بسم الله الرحمن الرحيم
مشية إلى وادي الأيقاظ
كان عبد الله يتململ في مقامه و قد ضاق بالمارة الذين لا تنقطع خطواتهم جيئة و ذهابا إلا بعد منتصف الليل تقريبا,فقد أصبح الحي عامرا بالنيام حتى أحيط بالأيقاظ من الجهات الأربع .وليس بد من ذلك، فتلك سنة الحياة ،فلابد للنيام أن يلتمسوا المأوى ..ولن يضر الأيقاظ شيء، فإن مترا مربعا من الأرض يكفي الآلاف منهم أو الملايين ....ولكن عبد الله كان مستاءا..يردد دائما :" ألم يجدوا إلا طليعة الديار ليجعلوا فيها مقامي؟ ويحهم..ماذا كانوا يحسبون ؟وماذا أرادوا؟ أكانوا يريدون فخرا ؟لمن؟ لي..أم لهم؟ وأي فخر في ذلك؟ يا لهم من حمقى !!..ولعلهم حسبوا أيضا أنني سآنس في الطليعة بمجاورة النيام..ويلهم إن كان هذا ظنهم..أي أنس أرادوا ؟! وكيف يأتنس يقظان بنائم؟وياله من نائم! نائم عجيب..! نائم يتكلم ويسير وهو في تهاويم أحلامه..يأكل الهواء ويشربه ويبني فيه مأواه من هواء أيضا، ولكنه سعيد بأوهام أحلامه..يصدقها ويستعذبها فيستمرىء النوم.. ولا يريد الصحو..بل و ينكره وهو لامناص مدركه. ويحه ويحه! كيف لا يفيق وبين يديه كلمات نزلت من عالم اليقظة من أجله كي يفيق وتسمو روحه بعد يقظتها إلى حيث تتعلق بأهداب ذلك العالم العلوي تلتمس أسباب الخلود وبدائع النعيم..ويحه..كيف يستمرىء النوم ويبقى غافلا عما بين يديه حتى تدركه اليقظة رغم أنفه ..فلا تعلو به، ولكن تهبط..تهبط إلى مقامي أنا ومن معي ..ممن باغتهم سيف اليقظة القاهر..فصحوا على مر الحقيقة..وراحوا يتحسرون ويندمون، وأنى ينفع الندم وقد انقطع الرجاء..وهل يفيد الندم من سار وسط الأخطار مطبقا جفنيه حتى ناله منها ما ناله ؟! أين كانت عيناه ؟ وأين كان عقله ؟ ويحه من نائم ..ويظنون أني بمثله سأأتنس.. ويحهم !!....ليتهم يرون قبيلة النيام التي يطالعني أفرادها كل يوم وليلة، لو رأوا ما أرى لأقصوني إلى حيث لا أرى إلا الطير و حراس الدار..ويحهم أما علموا ما ينزل بي كل يوم وليلة من مصائب المواكب و سفلة النيام؟! والله إن بي من جروح تلك المواكب ما لا تطيقه الجبال..ووالله لو أن بي قوة لقمت إلى كل جمع من نيام الجاهلية هؤلاء الذين يقضون مضاجعنا وفتكت بهم..ولكن أنى لي القيام ..وأنى لي الفرار من قدر ألزمني طليعة الديار إلى أجل لا أعلمه..لا حيلة لي إلا الصبر عسى أن يغير النيام ما بأنفسهم فيغير الله ما بهم وما يحل بي وبمن معي...سأصبر على جاهلي المواكب وجاهلاتها.. سأصبر على شراذم المقطعة لحوم وجوهها..سأصبر على الألسنة التي تلوك كلام السماء وتلقيه على مسامعنا مغلوطا معوجا طلبا للجزاء الفاني.. سأصبر على كل مار نائم-سامحه الله- يمر بي ..ويمر بي ..ويمر بي ..ولا يكاد يلقي إلي بالا..حتى كدت لو استطعت أقوم فأستجدي الدعوات والرحمات......ويح أهلي ..فليأتوا إلى الطليعة التي فيها أقعدوني..وليمكثوا ببابي..ولينظروا إلى كل مار ومارة..وليطيلوا النظر.. وليصبروا شيئا مما أصبر.. فليفعلوا إن استطاعوا..وليحتملوا -إن استطاعوا- وحشتي.. وليروا ماذا فعل قربي بالنيام بالوحشة..ليروا كيف أرادوا لي الأنس فزادوني منه بعدا..يا لجفوة النيام !! ألا يحرك أحدهم لسانه مرة من أجلي؟
بيني وبينهم جدار وبناء أقاموه كيلا يتأذوا مني ..وقد طال عهد البناء ..وما عاد شيء فيّ يؤذي..وما عادوا بحاجة للجدار ..وما عدت بحاجة إلى هدمه..وماذا لو هدموه؟..وماذا لو تهدمت كل جدران الوادي؟ أينهدم الجدار؟ أينهدم هذا الذي حال بيننا وبينهم و سوف يحول إلى أن نحيا ..؟ ويح أهلي ..لو علموا ما قد علمت..ولكن هيهات هيهات ..قد كنت يوما بينهم..أشهد في كل يوم نائما يفارق..فأفيق قدر ما تسيل عبرة ،ثم أعاود غفوتي ..وأستلذها..فتنسيني لذتها هذا المقام الذي يضمني الآن ومن كنت أشهد من مواكب الأيقاظ. ويح نفسي .....لو....
