عرض مشاركة واحدة
  #40  
قديم 12-16-2008, 08:36 PM
الفاررة الي الله الفاررة الي الله غير متواجد حالياً
قـــلم نــابض
 




افتراضي

أســـــــباب التمكــــــــــين
تمهيد:
إن الأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى التمكين أمر أرشدنا إليه القرآن الكريم، وحثنا على الأخذ بها سيد المرسلين e، وقد أمر الله تعالى بالإعداد الشامل فقال: *وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ" [الأنفال: 60].
والإعداد في حقيقته أخذ بالأسباب.
وأشارت الآية الكريمة إلى الأمر بإعداد:
1- ما استطعتم من قوة. 2- ومن رباط الخيل.
والغاية:
1- ترهبون به عدو الله وعدوكم. 2- وآخرين من دونهم لا تعلمونهم.
وإعداد القوة، لفظ عام يشمل كل قوة، فقوة العقيدة والإيمان قوة، وقوة الصف والتلاحم قوة، وقوة السلاح والساعد قوة. ورباط الخيل إشارة إلى السلاح الثقيل، وإشارة إلى وجوب وجوده في أيدي المسلمين لا تأخذه شراء أو هبة من أحد.
ولا يمنع من الحفاظ على الخيل كجزء من الإعداد الإسلامي، لأنها عند الالتحام أقوى من التحام الأفراد بغير أفراس، وقد أثبتت الحروب الحديثة أهمية الخيل كما حدث للمجاهدين في جبال الأفغان ضد الشيوعيين، وفي جنوب السودان ضد النصارى.
إن الآية الكريمة تضع أذهان المسلمين على الإعداد الشامل، المعنوي والمادي، العلمي والفقهي على مستوى الأفراد والجماعات، وتدخل في طياتها، الإعداد التربوي، والسلوكي، والإعداد المالي، والإعداد الإعلامي، والسياسي والأمني والعسكري... إلخ.
كما أن الآية الكريمة وضحت أن الإعداد يحتاج إلى إنفاق هائل ووعدت بالتعويض في الدنيا والجزاء في الآخرة لتحفز المسلمين وتحثهم على ذلك, قال تعالى: *وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ" [الأنفال: 60].


المبحث الأول سنة الأخذ بالأسباب وإرشاد القرآن للإعداد
أولاً: سنة الأخذ بالأسباب:
إن من أهم السنن الربانية التي ترتبط بعلاقة مباشرة مع سنن التمكين سنة الأخذ بالأسباب، ولذلك يجب على الأفراد والجماعات العاملة للتمكين لدين الله فهمها واستيعابها وإنزالها على أرض الواقع.
قال الإمام الرازي: أصل السبب في اللغة: الحبل، قالوا: ولا يدعي الحبل سببًا حتى ينزل ويصعد به, ومنه قوله تعالى: *فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ..." [الحج: 15]. ثم قيل لكل شيء سبب لأنك بسلوكه تصل الموضع الذي تريده, قال تعالى: *فَأَتْبَعَ سَبَبًا" [الكهف: 85] أي طريقا، وأسباب السموات أبوابها، لأن الوصول إلى السماء يكون بدخولها، قال تعالى مخبرا عن فرعون: *لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ ` أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ" [غافر: 36 - 37] والمودة بين القوم تسمى سببا لأنهم بها يتواصلون. والسبب في اصطلاح الشرع: ما يوصل إلى الشيء ولا يؤثر فيه كالوقت للصلاة([1]).
واستعير السبب لكل ما يتوصل به إلى أمر من الأمور([2])، إن سنة الأخذ بالأسباب مقررة في كتاب الله تعالى، ولقد وجه الله عباده المؤمنين إلى وجوب مراعاة هذه السنة في كل شئونهم الدنيوية والأخروية سواء.
قال تعالى: *وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ" [التوبة: 105]
وقال سبحانه: *هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ" [الملك: 15]..
ولقد أخبرنا القرآن الكريم أن الله تعالى طلب من السيدة مريم أن تباشر
الأسباب وهي في أشد حالات ضعفها, قال تعالى: *وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ
عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا
" [مريم: 25].

