمة السنة وبقية السلف.
ومن تأويل ما سطره في صحيحه، وفي غيرها من كتبه يعلم تمام العلم، أنه كان على عقيدة أهل الأثر، لا أهل الكلام، وأنه يثبت صفات الله تعالى على الوجه اللائق به، بلا تشبيه ولا تكييف، وبلا تنزيه ينفي حقائقها.
وقد عقد كتاباً في صحيحه أسماه كتاب (التوحيد)، أثبت فيه الصفات لله تعالى على منوال السلف والأئمة، لا على منوال أهل الكلام، فعقد فيه ثمانية وخمسين باباً في إثبات صفات الله، منها:
- باب: "قول الله تعالى: وَيُحَذكرمُ اللّهُ نَفْسَهُ [آل عمران: 28]"، لإثبات النفس لله تعالى.
- وباب: "قول الله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88]"، لإثبات الوجه لله تعالى.
- وباب: "قول الله تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه: 39]"، لإثبات العين لله تعالى.
- وباب: "قول الله تعالى: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75]"، لإثبات اليد لله تعالى.
- وباب: "قول النبي صلى الله عليه وسلم ((لا شخص أغير من الله)) (2) ، لإثبات الشخص لله تعالى.
- وباب: "قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً [الأنعام: 19]، فسمى الله تعالى نفسه شيئاً. وسمى النبي صلى الله عليه وسلم القرآن شيئاً. وهو صفة من صفات الله. وقال: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88]؛ لإثبات أن الله تعالى يسمى شيئاً.
- وباب: "وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء [هود: 7]، رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة: 129]"، لإثبات علو الله تعالى على خلقه، واستوائه وارتفاعه على عرشه، وأورد فيه قول أبي العالية ومجاهد: استوى: علا وارتفع، ثم ساق الأحاديث الدالة على علو الله تعالى، وأنه في السماء فوق كل شيء.
- وباب: "قول الله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: 29]... وقوله تعالى: لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق: 1]، وأن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين"، ففيه إثبات أن الله يوصف بأنه يحدث ما شاء.
- وأبواب في إثبات كلام الله تعالى، منها: باب لإثبات الحرف والصوت لله تعالى فقال: "باب كلام الرب مع جبريل، ونداء الله الملائكة".
- وباب: "ما جاء في تخليق السماوات والأرض وغيرها من الخلائق، وهو فعل الرب تبارك وتعالى وأمره، فالرب بصفاته وفعله وأمره، وهو الخالق المكون غير مخلوق، وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مخلوق مكون" (3) .
قال ابن القيم: "وهذه الترجمة فصل في مسألة الفعل والمفعول، وقيام أفعال الرب عز وجل به وأنها غير مخلوقة، وأن المخلوق هو المنفصل عنه الكائن بفعله وأمره وتكوينه، ففصل النزاع بهذه الترجمة أحسن فصل، وأبينه، وأوضحه، إذ فرق بين الفعل والمفعول، وما يقوم بالرب سبحانه، وما لا يقوم به، وبين أن أفعاله تعالى كصفاته، داخلة في مسمى اسمه، ليست منفصلة خارجة مكونة، بل بها يقع التكوين" (4) ا هـ.
وهذا التقرير يخالف ما عليه الأشعرية من امتناع قيام الأفعال الاختيارية بذات الله تعالى لأنها حوادث، والحوادث عندهم لا تقوم إلا بحادث، فيمنعون ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال، فلا يجوزون أن يقوم به خلق، ولا استواء، ولا إتيان، ولا مجيء، ولا تكليم، ولا مناداة، ولا مناجاة، ولا غير ذلك مما وصف بأنه مريد له قادر عليه.
وزاد البخاري هذا تأكيداً في (خلق أفعال العباد) في باب: "الرد على الجهمية وأصحاب التعطيل"، فقال: "ولقد بين نعيم بن حماد أن كلام الرب ليس بخلق وأن العرب لا تعرف الحي من الميت إلا بالفعل فمن كان له فعل فهو حي ومن لم يكن له فعل فهو ميت، وأن أفعال العباد مخلوقة، فضيق عليه حتى مضى لسبيله، وتوجع أهل العلم لما نزل به، وفي اتفاق المسلمين دليل على أن نعيماً ومن نحا نحوه ليس بمفارق ولا مبتدع بل البدع والرئيس بالجهل بغيرهم أولى؛ إذ يفتون بالآراء المختلفة مما لم يأذن به الله" (5) ا هـ.
وقال في موضع آخر: "ففعل الله صفة الله، والمفعول غيره من الخلق" (6) ا هـ.
وبوب في مسائل الإيمان:
- باب: "وسمى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عملاً"، لإثبات أن العمل من الإيمان.
- وقال في باب: "قول الله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 96] وسمى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عملاً".
وهو القائل: "كتبت عن ألف وثمانين رجلاً، ليس فيهم إلا صاحب حديث، كانوا يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص" (7) ا هـ.
ومعلوم أن هذا مخالف لعقيدة الأشاعرة الذين يرون أن الإيمان هو التصديق، وأن العمل لا يسمى إيماناً.
وعقد في كتاب (التوحيد) من صحيحه غير ذلك من الأبواب الكثيرة التي يقرر فيه الصفات لله تعالى كما جاءت في الكتاب والسنة من غير تعرض لها بتأويل ولا تحريف.
قال الذهبي في (العلو): "قال الإمام أبو عبدالله بن إسماعيل في آخر الجامع الصحيح في كتاب (الرد على الجهمية)! باب قوله تعالى: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء [هود: 7]، قال أبو العالية: استوى إلى السماء، ارتفع. وقال مجاهد في اسْتَوَى: علا على العرش. وقالت زينب أم المؤمنين رضي الله عنها: "زوجني الله من فوق سبع سموات".
ثم إنه بوب على أكثر ما تنكره الجهمية، من العلو، والكلام، واليدين، والعينين، محتجاً بالآيات والأحاديث، فمن ذلك قوله: "باب قوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر: 10]"، و"باب قوله: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75]"، "باب قوله: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه: 39]، و"باب كلام الرب عز وجل مع الأنبياء"، ونحو ذلك مما إذا تعلقه اللبيب عرف من تبويبه أن الجهمية ترد ذلك وتحرف الكلم عن مواضعه، وله مصنف مفرد سماه (كتاب أفعال العباد) في مسألة القرآن" (8) ا هـ.
وكتب البخاري أيضاً في تقرير بعض مسائل المعتقد كتاب (خلق أفعال العباد والرد على الجهمية وأصحاب التعطيل)، والذي قرر فيه معتقد أهل السنة والجماعة، ونقل كثيراً من نصوص السلف والأئمة في الصفات، والتي سبق أن ذكرنا بعضها في ثنايا كتابنا هذا، ككلامهم في علو الله تعالى على خلقه، وفي كلام الله تعالى، وقرر أنه بصوت كما سبق نقل كلامه.
