انا لله وانا اليه راجعون... نسألكم الدعاء بالرحمة والمغفرة لوالد ووالدة المشرف العام ( أبو سيف ) لوفاتهما رحمهما الله ... نسأل الله تعالى أن يتغمدهما بواسع رحمته . اللهم آمـــين

العودة   منتديات الحور العين > .:: المنتديات الشرعية ::. > ملتقيات علوم الغاية > الفقه والأحكــام

الفقه والأحكــام يُعنى بنشرِ الأبحاثِ الفقهيةِ والفتاوى الشرعيةِ الموثقة عن علماء أهل السُنةِ المُعتبرين.

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #31  
قديم 09-29-2008, 04:22 AM
الفاررة الي الله الفاررة الي الله غير متواجد حالياً
قـــلم نــابض
 




افتراضي

إقامــــــــــة الدولـــــــــــة
تمهيد:
من أنواع التمكين التي ذكرت في القرآن الكريم وصول أهل التوحيد والإيمان الصحيح إلى سُدَّة الحكم وتوليهم لمقاليد الدولة, لقد تحدث القرآن الكريم عمن قادوا دولاً وساسوا شعوبًا بشرع الله, من أمثال داود وسليمان عليهما السلام, والحاكم المؤمن والفاتح الصالح, والقائد العادل (ذي القرنين) وجعلهم قدوة ومثلاً رائعًا لأهل الإيمان على مر الدهور وكر العصور وتوالي الأزمان, وسلط القرآن الكريم الأضواء على جوانب هامة من أعمالهم وجهادهم العظيم الذي استهدفوا به التمكين لمثل عليا, ومبادئ رفيعة, وقيم سامية, وأخلاق فاضلة انبثقت من الإيمان بالله واليوم الآخر, بعيدة كل البعد عن الكبرياء الوطنية, والأمجاد القومية, والنزعات العرقية, وتقديس التراب والزعماء, ولم تكن فتوحاتهم وأعمالهم المجيدة تستهدف سيادة عسكرية أو مغانم اقتصادية, أو تطلعات توسعية أو نزوات عنصرية التي يبعث عليها حب التسلط والرغبة في العلو.
إنما خاضوا حروبًا وقادوا جيوشًا استهدفت كرامة الإنسان وتخليصه من الشرك والأوهام والانحرافات العقدية, وإزالة الظلم عن البشر وإقامة العدل, ودعوة الناس إلى العقيدة الصحيحة, والمنهج السليم, والتصور الرباني.
وكان للنبي eوالخلفاء من بعده حظ وافر من هذا النوع من التمكين نحاول أن نسلط الأضواء في هذا الفصل على بعض معالمه, وسنعرج على التاريخ الإسلامي القديم والحديث لنضرب بعض الأمثلة الحية بإذن الله تعالى لنستخرج الدروس والعبر من هذه الدراسة المتواضعة.
رد مع اقتباس
  #32  
قديم 09-29-2008, 04:25 AM
الفاررة الي الله الفاررة الي الله غير متواجد حالياً
قـــلم نــابض
 




افتراضي

الأولتمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلام
أولاً: داود عليه السلام:
يبدأ العصر الذهبي لبني إسرائيل مع ظهور داود عليه السلام في القتال عندما أكرمه الله تعالى بقتل جالوت, وبيّن القرآن الكريم أن داود عليه السلام كان مجاهدًا في جيش طالوت, وممن نجحوا في الامتحان العسير الذي قرر رئيس الجيش أن يخوضه جميع جنوده فسقط من سقط ونجح من نجح.
لقد رفع داود عليه السلام راية النصر وشرع في إعادة التمكين لبني إسرائيل بعد قتله لجالوت, وكان إذ ذاك فتى, وتم له الظفر, فالتقت على محبته القلوب, وتأكدت له أواصر الإخلاص, وأصبح بين عشية وضحاها حديث بني إسرائيل, يكنون له في نفوسهم الاحترام والمحبة والتوقير, ومنذ ذلك الحين بدأ نجمه يصعد في السماء وينتقل من ظفر إلى ظفر, ويجيئه النصر يتبعه النصر, حتى ولى الملك أخيرًا, وأصبح ذا سلطان وظهرت ملامح الحكم في زمنه في عدله وحكمه, وكان أوابًا رجاعًا إلى ربه بالطاعة والعبادة والذكر والاستغفار.
لقد كان منهج التغيير في زمن داود عليه السلام هو الصراع المسلح بين قوى الخير والشر, والإيمان والكفر, والهدى والضلال, وبالفعل تم دمغ الباطل وإضعافه ووصل بنو إسرائيل إلى قمة مجدهم وعزهم.
إن داود عليه السلام شدّ ملكه بالتسبيح والذكر والطاعة, فكان عليه السلام يسبح بالعشي والإشراق, وتجاوبت الجبال مع ذكره العذب الجميل, وكذلك تجاوبت الطيور, قال تعالى: *إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ" [ص:18], فوهبه الله هبة عظمى ذكرها في كتابه عَزَّ وجل: *وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ" [ص:20], أي جعلنا له ملكًا كاملاً من جميع الملوك العظماء, بحيث لا يتمكن منه أعداؤه لكثرة جيوشه, وكثافة حراسه التي قيل إنهم كانوا ألوفًا كثيرة يتناوبون في حراسته, ولم ينكسر له جيش في معركة أبدًا, فقد كان مؤيدًا بعون الله ونصره([1]), قال تعالى: *اصْبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ" [ص:17].
أ- إن المتأمل في القرآن الكريم في قصة داود عليه السلام يتعرف على صفات الحاكم المؤمن الذي مكن الله له, وهي تحقق للقائد المصلح كمال السعادة في الدنيا والآخرة.
ومن أهم هذه الصفات:
1- الصبر: فقد أمر الله تعالى نبينا محمدًا eعلى جلالة قدره بأن يقتدي به في الصبر على طاعة الله.
2- العبودية: فقد وصفه ربه بقوله *عَبْدَنَا" وعبر عن نفسه بصيغة الجميع للتعظيم, والوصف بالعبودية لله غاية التشريف, كوصف محمد e بها ليلة المعراج: *سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ" [الإسراء:1].
وكان النبي e إذا ذكر داود عليه السلام وحدث عنه بيَّن فضله واجتهاده في العبادة, قال e:«إن أحب الصيام إلى الله صيام داود, وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام, كان ينام نصف الليل, ويقوم ثلثه وينام سدسه وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا»([2]).
3- القوة على أداء الطاعة والاحتراز عن المعاصي في قوله: *ذَا الأيْدِ".
4- والرجّاع إلى الله بالطاعة في أموره كلها, في قوله تعالى: *إِنَّهُ أَوَّابٌ", وصف بالقوة على طاعة الله, وبأنه أواب دليل على كمال معرفته بالله التي جعلته يجتهد في العبادة على نهج رباني صحيح.
5- تسبيح الجبال والطيور معه: *إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ ` وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ" [ص:19،18].
أي أنه تعالى سخر الجبال تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار, كما قال عز وجلَّ: *يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ" [سبأ:10].
قال ابن كثير: «وكذلك الطير تسبح بتسبيحه وترجع بترجيعه إذا مر به الطير, وهو سابح في الهواء, فسمعه, وهو يترنم بقراءة الزبور, لا يستطيع الذهاب, بل يقف في الهواء ويسبح معه, وتجيبه الجبال الشامخات, وترجع معه, وتسبح تبعًا له»([3]).
6- قوة الملك: *وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ" [ص:20], أي قوينا ملكه بالجند أو الحرس, وجعلنا له ملكًا كاملاً من جميع ما يحتاج إليه الملوك.
7- الحكمة: *وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ" [ص:20], أعطيناه الفهم والعقل والفطنة, والعلم, والعدل, وإتقان العمل, والحكم بالصواب.
8- حسن الفصل في الخصومات: *وَفَصْلَ الْخِطَابِ" [ص:20], أي: وألهمناه حسن الفصل في القضاء بإحقاق الحق وإبطال الباطل, وإيجاز البيان بجعل المعنى الكثير في
اللفظ القليل([4]).
وكان من الطبيعي في سنن الله تعالى أن يتعرض داود عليه السلام للفتنة والابتلاء وكانت عين الله ترعاه, وتقود خطاه, وكانت يد الله معه تكشف له ضعفه وخطأه وتحميه من خطر الطريق وتعلمه كيف يتوقاه. قال تعالى: *وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ` إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ` إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ` قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ" [ص:21-24].
وبيان هذه الفتنة أن داود النبي الملك, كان يخصص بعض وقته للتصرف في شئون الملك, وللقضاء بين الناس, ويخصص البعض الآخر للخلوة والعبادة وترتيل أناشيده تسبيحًا لله في المحراب, وكان إذا دخل المحراب للعبادة والخلوة لم يدخل إليه حتى يخرج إلى الناس.
وفي ذات يوم فوجئ بشخصين يَتَسوران المحراب المُغلق عليه ففزع منهما. قالا: لا تخف نحن خصمان بغى بعضنا على بعض, وجئنا للتقاضي أمامك, ونطلب منك أن تحكم بالحق والعدل وتبتعد عن الشطط وتدلنا على الصواب, وبدأ أحدهما فعرض خصومته بطريقة توحي بأن أحدهما وقع في ظلم صارخ, فاندفع داود عليه السلام دون السماع إلى حجة الخصم الآخر وأصدر حكمه, وبعد الانتهاء من إصدار الحكم تنبه داود عليه السلام بأنه لم يتثبت, فربما كان صاحب النعجة الواحدة هو الظالم, فأيقن إنما الحادثة اختبار من الله تعالى فرجع إلى طبيعته واستغفر ربه وخر راكعًا وأناب([5]), لقد خاضت بعض التفاسير في هذه الحادثة بسبب التأثر بالإسرائيليات ونسبت لداود عليه السلام ما يتنافى مع عصمته.
إن علماء أهل السنة يجمعون على أن الأنبياء معصومون عن الكبائر([6]).
وقد ذكر العلامة السعدي -رحمه الله- فوائد عظيمة وحكمًا جزيلة من قصة داود عليه السلام, فقال:
1- ومنها أي الفوائد: اعتناء الله تعالى بأنبيائه وأصفيائه عندما يقع منهم بعض الخلل بفتنته إياهم, وابتلائهم بما به يزول عنهم المحذور, ويعودون إلى أكمل من حالتهم الأولى, كما جرى لداود عليه السلام.
2- ومنها: أن الأنبياء معصومون من الخطأ فيما يبلغون عن الله تعالى, لأن مقصود الرسالة لا يحصل إلا بذلك.
3- ومنها: أن داود عليه السلام كان في أغلب أحواله ملازمًا محرابه, لخدمة ربه, ولهذا تسور الخصمان عليه المحراب, لأنه كان إذا خلا في محرابه, لا يأتيه أحد؛ فلم يجعل كل وقته للناس مع كثرة ما يرد عليه من الأحكام, بل جعل له وقتًا, يخلو فيه بربه, وتقر عينه بعبادته, وتعينه على الإخلاص في جميع أموره.
4- ومنها: أنه ينبغي استعمال الأدب في الدخول على الحكام وغيرهم, فإن الخصمين لما دخلا على داود في حالة غير معتادة, ومن غير الباب المعهود, فزع منهم واشتد عليه ذلك, ورآه غير لائق بالحال.
5- ومنها: أنه لا يمنع الحاكم من الحكم بالحق سوء أدب الخصم وفعله ما لا ينبغي.
6- ومنها: كمال حلم داود عليه السلام, فإنه ما غضب عليهما, حين جاءاه بغير استئذان, وهو الملك, ولا انتهرهما, ولا وبخهما.
7- ومنها: جواز قول المظلوم لمن ظلمه: «أنت ظلمتني», أو: يا ظالم أو باغ عليَّ ونحو ذلك؛ لقولهما: *خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ".
8- ومنها: أن الموعوظ والمنصوح ولو كان كبير القدر, جليل العلم, إذا نصحه أحد, أو وعظه, لا يغضب, ولا يشمئز, بل يبادره بالقبول والشكر.
9- ومنها: أن المخالطة بين الأقارب والأصحاب, وكثرة التعلقات الدنيوية المالية, موجبة للتعادي بينهم, وبغي بعضهم على بعض, وأنه لا يرد عن ذلك إلا استعمال تقوى الله, والصبر على الأمور بالإيمان والعمل الصالح.
10- ومنها: أن الاستغفار والعبادة خصوصًا الصلاة, مكفرات للذنوب, فإن الله رتب مغفرة ذنب داود, على استغفاره وسجوده([7]).
ب- استخلاف الله تعالى لداود عليه السلام:
قال تعالى: *يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ
الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ
" [ص:26].