وهكذا يؤكد القرآن الكريم على ضرورة مباشرة الأسباب في كل الأمور والأحوال([3]).
«ولقد قدر الله سبحانه وتعالى لدينه أن ينتصر، وللمسلمين أن يُمكنوا، وللمشركين أن ينهزموا، ومع ذلك فهل قال الله تعالى للمسلمين: ما دمت قدرت لكم النصر والتمكين فاقعدوا وانتظروا إنفاذي قدري، وهو لابد نافذ؟ كلا، وإنما قال لهم: *وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ..." [الأنفال: 60] وقال تعالى: *ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ" [محمد: 4].
وقال عز وجل: *إِن تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ" [محمد: 7] فلابد من اتخاذ الأسباب للنصر والتمكين، وإن كان ذلك قدرًا مقدورًا من عند الله([4]).
«وليس الله - سبحانه وتعالى - عاجزا عن نصرة الحق بغير الأدوات البشرية، وهو الذي يقول للشيء كن فيكون، ولكن هكذا اقتضت مشيئته وهكذا تجري سننه»([5]).
ورسول الله e وهو أفضل المتوكلين كان أوعى الناس لهذه السنة الربانية، فكان وهو يؤسس لبناء الدولة الإسلامية يأخذ بكل ما في وسعه من أسباب، ولا يترك شيئا يسير جزافا، والمتتبع للسيرة النبوية يلمس ذلك تماما.. «ففي الهجرة - على سبيل المثال - لم يترك رسول الله أمرا من الأمور إلا أعد له عدته، وحسب له حسابه، ورسم له خطته على نحو يستوعب كل الطاقات والوسائل.
فقد أعد النبي eالرواحل والدليل، واختار الرفيق والمكان الذي سيتوارى فيه - هو وصاحبه - حتى يهدأ الطلب، ويفتر الحماس، وأحاط ذلك كله بما يمكن للبشر من أخذ الحذر، والكتمان، وأسباب الاحتياط، وترك للإرادة الإلهية - بعد ذلك - ما لا حيلة له فيه([6]).
وكذلك الأمر بالنسبة لغزوة بدر، وأحد، والأحزاب... وجميع غزواته
وكل أموره.
وكان eيوجه أصحابه دائما إلى مراعاة هذه السنة الربانية، في أمورهم الدنيوية والأخروية على السواء, ففي أمورهم كان النبي يرشدهم دائما إلى الأخذ بما يمكن من أسباب للوصول إلى حياة كريمة بعيدا عن ذل السؤال ومهانة العوز والحاجة، روى أبو داود والترمذي عن أنس t أن رجلا من الأنصار أتى النبي eفسأله عطاء، فقال الرسول e: أما في بيتك شيء؟ قال: بلى. حلس نلبس بعضه، ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه، قال: ائتني بهما، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله بيده وقال: من يشتري مني هذين؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال رسول الله e: من يزيد على درهم؟ مرتين أو ثلاثا، فقال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه فأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري، وقال له: اشتر بأحدهما طعامًا فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوما فائتني به، فأتاه به، فشد فيه رسول الله eعودًا بيده، ثم قال: اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوما, فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا، وببعضها طعامًا, فقال له رسول الله e: هذا خير لك من أن تجئ المسألة نكتة سوداء في وجهك يوم القيامة([7]).
«وهذا نفس المعنى الذي أشار إليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t حين قال للكسالى القابعين في المسجد ينتظرون الرزق: لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول: «اللهم ارزقني» وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، وإن الله تعالى يقول: *فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ..." [الجمعة: 10].
نعم، لابد من بذل الجهد، لأن الأخذ بالأسباب والكدح للحصول على ما يرغب الإنسان في تحقيقه هو ذاته من سنن الله تعالى...» ([8]).
وكذلك بالنسبة لأمر الآخرة، لابد من الأخذ بالأسباب حتى يصل الإنسان إلى ما يرجو من رحمة الله وجنته، قال تعالى: *وَمَنْ أَرَادَ الآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا" [الإسراء: 19] لقد كان في وجدان الأمة الإسلامية في عصرها الزاهر أن إيمانها بقدرة الله - تعالى - المطلقة، وقضائه وقدره لا يتعارض مع اتخاذ الأسباب.