فقال: "وإن الله عز وجل ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، فليس هذا لغير الله عز وجل ذكره. قال أبو عبدالله: وفي هذا دليل أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق، لأن صوت الله جل ذكره يسمع من بعد كما يسمع من قرب، وأن الملائكة يصعقون من صوته، فإذا تنادى الملائكة لم يصعقوا، وقال عز وجل: فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً [البقرة: 22]، فليس لصفة الله ند، ولا مثل، ولا يوجد شيء من صفاته في المخلوقين" (9) ا هـ.
وهذه الصفة مما اتفق الأشاعرة على إنكارها، وتنزيه الله عن الاتصاف بها، بدعوى أنها تستلزم التشبيه، بناءاً على أصلهم في الكلام النفسي.
فإثبات البخاري لكلام الله تعالى وأنه بحرف وصوت، يبطل دعوى انتسابه أو تأثره بابن كلاب، لأن مسألة الكلام النفسي هي من أشهر المسائل التي خالف فيها ابن كلاب السلف، ولذلك اشتد نكير الإمام أحمد عليه كما سيأتي بيانه، وأمر بهجر الحارث المحاسبي بسببه.
فطريقة البخاري في صحيحه في كتاب (التوحيد)، وكذا في كتاب (خلق أفعال العباد) في تقرير المعتقد، ظاهرة في كونه على منهج السلف وطريقهم، الذين يجعلون الكتاب والسنة أصلاً، ثم يتبعونه بكلام السلف من الصحابة والتابعين والأئمة.
كما أن تبويبه لمسائل المعتقد يدل بشكل واضح على عدم كونه من المتكلمين، بل هو مباين لهم غاية التباين.
ومما يؤكد كون البخاري لم يكن موافقاً لابن كلاب، أنه لم يذكره في شيء من كتبه البتة، ولا عرج على كلامه، ولا على كلام أصحابه، كالحارث المحاسبي، والقلانسي، والكرابيسي، وغيرهم. لا في صحيحه، ولا في تواريخه، كالتاريخ الكبير، والأوسط، والصغير، ولا في كتبه الأخرى ككتاب (خلق أفعال العباد).
الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري "310هـ":
هو إمام المفسرين ومقدمهم محمد بن جرير ابن يزيد بن كثير الإمام العلم المجتهد عالم العصر أبو جعفر الطبري صاحب التصانيف البدعية من أهل آمل طبرستان.
وله كتابان في المعتقد، هما: (التبصير في معالم الدين)، و(صريح السنة)، قد قرر فيهما المعتقد وأبان عن منهجه وطريقته، فضلاً عما سطره في ثنايا تفسيره العظيم.
ومع وجود هذين الكتابين، فإن المؤلفين لم ينقلا حرفاً واحداً منهما، ولم يشيرا إليهما البتة، ويزعمان مع ذلك أن الطبري أشعري المعتقد!!!
وقد سبق أن نقلنا كثيراً من تقريراته في مسائل المعتقد في ثنايا الكتاب.
ونؤكد هنا ما نقلنا ونزيد عليه:
علو الله تعالى بنفسه على خلقه:
قال الذهبي في (العلو): "قال أبو سعيد الدينوري مستملي محمد بن جرير قال: قريء على أبي جعفر محمد بن جرير الطبري وأنا أسمع في عقيدته، فقال "وحسب امرئ أن يعلم أن ربه هو الذي على العرش استوى، فمن تجاوز ذلك فقد خاب وخسر".
قال الذهبي: تفسير ابن جرير مشحون بأقوال السلف على الإثبات، فنقل في قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء [البقرة: 29]، عن الربيع بن أنس: أنه بمعنى ارتفع. ونقل في تفسير: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54]، في المواضع كلها أي: علا وارتفع. وقد روى قول مجاهد، ثم قال: ليس في فرق الإسلام من ينكر هذا، لا من يقرأن الله فوق العرش، ولا من ينكره من الجهمية وغيرهم" (10) ا هـ.
قال ابن جرير في تفسير قوله تعالى: مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة: 7]: "وعنى بقوله: هُوَ رَابِعُهُمْ، بمعنى: أنه مشاهدهم بعلمه، وهو على عرشه. كما حدثني عبدالله بن أبي زياد، قال: ثني نصر بن ميمون المضروب، قال: ثنا بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان، عن الضحاك، في قوله مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ ... إلى قوله: هُوَ مَعَهُمْ [المجادلة: 7]، قال: هو فوق العرش وعلمه معهم: أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" (11) ا هـ.
إثبات اليدين لله تعالى:
وقال في تفسير قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة: 64]: "اختلف أهل الجدل في تأويل قوله: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ، فقال بعضهم: عنى بذلك: نعمتاه... وقال آخرون منهم: عنى بذلك القوة... وقال آخرون منهم: "بل "يده"، ملكه ...
وقال آخرون منهم: بل "يد الله" صفة من صفاته، هي يد، غير أنها ليست بجارحة كجوارح بني آدم.
قالوا: وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن خصوصه آدم بما خصه به من خلقه إياه بيده، قالوا: ولو كان معنى "اليد" النعمة، أو القوة، أو الملك، ما كان لخصوصه آدم بذلك وجه مفهوم، إذ كان جميع خلقه مخلوقين بقدرته، ومشيئته في خلقه نعمة، وهو لجميعهم مالك ...".
إلى أن قال: "قالوا: ففي قول الله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة: 64]، مع إعلامه عباده أن نعمه لا تحصى، مع ما وصفنا من أنه غير معقول في كلام العرب أن اثنين يؤديان عن الجميع، ما ينبئ عن خطأ قول من قال: معنى "اليد" في هذا الموضع: النعمة، وصحة قول من قال: إن "يد الله" هي له صفة.
قالوا: وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال به العلماء وأهل التأويل" (12) ا هـ.
إثبات صفة الإتيان لله تعالى:
قال في تفسير قوله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ [الأنعام: 158]: "يقول جل ثناؤه: هل ينتظر هؤلاء العادلون بربهم الأوثان والأصنام إلا أن تأتيهم الملائكة بالموت فتقبض أرواحهم، أو أن يأتيهم ربك يا محمد بين خلقه في موقف القيامة، أو يأتي بعض آيات ربك، يقول: أو أن يأتيهم بعض آيات ربك، وذلك فيما قال أهل التأويل طلوع الشمس من مغربها..."، ثم ذكر آثار السلف على ذلك" (13) ا هـ.
إثبات الصفات على الحقيقة بلا تشبيه:
وقال في (التبصير في معالم الدين): "ولله تعالى ذكره أسماء وصفات جاء بها كتابه، وأخبر بها نبيه صلى الله عليه وسلم أمته، لا يسع أحداً من خلق الله – قامت عليه الحجة بأن القرآن نزل به، وصح عنده قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه به الخبر منه – خلافه، فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه به من جهة الخبر على ما بينت فيما لا سبيل إلى إدراك حقيقة علمه إلا حساً، فمعذور بالجهل به الجاهل؛ لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل، ولا بالرؤية والفكر.