- حسبك الآن..تله بهذا القادم.
- عجبا !! زائر بالليل؟!!
- لا تعجب ..ألا ترى وجهه؟!
- وي !!! أهو منهم ؟!
- بل فيهم...
- يبدو ذلك فعلا، وإن لم يكن أكيدا ..
- إن فراستي لا تخطيء..اصبر حتى يقترب ونزداد به علما..
- انظر كيف ينظر الناس إليه في دهشة !!
- كيف لا وتلك مشيته ،وتلك لفتاته. إنه يذكرني بقولهم: "كاد المريب يقول خذوني."
- صدقت ، إلا أنهم لا يرون ما نراه.
- هذه رحمة ربك ,وتلك سنته، فإن النيام كما قد علمت يعيرون ولا يغيرون.
- ها قد جاء ..أنصت..إنه يقرأ السلام ويدعو.
- لكنه يسرع الخطو ويبتعد...قم..قم نتبعه.
- لا أرى ضرورة لذلك..لن تفيد منه غير التلهي ..
- فليكن ..نعم التلهي بليل قل طارقه..قم قم ..لنر كيف سيفعل.
- حسنا ..سأصحبك..وإن كانت فراستي تبغضني فيه.
- أنصت ..ما زال لسانه يتحرك..
- أتظنه ما يزال يفقه ما يقول؟! أما ترى عينيه الزائغتين وصدره المكتوم وخطواته المهتزة؟
- كفاك ..انظر ..لقد اقترب من مقصده..يبحث عن المدخل الموسوم..إنه حائر مضطرب..يختلس نظرات خائفة إلى القادمين..يخشى أن يراه أحد بيننا في ذلك الوقت وهو من ترى..
- أي نعم..هذا واضح في وجهه....ها قد بلغ ما أراد..
- أحسبني سأضحك كثيرا.
- و أحسبني سأبكي أكثر.!!
- ها قد ولج..أترى كيف يسرع الخطو ؟!!..يفلت من الأعين قبل أن تلحظه.
- غيبته الظلمة..وأبطأت خطواته ،واضطرب صدره ،واحتبست أنفاسه واتسعت عيناه.
- إنه الآن يعاود الدعاء..ولكن بلسان مرتعش وفؤاد وجل..تشي خطواته و نظراته بأنه يحترز الخطفة والروع ، يمر بخاطره ما قيل عن وارد الليل..
- لكنه يدفع المخاوف بمزيد من الدعاء ..انظر ..لقد تفاقم خوفه وطال عليه المسير..يظن أن قد ضل الطريق إلى ما يريد.
- آه..لقد وقع في قلبه الرهبة مما ظهر له فجأة في الأفق البعيد..لم يكن يتوقع هذا الضوء الأخضر المنبعث من قلب الديجور.
- أترى الآن خطواته ؟! لقد أبطات ..يوشك أن يندم على مجيئه بهذا الوقت.
- لكنه ما زال يسير..يقترب من مصدر الضوء..يلتفت إلى شماله في حذر ودهشة فيكتشف مصدر الضوء فيطمئن و تنطلق أنفاسه المكتومة ،ويعاود البحث عن يمينه عما يريد فلا يهتدي إليه.
- إلى هنا وكفى..سأبقى أخي واتبعه أنت ..قد تجد ما يهم ..أما أنا فلن أجد..سأنتظر حتى تعودا..
- أنت وما تريد..سلام عليك .
- وسلام عليك.......آه ..سبحان الله !..عجيب أمر هؤلاء النيام..ألا يدفعون النوم عن أجفانهم حينا..!ليتهم يفعلون ذلك ولو للحظة ..لحظة يفيقون فيها ويبحثون في رؤوسهم عن سبب لغفوتهم التي لا يفارقونها..ليتهم إن أفاقوا للحظة يرددون تلك الكلمة السحرية التي هي دليل الحق والصدق ،ليتهم لا يفوتهم ترديدها كما فاتتني وكثيرا غيري..:"لمــــــــــــاذا؟" "لماذا"،"لماذا "لماذا" كنزهم ،"لماذا" أداة حسابهم تحصي عليهم أعمالهم قبل أن تحصى عليهم..تحصيها وتراجعها..ويستكملون..وتراجعها وتراجعها...ويستكملون..فيأمنوا بها فجأة الإفاقة ،ويأمنوا مما فيه وقع من كان قبلهم ، ويأمنوا سؤال الرجعة..يــــــــــالســــــــؤال الرجعة....آه آه...إيه لسني عمر ضيعتها في الغطيط ، لم يرتفع لي فيها جفن....واها لها واها !!