لقد كانوا يدركون أن لله - تعالى - سننا في هذا الكون وفي حياة البشر غير قابلة للتغيير، ومع أن لله تعالى سننا خارقة تملك أن تصنع كل شيء ولا يعجزها شيء إلا أن الله جلت قدرته قد قضى أن تكون سنته الجارية ثابتة في الحياة الدنيا، وأن تكون سننه الخارقة استثناء لها، وكلتاهما معلقة بمشيئة الله.
لذلك كان في حسهم أنه لابد لهم من مجاراة السنن الجارية إذا رغبوا في الوصول إلى نتيجة معينة في واقع حياتهم، أي أنه لابد من اتخاذ الأسباب المؤدية إلى النتائج بحسب تلك السنن الجارية([9]).
ولقد أصاب المسلمين في أحد ما أصابهم، لأنهم لم يستجمعوا المقدمات التي تنتج النصر ولم يكن المشركون أولى بالله منهم، ولكن هذه سنة الله، فالله - تعالى - قد وضع للنصر أسبابا كثيرة، وأوجب على عباده رعايتها، فمن أبى فلا يلومن إلا نفسه.
وإن تأخر المسلمين اليوم عن القيادة العالمية لشعوب الأرض لم يكن ظلما وقع بهم، بل كان نتيجة طبيعية لقوم نسوا رسالتهم، وحطوا مكانتها، وشابوا معدنها بركام هائل من الأوهام في مجال العلم والعمل على سواء، وأهملوا السنن الربانية, وظنوا أن التمكين قد يكون بالأماني والأحلام، ولكن هيهات، بل هذا من صميم العدل الإلهي([10]), قال تعالى: *ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ" [آل عمران: 182].
ولكن إذا كان هذا عقاب الله للمؤمنين الذين عصوه، فما بال الكافرين الذين جحدوه سبحانه بالمرة، ومع ذلك فإنهم متمكنون في الأرض - من الناحية المادية غاية التمكين؟
إن هؤلاء الكفار لم يبلغوا ما بلغوه لأنهم أقرب من الله أو أرضى له، ولم يبلغوا ما بلغوا بسحر أو بمعجزة أو لأنهم خلق آخر متميز، ولم يقيموا الصناعات أو يجوبوا البحار، أو يخترقوا أجواء الفضاء لأن عقيدتهم حق، أو لأن فكرهم سليم، إنهم بلغوا ذلك لأن السبيل إلى هذا التقدم درب مفتوح لجميع خلق الله مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم, قال تعالى: *مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ" [هود: 15].
إن الله - سبحانه وتعالى - جعل التمكين في الحياة يمضي بالجهد البشري، وبالطاقة البشرية على سنن ربانية ثابتة، وقوانين لا تتبدل ولا تتحول، فمن يقدم الجهد الصادق ويخضع لسنن الحياة يصل على قدر جهده وبذله وعلى قدر سعيه وعطائه.
إنها السنة التي أرادها الله في هذه الحياة، إنها مشيئته وسننه وإرادته([11]).
ب- التوكل على الله والأخذ بالأسباب:
التوكل على الله - سبحانه وتعالى - لا يمنع من الأخذ بالأسباب، فالمؤمن يتخذ الأسباب من باب الإيمان بالله وطاعته فيما أمر به من اتخاذها، ولكنه لا يجعل الأسباب التي تنشئ النتائج فيتوكل عليها([12]).
ولقد أرشدنا النبي eفي أحاديث كثيرة ضرورة الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله تعالى، كما نبه - عليه السلام - على عدم تعارضها.
1- عن أنس بن مالك t قال: جاء رجل إلى النبي eعلى ناقة له، فقال: يا رسول الله أدعها وأتوكل؟ فقال: (اعقلها وتوكل) ([13]).
وهذا الحديث أصل في التوكل وفيه الأمر باتخاذ الأسباب والاحتراز مع
الأمر بالتوكل([14]).
2- وعن عمر بن الخطاب t عن النبي eقال: «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا، وتعود بطانا»([15]).
وفي هذا الحديث الشريف حث على التوكل على الله مع الإشارة إلى أهمية الأخذ بالأسباب حيث أثبت الغدو والرواح للطير مع ضمان الله تعالى الرزق لها([16]).
إن العمل بسنة الأخذ بالأسباب من صميم تحقيق العبودية لله تعالى، وهو الأمر الذي خلق له العبيد، وأرسلت به الرسل، وأنزلت لأجله الكتب، وبه قامت السموات والأرض، وله وجدت الجنة والنار، فالقيام بالأسباب المأمور بها محض العبودية([17]).
