عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 03-31-2011, 02:43 AM
أم كريم أم كريم غير متواجد حالياً
قـــلم نــابض
 




افتراضي

هل يُحَكَّم العُرف؟

السؤال:

الشيخ/ علي ونيس، والله ما سمعتُ باسمك قط، ولا رأيتُ لك صورةً في صحيفة، أو موقعًا على الشبكة العنكبوتية، إلاَّ من خلال هذا الموقع المبارك، ولكن أقول: سبحان مَن قَذَف حبَّك في قلبي! وأشهد الله أنِّي أحبك فيه.

السؤال: هل يُحكَّم العُرف في الشرع؟ ولتفصيلٍ أكثر أقول: هل الأصل هو العُرف أو الشرع؟

ألا ترون أن في الاحتكام للعرف نوعًا مِن تجميد الأعراف والثبات عليها؟ بل حتَّى إن الأعراف أُعْطيتْ صِبْغة إسلامية؛ بل حتَّى إن الأذهان - وللأسف - تتعامَل مع مُخَالَفة هذه الأعراف بسلبيَّة، ولتوضيح ما أقصد، لكَ أن تسأل أحدًا مِن بلد تحرم فيه قيادة السيارة للمرأة، ما توقُّعاتك للوضْع الاجتماعي، لو قادت المرأة السيارة؟

فالأغلبيَّة الغالبة ستقول لك: فساد، سيكثر الشر، ومن هذا القبيل.

شخصيًّا أَتَمَنَّى ألاَّ يَقُدْنَ السيارة، حتى يحسن مستوى الظن لدى الشعب تجاه هذا الموضوع.

باختصار، قل لي ما تظن تجاه أمرٍ معين، أَقُلْ لك ما هي النتائج المتوقعة، والنَّظْرة سلبية تجاه هذا الموضوع.

كثيرة هي الأعراف التي ثبتنا عليها، وأُعْطِيت صبغة إسلامية، فالسؤال: إلى أيِّ حدٍّ يُمكِن الاعتماد على العُرف كحُكْمٍ بين الناس؟ وهل للحاكم أوِ العالِم أن يُحرِّم أمرًا تحريمًا نهائيًّا، وليس مؤقَّتًا، ويتعامل معه على أنه أحد الثوابت التي يجب ألا يُحاد عنها، خصوصًا في أمر مباح كقيادة المرأة؟

أعلم أني تشعبت كثيرًا في سؤالي هذا، و لكن كلِّي ثقة أنك بالحكمة التي عهدتها عليك بأنك ستجمع شتات هذه الأفكار، وتصوغ لي الإجابة التي ترويني.

هذا السؤال طرحته؛ لأن لي نيَّة - إن شاء الله - لطرح موضوع في أحد المنتديات بخصوص هذا الشأن، و لأني لا أُريد أن أَكتب ما لم أفهمه أو يتضح لي؛ لأن هناك مُشكلة في فكرتين أراهما تتفشيان عند كثير من الناس:

- الفكرة الأولى: التحريم المطلق لكل ما هو مُعتاد عليه، حتى وإن كان حلالاً؛ بل اعتُبر من ضمن الثوابت للأسف!

- الفكرة الثانية: ضرب بالعادات والتقاليد عُرْض الحائط، والنظر إلى الأشياء على أنها مباحة، دون النظر إلى الآثار الاجتماعية المترتبة على مثل هذا الشيء.
رعاك الرحمن.


الجواب:

الحمد لله، والصلاة السلام على رسول الله، وبعد:
فجزاك الله خيرًا على هذا الثناء الذي لا أستحق شيئًا منه، وبارك الله فيك، وزادك حرصًا على الخير، وأحبَّك الله الذي أحببتنا له، وجمعنا بك يوم القيامة مع المتحابين فيه.

سؤالك - أخي الحبيب - يبلغ درجة كبيرة من الأهمية؛ إذ العرف غير ثابت بمرور الزمان وتعاقب الدهور والأيام، وقد تعلَّقت به كثير من الأحكام وجودًا وعدمًا، وحتى يتبين لك الأمر في كل ما سألتَ عنه؛ سأذكر لك ملخصَ قاعدة العرف، وبها يتضح لك المقام:

العُرْف – لغةً -: كلُّ ما تعرفه النَّفْس منَ الخير وتطمئن إليه، وهو ضِدُّ النُّكر، والعُرف والمعروف: الجود[1].

والعُرْف – اصطلاحًا -: ما استَقَرَّتِ النفوس عليه بشهادة العقول، وتَلَقَّتْه الطبائع بالقَبول[2].