خاطب الله تعالى داود عليه السلام بأن جعله حاكمًا بين الناس في الأرض, فله الحكم والسلطة, وعليهم السمع والطاعة, ثم بين الله تعالى له قواعد الحكم تعليمًا لغيره من الناس.
1- *فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ" أي فاقض بين الناس بالعدل الذي قامت به السموات والأرض, وهذه أولى وأهم قواعد الحكم.
2- *وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى" أي لا تمل في الحكم مع أهواء نفسك أو بسبب مطامع الدنيا, فإن اتباع الهوى مزلقة ومدعاة إلى النار, لذا قال: *فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ" أي أن اتباع الهوى سبب في الوقوع في الضلال والانحراف عن جادة الحق, وعاقبته الخذلان, قال تعالى: *إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ".
أي أن الذين يتنكبون طريق الحق والعدل, لهم عقاب شديد يوم القيامة والحساب الأخروي, بسبب نسيانهم أهوال ذلك اليوم, وما فيه من حساب شديد دقيق لكل إنسان, وبسبب تركهم العمل لذلك اليوم, ومنه القضاء بالعدل.
والعبرة من هذا الموضوع: الوصية من الله عز وجل لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق, ولا يحيدوا عنه, فيضلوا عن سبيل الله, وقد توعد الله من ضل عن سبيله وتناسى يوم الحساب بالوعيد الأكيد والحساب الشديد([8]).
إن الآية الكريمة تبين أن الحكم بين الناس, مرتبة دينية, تولاها رسل الله, وخواص خلقه, وأن وظيفة القائم بها الحكم بالحق, ومجانبة الهوى, فالحكم بالحق يقتضي العلم بالأمور الشرعية, والعلم بصورة القضية المحكوم بها, وكيفية إدخالها في الحكم الشرعي, فالجاهل بأحد الأمرين لا يصلح للحكم, ولا يحل له الإقدام عليه, وتبين كذلك أن الحاكم ينبغي له أن يحذر الهوى, ويجعله منه على بال, فإن النفوس لا تخلو منه؛ بل يجاهد نفسه, بأن يكون الحق مقصوده([9]).
ج- هبة من الله تعالى مباركة وفتح وإلهام:
إن داود عليه السلام كان له كثير من الأبناء والأولاد إلا أن الله خصه بالابن الصالح النبي الملك سليمان عليه السلام, وأثنى الله عليه في كتابه بكونه أوابًا إلى الله عزَّ وجلَّ, كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى الله عز وجل في أكثر الأوقات, ومن مزيد فضل الله على عبده داود أن وهبه سليمان الذي ورث عنه الملك والنبوة.
قال تعالى: *وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ" [ص:30].
لقد أكرم الله تعالى سليمان عليه السلام بالملك والنبوة وأعطاه الفهم الثاقب,
والرأي السديد, ورجاحة العقل.
ومما يدلنا على ذلك قوله تعالى:
*وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ` فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا" [الأنبياء: 78, 79].
إن الآيات الكريمة تبين قصة زرع رعته ليلاً غنم لآخرين, وكان الله عليمًا شاهدًا بما حكم به داود وسليمان, لا تخفى عليه خافية, ولكنه تعالى أفهم سليمان القضية والحكمة والفتوى الصحيحة الراجحة فكان رأيه هو الأصوب, مع أنه سبحانه آتى كلاً من داود وسليمان النبوة وحسن الفصل في الخصومات والعلم والفهم والإدراك السليم للأمور, مما يدل على إقرار الحكمين في الجملة, وعلى أن خطأ المجتهد لا يقدح فيه, وإن كان الصواب واحدًا, وهو ما قضى به سليمان, ودل قوله: *فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ" على إظهار ما تفضل الله عليه به في صغره([10]).
لقد استنبط العلماء من هذه الآيات كثيرًا من المسائل المهمة نذكر بعضها:
1- في هذه الآية دليل على جواز رجوع القاضي عما حكم به, إذا تبين له أن الحق في غيره, فقد رجع داود إلى حكم سليمان عليهما السلام.
2- يرى كثير من الفقهاء أن الحق واحد في أقوال المجتهدين, وليس الحق أو الصواب في جميع أقوالهم, بدليل قوله تعالى: *فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ" فخص سليمان بالفهم, ولو كان الكل مصيبًا لم يكون لتخصيص سليمان عليه السلام بهذا التفهيم فائدة([11]).
د- ابتكار في صناعة الأسلحة:
قال تعالى: *وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ"
[الأنبياء:80].
كان داود عليه السلام أول من اتخذ الدروع وصنعها, وتعلمها الناس منه, وإنما كانت صفائح, فهو أول من سردها وحلقها, فأصبحت النعمة عليه نعمة على جميع المحاربين على الدوام أبد الدهر, فلزمهم شكر الله تعالى على النعمة.
وذلك يقتضي الشكر, لذا قال تعالى: *فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ" أي على تيسير نعمة الدروع لكم, وأن تطيعوا رسول الله e فيما أمر به, والمراد: اشكروا الله على ما يسر عليكم من هذه النعمة.
وهذه الآية دليل على جواز اتخاذ الصنائع والأسباب, فالسبب سنة الله في خلقه, وهي شهادة للعمال وأهل الحرف والصنائع بأن العمل شرف, واتخاذ الحرفة كرامة, وهذه الآية فيها إشارة لحث أهل الإيمان على العمل والإبداع والأخذ بأسباب النصر على الأعداء, ومحاربة الفساد بإعداد الجيوش مقودة بقيم الإيمان وتعاليم الرحمن, وشريعة الديان.
قوله تعالى: *وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ` أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" [سبأ: 11،10], وكانت هذه هبة الله فوق الملك والسلطان, مع النبوة والاستخلاص, إن الله تعالى أنعم على عبده داود بتسييل الحديد له أو تعليمه كيف يسيل الحديد الذي هو مادة الإعمار والبناء والتصنيع, ولا شك في خطورة مادة الحديد في صناعة الحضارات وبناء الدول وفي حسم انتصارات الجيوش.
يقول الدكتور عماد الدين خليل: وفي سورة الحديد نقرأ هذه الآية: *لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" [الحديد:25]. هل ثمة أكثر دلالة على ارتباط المسلم بالأرض من تسمية سورة كاملة باسم خام من أهم وأخطر خاماتها؟ هل ثمة أكثر إقناعًا لنزعة التحضير والإبداع والبناء, التي جاء الإسلام لكي يجعلها جزءًا أساسيًا من أخلاقيات الإيمان وسلوكياته في قلب العالم, من هذه الآية التي تعرض خام الحديد كنعمة كبيرة أنزلها الله لعباده, وتعرض معها المسألة في طرفيها اللذين يتمخضان دومًا عن الحديد (البأس الشديد) متمثلاً باستخدام الحديد كأساس للتسلح والإعداد العسكري, و(المنافع) التي يمكن أن يحظى بها الإنسان من هذه المادة الخام في كل مجالات نشاطه وبنائه (السلمي)؟ وهل ثمة حاجة للتأكيد على الأهمية المتزايدة للحديد بمرور الزمن, في مسائل السلم والحرب, وأنه غدا في عصرنا الراهن هذا وسيلة من أهم الوسائل في ميادين القوى الدولية سلمًا وحربًا؟
إن الدولة المعاصرة التي تملك خام الحديد تستطيع أن ترهب أعداءها بما يتيحه لها هذا الخام من مقدرة على التسلح الثقيل.. وتستطيع -أيضًا- أن تخطو خطوات واسعة لكي تقف في مصاف الدول الصناعية العظمى التي يشكل الحديد العمود الفقري لصناعاتها وغناها([12]).
إن الله سبحانه وتعالى منح الحديد لداود عليه السلام, وعلمه كيف يلينه, لأن الفائدة تتحقق بوجود الخام والقدرة على تشكيله, ولا شك أن ذلك ساعد على بناء حضارة عظيمة جمعت بين المنهج الرباني والتطور العمراني والصناعي.. إلخ.
وإذا تأملنا في آية الحديد نجد تداخلاً عميقًا وارتباطًا وثيقًا بين آية الحديد, وإرسال الرسل وإنزال الكتب معهم, وإقامة الموازين الدقيقة لنشر العدل بين الناس, وبين إنزال الحديد الذي يحمل في طياته (البأس), ثم التأكيد على أن هذا كله إنما يجئ لكي يعلم الله *مَن يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ" و *إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ".
إن المسلم الرباني لن تحميه بعد قدرة الله إلا يده المؤمنة التي تعرف كيف تبحث عن الحديد وتشكله وتستخدمه من أجل حماية العقيدة والتقدم بهذا الدين, وتحقيق النصر للمؤمنين, وإقامة دولة تحكمها شريعة رب العالمين, إن قول الله تعالى: *وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ" فيه إشارة إلى أهمية هذا الخام وتوظيفه لخدمة الإسلام.
ثانيًا: فقه التمكين عند سليمان:
تسلم سليمان عليه السلام قيادة الدولة القوية التي أسست على الإيمان والتوحيد وتقوى الله تعالى, لقد أوتي سليمان عليه السلام الملك الواسع والسلطان العظيم بحيث لم يؤت أحد مثلما أوتي, ولكنه أعطى قبل ذلك عطاء أعظم وأكرم, هيأه لأن يكون شخصية فريدة متميزة في التاريخ, لقد أعطي النبوة, ومُنح العلم وأوتي الحكمة, وذلك مثلما أعطي أبوه من قبل, قال تعالى: *وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالاَ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ` وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ" [النمل: 16،15].
إن سليمان عليه السلام لم يرث عن أبيه مالاً أو دارًا أو عقارًا, وإنما ورث عنه العلم والحكمة وورث النبوة والحكم, وأعطاه الله تعالى نعمًا وهبات خاصة به لم يعطها أحدًا بعده فقد سأل الله عزَّ وجل أن يخصه بعطاء لا يصل إليه أحد, وقال: *رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ" [ص:35], يعني: أعطني ملكًا لا يكون لأحد من البشر من بعدي مثله([13]).
وإننا ونحن نمضي مع ما يحكيه القرآن عن سليمان عليه السلام, فإننا نعيش مع أنصع الصفحات المشرقة من عصور بني إسرائيل الذهبية أيام كانوا على الدين الصحيح.
يحدثنا القرآن أنه عليه السلام أقام مملكته على أسس من الإيمان بالله والإسلام له, ولهذا اعتبر سليمان مُلكه مفخرة عن ملك بلقيس ليس لامتداده وسعته وتفوقه فحسب, ولكن لأن ملك سليمان قام على العلم وأسس على الإيمان فقال: *وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ` وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ"[النمل: 43،42].
وإننا لنلمح من خلال القرآن أن دولة سليمان عليه السلام كانت مفعمة بالحيوية, مائجة بالحركة, وكان عليه السلام قائمًا بواجب العبودية إلى جانب القيام بمهام الملك ومسئوليات الحكام وإعمار الدنيا بطاعة الله, حتى دانت له الأرض جميعًا, وجاء على المعمورة وقت لم يكن فيها لسليمان ندٌّ منازع في الحكم والملك ولا شبيه مماثل في العلم والحكمة.
لقد تحدثت الآيات الكريمة عن صفات وأحوال سليمان الحكيم, فهي صفات وأحوال تحكي مواقف حاكم مسئول عن إدارة شئون الأرض, لما عليها من مخلوقات, فهل كانت هذه المسئوليات الهائلة التي تكاد تتصور في عصرنا, هل كانت عقبة أمام سليمان في سلك المنهاج القيم للحكم, والطريق الناجح في الإدارة؟ بالقطع لا. بل كان عليه السلام يدير هذه المملكة الشاسعة أحسن ما يدير الفرد شئونه مع أسرته في
بيته الصغير.
ومن خلال هذا السياق القرآني لسيرة سيدنا سليمان عليه السلام نستخلص دروسًا وعبرًا في كيفية المحافظة على دولة الإيمان, وما وظائفها في الحياة, وما هي وسائل قوتها.
إن قصة سليمان عليه السلام وردت في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع, في سورة النمل وص وسبأ, وكانت الآيات الكريمة في سورة النمل تتحدث عن حلقة من حلقات حياة سليمان عليه السلام؛ حلقة قصته مع الهدهد وملكة سبأ, يمهد لها السياق القرآني بما يعلنه سليمان على الناس من تعليم الله له منطق الطير, وإعطائه من كل شيء, وشكره لله على فضله المبين, ثم مشهد موكبه مع الجن والإنس, والطير, وتحذير نملة لقومها من هذا الموكب, وإدراك سليمان لمقالة النملة, وشكره لربه على فضله, وإدراكه أن النعمة ابتلاء, وطلبه من ربه أن يجمعه على الشكر والنجاح في هذا الابتلاء, لقد أشارت الآيات الكريمة إلى بداية التمكين, ومظاهر التمكين, وكيفية المحافظة على التمكين, وصفات القيادة الربانية الممكن لها.
أ- بداية التمكين:
بدأ التمكين بتلك الإشارة: *وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً" وقبل أن تنتهي الآية يجئ شكر داود وسليمان على هذه النعمة, وإعلان قيمتها وقدرها العظيم, فتبرز قيمة العلم, وعظمة المنة به من الله على العباد, وتفضيل من يؤتاه على كثير من عباد الله المؤمنين, ولا يذكر هنا نوع العلم وموضوعه؛ لأن جنس العلم هو المقصود بالإبراز والإظهار, وللإيحاء بأن العلم كله هبة من الله, وبأن اللائق بكل ذي علم أن يعرف مصدره, وأن يتوجه إلى الله بالحمد عليه, وأن ينفقه فيما يرضي الله الذي أنعم به وأعطاه, فلا يكون العلم مُبعدًا لصاحبه عن الله, ولا منسيًا له إياه, وهو بعض مننه وعطاياه وبعد الإشارة إلى الإنعام بمنة العلم على داود وسليمان, وحمدهما لله ربهما على منته وعرفانهما بقدرها وقيمتها يفرد سليمان بالحديث: *وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ" [النمل:16].
ب- مظاهر التمكين في دولة سليمان عليه السلام:
إن الله تعالى أنعم على عبده داود عليه السلام بالنبوة والملك, ثم ورثه ابنه سليمان عليه السلام, ومكن الله له من الملك والدولة, وأعطاه من النعائم ومظاهر الملك والعز والسلطة بحيث لا ينبغي لأحد من بعده أن يصل إلى ما وصل إليه, قال تعالى: *وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ` يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ"[سبأ:13،12].
ومن خلال الآيات السابقة في سورة النمل وهذه الآيات التي في سورة سبأ يمكننا أن نلخص مظاهر التمكين لسليمان عليه السلام في الآتي:
1- ورثه الله الملك عن أبيه كما أعطاه النبوة, فكان ملكًا جمع الشرفين: النبوة والملك.
2- علمه الله منطق الطير وأعطاه قدرة التحدث مع مخلوقات الله مثل النمل, قال تعالى: *وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ" [النمل:16] وقال تعالى: *حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ` فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ" [النمل:19،18].
3- آتاه الله الحكمة على حداثة سنه, ويشهد لذلك ما أوردنا من بعض القصص التي حكم فيها بحكم أقره القرآن الكريم عليه, قال تعالى: *وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ` فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا" [الأنبياء: 79،78].
4- سخر الله تعالى له الريح فكانت تنقله إلى أي أطراف الدنيا شاء, وتقطع به المسافات الشاسعة البعيدة في ساعات معدودات, قال تعالى: *وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ" [سبأ:12]. (والمعنى أنها تقطع به من الصباح إلى الظهر مسيرة شهر, ومن الظهر إلى المساء مسيرة شهر, فتقطع به في النهار الواحد مسيرة شهرين, وفق مصلحة تحصل من غدوها ورواحها, يدركها سليمان, ويحققها أمر الله..) ([14]).
5- سخر الله تعالى له من الجن ومردة الشياطين, يغوصون له في البحار لاستخراج الجواهر واللآلئ, ويعملون له الأعمال التي يعجز عنها البشر كبناء القصور العالية والمحاريب في أماكن العبادة, والتماثيل والصور من نحاس وخشب وغيره, والجوابي جمع جابية وهي الحوض الذي نجبي به الماء, وقد كانت الجن تصنع لسليمان جفانًا كبيرة للطعام تشبه الجوابي, وتصنع له قدورًا ضخمة للطبخ راسية لضخامتها, قال تعالى: *وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ` يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ" [سبأ:13،12].
6- أسال الله له عين القطر -وهو النحاس المذاب- فكان النحاس يتدفق له
مذابًا من عين خاصة كتدفق الماء, فيصنع منه ما شاء, قال تعالى: *وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ
الْقِطْرِ
" [سبأ:12].