إن القرآن الكريم أرشدنا إلى الأخذ بالأسباب وأرشدنا ألا نعتمد عليها وحدها وإنما نتوكل على الله مع الأخذ بها, وعلى المسلم أن يتقي في باب الأسباب أمرين:
1- الاعتماد عليها، والتوكل عليها، والثقة بها ورجاؤها وخوفها, فهذا شرك يرق ويغلظ، وبين ذلك.
2- ترك ما أمر الله به من الأسباب، هذا أيضا قد يكون كفرا وظلما وبين ذلك, بل على العبد أن يفعل ما أمره الله به من الأمر، ويتوكل على الله توكل من يعتقد أن الأمر كله بمشيئة الله، سبق بها علمه، وحكمه، وأن السبب لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع, ولا يقضي ولا يحكم، ولا يحصل للعبد ما لا تسبق له به المشيئة الإلهية ولا يصرف عنه ما سبق به الحكم والعلم، فيأتي بالأسباب إتيان من لا يرى النجاة والفرح والوصول إلا بها، ويتوكل على الله توكل من يرى أنها لا تنجيه ولا تحصل له فلاحا ولا توصله إلى المقصود، فيجرد عزمه للقيام بها حرصا واجتهادًا, ويضرع قلبه من الاعتماد عليها والركون إليها تجريدا للتوكل واعتمادا على الله وحده([18]). وقد جمع النبي بين هذين الأصلين في الحديث الصحيح، حيث يقول: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله
ولا تعجز...»
([19]).
فأمره بالحرص على الأسباب والاستعانة بالمسبب ونهاه عن العجز وهو نوعان:
1- تقصير في الأسباب وعدم الحرص عليها.
2- وتقصير في الاستعانة بالله وترك تجريدها.
فالدين كله ظاهره وباطنه، وشرائعه وحقائقه تحت هذه الكلمات النبوية([20]).
إن استيعاب وفهم سنة الأخذ بالأسباب لأفراد الأمة الإسلامية وجماعتها من ضروريات فقه التمكين لهذا الدين.
ثانيًا: إرشاد القرآن للإعداد:
إن أمر التمكين لهذا الدين يحتاج إلى جميع أنواع القوى، على اختلافها وتنوعها، ولذلك اهتم القرآن الكريم اهتماما كبيرا في إرشاد الأمة للأخذ بأسباب القوة وأوجب الله تعالى على الأمة الأخذ بأسبابها، لأن التمكين لهذا الدين طريقه الوصول إلى القوى بمفهومها الشامل، وقد قال الأصوليون: «وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»([21]).
إن القرآن الكريم أوجب على أتباعه إعداد القوة بصورة واضحة, قال تعالى:*وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ"[الأنفال: 60].
شرح الآية الكريمة:
الإعداد: تهيئة الشيء للمستقبل([22]). والضمير في «لهم» راجع إلى الكفار.
وقوله: *مَّا اسْتَطَعْتُم" قال ابن كثير: أي مهما أمكنكم([23])، وهذا التعبير القرآني يشير إلى أقصى حدود الطاقة، بحيث لا تقعد العصبة المسلمة عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتها([24]).
والمراد بالقوة هنا: ما يكون سببا لحصول القوة، وذكر الفخر الرازي فيه وجوها:
1- المراد من القوة أنواع الأسلحة.
2- ورد أن النبي eقرأ الآية الكريمة على المنبر وقال: «ألا إن القوة الرمي» قالها ثلاثا([25]).
3- قال بعضهم: القوة هي الحصون.
4- قال أصحاب المعاني: الأولى أن يقال: هذا عام في كل ما يتقوى به على
حرب العدو، وكل ما هو آلة للغزو والجهاد، فهو من جملة القوة، وقوله عليه السلام: «القوة الرمي» لا ينفي كون غير الرمي معتبرا كما أن قوله:
«الحج عرفة»([26]). وقوله: «الدين النصيحة»([27]) لا ينفي اعتبار غيره، بل يدل على أن هذا المذكور جزء شريف من المقصود وكذا هنا([28]).
كما يساعد على هذا الفهم مجيء كلمة «قوة» هنا نكرة لا معرفة, فهي تشمل كل سلاح معروف أو سيعرف مع الزمن المتجدد فهي تتسع لإعداد الطائرات والصواريخ والدبابات.. وكل الأسلحة التي لها التأثير الحاسم في المعركة([29]).
ومعنى «رباط الخيل» قال النسفي: هي اسم للخيل التي ترابط في سبيل الله تعالى([30])، وقال صاحب تفسير المنار: الرباط في أصل اللغة: الحبل الذي يربط به الدابة،
ورباط الخيل: حبسها واقتناؤها([31]), ومعنى *تُرْهِبُونَ بِهِ" أي: تخزون، كما قال الطبري([32])، وقال ابن كثير: تخوفون به([33])، وقال الشيخ المراغي: الرهبة: هي الخوف
المقترن بالاضطراب([34]).