والمعتبر هنا هو التعريف الاصطلاحي، فكل ما اعتاده الناس وألِفُوه، حتى صار جزءًا من حياتهم لا يمكنهم الاستغناء عنه، بحيث يتبادر إلى الفهم عند الإطلاق، فهو العرف الذي يجب اعتماده والتعويل عليه.

وقد دل على اعتبار العرف عدةُ أدلة، منها ما روته أمُّنا عائشةُ - رضي الله عنها -: "أن هند بنت عتبة، قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجلٌ شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي، إلاَّ ما أخذتُ منه وهو لا يعلم"، فقال: ((خُذِي ما يكفيكِ وولدكِ بالمعروف))[3].


قال ابن تيميَّة: "والصَّحيح الذي يدلُّ عليه أكثرُ نصوصِ أحمد، وعليه أكثرُ السلَفِ: أنَّ ما يوجبه العقد لكلِّ واحد منَ الزَّوجينِ على الآخر، كالنَّفَقَة والاستمتاع، والمثبت للمرأة، وكالاستمتاع للزوج - ليس بمُقَدَّر؛ بلِ المرجع في ذلك إلى العُرْف؛ كما دَلَّ عليه الكتاب في مثل قوله – تعالى -: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]، وفي مثل قوله - - لهند: ((خُذي ما يكفيكِ وولدكِ بالمعروف))، فإذا تنازَعَ الزوجانِ فيه، فرَضَ الحاكمُ ذلك باجتهادِه، كما فرضتِ الصحابةُ مقدار الوَطْء للزوج بمرَّات متعدِّدة، ومن قدَّر من أصحاب أحمد الوطء المستَحَق، فهو كتقدير الشافعي النَّفقة؛ إذ كلاهما مما تحتاجُه المرأة، ويوجبه العقد، وتقدير ذلك ضعيفٌ عند عامة الفقهاء، بعيدٌ عن معاني الكتاب والسُّنَّة والاعتبار، والشافعي - رضي الله عنه - إنما قَدَّره طردًا للقاعدة التي ذَكَرْناها عنه مِن نَفْيِه للجَهَالة في جميع العقود؛ قياسًا على المنْع من بيع الغَرَر، فجَعَل النفقة المستحقة بِعَقْد النكاح مقدرة طردًا كذلك"[4] اهـ.


قال أبو بكر بن العربي: "إنَّ الإنفاق ليس له تقديرٌ شرعي، وإنما أحالَهُ الله - تعالى - على العادَةِ، وهي دليل أصوليٌّ، بَنَى الله - تعالى - عليه الأحكامَ، وربط به الحلال والحرام"[5]اهـ.


وقال ابن قُدَامة: "والصحيح: ردُّ الحقوق المطْلَقة في الشرع إلى العُرف فيما بين الناس في نفقاتِهم، في حقِّ المُوسِرِ والمُعْسِر والمتوَسِّط، كما رددناهُمْ في الكِسْوَةِ إلى ذلك"[6]. اهـ.

وقد درج الفقهاءُ قاطبةً على بناء كثيرٍ منَ الأحكام على العُرف، فضلاً عن ذِكرهم ذلك على سبيل القاعدة المُطَّرِدة.

قال ابن عابدين: "النَّصُّ معلول بالعُرْف، فيكون هو المعتبَر في أيِّ زمان كان"[7] اهـ.

وعن مالك: أنَّه خَصَّص قوله – تعالى -: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [البقرة: 233] بالعرف، قائلاً: "إنَّ المرأة الشريفة لا ترضع؛ بناءً على العرف، وهو يوجب الرضاع على غيرها"[8].


وقال الرَّافعي: "الشافعي يتبع مقتضى اللغة تارةً، وذلك عند ظُهُورها وشمولها، وهو الأصل، وتارةً يتبع العُرف إذا استمَرَّ واطرد، وقال ابن عبدالسلام: قاعدة الأَيْمان: البناء على العرف إذا لم يضطرب، فإن اضطرب فالرُّجُوع إلى اللغة"[9].


والإمام أحمد يرى أنَّ الجائحة تحدَّد بالعُرف؛ إذ ليس لها قدرٌ معلومٌ في الشرع، قال ابنُ قدامة: "الفصل الثالث: أنَّ ظاهر المذهب أنه لا فَرْق بين قليل الجائحة وكثيرها؛ إلاَّ أن ما جرتِ العادة بتلف مثله - كالشيء اليَسِير الذي لا ينضبط - فلا يُلتَفتُ إليه، قال أحمد: إنِّي لا أقول في عشر ثمرات ولا عشرين ثمرة، ولا أدري ما الثُّلث؛ ولكن إذا كانتْ جائحة تُعْرَف؛ الثُّلث، أو الربع، أو الخمس - تُوضَع"[10] اهـ.