وكان النحاس وقتها عنصر الحضارة ومادة التقدم ومظهر الأبهة والعظمة في الجيوش والحراسات والبنايات, وظل سليمان عليه السلام -الملك الجاد- يسعى في إعمار الدنيا بطاعة الله, حتى دانت له الأرض جميعًا, وجاء على المعمورة وقت لم يكن فيها لسليمان ندُّ في الحكم والملك ولا شبيه مماثل في العلم والحكمة([15]).
7- كان جنده مؤلفًا من الإنس والجن والطير, وقد نظم لهم أعمالهم ورتب لهم شئونهم, فإذا خرج خرجوا معه في موكب حافل, يحيط به الجند والخدم من كل جانب, فالإنس والجن يسيرون معه في موكب حافل, والطير تظله بأجنحتها من الحر والشمس([16]).
هذه هي أبرز مظاهر التمكين في زمن حكم سليمان عليه السلام, ويظهر إكرام الله له في قوله تعالى: *هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ" [ص:39].
وذلك زيادة في الإكرام والمنة, ثم زاد على هذا كله أن له عند ربه قُربى في الدنيا وحسن مآب في الآخرة: *وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ" [ص:40].
ج- فقه سليمان عليه السلام في إدارة الدولة:
إن القصص القرآني في سيرة سليمان عليه السلام أشار إلى أساليبه في إدارة الدولة والمحافظة على التمكين, وأهم هذا الفقه يظهر في النقاط الآتية:
1- دوام المباشرة لأحوال الرعية, وتفقد أمورها, والتماس الإحاطة بجوانب الخلل في أفرادها وجماعاتها, فهذا كان حال سليمان عليه السلام: *وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ" [النمل:20] وذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك, والاهتمام بكل جزء فيه والرعاية بكل واحدة فيها وخاصة الضعفاء([17]).
ولا شك أن القيادة تحتاج إلى لجان ومؤسسات وأجهزة حتى تستطيع أن تقوم بهذه المهمة العظيمة, إن سليمان عليه السلام كان مهتمًا بمتابعة الجند وأصحاب الأعمال وخاصة إذا رابه شيء في أحوالهم, فسليمان عليه السلام, لما لم ير الهدهد بادر بالسؤال: *مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ" [النمل:20] يعني (أهو غائب؟ كأنه يسأل عن صحة ما لاح له) ([18]), ثم قال: *أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ" [النمل:20] سؤال آخر ينم عن حزم في السؤال بعد الترفق, فسليمان عليه السلام أراد أن يفهم منه أنه يسأل عن الغائب لا عن شفقة فقط ولكن عن جد وشدة, إذا لم يكن الغيب بعذر([19]).
2- لابد للدولة من قوانين حتى تضبط الأمور بحيث يعاقب المسئ, ويحسن للمحسن, ولابد من مراعاة التدرج في تقرير العقوبة, وأن تكون على قدر الخطأ وحجم الجرم, وهذا عين العدالة, ولهذا لم يقطع سليمان عليه السلام بقرار واحد في العقاب عند ثبوت الخطأ؛ بل جعله متوقفًا على حجم الخطأ: *لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ" [النمل:21] وقد استدل أهل العلم بهذه الآية على أن العقاب على قدر الذنب, وعلى الترقي من الشدة إلى الأشد بقدر ما يحتاجه إلى إصلاح الخلل([20]).
3- لابد للدولة المسلمة أن تهتم بالأجهزة الأمنية وتحرص أشد الحرص على الاهتمام بالأخبار والمعلومات حتى توظف لخدمة الدين, وعقيدة التوحيد, ونشر المبادئ السامية, والأهداف النبيلة, والمثل العليا, وأن تحرص على تحبيب الجهاد لأبنائها بواسطة الأجهزة الإعلامية والوسائل التربوية, وأن تهيئ النفوس للظروف المناسبة لإقامتها
للدين وإعلاء لكلمة الله, وهكذا كان شأن سليمان عليه السلام-كما قال القرطبي
-
رحمه الله-: «فإنما صار صدق الهدهد عذرًا له, لأنه أخبر بما يقتضي الجهاد, وكان سليمان عليه السلام حبب إليه الجهاد»([21]).
4- لابد للقيادة في الدولة المسلمة أن تهتم بنصر دعوة التوحيد, وبذل الوسع في تبليغها لكل مكلف, فإن سليمان عليه السلام لما استمع إلى خبر القوم المشركين شمر عن ساعد الجد في إيصال البلاغ إليهم, وبدأ معهم بالحجة والبيان: *اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ" [النمل:28], قال القرطبي -رحمه الله-: «في هذه الآية دليل على إرسال الكتب إلى المشركين وتبليغهم الدعوة ودعائهم إلى الإسلام, وقد كتب النبي إلى كسرى وقيصر وإلى كل جبار»([22]).
ومن المهم عرض الدعوة بعزة الإسلام وبشرف الإيمان وهيبة القرآن لا بتذلل واستخذاء, وعدم مداراة للناس في أمر الاستجابة لله, وترك مداهنتهم فيما يغضب الله, ولقد كان كتاب سليمان عليه السلام لملكة سبأ يبدأ بالرحمة, وتتخلله الكرامة, وآخره الدعوة إلى الاستجابة لله والاستسلام له سبحانه: *إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ` أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ" [النمل: 31،30].
وعلى الدولة المسلمة أن تهتم بتعظيم اسم الله تعالى, والتشرف بذكره في المحافل والمناسبات والكتابات, فهذا شعار المؤمنين, وتنزيه هذا الاسم المقدس عما لا يليق به, والحفاظ عليه من جهل الجهال؛ ولذلك قدم سليمان عليه السلام اسمه, خوفًا من أن تتلفظ ملكة سبأ بكلمة لا تليق فيكون اسمه وقاية لاسم الله عزَّ وجلَّ([23]).
وعلى الدولة المسلمة أن يكون خطابها الدعوي ملتزمًا بالجدية في دعوة الناس, وأن تراعي شمولية الإسلام, وتتوخى الاقتصار على المقصود منها, وهكذا كان خطاب سليمان عليه السلام: *إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ` أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ" [النمل: 31،30].
فالمطلوب من الخلق إما العلم أو العمل, والعلم مقدم على العمل, فقوله: *بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" مشتمل على إثبات الصانع سبحانه وتعالى وإثبات صفاته سبحانه, وقوله: *أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ" نهي عن الانقياد لغير الله عزَّ وجلَّ اتباعًا للهوى أو طاعة للنفس, وقوله: *وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ" فيه الحث على الإيمان بالقلب والإسلام بالجوارح([24]).
وعلى القائمين بأمر الدعوة إلى الله أن يكونوا متعالين على حطام الدنيا, فعندما تعرض عليهم رشوة في الدين, أو رهانًا على المبدأ ليكن الشعار ما قال سليمان عليه السلام: *أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِي اللهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ" [النمل:36].
فملكة سبأ عندما عملت الحيلة لاختبار سليمان عليه السلام, وتفتق ذهنها عن بعث هدية له تمتحن بها حبه للدين, فأظهر عليه السلام عدم الاكتراث بهذا المال, وأعلم من جاءوا به أن الله تعالى آتاه الدين الذي هو السعادة القصوى, وآتاه من الدنيا ما لا مزيد عليه, فكيف يستمال مثله بمثل هذه الهدية؟! وصارحهم بأنهم هم الذين من شأنهم الفرح بتلك الهدية التي ظنوا أنه سيفرح بها, أما هو فلن يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف([25]).
5- المقدرة على اتخاذ القرار الصحيح في الوقت المناسب للمكان المناسب, وعدم التردد في القرار الصعب للتغلب على الحال الأصعب, فعندما وجد سليمان عليه السلام, أن القوم ما زالوا على الشرك, بل يريدون استمالته وتنحيته عن صلاته في الحق, قال للوفد الذي جاء بالهدية: *ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ" [النمل:37].
ولا مانع من ركوب الشدة مع المعاند, واستعمال القوة في إرهاب من يصد عن الدعوة, فإن ذلك قد لا ينفع غيره في إنقاذ الناس من الشرك, بل من المعادن البشرية ما لا يلين إلا تحت وهج السيف وسنابك الخيل, وكان هذا الأسلوب سببًا في إسلام ملكة سبأ وانقيادها وجنوده لسليمان عليه السلام, ولا مانع من استعمال الذكاء والعقل النير, ودقة التدبير, في استجلاب قلوب المدعوين إلى الدين واستخدام نعم الله في دلالة الخلق على الله, ومخاطبة الناس بالكيفية التي تستهوي قلوب عوامهم وتجلب احترام خواصهم, فسليمان عليه السلام لما بلغه خبر مجئ ملكة سبأ في جمع من حاشيتها وجنودها, أراد أن يعلمها مدى ما أعطاه الله من قوة حتى إن عرشها الذي تركته في حماية عظيمة وحرس كثيف يسبقها إليه([26]).
6- وعلى الدولة المسلمة أن تستفيد من المهارات والمواهب وإمكانات الخاصة في أفراد الرعية, ووضع الفرد المناسب في مكانه الصحيح, إن مملكة سليمان كان فيها من الإنس والجن وغيرهم ما كان يمكن أن يؤدي مهمة الهدهد, ولكن سليمان اختاره مع ضعفه وصغره لتأدية هذه المهمة, فـ(تخصيصه عليه السلام إياه بالرسالة دون سائر ما تحت ملكه من أمناء الجن الأقوياء على التصرف والتعرف؛ لما عاين فيه من مخايل العلم والحكمة) ([27]).
د- أبرز صفات سليمان عليه السلام كحاكم لدولة:
إن الآيات الكريمة عرضت صفات سليمان عليه السلام كملك وحاكم ممكَّن له في الأرض, وفي هذا إشارة من الله تعالى إلى الصفات القيادية المطلوبة للإشراف على تمكين شرع الله تعالى:
1- الحزم: ويظهر ذلك عند القيادة إن غلب الظن أن هناك تقصيرًا, أو تكاسلاً
عن الحضور وقت الطلب أو التأخر وقت العمل: *لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ
لأَذْبَحَنَّهُ
" [النمل:21] فإنه قد تبين لسليمان عليه السلام أن الهدهد غائب, فتهدد بذلك أمام الجمع الذي يعلم أن الهدهد غائب, حتى لا يكون غيابه -إن لم يؤخذ بالحزم- سابقة سيئة لبقية الجند([28]).

2- التريث والتأني قبل الحكم, فلعل للغائب عذرًا, أو للمقصر حجة تدفع الإثم, وترفع العقوبة, ولهذا قال سليمان بعدها: *أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ" [النمل:21] أي (بحجة تبين عذره في غيبته) ([29]), وهذا هو اللائق بالحاكم والقاضي إذا كان عادلاً, وسليمان عليه السلام الذي اشتهر بالعدالة هو وجنوده حتى عند النمل, لا ينتظر منه مع الهدهد, أو ما دونه أو ما فوقه, إلا أن يكون عادلاً لا يعاجل بالعقوبة قبل ثبوت الجريمة ولا يبادر إلى المؤاخذة قبل سماع الحجة.
3- سعة الصدر في الاستماع إلى اعتذار المعتذر, وحجة المتخلف, وسليمان عليه السلام أنصت لاسترسال الهدهد حتى انتهى من قوله, رغم أن فيه نوع معاتبة لسليمان, وفيه نسبة عدم الإحاطة إليه: *أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ ` إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ` وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ ` أَلاَّ يَسْجُدُوا للهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ` اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ" كل هذا وسليمان لا يقاطعه, ولا يكذبه, ولا يعنفه, حتى ينتهي من سرد الحجة, التي كانت مفاجأة ضخمة لسليمان عليه السلام.
4- قبول الاعتذار ممن يعتذر في الظاهر, وإيكال سريرته إلى الله تعالى, فسليمان عليه السلام سكت عن المؤاخذة وانتقل إلى تحري الخبر, قال القرطبي رحمه الله: (هذا دليل على أن الإمام يجب عليه أن يقبل عذر رعيته, ويدرأ العقوبة عنهم في ظاهر أحوالهم بباطن أعذارهم, لأن سليمان لم يعاقب الهدهد حين اعتذر إليه) ([30]).
5- التروي في تصديق الخبر؛ فهذا الذي حكاه الهدهد, أمر ليس بالسهل ولا باليسير, ثم إن الهدهد لا يجرؤ على اختلاق هذه القصة الطويلة, وهو يعلم تمكن سليمان من الرعية, ومقدرته على التأكد من صحة الأخبار, ومع ذلك لم يبادر عليه السلام إلى التصديق, كما أنه لم يتعجل التكذيب, بل قال: *سَنَنظُرُ" وهو من النظر, أو
التأمل والتحري([31]).
*سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ" يعني أصدقت في خبرك أم كذبت لتتخلص من الوعيد؟([32]).
6- عدم الاغترار بقوة النفس وكثرة الجند وسعة السلطان, وإسناد الفضل إلى الله في كل نعمة, وتجديد الشكر على هذه النعم, وسليمان عليه السلام لما طلب الإتيان بعرش بلقيس أجابته جنوده التي سخرها الله له مسارعين إلى الطاعة؛ فلما وجد سليمان طلبه مجابًا, وأمره مطاعًا سارع إلى ضبط النفس في سلك الخشية ومنهاج التواضع والطاعة لله رب العالمين: *فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ" [النمل:40] أي رأى العرش ثابتًا عنده: *قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي" أي هذا النصر والتمكين من فضل ربي ليختبرني أأشكر نعمته أم أكفرها, فإن من شكر لا يرجع نفع شكره إلا على نفسه حيث استوجب بشكره تمام النعمة ودوامها والمزيد, ومن كفر النعم فإن الله غني عن شكره, كريم في عدم منع تفضله عنه([33]).
7- التواضع وهو في قمة المجد والتمكين: كان سليمان عليه السلام دائم التواضع حتى قيل إنه كان يمشي منكسر الرأس خشوعًا لله, وأثناء استعراضه لجنوده من الجن والإنس والطير, مر على وادي النمل, وفي نظرة التواضع إلى الأرض؛ أبصر نملة, فأشخص النظر صوبها, وأصاخ السمع إليها, وبما علم من منطق الطير والحيوان حاول أن يتفهم أمرها, لقد علم أنها تتخوف من بطش أقدام الجنود في ركب سليمان, لقد سمعها وفهم قولها: *قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ" [النمل:18]. نعم إنها كائن صغير في مملكة ضخمة عظيمة, تسعى كأخواتها للرزق, وتنصح لهم أن يفسحوا الطريق أمام ركب الملك العادل, حتى لا تقع مظلمة غير مقصودة من أحد منهم, قال القرطبي رحمه الله: (التفاتة مؤمن, أي من عدل سليمان وفضله وفضل جنده لا يحطمون نملة فما فوقها إلا بألا يشعروا) ([34]).
إن هذه النملة لم تكن إلا واحدة من رعايا سليمان في مملكته التي ضمت إلى جانب الإنس والجن أنواعًا وألوانًا من الحيوان والطير والهوام.
لقد سمع كلامها وتفهم شكواها, فتبسم من قولها, فرق قلبه الكبير رفقًا لجرمها الصغير, فرحمها وأخواتها, وشكر ربه إذ علمه منطق هذه المخلوقات حتى يتمكن من إنصافها وإيصال العدل إليها, وسُرّ بأن عدالته وجنوده قد عرفها كل مخلوق, حتى مثل هذه النملة التي اعتذرت عنهم مقدمًا بأنهم إن أصابوا نملة بأقدامهم, فإن ذلك من غير قصد منهم ولا شعور([35]).
*فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ" [النمل:19].
لقد أدرك سليمان عليه السلام أنه -في جنب الله- في حاجة إلى الرحمة والعطف واللطف أشد من حاجة هذه النملة إلى ذلك منه, ولهذا قال: *وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ" [النمل:19].


([1]) انظر: تفسير القرطبي (15/162).

([2]) مسلم, كتاب الصيام, باب النهي عن صوم الدهر (2/816) رقم 189.

([3]) تفسير ابن كثير (4/29).

([4]) انظر: تفسير المنير, وهبة الزحيلي (23/185،184،183).

([5])انظر: قصص الرحمن في ظلال القرآن (4/36،35).

([6])انظر: تفسير المنير (23/190).

([7])انظر: تفسير السعدي الذي اختصر في مجلد ص 559، 660.

([8]) انظر: تفسير المنير (23/188).

([9]) انظر: تفسير السعدي الذي جمع في مجلد واحد ص660.

([10]) انظر: تفسير المنير (17/106).

([11]) المصدر نفسه (17/105).

([12]) التفسير الإسلامي للتاريخ, ص 222،221.

([13]) تفسير ابن كثير (4/40).

([14]) في ظلال القرآن (5/2898).

([15]) انظر الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/587).

([16]) انظر: دعوة سليمان عليه السلام, ص56،55.

([17]) انظر: تفسير القرطبي (13/177).

([18]) تفسير الرازي (24/189).

([19]) (4) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/593).



([21]) تفسير القرطبي (13/189).

([22]) المصدر نفسه (13/190).

([23])المصدر نفسه (2/594).

([24]) انظر: روح المعاني للألوسي (24/195).

([25]) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/598).

([26])انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/598).

([27]) تفسير روح المعاني (9/193).

([28]) انظر: في ظلال القرآن (5/2638).

([29]) تفسير القرطبي (13/180).

([30]) المصدر نفسه (13/184).

([31]) تفسير الرازي (24/193).

([32]) تفسير ابن كثير (3/349).

([33]) انظر الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/600).

([34]) تفسير القرطبي (13/170).

([35]) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/589).
رد مع اقتباس
  #33  
قديم 10-09-2008, 11:47 PM
الفاررة الي الله الفاررة الي الله غير متواجد حالياً
قـــلم نــابض
 