- آه..ضبطتك..أأتركك للحظات فتعاود اجترار الأيام الخالية ؟! اكفف بالله عليك..ليس شيء من هذا يجديك.
- لا تزد حسراتي..ما أتى بك؟ أسئمت التلهي بليل قل طارقه؟ أم تراك مللت صاحبك الذي تبعت ؟!
- لا هذا و لا ذاك..إنما جئت أنبيك عما فعلت دياجير الوادي بزائرنا المستغرب ..
- وماذا تراها فعلت ؟
- فعلت ما كان سيضحكك لو كنت معي.
- خبرني إذن.
- ..بعد أن تخلفت عنا تزايد فزع الضعيف ،وكاد يفقد أثر ما يبتغيه لولا أن رأى الباب الخشبي الكبير ..ذلك الباب الذي أسند إليه ظهره يوم المشهد ،والذي يقابل الممر الموصل لبغيته..استجمع شجاعته..وتضاعفت سرعة لسانه في ترديد الدعاء ..ولكن راعه تفاقم الظلمة فأبطأ المسير وتعلق ناظراه في حدة بالذي عن يساره ،وخشي ألا يمكنه الظلام من تمييز مراده..ولكن حالفه التوفيق، واقترب من الباب وألقى السلام عليهما ،ثم جعل يترنم ..ثم أراد القعود فالتقط بعض اللبنات ، واتخذها مقعدا، وواصل الترنم.. وما زال على ذلك حتى باغته صوت عن يساره..فأطبق شفتيه وارتعد فؤاده ،وتلفت مذعورا فلم يجد شيئا.. فاستعاذ وعاود الترنم وعيناه ما تزالان تتلفتان في حذر ووجل ..ولم تمض دقائق حتى تحركت أفنان النبات الكثيف الذي بجانبه كأن شيئا خرج منها ..عندئذ هب واقفا وحدق في النبات وما حوله فلم ير شيئا رغم استمرار الحركة..عندئذ رأى أن يقعد بعيدا عن النبات حتى يشعر بالأمان أو يتمكن على الأقل من رؤية ذلك الشيء الذي يتحرك داخل النبات إذا خرج.. ولما جلس رأى أن يرفع عقيرته بالقرآن استئناسا ،ولما اطمأن ..توالى فجأة سقوط أشياء لا يراها على الثرى ،فتأوبه فزعه و توقف عن القراءة وصار في حيرة مما يقع من حوله ، ثم أحس في النهاية أنه يبالغ في الحذر والخوف ..فعاود القراءة..ونظر في ساعته وقرر أن يبقى حتى تحل العشاء الآخرة. عندئذ تركته وجئت إليك ..
- لا أرى فيما قلت ما يثير الاهتمام ..أي امرىء يأتي في هذا الوقت لابد أن يقع له ما وقع.. لقد ضيعت وقتك ولم تفد منه بشيء
- ولكني لم أخبرك بكل شيء ..لقد كان هناك حقا ما يثير الاهتمام ..فلم يكن زائرنا رغم فزعه من كل ما حوله يخشى أن يظهر شيء أو يسمع صوتا ،بل كان يتوقع ذلك ويريده !!
- يريد أن يفزع؟
- كلا ،ولكن يريد أن يعلم عن خفايا دارنا ..يريد أن يعرف ما يدور خلف الجدر الفانية ..يظن أن سيهتف به واحد منا يخصه من دون النيام بحديث كهذا الذي اختص به بعض رجال الرعيل الأول من أهل اليقظة الاختيارية..
- ومن هو حتى يطمح إلى أن يتساوى بهؤلاء؟!!
- إنها السذاجة يا أخي ،والرغبة في التميز والتسميع .
- الحمد لله أنه لم يسمع أو ير شيئا من ذلك.
- هو أيضا يحمد الله.
- انظر.. لقد أتى..ينصرف ليدرك العشاء.
- يخرج من الدار بسرعة فائقة هربا من الأعين والألسن.يشق صدره الهواء في تحد وقوة وعنف.
- هكذا هو دائما ..يمسك بتلابيب جسمه وروحه وعقله ..يرهق كل ذلك ..فيشقى..
- دعك منه..فقد مضى وابتلعته جموع النيام ومالت عيناه إلى الوسن.
- ما أعجبه ..نائم بين الأيقاظ..يقظان بين النيام .!
- أي نعم ..إنه لكذلك ..ولكنه يروم رغم ذلك أن يقبض على الجمر فلا ينام ..
- يروم ويسعى ....وما زال لديه أمل ..هداه الله وأيقظه فبل اليقظة.
- آمين .
( عبد الله و رفيقه يعودان إلى مقامهما حيث لا حراك ..يشخصان إلى الأفق البعيد القريب ..خوفا وطمعا .)