وذلك نحو: إخبار الله تعالى ذكره إيانا أنه سميع بصير.
وأن له يدين لقوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة: 64].
وأن له يميناً لقوله: وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67].
وأن له وجهاً لقوله: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88].
وقوله: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 27].
وأن له قدماً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حتى يضع الرب قدمه فيها)) (14) ,يعني جهنم.
وأنه يضحك إلى عبده المؤمن لقول النبي صلى الله عليه وسلم للذي قتل في سبيل الله: إنه لقي الله عز وجل وهو يضحك إليه. (15) .
وأنه يهبك كل ليلة وينزل إلى السماء الدنيا؛ لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأنه ليس بأعور؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم، إذ ذكر الدجال فقال: ((إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور)) (16) .
وأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم، كما يرون الشمس ليس دونها غيابة، وكما يرون القمر ليلة البدر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم.
وأن له أصابع، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن...)) (17) .
إلى أن قال: "فإن كان الخبر الوارد بذلك خبراً تقوم به الحجة مقام المشاهدة والسماع، وجبت الدينونة على سماعه بحقيقته في الشهادة عليه بأن ذلك جاء به الخبر، نحو شهادته على حقيقة ما عاين وسمع...".
إلى أن قال: "فإن قال لنا قائل: فما الصواب في معاني هذه الصفات التي ذكرت، وجاء ببعضها كتاب الله عز وجل ووحيه، وجاء ببعضها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قيل: الصواب من هذا القول عندنا: أن نثبت حقائقها على ما نعرف من جهة الإثبات ونفي التشبيه، كما نفي عن نفسه جل ثناؤه فقال لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11]...".
إلى أن قال: "فنثبت كل هذه المعاني التي ذكرنا أنها جاءت بها الأخبار والكتاب والتنزيل على ما يعقل من حقيقة الإثبات، وننفي عنه التشبيه" (18) .
إثبات النزول لله تعالى:
قال في "التبصير": "قيل له –أي: للمعطل-: فما أنكرت من الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه يهبط إلى السماء الدنيا فينزل إليها.
فإن قال: أنكرت ذلك؛ أن الهبوط نقلة، وأنه لا يجوز عليه الانتقال من مكان إلى مكان، لأن ذلك من صفات الأجسام المخلوقة.
قيل لهً: فقد قال جل ثناؤه: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22]، فهل يجوز عليه المجيء؟ فإن قال: لا يجوز ذلك عليه، وإنما معنى هذا القول: وجاء أمر ربك.
قيل: قد أخبرنا تبارك وتعالى أنه يجيء هو والملك، فزعمت أنه يجيء أمره لا هو، فكذلك تقول: أن الملك لا يجيء، إنما يجيء أمر الملك لا الملك، كما كان معنى مجيء الرب تبارك وتعالى مجيء أمره.
فإن قال: لا أقول ذلك في الملك، ولكني أقول في الرب.
قيل له: فإن الخبر عن مجيء الرب تبارك وتعالى والملك خبر واحد، فزعمت في الخبر عن الرب تعالى ذكره أنه يجيء أمره لا هو، وزعمت في الملك أنه يجيء بنفسه لا أمره، فما الفرق بينك وبين من خالفك في ذلك فقال: بل الرب هو الذي يجيء، فأما الملك فإنما يجيء أمره لا هو بنفسه؟!...".
إلى أن قال: "فإن قال لنا منهم قائل: فما أنت قائل في معنى ذلك؟
قيل له: معنى ذلك ما دل عليه ظاهر الخبر، وليس عندنا الخبر إلا التسليم والإيمان به، فنقول: يجيء ربنا جل جلاله يوم القيامة والملك صفا صفا، ويهبط إلى السماء الدنيا وينزل إليها في كل ليلة، ولا نقول: معنى ذلك ينزل أمره، بل نقول: أمره نازل إليها في كل لحظة وساعة، وإلى غيرها من جميع خلقه الموجودين ما دامت موجودة. ولا تخلو ساعة من أمره فلا وجه لخصوص نزول أمره إليها وقتاً دون وقت، ما دامت موجودة باقية" (19) .
القرآن كلام الله غير مخلوق:
قال في "صريح السنة" في إثبات أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، وإبطال معتقد الأشاعرة فيه: "فمن قال غير ذلك، أو ادعى أن قرآناً في الأرض أو في السماء سوى القرآن الذي نتلوه بألسنتنا، ونكتبه في مصاحفنا، أو اعتقد غير ذلك بقلبه، أو أضمره في نفسه، أو قاله بلسانه دائناً به فهو بالله كافر حلال الدم، بريء من الله، والله منه بريء بقول الله عز وجل: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ [البروج: 21-22]، وقال وقوله الحق: وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ [التوبة: 6].
فأخبر جل ثناؤه أنه في اللوح المحفوظ مكتوب، وأنه من لسان محمد صلى الله عليه وسلم مسموع، وهو قرآن واحد: من محمد صلى الله عليه وسلم، وفي اللوح المحفوظ مكتوب، وكذلك هو في الصدور محفوظ، وبألسن الشيوخ والشباب متلو" (20) ا هـ.
وهذا يبطل معتقد الأشاعرة الذين يزعمون أن هناك قرآنين أحدهما: كلام الله غير مخلوق وهو ما قام بذات الله، والآخر مخلوق: وهو الملفوظ المتلو المكتوب، كما سبق بيان قولهم في الفصل الثالث من الباب الثاني.
وقال في اللفظة: "وأما القول في ألفاظ العباد بالقرآن فلا أثر فيه نعلمه عن صحابي مضى، ولا تابعي قضى، إلا عمن في قوله الغناء والشفاء رحمة الله عليه ورضوانه، وفي اتباعه الرشد والهدى، ومن يقوم مقام قول الأئمة الأولى، أبي عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل حنبل رضي الله عنه.
فإن أبا إسماعيل الترمذي حدثني قال: سمعت أبا عبدالله أحمد بن حنبل يقول: اللفظة جهمية لقول الله جل اسمه: يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ [التوبة: 6]، فممن يسمع.
ثم سمعت جماعة من أصحابنا لا أحفظ أسماءهم يذكرون عنه أنه كان يقول: من قال "لفظي بالقرآن مخلوق" فهو جهمي، ومن قال "هو غير مخلوق" فهو مبتدع" (21) ا هـ.
وقال أيضاً في تعريف الإيمان: "فإن الصواب فيه قول من قال: هو قول وعمل، يزيد وينقص، وبه جاء الخبر عن جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه مضى أهل الدين والفضل" (22) ا هـ.
وهذا مخالف لمعتقد الأشاعرة الذين يرون أن الإيمان هو التصديق، وأن الأعمال ليست داخلة في حقيقة الإيمان.