افتراضي

فقه التمكين عند ذي القرنين
أولاً: من هو ذو القرنين؟
اختلف المفسرون في اسم ذي القرنين ونسبه وزمان وجوده وسبب تلقيبه بذي القرنين, لقد تضاربت أقوالهم وآراؤهم, وتعارضت أدلتهم, واعتمد الكثير منهم على الإسرائيليات والخرافات والأساطير, والروايات الواهية, والأخبار الكاذبة.
وعندما طالعت الكتب التي تحدثت عن ذي القرنين([1]) خرجت بنتيجة وهي لا يمكننا الجزم بتحديد شخصية ذي القرنين, ولا تحديد رحلاته الثلاث التي أشار إليها القرآن الكريم, ولا تحديد السد الذي بناه على الكرة الأرضية.
إن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة لم يتعرضا إلى تلك التفصيلات, وبما أنهما سكتا عن المعلومات التفصيلية, فلا دلالة يقينية عليها.
ولذلك يكون كلام المفسرين وأهل التاريخ والعلماء عنها من باب الظن وليس من باب الجزم([2]).
لقد قالوا إن ذا القرنين: هو الإسكندر المقدوني اليوناني وذلك لأن البلاد التي استولى عليها الإسكندر امتدت إلى مشارق الأرض ومغاربها, وقيل هو قورش الإخميني, لإجماع المؤرخين على عدالة سيرته وحسن سيرته في الشعوب والممالك التي استولى عليها, وقيل إنه أبو كرب شمر بن عمرو الحميري, لقد ناقش الأستاذ محمد خير رمضان يوسف الأقوال السابقة وخرج بنتيجة أن ذا القرنين, لم يكن واحدًا من هؤلاء الثلاثة, ونقد الآراء السابقة نقدًا علميًا متينًا, ووصل إلى أن: (ذو القرنين القرآني الذي ذكره الله عز وجل في كتابه العزيز, وأثنى عليه بالإيمان والإصلاح والعدل, في سورة قرآنية عظيمة, وآيات إعجازية جليلة, وقصة تاريخية نادرة, مليئة بالدروس والعبر, طافحة بالعظات والمبادئ والحكم.
إنه علم قرآني بارز.. خلد الله ذكره في كتابه الخالد, فاستحق أن ينال لقب القرآني وكفى, ولم أشأ أن أقول غير هذا لأنني لم أر من أعطى شخصية ذي القرنين حظها في التاريخ مثلما أعطى الله عز وجل في كتابه العظيم, إنه الرجل الطواف في الأرض, الصالح العادل, الخاشع لربه, والمنفذ لأمره, والقائم بين الناس بالإصلاح, والذي ملك أقاصي الدنيا وأطرافها, فلم يغره مال ولا منصب ولا جاه ولا قوة ولا سلطان, بل إنه بقى ذاكرًا لفضل ربه ورحمته, متأهبًا لليوم الآخر, ليلقى جزاءه العادل عند ربه.
ويكفي أن يبقى ذو القرنين ذلك الشخصية العظيمة في التاريخ, وذلك العلم البارز في العدل والإصلاح, والقيادة ومثال الحاكم الصالح, على مر التاريخ, وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها, بشهادة الكتاب الخالد) ([3]).
إن القرآن الكريم اهتم بإخراج القيم الصحيحة في سيرة ذي القرنين وأعماله وأقواله مثل:
1- الحكم والسلطان والتمكين في الأرض ينبغي أن يسخر لتنفيذ شرع الله في الأرض وإقامة العدل بين العباد, وتيسير الأمر على المؤمنين المحسنين, وتضييق الخناق على الظالمين المعتدين ومنع الفساد والظلم وحماية الضعفاء من بطش المفسدين.
2- الرجال الأشداء ذوو الخبرات الفنية العالية في النواحي العسكرية والعمرانية والاقتصادية الذين كانوا طوع بنان ذي القرنين, وكذلك خضوع الأقاليم له وفتح الخزائن أمامه وتقديم خراج الشعوب له طواعية, كل ذلك لم يدخل في نفسه الغرور والبطر والطيش والغواية؛ بل بقى مثال الرجل المؤمن العفيف المترفع عن زينة الحياة الدنيا.
3- الاهتمام باتخاذ الأسباب لبلوغ الأهداف والغايات التي سعى إليها حيث آتاه الله من كل شيء سببًا فأتبع سببًا.
إن القرآن الكريم في قصة ذي القرنين وفي كل قصصه ركز على الدروس والعبر والحكم والسنن, ولم يهتم بكثير من القضايا التي لا تنفع الإنسان, ولذلك نجد في قصة ذي القرنين كثيرًا من المبهمات التي لا تفيد القارئ مثل: من هو ذو القرنين؟ وما شخصيته؟ وما حياته؟ وما الزمن الذي عاش فيه؟ والدولة التي حكمها, والحروب التي خاضها, والبلاد التي فتحها, ورحلته الأولى تجاه الغرب, وتحديد المنطقة التي وصل إليها, وتحديد المكان ذي العين الحمئة؟ وكيف وجد الشمس تغرب فيها, وأصل يأجوج ومأجوج, وتاريخهم, ومناطق سكنهم وإقامتهم بالضبط؟ وغير ذلك من التساؤلات([4]).
ثانيًا: معالم التمكين عند ذي القرنين:
أ- دستوره العادل:
إن المنهجية التي سار عليها ذو القرنين كحاكم مؤمن جعلته يلتزم بمعاني العدل المطلق في كل أحواله وسكناته, ولذلك سار في الناس والأمم والشعوب التي حكمها بسيرة العدل, فلم يعامل الأقوام التي تغلب عليها في حروبه بالظلم والجور والتعسف والتجبر والطغيان والبطش, وإنما عاملهم بهذا المنهج الرباني: *قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا ` وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا" [الكهف: 88،87].
وهذا المنهج الرباني الذي سار عليه يدل على إيمانه وتقواه, وعلى فطنته وذكائه, وعلى عدله ورحمته؛ لأن الناس الذين قهرهم وفتح بلادهم ليسوا على مستوى واحد, ولا على صفات واحدة, ولذلك لا يجوز أن يعاملوا جميعًا معاملة واحدة؛ فمنهم المؤمن ومنهم الكافر, ومنهم الصالح, ومنهم الطالح فهل يتساوون في المعاملة؟.
قال ذو القرنين: أما الظالم الكافر فسوف نعذبه لظلمه وكفره, وهذا التعذيب عقوبة له؛ فنحن عادلون في تعذيبه في الدنيا ثم مرده إلى خالقه لينال عذابه الأخروي.
إن الظالم والباغي الكافر في دستور ذي القرنين معذب مرتين؛ مرة في الدنيا على يديه, والأخرى يوم القيامة, حيث يعذبه الله عذابًا نكرًا, أما المؤمن الصالح فإنه مقرب من ذي القرنين, يجزيه الجزاء الحسن, ويكافئه المكافأة الطيبة, ويخاطبه بيسر وسهولة وإشراق وبر ومودة([5]), لقد كان ميزان العدالة في حكمه بين الناس, هو التقوى والإيمان والعمل الصالح, ودائمًا يتطلع إلى مقامات الإحسان.
ب- منهجه التربوي في الشعوب:
إن الله تعالى أوجب العقوبة الدنيوية على من ارتكب الفساد في المجتمع وكلف أهل الإيمان ممن مكن لهم في الأرض أن يحرصوا على تنفيذ العقوبات للمفسد والظالم لكي تستقيم الحياة في الدنيا.
إن ذا القرنين يقدم لكل مسئول أو حاكم أو قائد منهجًا أساسيًا, وطريقة عملية لتربية الشعوب على الاستقامة والسعي بها نحو العمل لتحقيق العبودية الكاملة لله تعالى, قال سيد قطب -رحمه الله-: (وهذا دستور الحاكم الصالح, فالمؤمن الصالح ينبغي أن يجد الكرامة والتيسير والجزاء الحسن عند الحاكم, والمعتدي الظالم يجب أن يلقى العذاب والإيذاء.. وحين يجد المحسن في الجماعة جزاء إحسانه جزاءً حسنًا أو مكانًا كريمًا وعونًا وتيسيرًا, ويجد المعتدي جزاء إفساده عقوبة وإهانة وجفوة, عندئذ يجد ما يحفزهم إلى الصلاح والإنتاج, أما حين يضطرب ميزان الحكم, فإذا المعتدون المفسدون مقربون إلى الحاكم, مقدمون في الدولة, وإذا العاملون الصالحون منبوذون أو محاربون, فعندئذ تتحول السلطة في يد الحاكم سوط عذاب وأداة إفساد, ويصير نظام الجماعة إلى الفوضى والفساد)([6]).
إن التربية العملية للقيادة الراشدة هي التي تجعل الحوافز المشجعة هدية للمحسن ليزداد في إحسانه, وتفجر طاقة الخير العاملة على زيادة الإحسان وتشعره بالاحترام والتقدير, وتأخذ على يد المسيء لتضرب على يده, حتى يترك الإساءة وتعمل على توسيع دوائر الخير والإحسان في أوساط المجتمع وتضييق حلقات الشر إلى أبعد حدود وفق قانون الثواب والعقاب المستمد من الواحد الديان.
جـ- اهتمامه بالعلوم المادية وتوظيفها للخير:
نلاحظ من الآيات القرآنية أن ذا القرنين وظّف علومًا عدة في دولته القوية ومن أهم هذه العلوم:
1- علم الجغرافيا حيث نجد أن ذا القرنين كان على علم بتقسيمات الأرض، وفجاجها وسبلها، ووديانها وجبالها وسهولها، لذلك استطاع أن يوظف هذا العلم في حركته مع جيوشه شرقًا وغربًا، وشمالاً وجنوبًا، ولا يخلو أن الأمر أن يكون في جيشه متخصصًا في هذا المجال. ([7])
2- كان صاحب خبرة ودراية بمختلف العلوم المتاحة في عصره، يدل على ذلك حسن اختياره للخامات، ومعرفته بخواصها، وإجلادته لاستعمالها والاستفادة منها، فقد استعمل المعادن على أحسن ما خلقت له، ووظف الإمكانات على خير ما أتيح له: *آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا" [الكهف: 96]أمرهم بأن يأتوه بقطع الحديد الضخمة، فآتوه إياها، فأخذ يبني شيئًا فشيئًا حتى جعل ما بين جانبي الجبلين من البنيان مساويًا لهما في العلو، ثم قال للعمال: (انخفوا بالكير في القطع الحديدية الموضوعة بين الصدفين)([8]). فلما تم ذلك وصارت النار عظيمة قال للذين يتولون أمر النحاس من الإذابة وغيرها: آتوني نحاسًا مذابًا أفرغه عليه فيصير مضاعف القوة والصلابة، وهي طريقة استخدمت حديثًا في تقوية الحديد، فوجد أن إضافة نسبة من النحاس إليه تضاعف مقاومته وصلابته([9]).
3- كان واقعيًا في قياسه للأمور وتدبيره لها، فقد قدر حجم الخطر، وقدر ما يحتاجه من علاج، فلم يجعل السور من الحجارة، فضلاً عن الطين واللبن، حتى لا يعود منهارًا لأدنى عارض، أو في أول هجوم، ولهذا باءت محاولات القومالمفسدين بالفشل عندما حاولوا التغلب على ما قهرهم به ذو القرنين: *فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا" [الكهف:97], أي لم يتمكنوا من اعتلائه لارتفاعه وملاسته, وما استطاعوا أن يثقبوه لصلابته وثخانته([10]).
لقد كان ذو القرنين على علم بأخبار الغيب التي جاءت به الشرائع, ومع ذلك لم يتخذ من الأقدار تكأة لتبرير القعود والهوان, فقد بنى السد وبذل فيه الجهد, مع علمه بأن له أجلاً سوف ينهدم فيه لا يعلمه إلا الله.
ثالثًا: أخلاقه القيادية وفقهه في إحياء الشعوب:
أ- أخلاقه القيادية:
إن شخصية ذي القرنين تميزت بأخلاق رفيعة ساعدته على تحقيق رسالته الدعوية والجهادية في الحياة ومن أهم هذه الأخلاق:
1- الصبر: كان جلدًا صابرًا على مشاق الرحلات؛ فمثلاً تلك الحملات التي كان يقوم بها تحتاج إلى جهود جبارة في التنظيم والنقل والتحرك والتأمين, فالأعمال التي كان يعملها تحتاج إلى جيوش ضخمة, وإلى عقلية يقظة, وذكاء وقاد, وصبر عظيم وآلات ضخمة وأسباب معينة على الفتح والنصر والتملك([11]).
2- كانت له مهابة ونجابة: يستشعرها من يراه لأول مرة, فلا يخطئ ظنه عندما يوقن أنه ليس بملك جبار ولا ظالم, فعندما بلغ بين السدين ووجد القوم المستضعفين, استأنسوا به, ووجدوا فيه مخلصًا من الظلم والقهر الواقع عليهم فبادروه بسؤال المعونة؛ فمن الذي أدراهم بأنه لن يكون مفسدًا مثلهم, ومعه من القوة والعدة ما ليس مثلهم([12]).
3- الشجاعة: كان قوي القلب جسورًا غير هيّاب من التبعات الضخمة والمسئوليات العظيمة إذا كان في ذلك مرضاة الله سبحانه, فإن ما طلب من إقامة السد, كان عملاً عظيمًا في ذاته, حيث إن القوم المفسدين كانوا من الممكن أن يوجهوا إفسادهم إليه وإلى جنوده, ولكنه أقدم وأقبل غير متأخر ولا مدبر([13]).
4- التوازن في شخصيته: فلم تعكر شجاعته على حكمته, ولم ينقص حزمه من رحمته, ولا حسمه من رفقه وعدالته, ولم تكن الدنيا كلها -وقد سُخرت له- كافية لإثنائه عن تواضعه وطهارته وعفته.
5- كثير الشكر: لأنه كان صاحب قلب حي موصول بالله تعالى, فلم تُسكره نشوة النصر, وحلاوة الغلبة بعدما أذل كبرياء المفسدين, بل نسب الفضل إلى ربه سبحانه([14]), وقال: *هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي" [الكهف:98].
6- كان عفيفًا مترفعًا عن مال لا يحتاجه, ومتاع لا ينفعه: فإن القوم المستضعفين لما شكوا إليه فساد المفسدين, عرضوا عليه الخراج؛ (فأجابهم بعفة وديانة وصلاح: إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه وما أنا فيه خير من الذي تبذلونه) ([15]).
إن مفتاح شخصية ذي القرنين تتمثل في إيمانه بالله تعالى والاستعداد لليوم الآخر, وحبه لأهل الإيمان وبغضه لأهل الكفر والعصيان, وحبه العميق للدعوة إلى الله, فالإيمان بالله واليوم الآخر يظهر ذلك جليًا في شخصية ذي القرنين عند قوله تعالى: *مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ" [الكهف:95], وقوله: *أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا" [الكهف:87], وقوله: *فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا" [الكهف:98]. وهذه المواضع التي صرح بأنه كان مؤمنًا بالله واليوم الآخر يستفاد منها أمور:
- إن الثناء على الحاكم لا يكون بمجرد شجاعة أو فتوح أو عمارة, ما لم ينضم إليها الإيمان بالله واليوم الآخر, لأن هناك حكامًا كثيرين كانت لهم من الإصلاحات الدنيوية المجردة ما يعتبرهم الناس من أجله عظماء, ومع ذلك لم يورد القرآن لهم ذكرًا حسنًا, بل جاء في القرآن ذم حكام عمروا في الدنيا كثيرًا ولكنهم خربوا أديان الناس وأفسدوا عليهم آخرتهم مثل فرعون وهامان والنمرود ونحوهم.
- إن التوازن المدهش والخلاب في شخصية ذي القرنين؛ سببه إيمانه بالله تعالى واليوم الآخر, ولذلك لم تطغ قوته على عدالته, ولا سلطانه على رحمته, ولا غناه على تواضعه, وأصبح مستحقًا لتأييد الله وعونه؛ ولذلك أكرمه الله تعالى بالأخذ بأسباب التمكين والغلبة وهو تفضل من الله تعالى على عبده الصالح, فجعل له مكنة وقدرة على التصرف في الأرض من حيث التدبير والرأي وكثرة الجنود والهيبة والوقار([16]).
وكذلك أكرمه بكثرة الأعوان والجنود وقذف الرعب في قلوب الأعداء وتسهيل السير عليه, وتعريفه فجاج الأرض واستيلائه على برها وبحرها([17]), وتمكنه بذلك من تملك المشارق والمغارب من الأرض, فكل هذه الأمور لا تعطى لشخص عادي, ولا يمكن أن يحققها حاكم بحوله وقوته وذكائه مهما بلغ, إلا أن يكون مؤيدًا من الله, ذلك التأييد الذي ينصر الله به عباده المؤمنين, ويدل على هذه العناية أيضًا ضمير العظمة في قوله تعالى: *وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا" [النمل:84] أي: أمده بكل ما أراده من مهمات ملكه ومقاصده المتعلقة بسلطانه, فزوده بعلم منازل الأرض وأعلامها وعرفه ألسنة الأقوام الذين كان يغزوهم, فكان لا يغزو قومًا إلا كلمهم بلسانهم([18]).
لقد أعطاه الله تعالى من كل شيء سببًا, وينصرف ذهن السامع أو القارئ إلى وجوه التمكين له في الأرض, وأسبابه من العلوم والمعرفة واستقراء سنن الأمم والشعوب صعودًا وهبوطًا, وفي سياسة النفوس أفرادًا وجماعات؛ تهذيبًا وتربية وانتظامًا, وأعطاه من أسباب القوة من الأسلحة والجيوش وأسباب القوة والمنعة والظفر, وأسباب العمران وتخطيط المدن وشق القنوات وإنماء الزراعة مهما قيل ومهما تصور من أسباب التمكين التي تليق برجل رباني قد مكن له في هذه الأرض([19]) يمكن أن يدخل تحت قوله تعالى: *إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا" [الكهف:84], لقد كانت رعاية الله تعالى لذي القرنين عظيمة بسبب إيمانه بالله تعالى, واستعداده لليوم الآخر, ولذلك فتح له باب التوفيق وفق ما سعى إليه من أهداف وغاية سامية.
لقد بذل ذو القرنين ما في وسعه من أجل دعوة الناس إلى عبادة الله, فقد جمع بين الفتوحات العظيمة بحد السيف, وفتوحات القلوب بالإيمان والإحسان, فكان إذا ظفر بأمة أو شعب دعاهم إلى الحق والإيمان بالله تعالى قبل العقاب أو الثواب, وكان حريصًا على الأعمال الإصلاحية في كل الأقاليم والبلدان التي فتحها, فسعى في بسط سلطان الحق, والعدالة في الأرض شرقًا وغربًا, وكان صاحب ولاء ومحبة لأهل الإيمان, مثلما كان معاديًا لأهل الكفران([20]).
ب- فقهه في إحياء الشعوب:
إن حركة ذي القرنين الدعوية والجهادية جعلته يحتك بالشعوب والأمم, وتكلم القرآن الكريم عن رحلاته الإيمانية:

