الكُسَعِيّ وقوْسُه:
الكُسَعِيُّ رجلٌ منسوبٌ إلى كُسع، قبيلةٌ باليمَن، واسْمُه محاربُ بنُ قَيْس، وبندامته يُضرَب المثل، يُقال: أنْدَمُ مِنْ الكُسَعِي.
ومن حديثه أنه كان يرعى إبِلا بوادٍ كثير العشب والخمْط، فبينما هو يرعاها بَصُرَ بِنَبْعَةٍ على صخرة، فقال: ينبغي أن تكون هذه قوسا، فجعل يتعهّدها ويُقوِّمها حتى أدركت، فقطعها، فلما جفّت اتّخذ منها قوسا، وأنشأ يقول:
يا ربِّ وفِّقنـي لنَحْتِ قوسي * فإنهـا مِـن لذّتي لنفسـي
وانفعْ بِقوسي وَلَدي وعِرْسـي * أنْحِتها صفراءَ مثل الورسِ
* صلْداءَ ليستْ كقسيِّ النُّكْسِ *
ثم دهنها وخطمها بوتر، واتَّخذ مِنْ بُرايتها خمسة أسهم، وجعل يقلِّبها في كفِّه ويُنشد:
هُنَّ وربِّي أسْهُمٌ حِسانُ * يلذ للرَّامِي بها البـَنـانُ
كأنّما قوَّمها ميـزانُ * فأبشروا بالخصب يا صِبيانُ
* إن لم يعقني الشؤمُ والحِرمانُ *
ثم أتى قُتَرَة على موارد حُمُر، فكَمَنَ فيها، فمرَّ به قطيع، فرمى عَيْرًا منها بسهم، فأنفذه وجازه وأصاب الجبل، فأَوْرَى (أشعل) نارا، فظن أنه أخطأه، فأنشد يقول:
أعوذ بالله العزيز الرحـمـانْ * مِن نكَد الجد معا والحِـرمانْ
ما لي رأيت السهم بين الصوّانْ * يُورِي شَرارا مثل لوْن العِقيان
* فأخلف اليوم رجاء الصبيان *
ثم مر به قطيع آخر، فرمى عَيْرا فأنفذه السهم فصنع صنيعه الأول، فأنشأ يقول:
لا بارك الرحمان في رمي القتر * أعوذ بالخالق من شر القدرْ
أأمخط السهم لإرهاق الضرر * أم ذاك من سوء احتيال ونظرْ
* أم ليس يغني حذر عنه قدر *
ثم مر به قطيع آخر فرمى عيرا، فأمخطه السهم، فصنع صنيعه الأول فأنشأ يقول:
ما بال سهمي يوقد الحُباحِبا * قد كنت أرجو أن يكون صائبا
فأخطأ العيْـرَ وولَّى جانبـا * فصـار رأيي فيه رأيا ختائبـا
ثم مر به قطيع آخر فرمى عيرا بسهم فأمخطه السهم وصنع ما صنع أولا فأنشأ يقول:
يا أسفـا والجـد النكـد * في قوس صدق لم تزين بأود
أخلف ما أرجو لأهل وولد * فيها ولم يغن الحذار والجلد
* فخاب ظن الأهل جمعا والولد *
ثم مر قطيع آخر فرمى عيرا بسهم فأمخطه السهم وصنع كما صنع أولا فأنشأ يقول:
أبَعد خمسٍ قد حفظت عدَّها * أحمِل قوسي وأريد ردَّها
أخزى الإله لينها وشـدَّها * والله لا تسلم منّي بعـدها
* ولا أرجِّي ما حيِيتُ رِفْدَها *
ثم أخذ القوس فكسرها على حجر وبات، فلما أصبح أبصر الأعيار الخمسة مطروحة حوله، فأسف وندم على كسر القوس، وعضّ على إبهامه فقطعها تلهّفًا، وأنشأ يقول:
ندمت ندامة لو أن نفسي * تطاوعني إذا لـقـطعت خمسي
تبيّن لي سفاه الرأي مني * لعمر أبيك حين كسرت قوسي
وبالكسعي يتمثل الفرزدق حين يقول:
ندِمت ندامة الكسعي لما * غدتْ منِّي مطلّقة نوارُ
وكانت جنتي فخرجت منها * كآدمَ حين أخرجه الضِّـرارُ
ولو أني ملكت يدي ونفسي * لأصبح لي على القدر اختيارُ
وكنت كفاقئ عينيه عمدا * فأصبح ما يضيء له نهارُ
[شرح مقامات الحريري للشريشي:1/258]