هذه نتف من كلام ابن جرير رحمه الله في تقرير الاعتقاد تبين موافقته للسلف، ومخالفته للأشاعرة.
وكيف لا يكون كذلك وهو صاحب إمام الأئمة ابن خزيمة، ومحمد بن نصر المروزي وغيرهم من أئمة السنة.
الإمام الحافظ أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني "385هـ":
كان الحافظ الدارقطني من ضمن من حاول المؤلفان ضمه إلى ركب الأشاعرة استكثاراً للأتباع، وتشبعاً بما لم يعطيا.
والحافظ الدارقطني علم من الأعلام، وإمام من الأئمة الذين ألفوا وكتبوا في فنون كثيرة، ومنها: "المعتقد"، فاللدارقطني ثلاثة كتب معروفة مشهورة مطبوعة متداولة في معتقد أهل السنة والجماعة، وهي: كتاب (الصفات)، وكتاب (الرؤية)، وكتاب (أحاديث النزول).
ومع توفر هذه الكتب في المكتبة الإسلامية، فإننا نجد المؤلفين لم يعرجا على شيء منها البتة، وأعرضا عنها تماماً، واستندا في دعواهما بأشعريته على قصة ذكر فيها أن الدارقطني قبل رأس أبي بكر الباقلاني الأشعري، وأثنى عليه.
ومن المعلوم أن هذه الطريقة لا يمكن الاعتماد عليها في استخلاص معتقد إمام معروف بكتبه كالحافظ الدارقطني، وغاية ما فيها ثناء الدارقطني على بعض الأشاعرة.
وهذا على فرض ثبوته يحتمل أموراً كثيرة.
منها: أن الثناء عليه قد يكون قبل أن يعلم حاله، وقبل أن يظهر ما ظهر من معتقداته.
ومنها: أن الثناء قد يكون نسبياً، كأن يثني عليه لجهوده في الرد على المعتزلة والجهمية ونحوهم، وقد كان الباقلاني معروفاً بهذا. لا لكونه موافقاً للحق في كل معتقده.
وقد ذكر ابن المبرد الدارقطني من ضمن من كان مجانباً للأشاعرة، فقال: "ومنهم: الإمام أبو الحسن الدارقطني، كان مجانباً لهم – أي: الأشاعرة -، وله كلام في ذمهم" (23) .
وأنا أبين هنا ما سطره الدارقطني في كتبه حتى يتبين لكل عاقل، بطلان هذه الدعوى، وأن الدارقطني كان إماماً في السنة، رأساً فيها، ناهجاً نهج السلف والأئمة، لم يكن أشعرياً ولا كلابياً ولم يدخل في الكلام البتة.
فكتاب (الصفات) قد ألفه في إثبات صفات الله تعالى التي كان يتأولها المعطلة من الجهمية والمعتزلة والكلابية والأشعرية، فعقد بابا لإثبات القدم لله عز وجل، وباب لإثبات اليدين، وبابا لإثبات الضحك، وبابا لإثبات الأصابع، وبابا في ما جاء في الكرسي، وبابا في ما جاء في صورة الرحمن، وبابا في ما جاء في حثيات الرب عز وجل، وبابا في ما جاء في يمين الله عز وجل، وباباً في ما جاء في كف الرحمن.
ثم أعقب هذه الأبواب بباب في بيان منهج السلف في هذه الصفات، وهو إمرارها على ظاهرها، وعدم التعرض لها بتأويل، ولا تشبيه، ونقل فيها كثيراً من نصوص السلف والتي قد ذكرنا كثيراً منها في الباب الأول.
وأما كتاب (أحاديث النزول) فقد أثبت فيه صفة النزول لله تعالى، وأنه حق على حقيقته من غير تشبيه ولا تحريف ولا تأويل، وأنه نزول الله تعالى لا نزول ملك ولا نزول أمره ونحو ذلك مما يتأوله الأشاعرة وجميع المعطلة، وجميع فيه أحاديث النزول في الثلث الأخير من الليل، وفي شعبان، وعشية عرفة، وقال في أوله: "ذكر الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تبارك وتعالى ينزل في كل ليلة إلى سماء الدنيا، فيغفر للمستغفرين ويعطي السائلين" (24) ا هـ.
وأما كتاب (الرؤية) فقد قرر فيه معتقد السلف في أن الله تبارك وتعالى يرى يوم القيامة، يراه المؤمنون في العرصات، وبعد دخول الجنة، وجمع فيها الأحاديث المتواترة الدالة على ذلك، ونقل فيه كلام الصحابة والتابعين والأئمة في إثبات ذلك، وأن ألذ نعيم أهل الجنة النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى.
فكيف يمكن بعد ذلك إدخال الدارقطني في جملة الأشعرية؟!! وكتبه كلها قد نسجها على منوال السلف في تقرير المعتقد، فيستدل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم من كلام السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم، ولم يعرج قط على المسائل الكلامية، ولا الدلائل التي يسميها أصحابها عقلية، بل كان مبغضاً لهذه الطرق.
قال الذهبي في (العلو): "كان العلامة الحافظ أبو الحسن علي بن عمر نادرة العصر، وفرد الجهابذة، ختم به هذا الشأن، فمما صنف: كتاب (الرؤية)، وكتاب (الصفات)، وكان إليه المنتهى في السنة ومذاهب السلف.
وقال الذهبي في السير: "وصح عن الدارقطني أنه قال: ما شيء أبغض إلي من علم الكلام.
قلت: لم يدخل الرجل أبداً في علم الكلام، ولا الجدال ولا خاض في ذلك، بل كان سلفياً. سمع هذا القول منه أبو عبدالرحمن السلمي" (26) ا هـ.
الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبدالله الأصبهاني "430هـ":
وهو ممن عده المؤلفان (27) من الأشاعرة، اتباعاً لابن عساكر، وقد استدرك ذلك عليه ابن المبرد منتقداً إلحاقه له بالأشاعرة فقال: "ثم ذكر فيهم أبا نعيم الحافظ، وليس بمسلم له فيه، وهو اختلاف عليه" (28) ا هـ.
وأنا أذكر بعض ما نقل عنه في المعتقد ليتبين لنا حقيقة هذا الدعوى:
قال في كتابه (محجة الواثقين ومدرجة الواقين) فيما نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأجمعوا أن الله فوق سمواته، عالْ على عرشه، مستو عليه، لا مستول عليه كما تقول الجهمية: أنه بكل مكان، خلافاً لما نزل في كتابه: أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك: 16]، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر: 10]، الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]، له العرش المستوي عليه، والكرسي الذي وسع السماوات والأرض، وهو قوله وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة: 255]، وكرسيه جسم، والأرضون السبع والسماوات السبع عند الكرسي كحلقة في أرض فلاة، وليس كرسيه علمه كما قالت الجهمية، بل يوضع كرسيه يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه، كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه تعالى وتقدس يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده والملائكة صفاً صفاً كما قال تعالى: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22]، وزاد النبي صلى الله عليه وسلم وأنه تعالى وتقدس يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده فيغفر لمن يشاء من مذنبي الموحدين، ويعذب من يشاء، كما قال تعالى: يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء [آل عمران: 129]" (29) ا هـ.