:astagfor: :astagfor:
1- الرحلة الأولى:
لم يحدد القرآن الكريم نقطة الانطلاق فيها وحدد النهاية إلى مغرب الشمس, ووجد عندها قومًا, فدعاهم إلى الله تعالى, وسار فيهم بسيرة العدل والإصلاح, قال تعالى: *أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا" [الكهف:87].
إنها سياسة العدل التي تورث التمكين في الحكم والسلطة, وفي قلوب الناس الحب والتكريم للمستقيمين, وإدخال الرعب في قلوب أهل الفساد والظلم, فالمؤمن المستقيم يجد الكرامة والود والقرب من الحاكم, ويكون بطانته وموضع عطفه وثقته ورعاية مصالحه وتيسير أموره.
أما المعتدي المتجاوز للحد, المنحرف الذي يريد الفساد في الأرض فسيجد العذاب الرادع من الحاكم في الحياة الدنيا, ثم يرد إلى ربه يوم القيامة ليلقى العقوبة الأنكى بما اقترفت يداه في حياته الأولى.
ولم يعين السياق القوم الذين اتخذ فيهم ذو القرنين هذه السياسة الحكيمة كما أهمل ذكر المدة التي مكثها بينهم, والنتائج التي توصل إليها, وكأن الأمر المفروغ منه أن تثمر هذه السيرة العادلة, والمبادئ السامية حضارة ربانية وتقدمًا وسعادة وطمأنينة, لذا لا داعي لذكرها والوقوف عندها([21]).
2- الرحلة الثانية:
وهي رحلة المشرق حيث يصل إلى مكان يبرز لعين الرائي أن الشمس تطلع من خلف الأفق, ولم يحدد السياق أهو بحر أم يابسة؟ إلا أن القوم الذين كانوا عند مطلع الشمس كانوا في أرض مكشوفة بحيث لا يحجبهم عن شروقها مرتفعات جبلية أو أشجار سامقة, وذهب الشيخ محمد متولي الشعراوي -رحمه الله- إلى أن المقصود *لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا" [الكهف:90], هي بلاد القطب الذي تكون فيه الشمس ستة شهور لا تغيب طوال هذه الشهور ولا يوجد ظلام يستر الشمس في هذه الأماكن([22]).
ونظرًا لوضوح سياسة ذي القرنين في الشعوب التي تمكن منها, وهو الدستور المعلن في رحلة الغرب لم يكرر هنا إعلان مبادئه, لأنها منهج حياة ودستور دولة مترامية الأطراف وسياسة أمم, فهو ملتزم بها أينما حل أو ارتحل([23]).
3- الرحلة الثالثة:
تختلف عن الرحلتين السابقتين من حيث طبيعة الأرض والتعامل مع البشر وسكان المنطقة, ومن حيث الأعمال التي قام بها, فلم يقتصر فيها على الأعمال الجهادية لكبح جماح الأشرار والمفسدين؛ بل قام بعمل عمراني هائل, أما الأرض فوعرة المسالك, وأما السكان -وكأن وعورة الأرض قد أثرت على طبائعهم وطريقة تخاطبهم مع غيرهم- فهناك في التفاهم والمخاطبة بحيث لا يكاد الإنسان منهم يقدر على التعبير عما في نفسه, ولا أن يفقه ما يحدثه به غيره من غير بني قومه *وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً" [الكهف: 93], إما لسبب في أسلوب التخاطب والتعامل -كما أسلفنا- أو من التخلف الحضاري والبدائية في العادات والمفاهيم والمصطلحات, فلما وجدوا القوة في دولة ذي القرنين والعدل والصلاح في سيرته -وعدل السلطان يفتح أمامه القلوب قبل فتح الجيوش والأمصار- لجأوا إليه بحمايتهم من هجمات تلك القبائل الهمجية المفسدة, قبائل يأجوج ومأجوج التي كانت تشن عليهم هجماتهم من خلف الجبلين المتقابلين من الممر الضيق الذي بينهما, وذلك بإقامة السد بين الصدفين, مقابل خراج يدفعونه إليه في أموالهم, ونظرًا لأن القضية التي وضعها ذو القرنين نصب عينيه هي الإصلاح ومقاومة الفساد والشر, والحكم بالعدل بين الناس, ولم يكن همه جمع المال أو قصد العلو في الأرض بإذلال الشعوب, فقد رفض عرضهم, وتطوع بإقامة السد على أن يتطوعوا هم من جانبهم بتقديم الجهد البشري, فمنه الخبرة والتصميم والإشراف, وعليهم الطاقة العمالية والمواد الأولية المتوافرة في بلادهم([24]).
ونلاحظ من السياق القرآني أن هؤلاء القوم اتصفوا بصفات منها:
1- هم قوم متخلفون: *لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً" وهذا إما معناه أنهم لا يفقهون لغة غيرهم من الأقوام الأخرى, لأنهم لم يطَّلعوا عليها ولم يتعلموها, فهم منغلقون على لغتهم فقط, وإما معناه أن الكلام لا ينفع معهم, لأنهم لا يفقهون ولا يتفاعلون معه, ولا يتفاهمون مع قائله, لا يفعلون هذا لجفاء وغلظة عندهم, أو لغفلة وسذاجة في طبيعتهم.
2- هم قوم ضعفاء, ولذلك عجزوا عن صد هجمات يأجوج ومأجوج, والوقوف في وجههم, ومنع إفسادهم.
3- هم قوم عاجزون عن الدفاع عن أرضهم, ومقاومة المعتدين, ولذلك لجأوا إلى قوة أخرى خارجية, قوة ذي القرنين, حيث طلبوا منه حل مشكلاتهم والدفاع عن أراضيهم.
4- هم قوم اتكاليون كسالى, لا يريدون أن يبذلوا جهدًا ولا أن يقوموا بعمل, ولذلك أحالوا المشكلة على ذي القرنين, وأوكلوا إليه حلها, أما هم فمستعدون لدفع المال له([25]).
لقد كان فقه ذي القرنين في التعامل مع الشعوب المستضعفة هو السعي الجاد لنقلها من الجهل والتخلف والكسل والضعف إلى العلم والتقدم والنشاط والقوة, فكان يدير العمل بروح الجماعة, ويشترك بنفسه مع إشراك غيره, ويدل على ذلك ضمير المتكلم الذي يتقابل في تسلسل متتابع رفيع مع ضمير المخاطب في النظم القرآني الكريم مما يشير إلى روح الحماس والحيوية والتعاون المشترك([26]), *قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ` آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا" [الكهف: 96،95] لقد كان ذو القرنين حريصًا على مصلحة الناس, ناصحًا لهم فيما يعود عليهم بالنفع, ولهذا طلب منهم المعونة الجسدية, لما في ذلك تنشيط لهم ورفع لمعنوياتهم([27]). ومن نصحه وإخلاصه لهم, أنه بذل ما في الوسع والخدمة أكثر مما كانوا يطلبون, فهم طلبوا منه أن يجعل بينهم وبين القوم المفسدين سدًا, أما هو فقد وعد بأن يجعل بينهم ردمًا, (والردم هو الحاجز الحصين, والحجاب المتين وهو أكبر من السد وأوثق, فوعدهم بفوق ما يرجون) ([28]).
لقد عفَّ ذو القرنين عن أموال المستضعفين وشرع في تعليمهم النشاط والعمل والكسب والسعي, فقال لهم: *فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا" [الكهف:95].
إن هذا العبارة القرآنية معلم بارز في تضافر الجهود وتوحيد الطاقات والقدرات والقوى.
إن القيادة الحكيمة هي التي تستطيع أن تفجر طاقات المجتمع وتوجهه نحو التكامل لتحقيق الخير والغايات المنشودة.
إن المجتمعات البشرية غنية بالطاقات المتعددة في المجالات المتنوعة في ساحات الفكر والمال والتخطيط والتنظيم, والقوى المادية, ويأتي دور القيادة الربانية في الأمة لتربط بين كل الخيوط والخطوط والتنسيق بين المواهب والطاقات وتتجه بها نحو خير الأمة ورفعتها.
إن أمتنا الإسلامية مليئة بالمواهب الضائعة والطاقات المعطلة, والأموال المهدرة, والأوقات المبددة, والشباب الحيارى, وهي تنتظر من قيادتها في كل الأقطار والدول والبلاد لكي تأخذ بقاعدة ذي القرنين في الجمع والتنسيق والتعاون ومحاربة الجهل والكسل والتخلف([29])*فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ".
إن ذا القرنين لم يكن موقفه مع المستضعفين حمايتهم, وإنما توريثهم أسباب القوة حتى يستطيعوا أن يقفوا أمام المفسدين, لقد كان ذو القرنين يستطيع أن يبقى حتى يبدأ يأجوج ومأجوج في الهجوم, ثم يهاجم ويهزمهم, ولكن الله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أنه ليس من وظيفة الحاكم أو الملك أن يظل في انتظار هجوم الظالم, ولكن وظيفته منع وقوع الظلم.
كيف منع ذو القرنين وقوع الظلم؟ لم يأت بجيوش لحماية المستضعفين مع قدرته على ذلك, وإنما طلب منهم أن يعينوه ليساعدهم على حماية أنفسهم ويتعلموا فنون الحماية ويكسبوا خبرات ويتدربوا على العمل الجاد المثمر الذي يجعلهم يبنون السد بأيديهم؛ وهذا أدعى للحفاظ عليه وإصلاحه إن أصابه شيء.
إن ذا القرنين رفض أن يكون هؤلاء المستضعفون عاطلين, قال الشيخ محمد متولي الشعراوي: وهذه تلفتنا إلى أن لله سبحانه وتعالى عطاء إمكانات, وعطاء ذاتي في النفس.. عطاء الإمكانات هو ما تستطيع أن توفره من وسائل تعينك على أداء العمل, والعطاء الذاتي في النفس هو القوة الذاتية في داخلك التي تعطيك طاقة العمل, وكثير منا لا يلتفت إلى عطاء النفس لا يلتفت إلى أنه فيه قوة يستطيع أن يعمل بها أعمالاً كثيرة, وأنه لا يستخدمها وأن لديه قوة تحمل وبإمكانه أن ينتقل من مكان إلى آخر.. وأن يعمل أعمالاً كثيرة.
هذه القوة معطلة عند عدد كبير من الناس, فهي غير مستخدمة, ويستطيع الرجل أن يفعل بها أشياء كثيرة, وأمامه المجالات التي يستخدم فيها طاقته؛ ولكنه لا يستخدمها, عنده قوة تفكير لو دربها على العلم لفتحت له أبوابًا كثيرة يرتزق منها؛ ولكنه يبقيها كسولة فلا تفكر في شيء ولا يستخدمها لينميها.
ماذا فعل ذو القرنين؟
لم يستعن بجيشه ولا بأناس آخرين.. إنما استعان بهؤلاء الضعفاء, لقد طلب منهم أن يأتوا بالحديد ثم بناء السد بحيث وصل به إلى قمة الجبلين, ثم قام بصهر الحديد, وأفرغ عليه النحاس ليكون السد في غاية المتانة والقوة.
إذن فهو قوَّى هؤلاء الضعفاء الذين كان يهاجمهم يأجوج ومأجوج, بأن علمهم كيف يعينون أنفسهم وكيف يبنون السد وجعلهم هم الذين يشتركون في البناء وهم الذين يقيمونه, وأعانهم هو بخبرته وعلمه فقط, ليأخذوا الثقة في أنفسهم, بأنهم يستطيعون حماية أنفسهم, وليتعلموا ما يعينهم ويحميهم, والإسلام ينهانا عن أن نعوِّد الناس على الكسل أو نعطيهم أجرًا بلا عمل, لأن ذلك هو الذي يفسد المجتمع, فالإنسان متى تقاضى أجرًا بلا عمل لا يمكن أن يعمل بعد ذلك أبدًا([30]).
إن ذا القرنين قام بمهمة الحاكم الممكن له في الأرض, فقوى المستضعف وجعله قادرًا على حماية نفسه من العدوان ولا يعتمد على حماية أحد, ولم يترك الناس في مقاعد المتفرجين؛ بل نقلهم إلى ساحة الجد عاملين([31]).
وهنا وقفة مهمة ودرس هام وضروري للأمة, وبخاصة في زماننا هذا, لأنها تواجه خطرًا ماحقًا مدمرًا, أشد وأقسى من يأجوج ومأجوج, إنه خطر الملاحدة واليهود والنصارى, الذين يسعون لتدمير كيان الأمة وسلخها من هويتها وعقيدتها وإسلامها وجعلها عاجزة مكتوفة الأيدي أمام هذا الخطر, تستنجد وتستنكر وتشكو إلى مجلس الأمن والأمم المتحدة, والدعوة إلى مؤتمر دولي.
إن القرآن الكريم يعلمنا ويرشدنا إلى طريق النجاة ألا وهي الالتزام بمنهج الله واتخاذ طريق العمل الصائب الصحيح, بالجهاد والقتال والقوة والعلوم المتطورة لكي تستحق الأمة رحمة الله, فعلى الأمة أن تودِّع الأماني والأحلام الخادعة, وعليها أن تدخل ميدان العمل والعطاء والجهاد والشهادة, فعندما تحرك القوم المستضعفون نحو العمل بقيادة ذي القرنين, وصلوا إلى هدفهم المنشود, وغايتهم المطلوبة, ونقف مع ذي القرنين بعد أن تم بناء السد.
نظر ذو القرنين إلى سده العظيم الذي حفظ الناس من غارات المفسدين وقال: *هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي" [الكهف:98], إنها عبارة جميلة مباركة تشير إلى عدة معانٍ:
1- قال سيد قطب رحمه الله: (ونظر ذو القرنين إلى العمل الضخم الذي قام به, فلم يأخذه البطر والغرور, ولم تسكره نشوة القوة والعلم, ولكنه ذكر الله فشكره, ورد إليه العمل الصالح الذي وفقه إليه...) ([32]).
2- ذكر ذي القرنين لربه عند إنجاز عمله, يعلمنا كيف يكون ذكر الله سبحانه, إن من أعظم صور الذكر, هي أن يذكر ربه عند توفيقه في عمله, فيستشعر أن هذا بأمر ربه, فيتواضع ويعدل ويذكر ويشكر.
3- كان بناء السد رحمة من الله تعالى, وقد استخدم ذو القرنين علمه الذي علمه الله إياه, وتمكينه الذي مكنه الله له, استخدمه في مساعدة الناس وتقديم الخير لهم, ومنع العدوان عنهم, فكان علمه رحمة من ربه وكان استخدامه له رحمة من ربه.
4- كان القوم مُهددين بيأجوج ومأجوج, مُعرَّضين لإفسادهم, ولم يحمهم منهم إلا الله ببناء السد, فكان السد رحمة من الله لهم, وكان خلاصًا لهم وإنقاذًا بإذن الله, فلو لم يتم بناء السد, ولو بقى أولئك القوم يَشكون ويندبون, بدون عمل ولا جهد ولا حركة, لما أنقذوا أنفسهم من الخطر, لأن الإنقاذ لا يتم إلا بالعمل والجهد المتواصل, وتكاتف الجهود, والانقياد الطوعي للشعوب لشرع الله خلف القيادة الربانية([33]).
5- *فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا" [الكهف:98].
لقد أعلن ذو القرنين ما يؤمن به من أن الجبال والحواجز والسدود ستدك عندما يحين وعد الله الذي لا يتخلف.
رابعًا: المفاهيم الحضارية والدروس والعبر:
أ- المفاهيم الحضارية:
إن الله تعالى أظهر في سيرة أحسن الملوك([34]) (ذي القرنين) مفاهيم حضارية وجعل في سيرته دروسًا لكل من أراد أن يحكم بالحق والعدل من الحكام في الناس, فأرشد القرآن الكريم عباده إلى ركائز الحضارة الربانية التي تقوم على شرع الله وتحكيمه بين العباد, فمن أهم هذه الركائز: الإيمان, العدل, العمل, وإنها لصفات لابد منها حتى يستقيم أمر الشعوب, ويأمنوا بحق على أنفسهم, وأموالهم, وأعراضهم, وأديانهم, وعقولهم, فالإيمان بالله ربًا يجعل الحاكم يحرص على أن يستقي أوامره وتشريعاته من منهج الله, الذي لا شطط فيه ولا خلاف, ولا إفراط ولا تفريط, ولا غلو ولا جفاء, ويكون بعيدًا كل البعد عن هواه, فلا يظلم ولا يبطر ولا يتحكم في رقاب الناس وأمنهم بدون وجه حق, والعدل لابد منه لأنه مركب النجاة, وأمان أهل الأرض, والثقة بين الراعي والرعية, والقائد والمقود والحاكم والمحكوم, وبالعمل والتعاون ينتشر العمران, وتعم الحضارة وفق منهج رب العالمين.
لقد بنى ذو القرنين حضارة ربانية معتمدة على ركائز الإيمان, والعلم والعدل, والإصلاح مستهدفة بني الإنسان أينما حل وأقام, أو ارتحل إلى أي مكان, فقاد الدنيا بالإيمان والخير والفلاح, وعمل على تخليصها من أسر المادة الطاغية, وكذلك الكفر والشرك والإجرام.
وحرص على تربية جنوده وأتباعه على الخير والحق ومحاربة الشر من النفوس, وأهم هذه الشرور الظلم والعدوان والتسلط على الناس, ومحاولة استعبادهم واستغلالهم لتحقيق مصالح شخصية, فالانحطاط الأخلاقي أضر شيء بالحياة الإنسانية.
إن الحضارة الربانية متكاملة, وقابلة للبناء في أي وقت كان فيه التزام بالمنهج الرباني وأحكامه, لأن المنهج الرباني وأحكامه فيه كل الخير من عناصر معنوية اعتقادية وروحية وأخلاقية وعلمية وإبداعية, وعناصر مادية تشمل التقدم العمراني والصناعي والزراعي والتجاري, وكذلك عناصر تنظيمية وتشريعية تنظم حياة الفرد والمجتمع والدولة, مرتبطًا بجميع جوانب الحضارة ولذلك تخرج للوجود حضارة ربانية مؤمنة تتقدم لصالح البشرية ولنشر الهداية لتعميمها على العباد وتسعى لبناء الرجال على أسس من العقلية والأخلاق, والأفكار الصحيحة, والتصورات السليمة قبل بناء المباني وتجميل المدن, وصناعة الأسلحة.
وتتميز الحضارة الربانية بتكاملها وتوازنها وتناسقها, من الحاجات الجسمية والعقلية والروحية وتتطلع إلى التنافس الشريف, وإسعاد البشرية, وتكوين الشخصية الربانية التي تتحمل مسئولياتها الحضارية.
إن سيرة ذي القرنين في قيادته الحضارية للبشرية في زمانه تعطينا صورة مشرقة للإنسان القوي المؤمن العالم, الذي يسخر كل إمكانات دولته وجنوده وأتباعه وعلومه ووسائله وأسبابه لتعزيز شرع الله وتمكين دينه وخدمة الإنسانية وإعلاء كلمة الله, وإخراج الناس من الظلمات إلى النور, ومن عبادة الناس والمادة إلى عبادة الله([35]), ولقد سار نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام والخلفاء الراشدون من بعده, على نفس المنوال والهدى الذي رسمه القرآن الكريم, ولقد طبقوا قول الله تعالى:*الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ" [الحج:41].
إن الإيمان الراسخ, والعمل الصالح, والسيرة الفاضلة, والمقاصد الخيرة, والدعوة إلى الله وإلى الحق واستخدام كل ما أوتينا من علم وحكمة يصنع الحضارة الربانية التي قاعدتها العقيدة الصحيحة, والتي تنبثق منها مبادئ وقيم وأخلاق ربانية تسعد من دخل في منهجها في الدنيا والآخرة.
إن الحضارة الإنسانية الرفيعة تتحقق في ظل دين الإسلام, وبذلك نستطيع أن نعرف الحضارة الربانية بأنها: «تفاعل الأنشطة الإنسانية للجماعة الموحدة لخلافة الله في الأرض عبر الزمن, وضمن المفاهيم الإسلامية عن الحياة والكون والإنسان»([36]).
وهذا التعريف يتسع ليضم بين جوانبه حلقات الحضارة الربانية المتعددة والتي بدأت مع فجر التاريخ, عبر الأنبياء والرسل والمؤمنين بهم, حتى الحلقة الأوسع وهي الحلقة المبتدئة بعصر النبي وما تبعه من تفاعلات وأحداث.
وهكذا تصبح الحضارة الربانية الحضارة العالمية, التي تضم بين أرجائها تفاعلات الأمم والشعوب المندرجة تحت شرع الله تعالى, وتقبل في عضويتها العالم بأسره, أسوده وأصفره وأبيضه وفق المنهج الرباني وأحكامه.
وتسعى لخدمة الإنسان وإسعاده, ليكون مع سائر الأكوان المحيطة به في وحدة حضارية كونية تتسامى في تمجيد الله تعالى, وفي تسبيح أصيل للخلاق العليم خالق الوجود كله([37]), قال تعالى: *تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا" [الإسراء: 44].
إننا إذا تأملنا في قول الله تعالى: *وَالْعَصْرِ ` إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ` إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ" [العصر:1-3]. لوجدناها بحق تمثل معنى الحضارة الربانية في مفاهيمها وعناصرها, فالسورة حوت عناصر الحضارة كلها بوضوح كامل: الإنسان, التجمع, صفة الجمع في السورة الذين آمنوا وعملوا الصالحات
- الزمن- الصبغة, كما تضمنت التفاعل الحضاري المستمر بالعمل والتطبيق والتنفيذ للمبادئ والمفاهيم.