ومعنى *وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ" قال الطبري: هم كل عدو للمسلمين غير الذي أمر النبي ؛ أن يشرد بهم من خلفه([35])، وذكر الفخر الرازي فيه وجوها ثم قال: وأصح ما قيل في المقصود منهم: «أنهم المنافقون»([36]).
ذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة ما لأجله أمر بإعداد هذه الأشياء, فقال جل شأنه: *تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ..." ذلك أن الكفار إذا علموا كون المسلمين متأهبين للجهاد ومستعدين له ومستكملين لجميع الأسلحة والآلات خافوهم وذلك الخوف يفيد أمورًا كثيرة:
1- أنهم لا يتجرءون على دخول دار الإسلام.
2- أنهم إذا اشتد خوفهم فربما التزموا من عند أنفسهم دفع الجزية.
3- أنه ربما صار ذلك داعيا إلى الإيمان لما يرون من قوة أهله وعزته.
4- أنهم لا يعينون سائر الكفار.
5- أن يصير ذلك سببا لمزيد الزينة في دار الإسلام([37]).
ويقول صاحب الظلال: الإسلام يأمر بأعداد القوة على اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها، فلابد للإسلام من قوة ينطلق بها في الأرض لتحرير الإنسان.
وأهمية القوة بالنسبة للدعوة الإسلامية تتلخص في أمور:
الأمر الأول: أن تؤمِّن الذين يختارون هذه العقيدة على حريتهم في اختيارها فلا يُصدون عنها، ولا يفتنون كذلك بعد اعتناقها.
الأمر الثاني: أن ترهب هذه القوة أعداء الإسلام، فلا يفكروا في الاعتداء على حرمات الإسلام.
الأمر الثالث: أن يبلغ الرعب بهؤلاء الأعداء ألا يفكروا في الوقوف في وجه الدين الإسلامي وهو ينطلق لتبليغ كلمة الله إلى الإنسان في كل الأرض.
الأمر الرابع: أن تحطم هذه القوة كل قوة في الأرض تتخذ لنفسها صفة «الألوهية» من دون الله رب العالمين([38]).
وبما أن الأمة الإسلامية أمة مجاهدة، فلابد أن تكون هذه الأمة قوية حتى تستطيع أن تنهض بهذه الرسالة التي أنيطت بها، ولذلك حث النبي eالمؤمنين أن يكونوا أقوياء، وعلى أن يحصلوا كل أسباب القوة، فقال : «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف»([39]).
وما أحوج المسلمين اليوم إلى أن يحصلوا كل أسباب القوة، فهم يواجهون نظاما عالميا وقوى دولية لا تعرف إلا لغة القوة, فعليهم أن يقرعوا الحديد بالحديد، ويقابلوا الريح بالإعصار، ويقاتلوا الكفر وأهله بكل ما يقدرون عليه، وبكل ما امتدت إليه يدهم وبكل ما اكتشف الإنسان ووصل إليه العلم في ذلك العصر من سلاح وعتاد واستعداد حربي، لا يقصرون في ذلك ولا يعجزون([40]).
إن هذا الإعداد الشامل من أجل تمكين الله يدخل تحت مسمى الجهاد والذي بدونه يستحال التمكين لشرع الله وإقامة دولة تحكم بمنهج الله، يقول الشيخ محمد الغزالي: «إن التغيير الإسلامي الذي تنشده الأمة الإسلامية لا يمكن تحقيقه من غير جهاد، وبدون صياغة جيل مجاهد، فالمهمة التغييرية مهمة شاقة، فالقوى الظاهرة والخفية القابضة على الزمام في عالمنا قوى شريرة، وقد هيأها أعداء لهذا الدور من زمن بعيد، وهي تعمل ليل نهار على خفت صوت الإسلام بشتى الطرق والوسائل, وإزالة هذه القوى، وإقامة الإسلام مكانها ليس بالأمر السهل، فهي ستتشبث بمواقعها حتى النفس الأخير وذلك يحتاج أولا وقبل كل شيء إلى تربية جهادية تخرج أنماطا من المجاهدين، يحبون الموت كما يحب الناس الحياة، ويعيشون همَّ الإسلام وقضاياه ليلهم ونهارهم. لابد من بناء قاعدة صلبة متينة تستطيع أن تصمد في هذا الصراع الجبار, وتقف في وجه المؤامرات، وتجاهد في كل المجالات والجبهات، وتدفع ثمن التمكين لدين الله في الأرض من زهرة
أبنائها الشهداء([41]).
«إن الواجب على الأمة الإسلامية اليوم لتنهض وتتقدم وتترقى في مصاعد المجد أن تجاهد -بمالها ونفسها- الجهاد الذي أمرها الله به في القرآن الكريم مرارا عديدة، فالجهاد بالمال والنفس هو العلم الأعلى الذي يهتف بالعلوم كلها، فإذا تعلمت الأمة هذا العلم وعملت به دانت لها سائر العلوم والمعارف»([42]).