وقال الذهبي في (العلو): "قال الحافظ الكبير أبو نعيم أحمد بن عبدالله بن أحمد الأصبهاني مصنف "حيلة الأولياء" في كتاب (الاعتقاد) له: "طريقتنا طريقة السلف المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة. ومما اعتقدوه أن الله لم يزل كاملاً بجميع صفاته القديمة، لا يزول ولا يحول، لم يزل عالماً بعلم بصيراً ببصر سميعاً بسمع متكلماً بكلام، ثم أحدث الأشياء من غير شيء، وأن القرآن كلام الله، وكذلك سائر كتبه المنزلة، كلامه غير مخلوق، وأن القرآن في جميع الجهات مقروءاً ومتلواً ومحفوظاً ومسموعاً ومكتوباً وملفوظاً كلام الله حقيقة، لا حكاية ولا ترجمة، وأنه بألفاظنا كلام الله غير مخلوق، وأن الواقفة واللفظية من الجهمية، وأن من قصد القرآن بوجه من الوجوه يريد به خلق كلام الله فهو عندهم من الجهمية، وأن الجهمي عندهم كافر – إلى أن قال: وأن الأحاديث التي ثبتت في العرض واستواء الله عليه يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل، وأن الله بائن من خلقه، والخلق بائنون منه، لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم، وهو مستو على عرشه في سمائه من دون أرضه" (30) ا هـ.
ونقل ابن القيم عنه قوله في عقيدته: "وإن الله سميع، بصير، عليم، خبير، يتكلم، ويرضى، ويسخط، ويضحك، ويعجب، ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكاً، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف يشاء، فيقول: هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ حتى يطلع الفجر. ونزول الرب تعالى إلى سماء الدنيا بلا كيف، ولا تشبيه، ولا تأويل، فمن أنكر النزول أو تأويل فهو مبتدع ضال، وسائر الصفوة العارفين على هذا.
ثم قال: وإن الله استوى على عرشه بلا كيف، ولا تشبيه، ولا تأويل، فالاستواء معقول، والكيف مجهول، وأنه سبحانه بائن من خلقه، وخلقه بائنون منه، بلا حلول، ولا ممازجة، ولا اختلاط، ولا ملاصقة، لأنه البائن الفرد من الخلق، والواحد الغني عن الخلق..- وقال أيضاً: طريقنا طريق السلف المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة -، وساق ذكر اعتقادهم ثم قال: ومما اعتقدوه أن الله في سمائه دون أرضه وساق بقيته" (31) ا هـ.
شيخ الإسلام الإمام أبو عثمان إسماعيل بن عبدالرحمن الصابوني "449هـ":
زعم المؤلفان (32) أن شيخ الإسلام الصابوني أشعري، مستندين على ما ذكره ابن عساكر في تبيين كذب المفتري حيث قال: "وسمعت الشيخ أبا بكر أحمد بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن بشار البوشنجي المعروف بالخركردي الفقيه الزاهد يحكي عن بعض شيوخه: أن الإمام أبا عثمان إسماعيل بن عبدالرحمن بن أحمد الصابوني النيسابوري، قال: ما كان يخرج إلى مجلس درسه إلا وبيده كتاب (الإبانة) لأبي حسن الأشعري، ويظهر الإعجاب به، ويقول: ماذا الذي ينكر على من هذا الكتاب شرح مذهبه. فهذا قول الإمام أبي عثمان وهو من أعيان أهل الأثر بخراسان" (33) ا هـ.
والاستدلال بمثل هذه الحكاية على أشعرية الصابوني خطأ كبير لأمور:
الأول: أن المخبر بها غير مسمى، فلا يعرف من هو، فكيف يمكن الاعتماد على مثل هذه الحكاية.
الثاني: أنه أمر غير مستغرب، لأن (الإبانة) الذي ألفه الأشعري في آخر عمره، قد مشى فيه على طريقة السلف، ورجع عما كان عليه من طريقة ابن كلاب، وهو ما سيأتي تقريره في الفصل الثالث من الباب الخامس.
فلذلك نقول: إن كانت الأشعرية هي على ما عليه الأشعري في (الإبانة) فحي هلا، وأما إن كانت على ما عليه الأشاعرة المتأخرون فلا وألف لا.
الأمر الثالث: أن الإمام الصابوني قد كتب في بيان المعتقد كتاباً عظيماً أسماه (عقيدة السلف وأصحاب الحديث)، وهو مشهور متداول، فهلا نقل منه المؤلفان ليثبتا أشعريته وموافقته لهما؟!.
فإن كتابه هذا قد أبان فيه المعتقد الصحيح لأهل الحديث أهل السنة والجماعة، وهو الموافق لما في كتاب (الإبانة) لأبي الحسن الأشعري، فلا عجب بعد ذلك أن يثني الإمام الصابوني على (الإبانة).
وقد ذكره ابن المبرد في ضمن من كان مجانباً للأشاعرة فقال: "ومنهم أبو عثمان الصابوني، شيخ الإسلام، كان إماماً مجانباً لهم" (34) .
وأنا أنقل هنا بعض ما ذكره في كتابه حتى تتبين عقيدة الإمام الصابوني:
قال يحكي عقيدة أهل الحديث: "ويثبتون له جل جلاله ما أثبت لنفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يعتقدون تشبيها لصفاته بصفات خلقه، فيقولون: إنه خلق آدم بيده، كما نص سبحانه عليه في قوله – عز من قائل -: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75]، ولا يحرفون الكلام عن مواضعه بحمل اليدين على النعمتين، أو القوتين، تحريف المعتزلة والجهمية، أهلكهم الله، ولا يكيفونهما بكيف أو تشبيههما بأيدي المخلوقين، تشبيه المشبهة، خذلهم الله، وقد أعاذ الله تعالى أهل السنة من التحريف والتكييف، ومنَّ عليهم بالتعريف والتفهيم حتى سلكوا سبل التوحيد والتنزيه، وتركوا القول بالتعطيل والتشبيه، واتبعوا قول الله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11]".
وكذلك يقولون في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن، ووردت بها الأخبار الصحاح من السمع والبصر والعين والوجه والعلم والقوة والقدرة، والعزة والعظمة والإرادة، والمشيئة والقول والكلام، والرضا والسخط والحياة، واليقظة والفرح والضحك وغيرها من تشبيه لشيء من ذلك بصفات المربوبين المخلوقين، بل ينتهون فيها إلى ما قاله الله تعالى، وقاله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من غير زيادة عليه ولا إضافة إليه، ولا تكييف له ولا تشبيه، ولا تحريف ولا تبديل ولا تغيير، ولا إزالة للفظ الخبر عما تعرفه العرب، وتضعه عليه بتأويل منكر، ويجرونه على الظاهر، ويكلون علمه إلى الله تعالى، ويقرون بأن تأويله لا يعلمه إلا الله، كما أخبر الله عن الراسخين في العلم أنهم يقولونه في قوله تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ [آل عمران: 7]" (35) ا هـ.