إن تعطيل العمل والتنفيذ للمبادئ يعطل الربانية ويجعلها في حالة توقف وانتظار بل في حالة تأخر وانحسار([38]).
إن ذا القرنين ساهم في صناعة الحياة البشرية على أسس عقدية وأخلاق ربانية, وأكون قد أصبت الحقيقة إن قلت: وترك لنا معالم واضحة في التعامل مع نفسية الشعوب وتحريكها بالإيمان والعلم والعمل والعدل والإصلاح والتعمير.
ب- الدروس والعبر والحكم:
إن قصة ذي القرنين مليئة بالآيات والعبر والأحكام والآداب والثمرات والفوائد.
نذكر منها:
1- الاعتبار برفع الله بعض الناس درجات على بعض, ورزقه من يشاء بغير حساب ملكًا ومالاً لما له من خفي الحكم وباهر القدرة, فلا إله سواه.
2- الإشارة إلى القيام بالأسباب, والجري وراء سنة الله في الكون من الجد والعمل, وأن على قدر الجد يكون الفوز والظفر, فإن ما قصه الله علينا عن ذي القرنين من ضربه في الأرض إلى مغرب الشمس, ومطلعها وشمالها وعدم فتوره, ووجدانه اللذة في مواصلة الأسفار وتجشم الأخطار, وركوب الأوعار والبحار ثم إحرازه ذلك الفخار, الذي لا يشق له غبار, أكبر عبرة لأولي الأبصار.
3- ومنها تنشيط الهمم لرفع العوائق, وأنه متى ما تيسرت الأسباب, فلا ينبغي أن يعد ركوب البحر ولا اجتياز القفر, عذرًا في الخمول, والرضاء بالدون, بل ينبغي أن ينشط ويمثل في مرارته حلاوة عقباه من الراحة والهناء.
4- وجوب المبادرة إلى معالي الأمور.
5- إن من قدر على أعدائه وتمكن منهم, فلا ينبغي له أن تسكره لذة السلطة بسوقهم بعصا الإذلال, وتجريعهم غصص الاستعباد والنكال, بل يعامل المحسن بإحسانه والمسيء بقدر إساءته.
6- إن على الملك إذا اشتكى إليه جور مجاورين, أن يبذل وسعه في الراحة والأمن دفاعًا عن الوطن العزيز, وصيانة للحرية والتمدن من مخالب التوحش والخراب, قيامًا بفريضة دفع المعتدين وإمضاء العدل بين العالمين.
7- إن على الملك التعفف عن أموال رعيته, والزهد في أخذ أجر في مقابل عمل يأتيه, ففي ذلك حفظ كرامته وزيادة الشغف بمحبته.
8- التحدث بنعمة الله إذا اقتضاه المقام.
9- تدعيم الأسوار والحصون في الثغور وتقويتها على أسس علمية وفق دراسة ميدانية صحيحة, لتنتفع به الأجيال على مر العصور وكر الدهور.
10- مشاركة الحاكم العمال في الأعمال, والإشراف بنفسه إذا تطلب الأمر, لكي تنشط الهمم.
11- تذكير الغير وتعريفهم ثمار الأعمال المهمة لكي يستشعروا رحمة الله تعالى.
12- استحضار القدوم على الله, واستشعار زوال هذه الدنيا والتطلع إلى ما عند الله.
13- الاعتبار بتخليد جميل الثناء, وجليل الآثار, حيث نجد أن الآيات الكريمة أوضحت أخلاق ذي القرنين الكريمة من شجاعة وعفة وعدل وحرص على توطيد الأمن والإحسان للمحسنين ومعاقبة الظالمين.
14- الاهتمام بتوحيد الكلمة لمن يملك أممًا متباينة, كما كان يرمي إليه سعي ذي القرنين, فإنه دأب على توحيد الكلمة بين الشعوب ومزج تلك الأمم المختلفة ليربطها بالمنهج الرباني والشرع السماوي([39]).
وبهذا نقف عند الدروس والعبر والحكم من هذا القصص القرآني الكريم.


([1]) انظر: ذو القرنين القائد الفاتح والحاكم الصالح لمحمد خير رمضان.

([2]) انظر: مع قصص السابقين في القرآن للخالدي (6/255،254).

([3]) ذو القرنين القائد الفاتح والحاكم الصالح (247-249).

([4]) انظر: مع قصص السابقين في القرآن (6/244،242).

([5])مع قصص السابقين (2/331،330).

([6]) في ظلال القرآن (4/2291).

([7])انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/624).

([8])روح المعاني (16/40). (3) انظر: في ظلال القرآن (4/2293).



([10]) فتح القدير (3/313).

([11]) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/624).

([12]، 3) المصدر نفسه (2/624).



([14]) المصدر نفسه (2/627).

([15]) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/625).

([16]) انظر: روح المعاني (16/30).

([17]) انظر: البحر المحيط (6/159).

([18]) انظر: روح المعاني (16/31).

([19]) انظر: مباحث في التفسير الموضوعي لمصطفى مسلم, ص304.

([20]) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/623).

([21]) انظر: مباحث في التفسير الموضوعي, ص 305.

([22]) القصص القرآني في سورة الكهف ص87.

([23]) انظر: مباحث في التفسير الموضوعي, ص 306.

([24])المصدر السابق, ص 307.

([25]) انظر: مع قصص السابقين (2/338).

([26]) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/627).

([27]) انظر: أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي (3/243).

([28]) انظر: روح المعاني (16/40).

([29]) انظر: مع قصص السابقين (2/342).

([30]) القصص القرآني في سورة الكهف, ص 94،93.

([31]) المصدر نفسه, ص95.

([32]) الظلال (4/2293).

([33]) انظر: مع قصص السابقين (2/350).

([34]) انظر: مجموع الفتاوى (17/22).

([35]) انظر: ذو القرنين القائد الفاتح لمحمد خير رمضان, ص390.

([36]) (2) الإسلام والحضارة للندوة العالمية للشباب (1/490).



([38]) الإسلام والحضارة للندوة العالمية للشباب (1/491).

([39]) انظر: تفسير الإمام القاسمي (11/87-90).


رد مع اقتباس
  #34  
قديم 10-09-2008, 11:50 PM
الفاررة الي الله الفاررة الي الله غير متواجد حالياً
قـــلم نــابض
 