([1]) انظر: مفاتيح الغيب (2/626).

([2]) انظر: مفردات القرآن كتاب السين، ص220، المعجم الوسيط، ص426.

([3]) انظر: التمكين للأمة الإسلامية في ضوء القرآن لمحمد سيد، ص248.

([4]) مفاهيم ينبغي أن تصحح لمحمد قطب، ص262، 263 بتصرف يسير.

([5]) حول التفسير الإسلامي للتاريخ محمد قطب، ص104.

([6]) أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة المقبلة, د. القرضاوي، ص17، 18.

([7]) رواه أبو داود، كتاب الزكاة، باب: ما تجوز فيه المسألة (2/120).

([8]) حول تفسير التاريخ الإسلامي، ص89.

([9]) انظر: مفاهيم ينبغي أن تصحح، ص262، 263.

([10]) انظر: الغزو الثقافي يمتد من فراغنا للغزالي، ص147: 150.

([11]) انظر: التمكين للأمة الإسلامية، ص252.

([12]) المصدر نفسه: ص253.

([13]) رواه الترمذي في صفة القيامة باب (60) (4/668) رقم 537.

([14]) انظر: التوكل على الله تعالى وعلاقته بالأسباب، د. عبد الله الدميجي، ص179.

([15]) الترمذي، كتاب الزهد، باب التوكل على الله (4/573) رقم 2344، حسن صحيح.

([16]) انظر: التمكين للأمة الإسلامية، ص254.

([17]) انظر: مدارج السالكين (2/130).

([18]) مدارج السالكين (3/501).

([19]) مسلم: كتاب القدر باب الأمر بالقوة (4/2052) رقم 2664.

([20]) انظر: مدارج السالكين (3/501).

([21]) في ظلال القرآن (2/919) تفسير آية 54 من سورة المائدة.

([22]) تفسير المنار (5/53).

([23]) تفسير القرآن العظيم (2/122).

([24]) في ظلال القرآن (2/1553).

([25]) مسلم مع شرح النووي، كتاب الجهاد، باب: فضل الرمي (13/64).

([26]،3) مسلم، كتاب الإيمان، باب: إن الدين النصيحة (1/74).




([28]) تفسير المنار (5/53).

([29]) انظر: التمكين للأمة الإسلامية، ص89.

([30]) انظر: تفسير النسفي.

([31]) تفسير المنار (10/16).

([32]) تفسير الطبري (6/22)

([33]) تفسير ابن كثير (2/322)

([34]) تفسير المراغي (4/23)

([35]) تفسير الطبري (6/22)

([36]) مفاتيح الغيب (7/533).

([37]) المصدر نفسه (7/324) وما بعدها.

([38]) في ظلال القرآن (3/3154) مع تصرف.

([39]) مسلم مع شرح النووي كتاب 6، (16/ 215)

([40]) انظر: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ لأبي الحسن الندوي، ص225.

([41]) ركائز الإيمان بين العقل والقلب، ص75 بتصرف.

([42]) انظر: لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ الأمير شكيب أرسلان، ص164.





رد مع اقتباس