فانظر كيف حكى معتقد أهل السنة في الصفات، وأنهم يسلكون فيها الإثبات من غير تشبيه، ولا تحريف وتأويل. وأن هذا هو سبيلهم في جميع الصفات، لا يفرقون بين صفات المعاني، ولا غيرها من الصفات، كالوجه، واليدين، والفرح، والضحك.
وقد سبق أن بينت أن قوله: "ويكلون علمه إلى الله تعالى، ويقرون بأن تأويله لا يعلمه إلا الله" يريد به حقيقة ما عليه الصفة، وكيفيتها، بدليل إثباته لها على ظاهرها، ومنعه من التعرض لها بتأويل وغيره، فلو كان اللفظ غير مفهوم، لم يكن إمراره على ظاهره معنى، كيف وقد بين وجوب إمراره بلا تشبيه، ولا تكييف، ونقل إجماع الأمة على علو الله تعالى واستوائه على عرشه بمعنى العلو.
فقال في الاستواء والعلو: "ويعتقد أهل الحديث ويشهدون أن الله سبحانه وتعالى فوق سبع سموات على عرشه كما نطق به كتابه... وعلماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف رحمهم الله لم يختلفوا في أن الله على عرشه، وعرشه فوق سماواته...".
إلى أن قال: "وسمعت الحاكم أبا عبدالله في كتابه (التاريخ) الذي جمعه لأهل نيسابور، وفي كتابه (معرفة الحديث) اللذين جمعهما ولم يسبق إلى مثلهما يقول: سمعت أبا جعفر محمد بن صالح بن هانئ يقول: سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: من لم يقل بأن الله عز وجل على عرشه، فوق سبع سمواته، فهو كافر بربه، حلال الدم، يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وألقي على بعض المزابل حتى لا يتأذى المسلمون ولا المعاهدون بنتن رائحة جيفته، وكان ماله فيئاً لا يرثه أحد من المسلمين، إذ المسلم لا يرث الكافر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم )) رواه البخاري (36) ".
ثم ذكر حديث الجارية ((أين الله؟)) (37) ثم قال: "فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامها وإيمانها لما أقرت بأن ربها في السماء، وعرفت ربها بصفة العلو والفوقية" (38) ا هـ.
وقال: "والفرق بين أهل السنة وبين أهل البدعة أنهم إذا سمعوا خبراً في صفات الرب ردوه أصلاً، ولم يقبلوه أو يسلموا للظاهر، ثم تأولوه بتأويل يقصدون به رفع الخبر من أصله، وإعمال حيل عقولهم وآرائهم فيه، ويعلمون حقاً يقيناً أن ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى ما قاله" (39) ا هـ.
وقال في إثبات النزول لله تعالى: "وثبت أصحاب الحديث نزول الرب سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، من غير تشبيه له بنزول المخلوقين، ولا تمثيل ولا تكييف، بل يثبتون ما أثبته رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينتهون فيه إليه، ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره، ويكلون علمه إلى الله.." (40) ا هـ.
وقال في إثبات الرؤية: "ويشهد أهل السنة أن المؤمنين يرون ربهم تبارك وتعالى بأبصارهم، وينظرون إليه على ما ورد به الخبر الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ((إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر)) (41) , والتشبيه وقع للرؤية بالرؤية، لا للمرئي" (42) ا هـ.
وقال في الإيمان: "ومن مذهب أهل الحديث: أن الإيمان قول وعمل ومعرفة، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية" (43) ا هـ.
وقال في علامات أهل البدع: "وعلامات البدع على أهلها بادية ظاهرة، وأظهر آياتهم وعلاماتهم شدة معاداتهم لحملة أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، واحتقارهم لهم وتسميتهم إياهم حشوية وجهلة وظاهرية" (44) ا هـ.
فهذه بعض تقريراته في المعتقد، والتي تدل على اتباعه لمذهب السلف فيها، واجتنابه مذهب الخلف كالأشعرية وغيرهم.
وقد نقل الصابوني كثيراً عن إمام الأئمة ابن خزيمة في أبواب الاعتقاد، ومعلوم مخالفة ابن خزيمة للكلابية والأشعرية، والتحذير منهم.
فهل ترى بعد هذا يصح نسبة هذا الإمام للأشعرية؟!!
أم هل يرتضي المؤلفان عقيدته هذه؟!!
الإمام محيى السنة أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي الشافعي "516":
عد المؤلفان (45) الإمام البغوي من الأشاعرة، بلا تمحيص ولا تحقيق، ولا نقل من كتبه ومؤلفاته كعادتهم. وهي دعوى يكذبها ما سطره الإمام البغوي في كتبه، كتفسيره المسمى بـ"معالم التنزيل"، وكتابه الماتع العظيم (شرح السنة) والذي قرر فيه معتقد أهل السنة والجماعة، حيث عقد فيه فصلاً للرد على الجهمية الذين تأولون الصفات.
وقد ذكره ابن المبرد في ضمن من كان مجانباً للأشاعرة فقال: "ومنهم الإمام محيى السنة أبو محمد الحسين بن مسعود بن الفراء البغوي، كان مجانباً لهم" (46) .
وأنا أنقل بعض كلامه في المعتقد لتتبين لنا حقيقة دعوى أشعريته:
قال في (شرح السنة): "باب بيان أن الأعمال من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، والرد على المرجئة..." – ثم ساق الآيات والأحاديث الدالة على ذلك ثم قال: "اتفقت الصحابة والتابعون فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان..." – ثم قال: "وقالوا: إن الإيمان قول وعمل وعقيدة، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية على ما نطق به القرآن في الزيادة، وجاء الحديث بالنقصان في وصف النساء...." – إلى أن قال: "واتفقوا على تفاضل أهل الإيمان في الإيمان وتباينهم في درجاته" (47) ا هـ.
وهذا يخالف كما هو معلوم معتقد الأشاعرة من أن الإيمان هو التصديق، وأنه لا يزيد ولا ينقص.
وساق أحاديث الأصابع لله عز وجل ثم قال: "والإصبع المذكورة في الحديث صفة من صفات الله عز وجل، وكذلك كل ما جاء به الكتاب أو السنة من هذا القبيل في صفات الله تعالى، كالنفس، والوجه، واليدين، والعين، والرجل، والإتيان، والمجيء، والنزول إلى السماء الدنيا، والاستواء على العرش، والضحك والفرح..." - ثم ساق الأدلة عليها ثم قال: "فهذه ونظائرها صفات لله تعالى، ورد بها السمع، ويجب الإيمان بها، وإمرارها على ظاهرها، معرضاً عن التأويل، مجتنباً عن التشبيه، معتقداً أن الباري سبحانه وتعالى لا يشبه شيء من صفاته صفات الخلق، كما لا تشبه ذاته ذوات الخلق، قال الله سبحانه وتعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11]، وعلى هذا مضى سلف الأمة، وعلماء السنة، تلقوها جميعاً بالقبول والتسليم، وتجنبوا فيها التمثيل والتأويل، ووكلوا العلم فيها إلى الله عز وجل..." – ثم ساق آثار السلف (48) ا هـ.