افتراضي

فقه التمكين عند ذي القرنين
أولاً: من هو ذو القرنين؟
اختلف المفسرون في اسم ذي القرنين ونسبه وزمان وجوده وسبب تلقيبه بذي القرنين, لقد تضاربت أقوالهم وآراؤهم, وتعارضت أدلتهم, واعتمد الكثير منهم على الإسرائيليات والخرافات والأساطير, والروايات الواهية, والأخبار الكاذبة.
وعندما طالعت الكتب التي تحدثت عن ذي القرنين([1]) خرجت بنتيجة وهي لا يمكننا الجزم بتحديد شخصية ذي القرنين, ولا تحديد رحلاته الثلاث التي أشار إليها القرآن الكريم, ولا تحديد السد الذي بناه على الكرة الأرضية.
إن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة لم يتعرضا إلى تلك التفصيلات, وبما أنهما سكتا عن المعلومات التفصيلية, فلا دلالة يقينية عليها.
ولذلك يكون كلام المفسرين وأهل التاريخ والعلماء عنها من باب الظن وليس من باب الجزم([2]).
لقد قالوا إن ذا القرنين: هو الإسكندر المقدوني اليوناني وذلك لأن البلاد التي استولى عليها الإسكندر امتدت إلى مشارق الأرض ومغاربها, وقيل هو قورش الإخميني, لإجماع المؤرخين على عدالة سيرته وحسن سيرته في الشعوب والممالك التي استولى عليها, وقيل إنه أبو كرب شمر بن عمرو الحميري, لقد ناقش الأستاذ محمد خير رمضان يوسف الأقوال السابقة وخرج بنتيجة أن ذا القرنين, لم يكن واحدًا من هؤلاء الثلاثة, ونقد الآراء السابقة نقدًا علميًا متينًا, ووصل إلى أن: (ذو القرنين القرآني الذي ذكره الله عز وجل في كتابه العزيز, وأثنى عليه بالإيمان والإصلاح والعدل, في سورة قرآنية عظيمة, وآيات إعجازية جليلة, وقصة تاريخية نادرة, مليئة بالدروس والعبر, طافحة بالعظات والمبادئ والحكم.
إنه علم قرآني بارز.. خلد الله ذكره في كتابه الخالد, فاستحق أن ينال لقب القرآني وكفى, ولم أشأ أن أقول غير هذا لأنني لم أر من أعطى شخصية ذي القرنين حظها في التاريخ مثلما أعطى الله عز وجل في كتابه العظيم, إنه الرجل الطواف في الأرض, الصالح العادل, الخاشع لربه, والمنفذ لأمره, والقائم بين الناس بالإصلاح, والذي ملك أقاصي الدنيا وأطرافها, فلم يغره مال ولا منصب ولا جاه ولا قوة ولا سلطان, بل إنه بقى ذاكرًا لفضل ربه ورحمته, متأهبًا لليوم الآخر, ليلقى جزاءه العادل عند ربه.
ويكفي أن يبقى ذو القرنين ذلك الشخصية العظيمة في التاريخ, وذلك العلم البارز في العدل والإصلاح, والقيادة ومثال الحاكم الصالح, على مر التاريخ, وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها, بشهادة الكتاب الخالد) ([3]).
إن القرآن الكريم اهتم بإخراج القيم الصحيحة في سيرة ذي القرنين وأعماله وأقواله مثل:
1- الحكم والسلطان والتمكين في الأرض ينبغي أن يسخر لتنفيذ شرع الله في الأرض وإقامة العدل بين العباد, وتيسير الأمر على المؤمنين المحسنين, وتضييق الخناق على الظالمين المعتدين ومنع الفساد والظلم وحماية الضعفاء من بطش المفسدين.
2- الرجال الأشداء ذوو الخبرات الفنية العالية في النواحي العسكرية والعمرانية والاقتصادية الذين كانوا طوع بنان ذي القرنين, وكذلك خضوع الأقاليم له وفتح الخزائن أمامه وتقديم خراج الشعوب له طواعية, كل ذلك لم يدخل في نفسه الغرور والبطر والطيش والغواية؛ بل بقى مثال الرجل المؤمن العفيف المترفع عن زينة الحياة الدنيا.
3- الاهتمام باتخاذ الأسباب لبلوغ الأهداف والغايات التي سعى إليها حيث آتاه الله من كل شيء سببًا فأتبع سببًا.
إن القرآن الكريم في قصة ذي القرنين وفي كل قصصه ركز على الدروس والعبر والحكم والسنن, ولم يهتم بكثير من القضايا التي لا تنفع الإنسان, ولذلك نجد في قصة ذي القرنين كثيرًا من المبهمات التي لا تفيد القارئ مثل: من هو ذو القرنين؟ وما شخصيته؟ وما حياته؟ وما الزمن الذي عاش فيه؟ والدولة التي حكمها, والحروب التي خاضها, والبلاد التي فتحها, ورحلته الأولى تجاه الغرب, وتحديد المنطقة التي وصل إليها, وتحديد المكان ذي العين الحمئة؟ وكيف وجد الشمس تغرب فيها, وأصل يأجوج ومأجوج, وتاريخهم, ومناطق سكنهم وإقامتهم بالضبط؟ وغير ذلك من التساؤلات([4]).
ثانيًا: معالم التمكين عند ذي القرنين:
أ- دستوره العادل:
إن المنهجية التي سار عليها ذو القرنين كحاكم مؤمن جعلته يلتزم بمعاني العدل المطلق في كل أحواله وسكناته, ولذلك سار في الناس والأمم والشعوب التي حكمها بسيرة العدل, فلم يعامل الأقوام التي تغلب عليها في حروبه بالظلم والجور والتعسف والتجبر والطغيان والبطش, وإنما عاملهم بهذا المنهج الرباني: *قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا ` وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا" [الكهف: 88،87].
وهذا المنهج الرباني الذي سار عليه يدل على إيمانه وتقواه, وعلى فطنته وذكائه, وعلى عدله ورحمته؛ لأن الناس الذين قهرهم وفتح بلادهم ليسوا على مستوى واحد, ولا على صفات واحدة, ولذلك لا يجوز أن يعاملوا جميعًا معاملة واحدة؛ فمنهم المؤمن ومنهم الكافر, ومنهم الصالح, ومنهم الطالح فهل يتساوون في المعاملة؟.
قال ذو القرنين: أما الظالم الكافر فسوف نعذبه لظلمه وكفره, وهذا التعذيب عقوبة له؛ فنحن عادلون في تعذيبه في الدنيا ثم مرده إلى خالقه لينال عذابه الأخروي.
إن الظالم والباغي الكافر في دستور ذي القرنين معذب مرتين؛ مرة في الدنيا على يديه, والأخرى يوم القيامة, حيث يعذبه الله عذابًا نكرًا, أما المؤمن الصالح فإنه مقرب من ذي القرنين, يجزيه الجزاء الحسن, ويكافئه المكافأة الطيبة, ويخاطبه بيسر وسهولة وإشراق وبر ومودة([5]), لقد كان ميزان العدالة في حكمه بين الناس, هو التقوى والإيمان والعمل الصالح, ودائمًا يتطلع إلى مقامات الإحسان.
ب- منهجه التربوي في الشعوب:
إن الله تعالى أوجب العقوبة الدنيوية على من ارتكب الفساد في المجتمع وكلف أهل الإيمان ممن مكن لهم في الأرض أن يحرصوا على تنفيذ العقوبات للمفسد والظالم لكي تستقيم الحياة في الدنيا.
إن ذا القرنين يقدم لكل مسئول أو حاكم أو قائد منهجًا أساسيًا, وطريقة عملية لتربية الشعوب على الاستقامة والسعي بها نحو العمل لتحقيق العبودية الكاملة لله تعالى, قال سيد قطب -رحمه الله-: (وهذا دستور الحاكم الصالح, فالمؤمن الصالح ينبغي أن يجد الكرامة والتيسير والجزاء الحسن عند الحاكم, والمعتدي الظالم يجب أن يلقى العذاب والإيذاء.. وحين يجد المحسن في الجماعة جزاء إحسانه جزاءً حسنًا أو مكانًا كريمًا وعونًا وتيسيرًا, ويجد المعتدي جزاء إفساده عقوبة وإهانة وجفوة, عندئذ يجد ما يحفزهم إلى الصلاح والإنتاج, أما حين يضطرب ميزان الحكم, فإذا المعتدون المفسدون مقربون إلى الحاكم, مقدمون في الدولة, وإذا العاملون الصالحون منبوذون أو محاربون, فعندئذ تتحول السلطة في يد الحاكم سوط عذاب وأداة إفساد, ويصير نظام الجماعة إلى الفوضى والفساد)([6]).
إن التربية العملية للقيادة الراشدة هي التي تجعل الحوافز المشجعة هدية للمحسن ليزداد في إحسانه, وتفجر طاقة الخير العاملة على زيادة الإحسان وتشعره بالاحترام والتقدير, وتأخذ على يد المسيء لتضرب على يده, حتى يترك الإساءة وتعمل على توسيع دوائر الخير والإحسان في أوساط المجتمع وتضييق حلقات الشر إلى أبعد حدود وفق قانون الثواب والعقاب المستمد من الواحد الديان.
جـ- اهتمامه بالعلوم المادية وتوظيفها للخير:
نلاحظ من الآيات القرآنية أن ذا القرنين وظّف علومًا عدة في دولته القوية ومن أهم هذه العلوم:
1- علم الجغرافيا حيث نجد أن ذا القرنين كان على علم بتقسيمات الأرض، وفجاجها وسبلها، ووديانها وجبالها وسهولها، لذلك استطاع أن يوظف هذا العلم في حركته مع جيوشه شرقًا وغربًا، وشمالاً وجنوبًا، ولا يخلو أن الأمر أن يكون في جيشه متخصصًا في هذا المجال. ([7])
2- كان صاحب خبرة ودراية بمختلف العلوم المتاحة في عصره، يدل على ذلك حسن اختياره للخامات، ومعرفته بخواصها، وإجلادته لاستعمالها والاستفادة منها، فقد استعمل المعادن على أحسن ما خلقت له، ووظف الإمكانات على خير ما أتيح له: *آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا" [الكهف: 96]أمرهم بأن يأتوه بقطع الحديد الضخمة، فآتوه إياها، فأخذ يبني شيئًا فشيئًا حتى جعل ما بين جانبي الجبلين من البنيان مساويًا لهما في العلو، ثم قال للعمال: (انخفوا بالكير في القطع الحديدية الموضوعة بين الصدفين)([8]). فلما تم ذلك وصارت النار عظيمة قال للذين يتولون أمر النحاس من الإذابة وغيرها: آتوني نحاسًا مذابًا أفرغه عليه فيصير مضاعف القوة والصلابة، وهي طريقة استخدمت حديثًا في تقوية الحديد، فوجد أن إضافة نسبة من النحاس إليه تضاعف مقاومته وصلابته([9]).
3- كان واقعيًا في قياسه للأمور وتدبيره لها، فقد قدر حجم الخطر، وقدر ما يحتاجه من علاج، فلم يجعل السور من الحجارة، فضلاً عن الطين واللبن، حتى لا يعود منهارًا لأدنى عارض، أو في أول هجوم، ولهذا باءت محاولات القومالمفسدين بالفشل عندما حاولوا التغلب على ما قهرهم به ذو القرنين: *فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا" [الكهف:97], أي لم يتمكنوا من اعتلائه لارتفاعه وملاسته, وما استطاعوا أن يثقبوه لصلابته وثخانته([10]).
لقد كان ذو القرنين على علم بأخبار الغيب التي جاءت به الشرائع, ومع ذلك لم يتخذ من الأقدار تكأة لتبرير القعود والهوان, فقد بنى السد وبذل فيه الجهد, مع علمه بأن له أجلاً سوف ينهدم فيه لا يعلمه إلا الله.
ثالثًا: أخلاقه القيادية وفقهه في إحياء الشعوب:
أ- أخلاقه القيادية:
إن شخصية ذي القرنين تميزت بأخلاق رفيعة ساعدته على تحقيق رسالته الدعوية والجهادية في الحياة ومن أهم هذه الأخلاق:
1- الصبر: كان جلدًا صابرًا على مشاق الرحلات؛ فمثلاً تلك الحملات التي كان يقوم بها تحتاج إلى جهود جبارة في التنظيم والنقل والتحرك والتأمين, فالأعمال التي كان يعملها تحتاج إلى جيوش ضخمة, وإلى عقلية يقظة, وذكاء وقاد, وصبر عظيم وآلات ضخمة وأسباب معينة على الفتح والنصر والتملك([11]).
2- كانت له مهابة ونجابة: يستشعرها من يراه لأول مرة, فلا يخطئ ظنه عندما يوقن أنه ليس بملك جبار ولا ظالم, فعندما بلغ بين السدين ووجد القوم المستضعفين, استأنسوا به, ووجدوا فيه مخلصًا من الظلم والقهر الواقع عليهم فبادروه بسؤال المعونة؛ فمن الذي أدراهم بأنه لن يكون مفسدًا مثلهم, ومعه من القوة والعدة ما ليس مثلهم([12]).
3- الشجاعة: كان قوي القلب جسورًا غير هيّاب من التبعات الضخمة والمسئوليات العظيمة إذا كان في ذلك مرضاة الله سبحانه, فإن ما طلب من إقامة السد, كان عملاً عظيمًا في ذاته, حيث إن القوم المفسدين كانوا من الممكن أن يوجهوا إفسادهم إليه وإلى جنوده, ولكنه أقدم وأقبل غير متأخر ولا مدبر([13]).
4- التوازن في شخصيته: فلم تعكر شجاعته على حكمته, ولم ينقص حزمه من رحمته, ولا حسمه من رفقه وعدالته, ولم تكن الدنيا كلها -وقد سُخرت له- كافية لإثنائه عن تواضعه وطهارته وعفته.
5- كثير الشكر: لأنه كان صاحب قلب حي موصول بالله تعالى, فلم تُسكره نشوة النصر, وحلاوة الغلبة بعدما أذل كبرياء المفسدين, بل نسب الفضل إلى ربه سبحانه([14]), وقال: *هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي" [الكهف:98].
6- كان عفيفًا مترفعًا عن مال لا يحتاجه, ومتاع لا ينفعه: فإن القوم المستضعفين لما شكوا إليه فساد المفسدين, عرضوا عليه الخراج؛ (فأجابهم بعفة وديانة وصلاح: إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه وما أنا فيه خير من الذي تبذلونه) ([15]).
إن مفتاح شخصية ذي القرنين تتمثل في إيمانه بالله تعالى والاستعداد لليوم الآخر, وحبه لأهل الإيمان وبغضه لأهل الكفر والعصيان, وحبه العميق للدعوة إلى الله, فالإيمان بالله واليوم الآخر يظهر ذلك جليًا في شخصية ذي القرنين عند قوله تعالى: *مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ" [الكهف:95], وقوله: *أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا" [الكهف:87], وقوله: *فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا" [الكهف:98]. وهذه المواضع التي صرح بأنه كان مؤمنًا بالله واليوم الآخر يستفاد منها أمور:
- إن الثناء على الحاكم لا يكون بمجرد شجاعة أو فتوح أو عمارة, ما لم ينضم إليها الإيمان بالله واليوم الآخر, لأن هناك حكامًا كثيرين كانت لهم من الإصلاحات الدنيوية المجردة ما يعتبرهم الناس من أجله عظماء, ومع ذلك لم يورد القرآن لهم ذكرًا حسنًا, بل جاء في القرآن ذم حكام عمروا في الدنيا كثيرًا ولكنهم خربوا أديان الناس وأفسدوا عليهم آخرتهم مثل فرعون وهامان والنمرود ونحوهم.
- إن التوازن المدهش والخلاب في شخصية ذي القرنين؛ سببه إيمانه بالله تعالى واليوم الآخر, ولذلك لم تطغ قوته على عدالته, ولا سلطانه على رحمته, ولا غناه على تواضعه, وأصبح مستحقًا لتأييد الله وعونه؛ ولذلك أكرمه الله تعالى بالأخذ بأسباب التمكين والغلبة وهو تفضل من الله تعالى على عبده الصالح, فجعل له مكنة وقدرة على التصرف في الأرض من حيث التدبير والرأي وكثرة الجنود والهيبة والوقار([16]).
وكذلك أكرمه بكثرة الأعوان والجنود وقذف الرعب في قلوب الأعداء وتسهيل السير عليه, وتعريفه فجاج الأرض واستيلائه على برها وبحرها([17]), وتمكنه بذلك من تملك المشارق والمغارب من الأرض, فكل هذه الأمور لا تعطى لشخص عادي, ولا يمكن أن يحققها حاكم بحوله وقوته وذكائه مهما بلغ, إلا أن يكون مؤيدًا من الله, ذلك التأييد الذي ينصر الله به عباده المؤمنين, ويدل على هذه العناية أيضًا ضمير العظمة في قوله تعالى: *وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا" [النمل:84] أي: أمده بكل ما أراده من مهمات ملكه ومقاصده المتعلقة بسلطانه, فزوده بعلم منازل الأرض وأعلامها وعرفه ألسنة الأقوام الذين كان يغزوهم, فكان لا يغزو قومًا إلا كلمهم بلسانهم([18]).
لقد أعطاه الله تعالى من كل شيء سببًا, وينصرف ذهن السامع أو القارئ إلى وجوه التمكين له في الأرض, وأسبابه من العلوم والمعرفة واستقراء سنن الأمم والشعوب صعودًا وهبوطًا, وفي سياسة النفوس أفرادًا وجماعات؛ تهذيبًا وتربية وانتظامًا, وأعطاه من أسباب القوة من الأسلحة والجيوش وأسباب القوة والمنعة والظفر, وأسباب العمران وتخطيط المدن وشق القنوات وإنماء الزراعة مهما قيل ومهما تصور من أسباب التمكين التي تليق برجل رباني قد مكن له في هذه الأرض([19]) يمكن أن يدخل تحت قوله تعالى: *إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا" [الكهف:84], لقد كانت رعاية الله تعالى لذي القرنين عظيمة بسبب إيمانه بالله تعالى, واستعداده لليوم الآخر, ولذلك فتح له باب التوفيق وفق ما سعى إليه من أهداف وغاية سامية.
لقد بذل ذو القرنين ما في وسعه من أجل دعوة الناس إلى عبادة الله, فقد جمع بين الفتوحات العظيمة بحد السيف, وفتوحات القلوب بالإيمان والإحسان, فكان إذا ظفر بأمة أو شعب دعاهم إلى الحق والإيمان بالله تعالى قبل العقاب أو الثواب, وكان حريصًا على الأعمال الإصلاحية في كل الأقاليم والبلدان التي فتحها, فسعى في بسط سلطان الحق, والعدالة في الأرض شرقًا وغربًا, وكان صاحب ولاء ومحبة لأهل الإيمان, مثلما كان معاديًا لأهل الكفران([20]).