ولهذه القاعدة أهمية بالغة، فهي من أعظم الدلائل على السَّعَة والمُرُونة في الشريعة الإسلامية، وقد عَقَد لها الإمامُ ابن القيِّم فصلاً بقوله: "فصل في تغيُّر الفتوى بحسب الأمكِنة والأزمنة والأحوال والنيَّات والعوائد"، ثم قال: "هذا فصل عظيمُ النفع جدًّا، وقع بسبب الجهل به غَلَطٌ عظيمٌ على الشريعة، أوجب منَ الحَرَج، والمشَقَّة، وتكليف ما لا سبيل إليه - ما يُعْلَم أنَّ الشريعة الباهِرَة التي في أعلى رُتَب المصالح لا تأتي به؛ فإنَّ الشريعةَ مبناها وأساسُها على الحِكَم ومصالح العِباد في المعاش والمعاد، وهي عدْلٌ كلُّها، ورحمةٌ كلُّها، ومصالحُ كلُّها، وحكمة كلها، فكلُّ مسألة خرجتْ عنِ العدل إلى الجَوْر، وعنِ الرحمة إلى ضِدِّها، وعنِ المصلحة إلى المفْسَدة، وعنِ الحكمة إلى العَبَث، فليستْ منَ الشريعة، وإنْ أُدخِلَتْ فيها بالتأويل، فالشريعةُ عَدْل الله بين عبادِه، ورحمته بين خلْقِه، وظِلُّه في أرْضِه، وحِكْمتُه الدَّالَّة عليه وعلى صِدق رسوله - "[11].

وليس كل عرف يعمُّ في الناس يجب العمل بمقتضاه؛ بل وضع العلماء للعمل بالعرف شروطًا، منها:
الأول: ألاَّ يكونَ في العرف تعطيلٌ لنصٍّ ثابت، أو لأصلٍ قطعي في الشريعة[12].


الثاني: أن يكونَ العُرف قائمًا وقت التَّصرُّف، ولا يُعتبر العُرف المتأخر في التَّصرُّفات السابقة، فإذا طرأ عرف جديدٌ بعد اعتبار العُرف السائد عند صدور الفعل أو القول، فلا يعتبر هذا العرف[13].
قال السيوطي: العُرف الذي تُحمَل عليه الألفاظ إنما هو المقارن السابق دون المتأخِّر"[14]. اهـ.


الثالث: ألاَّ يُعارَضَ العُرف بتصريح بخلافه، فلو استأجر شخصٌ أجيرًا للعمل منَ الظُّهر إلى العصر فقط، ليس له أن يلزمه بالعمل منَ الصباح إلى المساء؛ بحجَّة أنَّ عُرف البلدة هكذا؛ لأنَّ نص الاتِّفاق على خلاف العرف، فلا اعتبار بالعُرف.


الرابع: أن يكونَ العرفُ مطَّردًا غالبًا؛ أي: استمر العمل به من غير تخلُّف في الحوادث، ومعنى غلبته: أن يكونَ شائعًا بين أهله في أكثر الحوادث.
قال السيوطي: "إنما تعتبر العادةُ إذا اطَّردتْ، فإنِ اضطربتْ، فلا، وإنْ تعارضتِ الظنون في اعتبارها، فخلاف"[15].


وللعرف أقسام كثيرة باعتبارات متعددة، فمنه العرف الصحيح، والعرف الفاسد:
أما الصحيح، فهو ما تعارفه الناس، وليس فيه مخالَفة لنصٍّ شرعي، ولا تفويت لمصلحة، ولا جلب لمفسدة، كتعارُفِهم تقديمَ الهدايا منَ الخطيب لخطيبته، وعدم اعتبارها من المهر.

وأما الفاسد، ما خالف بعض أدِلَّة الشرع، أو بعض قواعده، كتعارُفِهم على بعض العقود الرِّبَوِية، ومنكرات الأفراح، ونحو ذلك[16].

هذا أحد أقسام العرف بهذا الاعتبار، ومن أقسامه أيضًا: العام والخاص، والقولي والعملي، والثابت والمتبدِّل.

ولتغير الأحكام بتغير العرف مجالات لا يتعداها، فما كان متبدِّلاً في العادة من حُسْنٍ إلى قُبح، وبالعكس، مثل: كشف الرأس للرجل، فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع، فهو لِذَوِي المروءات قبيحٌ في البلاد المشرقيَّة، وغير قبيح في البلاد المغربية، فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك، فيكون عند أهل المشرق قادِحًا في العدالة، وعند أهل المغرب غير قادحٍ.