وفي باب الرد على الجهمية: ذكر حديث "إنه لفوق سماواته على عرشه، وإنه عليه لهكذا – وأشار وهب بيده – مثل القبة عليه"،، ثم نقل كلام الخطابي وتأويله للحديث الصفة، ثم قال معلقاً: "والواجب فيه وفي أمثاله: الإيمان بما جاء في الحديث، والتسليم، وترك التصرف فيه بالعقل، والله الموفق" (49) ا هـ.
فتأمل إثباته لصفات الله تعالى، وأن الواجب إجراؤها على ظاهرها، مع نفي التشبيه عنها، ومنع التأويل فيها، وتقريره أن إثباتها لله لا يستلزم التشبيه، كإثبات الذات.
وتأمل منعه من الخوض فيها بالعقول تأويلاً، وتحريفاً، بعد أن نقل كلام الخطابي.
وأما قوله: "ووكلوا العلم فيها إلى الله عز وجل"، فالمراد به علم حقيقة ما هي عليه، وكنهها، وكيفيتها، وإلا لم يكن لقوله "وإمرارها على ظاهرها" معنى، فإن الإمرار على الظاهر، هو حملها على ما دل عليه لفظها من المعنى المعروف لغة مع نفي التشبيه، وليس المراد بالظاهر: تنزيلها وكونها في القرآن، إذ لا ينكر هذا أحد ولا يمتري فيه.
ويقال أيضاً: لو كان كذلك لم يقل "إمرارها على ظاهرها" إذ يكون ظاهرها مجهولاً غير معلوم، فكيف يأمر بإمراره.
وقال في تفسيره "معالم التنزيل" في قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء [البقرة: 29]: "ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء، قال ابن عباس وأكثر مفسري السلف: أي ارتفع إلى السماء" (50) ا هـ.
وقال في قوله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ [البقرة: 210]، "والأولى في هذه الآية وما شاكلها أن يؤمن الإنسان بظاهرها، ويكل علمها إلى الله تعالى، ويعتقد أن الله عز اسمه منزه عن سمات الحدث، على ذلك مضت أئمة السلف وعلماء السنة"
وسأل رجل مالك بن أنس عن قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]، كيف استوى؟ فأطرق رأسه ملياً، وعلاه الرحضاء، ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أظنك إلا ضالاً. ثم أمر به فأخرج.
وروي عن سفيان الثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وسفيان بن عيينة، وعبدالله بن المبارك، وغيرهم من علماء السنة في هذه الآيات التي جاءت في الصفات المتشابهة: "أمروها كما جاءت بلا كيف" (52) ا هـ.
وقال في قوله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ [الأنعام: 158]: "أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ بلا كيف، لفصل القضاء بين خلقه في موقف القيامة" (53) ا هـ.
وقال في قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة: 64]: "ويد الله صفة من صفاته كالسمع، والبصر، والوجه، وقال جل ذكره: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كلتا يديه يمين)) (54) ، والله أعلم بصفاته، فعلى العباد فيها الإيمان والتسليم. وقال أئمة السلف من أهل السنة في هذه الصفات: "أمروها كما جاءت بلا كيف" (55) ا هـ.
هذا بعض كلامه في تقرير المعتقد، فوازن بينه وبين معتقد الأشاعرة، لترى البون الشاسع بينهما.
الإمام الحافظ المفسر عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير "774هـ":
ادعى المؤلفان (56) أن الحافظ ابن كثير كان أشعرياً، واستدلا على ذلك بما ورد في (الدرر الكامنة) في ترجمته إبراهيم بن محمد بن قيم الجوزية ما نصه: "ومن نوادره أنه وقع بينه وبين عماد الدين ابن كثير منازعة في تدريس الناس، فقال له ابن كثير: أنت تكرهني لأنني أشعري، فقال له: لو كان من رأسك إلى قدمك شعر ما صدقك الناس في قولك أنك أشعري وشيخك ابن تيمية" (57) ا هـ.
وهذه الحكاية لم يذكر ابن حجر من حدثه بها، هذا أولاً.
وثانياً: أنه على فرض صحتها فإن ظاهرها يبطل هذه الدعوى، لأن إبراهيم بن قيم الجوزية لم يصدقه في ما ذكر من الدعوى، لكون شيخه هو ابن تيمية، وهو المعروف بالرد على الأشاعرة وإبطال معتقداتهم التي خالفوا فيها الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة، وهذا أمر ظاهر، فكيف يكون تلميذ من طال كلامه في الانتصار لمذهب السلف، وأوذي في ذلك حتى اجتمع عليه الأشاعرة وسجنوه مرات عدة، كيف يكون تلميذ هذا أشعرياً، هذا تأباه العادة.
ولذا فإنك تجد ابن كثير لا يذكر شيئاً من كلام ووقائع ابن تيمية في البداية والنهاية إلا ويقول: "قال شيخنا العلامة"، و"كان شيخنا العلامة"، وربما قال: "جهبذ الوقت شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية)، وقال مرة: "سمعت شيخنا تقي الدين ابن تيمية وشيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول كل منهما للآخر: هذا الرجل قرأ مسند الإمام أحمد، وهما يسمعان، فلم يضبط عليه لحنة متفقاً عليها، وناهيك بهذين ثناء على هذا وهما هما". ونحو ذلك مما يدل على تعظيمه له. ومن المستبعد جداً، أن يصفه بهذا الوصف، وهو مخالف له في أعظم الأمور، كأمور المعتقد.
وقد ساق ابن كثير في تاريخه كثيراً من وقائع شيخ الإسلام ابن تيمية مع مخالفيه من الأشاعرة، ومن أشهر ذلك: المناظرات التي جرت بينه وبينهم في عقيدته المسماة بـ"الواسطية".
وانتصر له في "تاريخه" فقال: "أول المجالس الثلاثة لشيخ الإسلام ابن تيمية: وفي يوم الاثنين ثامن رجب حضر القضاة والعلماء وفيهم الشيخ تقي الدين بن تيمية عند نائب السلطنة بالقصر،وقرئت عقيدة الشيخ تقي الدين "الواسطية"، وحصل بحث في أماكن منها، وأخرت مواضع على المجلس الثاني.
فاجتمعوا يوم الجمعة بعد الصلاة ثاني عشر الشهر المذكور وحضر الشيخ صفي الدين الهندي، وتكلم مع الشيخ تقي الدين كلاما كثيراً، ولكن ساقيته لاطمت بحراً،... ثم انفصل الحال على قبول العقيدة، وعاد الشيخ إلى منزله معظماً مكرماً...
وكان الحامل على هذه الاجتماعات كتاب ورد من السلطان في ذلك، كان الباعث على إرساله قاضي المالكية ابن مخلوف، والشيخ نصر المنبجي شيخ الجاشنكير وغيرهما من أعدائه... وكان للشيخ تقي الدين من الفقهاء جماعة يحسدونه لتقدمه عند الدولة، وانفراده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطاعة الناس له، ومحبتهم له، وكثرة أتباعه، وقيامه في الحق، وعلمه وعمله...
ثم عقد المجلس الثالث في يوم سابع شعبان بالقصر، واجتمع جماعة على الرضى بالعقيدة المذكورة... ثم جاء كتاب السلطان في السادس والعشرين من شعبان... وفي الكتاب: إنا كنا سمعنا بعقد مجلس للشيخ تقي الدين بن تيمية، وقد بلغنا ما عقد له من المجالس، وأنه على مذهب السلف وإنما أردنا بذلك براءة ساحته مما نسب إليه" (58) ا هـ.
وقد أطال ابن كثير في ذكر هذه الأحداث منتصراً لشيخه ابن تيمية.
ومعلوم ما في "العقيدة الواسطية" مما يخالف مذهب الأشاعرة في الصفات، والقدر، والقرآن والإيمان، والنبوات، والكرامات، وغير ذلك من أبواب الاعتقاد.
أما التحقيق العلمي في معتقدات الأئمة، فليس بالقصص والحكايات، كما سبق أن ذكرنا، وإنما بالنصوص البينة التي سطروها في كتبهم.
ومن المعلوم أن من أشهر مؤلفات ابن كثير هو "تفسيره"، وقد سطر فيه معتقده واضحاً جليا، ولذلك أعرض المؤلفان عن ذكره إلا في موضع واحد، ولعل ذلك لما علما من إبطاله لدعواهما في أشعريته.
وله رحمه الله باسم "الاعتقاد" أبان فيها عن معتقده فقال ما لفظه: "فإذا نطق الكتاب العزيز ووردت الأخبار الصحيحة بإثبات السمع والبصر والعين والوجه والعلم والقدرة والعظمة والمشيئة والإرادة والقول والكلام والرضا والسخط والحب والبغض والفرح والضحك، وجب اعتقاد حقيقة ذلك من غير تشبيه بشيء من ذلك بصفات المربوبين المخلوقين، والانتهاء إلى ما قاله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من غير إضافة، ولا زيادة عليه، ولا تكييف، ولا تشبيه، ولا تحريف، ولا تبديل، ولا إزالة لفظ عما تعرفه العرب وتصرفه عليه، والإمساك عما سوى ذلك" (59) ا هـ.
وهذا كلام صريح في إثباته لصفات الله تعالى على الحقيقة، ومنعه من تأويلها، أو تغييرها، أو تشبيهها بصفات خلقه. ولم يفرق بين صفة وأخرى.
وأنا أسوق بعض نصوصه في تقرير المعتقد، ليعلم أنه مباين للأشاعرة:
قال في تفسير قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54]: "وأما قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جداً، ليس هذا موضع بسطها، وإنما سلك في هذا المقام مذهب السلف الصلاح: مالك، والأوزاعي، والثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه وغيرهم،من أئمة المسلمين قديماً وحديثاً، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف، ولا تشبيه، ولا تعطيل. والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه، ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11]، بل الأمر كما قال الأئمة – منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري-: "من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله"، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله تعالى، ونفى عن الله تعالى النقائص، فقد سلك سبيل الهدى" (60) ا هـ.
وهذا ظاهر في أنه موافق للسلف في إمرار الصفات كما جاءت من غير تعرض لها بتأويل، ولا تحريف، ومن غير اعتقاد تشبيه ولا تمثيل، وأن إثباتها على ظاهرها لا يستلزم التشبيه، كما نقله عن نعيم بن حماد.
وقال في آخر كلامه: أن سبيل الهدى هو وصف الله بها على الوجه اللائق به. وهذا صريح في بطلان دعوى أشعريته، إذ أن الأشاعرة يتسلطون عليها بالتأويل، ولا يثبتون ظاهرها اللائق بالله، بل يدعون أن ظاهرها يستلزم التشبيه. وقد بين أنها لا تستلزم التشبيه، وأن من فهم منها تشبيه الله بخلقه، وأنها كصفة المخلوق فهو مشبه، ولذلك قال: "والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه". فخص هذا المفهوم السقيم بأنه لا يقع إلا من المشبهين، وهم الذين يفهمون من صفة الله ما هو صفة المخلوق.
ولما ذكر أئمة السنة والقدوة في مسائل الاعتقاد، لم يذكر منهم ابن كلاب والقلانسي والكرابيسي والحارث المحاسبي، ولا الأشعري، ولا أحداً من أصحابه. ويستحيل أن يكون أشعرياً ثم لا يعرج على أبي الحسن الأشعري فيمن يقتدي بهم.
وقال في قوله تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه: 39]: "قال أبو عمران الجويني: تربى بعين الله. وقال قتادة: تغذى على عيني. وقال معمر بن المثنى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي بحيث أرى" (61) ا هـ.
وهذا إثبات العين لله تعالى، ولم يتعرض لها بتأويل ولا تعطيل.
وقال في قوله تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 27]: "وهذه الآية كقوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88]، وقد نعت الله تعالى وجهه الكريم في هذه الآية الكريمة بأنه ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، أي: هو أهل أن يجل فلا يعصى، وأن يطاع فلا يخالف" (62) ا هـ.
فتأمل إثباته لوجه الله تعالى، وأنه موصوف بالجلال والإكرام.
وقال في قوله تعالى: وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22]: "وَجَاء رَبُّكَ، يعني: لفصل القضاء بين خلقه... فيجيء الرب تعالى لفصل القضاء كما يشاء، والملائكة يجيئون بين يديه صفوفاً صفوفاً"
درر
التوقيع

اكثروا قراءة الاخلاص وسبحان الله عدد ما خلق سبحان الله ملء ما خلق سبحان الله عدد ما في الأرض والسماء سبحان الله ملء ما في الأرض والسماء سبحان الله عدد ما أحصى كتابه سبحان الله ملء ما أحصى كتابه سبحان الله ملء ما أحصى كتابه،سبحان الله عدد كل شيء سبحان الله ملء كل شيء الحمد لله مثل ذلك وسبحان الله وبحمده عددخلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته واكثروا الصلاة على النبي واكثروا السجود ليلاونهارا
رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

 

منتديات الحور العين

↑ Grab this Headline Animator

الساعة الآن 07:29 AM.

 


Powered by vBulletin® Version 3.8.4
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
.:: جميع الحقوق محفوظة لـ منتدى الحور العين ::.