وما كان ثابتًا أبدًا كسائر الأمور الشرعيَّة، كما قالوا في سلْب العبد أهليَّةَ الشهادة، وفي الأمر بإزالة النجاسات، وطهارة التأهُّب للمناجاة، وستر العورات، والنَّهْي عنِ الطواف بالبيت على العري، وما أشبه ذلك منَ العوائد الجارية في الناس، إمَّا حسنة عند الشارع، وإما قبيحة، فإنها من جملة الأمور الداخلة تحت أحكام الشرع، فلا تبديل لها، وإنِ اختلفتْ آراء المكلَّفينَ فيها.

ولتعلم أن الأصل في الأحكام هو الشرع، والعرفُ طارئ عليه، فيتغير الحكم عند تغير العرف لا باعتبار اختلاف الحكم في حقيقته؛ ولكن باعتبار اختلاف العادات والأعراف.

قال الشاطبي - رحمه الله -: واعلَم أنَّ ما جرى ذِكرُه هنا مِن اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد، فليس في الحقيقة باختلاف في أصل الخطاب؛ لأن الشَّرع موضوع على أنه دائم أبدي، لو فُرض بقاء الدُّنيا من غير نهاية، والتكليف كذلك لم يحتج في الشرع إلى مزيدٍ، وإنما معنى الاختلاف: أنَّ العوائد إذا اختلفتْ، رجعت كلُّ عادة إلى أصلٍ شرعي، يحكم به عليها، كما في البلوغ مثلاً، فإن الخطابَ التكليفيَّ مرتفع عنِ الصبي ما كان قبل البلوغ، فإذا بلغ وَقَع عليه التكليف، فسُقُوط التكليف قبل البلوغ، ثم ثبوته بعده، ليس باختلاف في الخطاب، وإنما وقع الاختلافُ في العوائد والشواهد"[17].


أما عن المثال الذي ضربتَه بالنسبة لقيادة المرأة السيارة، فالأصل أنه جائز، ومَنَع العلماء منه في هذا الزمان؛ لعلَّتين:
الأولى: أنه خلاف ما جرى عليه العرف.
الثانية: العمل بقاعدة سد الذرائع إلى الفساد؛ وذلك لما وجدوه من مفاسدَ كثيرةٍ تترتب على هذا الأمر.

فيوجد هذا الحكم حيث وُجدتْ علَّتُه، ويُفقَد حيث فقدتْ، وهذا يختلف باختلاف الأعراف والزمان والمكان.

وإذا بني حكم على عرف، ثم تغيَّر هذا العرف، فإن الحكم يتغير تبعًا لتغيره إلى ما يتناسب مع العرف الجديد، فكما عملنا بالعرف الأول عند وجوده، كذلك نعمل بالعرف الثاني عند وجوده، فليس أحدهما بأولى من الآخر.

وقد سبق ونقلنا عن ابن عابدين قوله: "النَّصُّ معلول بالعُرْف، فيكون هو المعتبَرَ في أيِّ زمان كان"[18]. اهـ.


وهذا يعني أن للعرف تصرفًا في النص، لكن بالضوابط والقيود التي ذكرناها آنفًا،، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] "لسان العرب" (عرف)، و"المصباح المنير" (عرف).

[2] "التعريفات" (1/ 193).

[3] رواه البخاري برقم (5049)، باب: "إذا لم ينفقِ الرجل، فلِلمرأة أن تأخذَ بغير عِلْمه ما يكفيها وولدها من معروف".

[4] "الفتاوى الكبرى" (4/ 104).

[5] "أحكام القرآن"؛ لابن العربي (4/ 1830).

[6] "المغني" (7/ 567).

[7] "حاشية ابن عابدين" (4/ 112).

[8] "الجامع لأحكام القرآن" (3/ 161).

[9] "الأشباه والنظائر" (ص67).

[10] "المغني" (6/ 179).

[11] "إعلام الموقعين" (3/ 11).

[12] انظر: "المنثور في القواعد" (2/ 356).

[13] انظر: "الأشباه والنظائر"؛ لابن نجيم (ص 101).

[14] "الأشباه والنظائر" (1/ 96).

[15] "الأشباه والنظائر" (ص 56).

[16] انظر: "الموافقات" (2/ 283).

[17] "الموافَقَات في أُصُول الأحكام" (2/ 197، 198، 199)، بتصرُّف يسير.

[18] "حاشية ابن عابدين" (4/ 112).
التوقيع

https://www.facebook.com/salwa.NurAl...?ref=bookmarks

رد مع اقتباس