ب- فقهه في إحياء الشعوب:
إن حركة ذي القرنين الدعوية والجهادية جعلته يحتك بالشعوب والأمم, وتكلم القرآن الكريم عن رحلاته الإيمانية:
1- الرحلة الأولى:
لم يحدد القرآن الكريم نقطة الانطلاق فيها وحدد النهاية إلى مغرب الشمس, ووجد عندها قومًا, فدعاهم إلى الله تعالى, وسار فيهم بسيرة العدل والإصلاح, قال تعالى: *أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا" [الكهف:87].
إنها سياسة العدل التي تورث التمكين في الحكم والسلطة, وفي قلوب الناس الحب والتكريم للمستقيمين, وإدخال الرعب في قلوب أهل الفساد والظلم, فالمؤمن المستقيم يجد الكرامة والود والقرب من الحاكم, ويكون بطانته وموضع عطفه وثقته ورعاية مصالحه وتيسير أموره.
أما المعتدي المتجاوز للحد, المنحرف الذي يريد الفساد في الأرض فسيجد العذاب الرادع من الحاكم في الحياة الدنيا, ثم يرد إلى ربه يوم القيامة ليلقى العقوبة الأنكى بما اقترفت يداه في حياته الأولى.
ولم يعين السياق القوم الذين اتخذ فيهم ذو القرنين هذه السياسة الحكيمة كما أهمل ذكر المدة التي مكثها بينهم, والنتائج التي توصل إليها, وكأن الأمر المفروغ منه أن تثمر هذه السيرة العادلة, والمبادئ السامية حضارة ربانية وتقدمًا وسعادة وطمأنينة, لذا لا داعي لذكرها والوقوف عندها([21]).
2- الرحلة الثانية:
وهي رحلة المشرق حيث يصل إلى مكان يبرز لعين الرائي أن الشمس تطلع من خلف الأفق, ولم يحدد السياق أهو بحر أم يابسة؟ إلا أن القوم الذين كانوا عند مطلع الشمس كانوا في أرض مكشوفة بحيث لا يحجبهم عن شروقها مرتفعات جبلية أو أشجار سامقة, وذهب الشيخ محمد متولي الشعراوي -رحمه الله- إلى أن المقصود *لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا" [الكهف:90], هي بلاد القطب الذي تكون فيه الشمس ستة شهور لا تغيب طوال هذه الشهور ولا يوجد ظلام يستر الشمس في هذه الأماكن([22]).
ونظرًا لوضوح سياسة ذي القرنين في الشعوب التي تمكن منها, وهو الدستور المعلن في رحلة الغرب لم يكرر هنا إعلان مبادئه, لأنها منهج حياة ودستور دولة مترامية الأطراف وسياسة أمم, فهو ملتزم بها أينما حل أو ارتحل([23]).
3- الرحلة الثالثة:
تختلف عن الرحلتين السابقتين من حيث طبيعة الأرض والتعامل مع البشر وسكان المنطقة, ومن حيث الأعمال التي قام بها, فلم يقتصر فيها على الأعمال الجهادية لكبح جماح الأشرار والمفسدين؛ بل قام بعمل عمراني هائل, أما الأرض فوعرة المسالك, وأما السكان -وكأن وعورة الأرض قد أثرت على طبائعهم وطريقة تخاطبهم مع غيرهم- فهناك في التفاهم والمخاطبة بحيث لا يكاد الإنسان منهم يقدر على التعبير عما في نفسه, ولا أن يفقه ما يحدثه به غيره من غير بني قومه *وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً" [الكهف: 93], إما لسبب في أسلوب التخاطب والتعامل -كما أسلفنا- أو من التخلف الحضاري والبدائية في العادات والمفاهيم والمصطلحات, فلما وجدوا القوة في دولة ذي القرنين والعدل والصلاح في سيرته -وعدل السلطان يفتح أمامه القلوب قبل فتح الجيوش والأمصار- لجأوا إليه بحمايتهم من هجمات تلك القبائل الهمجية المفسدة, قبائل يأجوج ومأجوج التي كانت تشن عليهم هجماتهم من خلف الجبلين المتقابلين من الممر الضيق الذي بينهما, وذلك بإقامة السد بين الصدفين, مقابل خراج يدفعونه إليه في أموالهم, ونظرًا لأن القضية التي وضعها ذو القرنين نصب عينيه هي الإصلاح ومقاومة الفساد والشر, والحكم بالعدل بين الناس, ولم يكن همه جمع المال أو قصد العلو في الأرض بإذلال الشعوب, فقد رفض عرضهم, وتطوع بإقامة السد على أن يتطوعوا هم من جانبهم بتقديم الجهد البشري, فمنه الخبرة والتصميم والإشراف, وعليهم الطاقة العمالية والمواد الأولية المتوافرة في بلادهم([24]).
ونلاحظ من السياق القرآني أن هؤلاء القوم اتصفوا بصفات منها:
1- هم قوم متخلفون: *لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً" وهذا إما معناه أنهم لا يفقهون لغة غيرهم من الأقوام الأخرى, لأنهم لم يطَّلعوا عليها ولم يتعلموها, فهم منغلقون على لغتهم فقط, وإما معناه أن الكلام لا ينفع معهم, لأنهم لا يفقهون ولا يتفاعلون معه, ولا يتفاهمون مع قائله, لا يفعلون هذا لجفاء وغلظة عندهم, أو لغفلة وسذاجة في طبيعتهم.
2- هم قوم ضعفاء, ولذلك عجزوا عن صد هجمات يأجوج ومأجوج, والوقوف في وجههم, ومنع إفسادهم.
3- هم قوم عاجزون عن الدفاع عن أرضهم, ومقاومة المعتدين, ولذلك لجأوا إلى قوة أخرى خارجية, قوة ذي القرنين, حيث طلبوا منه حل مشكلاتهم والدفاع عن أراضيهم.
4- هم قوم اتكاليون كسالى, لا يريدون أن يبذلوا جهدًا ولا أن يقوموا بعمل, ولذلك أحالوا المشكلة على ذي القرنين, وأوكلوا إليه حلها, أما هم فمستعدون لدفع المال له([25]).
لقد كان فقه ذي القرنين في التعامل مع الشعوب المستضعفة هو السعي الجاد لنقلها من الجهل والتخلف والكسل والضعف إلى العلم والتقدم والنشاط والقوة, فكان يدير العمل بروح الجماعة, ويشترك بنفسه مع إشراك غيره, ويدل على ذلك ضمير المتكلم الذي يتقابل في تسلسل متتابع رفيع مع ضمير المخاطب في النظم القرآني الكريم مما يشير إلى روح الحماس والحيوية والتعاون المشترك([26]), *قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ` آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا" [الكهف: 96،95] لقد كان ذو القرنين حريصًا على مصلحة الناس, ناصحًا لهم فيما يعود عليهم بالنفع, ولهذا طلب منهم المعونة الجسدية, لما في ذلك تنشيط لهم ورفع لمعنوياتهم([27]). ومن نصحه وإخلاصه لهم, أنه بذل ما في الوسع والخدمة أكثر مما كانوا يطلبون, فهم طلبوا منه أن يجعل بينهم وبين القوم المفسدين سدًا, أما هو فقد وعد بأن يجعل بينهم ردمًا, (والردم هو الحاجز الحصين, والحجاب المتين وهو أكبر من السد وأوثق, فوعدهم بفوق ما يرجون) ([28]).
لقد عفَّ ذو القرنين عن أموال المستضعفين وشرع في تعليمهم النشاط والعمل والكسب والسعي, فقال لهم: *فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا" [الكهف:95].
إن هذا العبارة القرآنية معلم بارز في تضافر الجهود وتوحيد الطاقات والقدرات والقوى.
إن القيادة الحكيمة هي التي تستطيع أن تفجر طاقات المجتمع وتوجهه نحو التكامل لتحقيق الخير والغايات المنشودة.
إن المجتمعات البشرية غنية بالطاقات المتعددة في المجالات المتنوعة في ساحات الفكر والمال والتخطيط والتنظيم, والقوى المادية, ويأتي دور القيادة الربانية في الأمة لتربط بين كل الخيوط والخطوط والتنسيق بين المواهب والطاقات وتتجه بها نحو خير الأمة ورفعتها.
إن أمتنا الإسلامية مليئة بالمواهب الضائعة والطاقات المعطلة, والأموال المهدرة, والأوقات المبددة, والشباب الحيارى, وهي تنتظر من قيادتها في كل الأقطار والدول والبلاد لكي تأخذ بقاعدة ذي القرنين في الجمع والتنسيق والتعاون ومحاربة الجهل والكسل والتخلف([29])*فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ".
إن ذا القرنين لم يكن موقفه مع المستضعفين حمايتهم, وإنما توريثهم أسباب القوة حتى يستطيعوا أن يقفوا أمام المفسدين, لقد كان ذو القرنين يستطيع أن يبقى حتى يبدأ يأجوج ومأجوج في الهجوم, ثم يهاجم ويهزمهم, ولكن الله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أنه ليس من وظيفة الحاكم أو الملك أن يظل في انتظار هجوم الظالم, ولكن وظيفته منع وقوع الظلم.
كيف منع ذو القرنين وقوع الظلم؟ لم يأت بجيوش لحماية المستضعفين مع قدرته على ذلك, وإنما طلب منهم أن يعينوه ليساعدهم على حماية أنفسهم ويتعلموا فنون الحماية ويكسبوا خبرات ويتدربوا على العمل الجاد المثمر الذي يجعلهم يبنون السد بأيديهم؛ وهذا أدعى للحفاظ عليه وإصلاحه إن أصابه شيء.
إن ذا القرنين رفض أن يكون هؤلاء المستضعفون عاطلين, قال الشيخ محمد متولي الشعراوي: وهذه تلفتنا إلى أن لله سبحانه وتعالى عطاء إمكانات, وعطاء ذاتي في النفس.. عطاء الإمكانات هو ما تستطيع أن توفره من وسائل تعينك على أداء العمل, والعطاء الذاتي في النفس هو القوة الذاتية في داخلك التي تعطيك طاقة العمل, وكثير منا لا يلتفت إلى عطاء النفس لا يلتفت إلى أنه فيه قوة يستطيع أن يعمل بها أعمالاً كثيرة, وأنه لا يستخدمها وأن لديه قوة تحمل وبإمكانه أن ينتقل من مكان إلى آخر.. وأن يعمل أعمالاً كثيرة.
هذه القوة معطلة عند عدد كبير من الناس, فهي غير مستخدمة, ويستطيع الرجل أن يفعل بها أشياء كثيرة, وأمامه المجالات التي يستخدم فيها طاقته؛ ولكنه لا يستخدمها, عنده قوة تفكير لو دربها على العلم لفتحت له أبوابًا كثيرة يرتزق منها؛ ولكنه يبقيها كسولة فلا تفكر في شيء ولا يستخدمها لينميها.
ماذا فعل ذو القرنين؟
لم يستعن بجيشه ولا بأناس آخرين.. إنما استعان بهؤلاء الضعفاء, لقد طلب منهم أن يأتوا بالحديد ثم بناء السد بحيث وصل به إلى قمة الجبلين, ثم قام بصهر الحديد, وأفرغ عليه النحاس ليكون السد في غاية المتانة والقوة.
إذن فهو قوَّى هؤلاء الضعفاء الذين كان يهاجمهم يأجوج ومأجوج, بأن علمهم كيف يعينون أنفسهم وكيف يبنون السد وجعلهم هم الذين يشتركون في البناء وهم الذين يقيمونه, وأعانهم هو بخبرته وعلمه فقط, ليأخذوا الثقة في أنفسهم, بأنهم يستطيعون حماية أنفسهم, وليتعلموا ما يعينهم ويحميهم, والإسلام ينهانا عن أن نعوِّد الناس على الكسل أو نعطيهم أجرًا بلا عمل, لأن ذلك هو الذي يفسد المجتمع, فالإنسان متى تقاضى أجرًا بلا عمل لا يمكن أن يعمل بعد ذلك أبدًا([30]).
إن ذا القرنين قام بمهمة الحاكم الممكن له في الأرض, فقوى المستضعف وجعله قادرًا على حماية نفسه من العدوان ولا يعتمد على حماية أحد, ولم يترك الناس في مقاعد المتفرجين؛ بل نقلهم إلى ساحة الجد عاملين([31]).
وهنا وقفة مهمة ودرس هام وضروري للأمة, وبخاصة في زماننا هذا, لأنها تواجه خطرًا ماحقًا مدمرًا, أشد وأقسى من يأجوج ومأجوج, إنه خطر الملاحدة واليهود والنصارى, الذين يسعون لتدمير كيان الأمة وسلخها من هويتها وعقيدتها وإسلامها وجعلها عاجزة مكتوفة الأيدي أمام هذا الخطر, تستنجد وتستنكر وتشكو إلى مجلس الأمن والأمم المتحدة, والدعوة إلى مؤتمر دولي.
إن القرآن الكريم يعلمنا ويرشدنا إلى طريق النجاة ألا وهي الالتزام بمنهج الله واتخاذ طريق العمل الصائب الصحيح, بالجهاد والقتال والقوة والعلوم المتطورة لكي تستحق الأمة رحمة الله, فعلى الأمة أن تودِّع الأماني والأحلام الخادعة, وعليها أن تدخل ميدان العمل والعطاء والجهاد والشهادة, فعندما تحرك القوم المستضعفون نحو العمل بقيادة ذي القرنين, وصلوا إلى هدفهم المنشود, وغايتهم المطلوبة, ونقف مع ذي القرنين بعد أن تم بناء السد.
نظر ذو القرنين إلى سده العظيم الذي حفظ الناس من غارات المفسدين وقال: *هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي" [الكهف:98], إنها عبارة جميلة مباركة تشير إلى عدة معانٍ:
1- قال سيد قطب رحمه الله: (ونظر ذو القرنين إلى العمل الضخم الذي قام به, فلم يأخذه البطر والغرور, ولم تسكره نشوة القوة والعلم, ولكنه ذكر الله فشكره, ورد إليه العمل الصالح الذي وفقه إليه...) ([32]).
2- ذكر ذي القرنين لربه عند إنجاز عمله, يعلمنا كيف يكون ذكر الله سبحانه, إن من أعظم صور الذكر, هي أن يذكر ربه عند توفيقه في عمله, فيستشعر أن هذا بأمر ربه, فيتواضع ويعدل ويذكر ويشكر.
3- كان بناء السد رحمة من الله تعالى, وقد استخدم ذو القرنين علمه الذي علمه الله إياه, وتمكينه الذي مكنه الله له, استخدمه في مساعدة الناس وتقديم الخير لهم, ومنع العدوان عنهم, فكان علمه رحمة من ربه وكان استخدامه له رحمة من ربه.
4- كان القوم مُهددين بيأجوج ومأجوج, مُعرَّضين لإفسادهم, ولم يحمهم منهم إلا الله ببناء السد, فكان السد رحمة من الله لهم, وكان خلاصًا لهم وإنقاذًا بإذن الله, فلو لم يتم بناء السد, ولو بقى أولئك القوم يَشكون ويندبون, بدون عمل ولا جهد ولا حركة, لما أنقذوا أنفسهم من الخطر, لأن الإنقاذ لا يتم إلا بالعمل والجهد المتواصل, وتكاتف الجهود, والانقياد الطوعي للشعوب لشرع الله خلف القيادة الربانية([33]).
5- *فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا" [الكهف:98].
لقد أعلن ذو القرنين ما يؤمن به من أن الجبال والحواجز والسدود ستدك عندما يحين وعد الله الذي لا يتخلف.
رابعًا: المفاهيم الحضارية والدروس والعبر:
أ- المفاهيم الحضارية:
إن الله تعالى أظهر في سيرة أحسن الملوك([34]) (ذي القرنين) مفاهيم حضارية وجعل في سيرته دروسًا لكل من أراد أن يحكم بالحق والعدل من الحكام في الناس, فأرشد القرآن الكريم عباده إلى ركائز الحضارة الربانية التي تقوم على شرع الله وتحكيمه بين العباد, فمن أهم هذه الركائز: الإيمان, العدل, العمل, وإنها لصفات لابد منها حتى يستقيم أمر الشعوب, ويأمنوا بحق على أنفسهم, وأموالهم, وأعراضهم, وأديانهم, وعقولهم, فالإيمان بالله ربًا يجعل الحاكم يحرص على أن يستقي أوامره وتشريعاته من منهج الله, الذي لا شطط فيه ولا خلاف, ولا إفراط ولا تفريط, ولا غلو ولا جفاء, ويكون بعيدًا كل البعد عن هواه, فلا يظلم ولا يبطر ولا يتحكم في رقاب الناس وأمنهم بدون وجه حق, والعدل لابد منه لأنه مركب النجاة, وأمان أهل الأرض, والثقة بين الراعي والرعية, والقائد والمقود والحاكم والمحكوم, وبالعمل والتعاون ينتشر العمران, وتعم الحضارة وفق منهج رب العالمين.
لقد بنى ذو القرنين حضارة ربانية معتمدة على ركائز الإيمان, والعلم والعدل, والإصلاح مستهدفة بني الإنسان أينما حل وأقام, أو ارتحل إلى أي مكان, فقاد الدنيا بالإيمان والخير والفلاح, وعمل على تخليصها من أسر المادة الطاغية, وكذلك الكفر والشرك والإجرام.
وحرص على تربية جنوده وأتباعه على الخير والحق ومحاربة الشر من النفوس, وأهم هذه الشرور الظلم والعدوان والتسلط على الناس, ومحاولة استعبادهم واستغلالهم لتحقيق مصالح شخصية, فالانحطاط الأخلاقي أضر شيء بالحياة الإنسانية.
إن الحضارة الربانية متكاملة, وقابلة للبناء في أي وقت كان فيه التزام بالمنهج الرباني وأحكامه, لأن المنهج الرباني وأحكامه فيه كل الخير من عناصر معنوية اعتقادية وروحية وأخلاقية وعلمية وإبداعية, وعناصر مادية تشمل التقدم العمراني والصناعي والزراعي والتجاري, وكذلك عناصر تنظيمية وتشريعية تنظم حياة الفرد والمجتمع والدولة, مرتبطًا بجميع جوانب الحضارة ولذلك تخرج للوجود حضارة ربانية مؤمنة تتقدم لصالح البشرية ولنشر الهداية لتعميمها على العباد وتسعى لبناء الرجال على أسس من العقلية والأخلاق, والأفكار الصحيحة, والتصورات السليمة قبل بناء المباني وتجميل المدن, وصناعة الأسلحة.
وتتميز الحضارة الربانية بتكاملها وتوازنها وتناسقها, من الحاجات الجسمية والعقلية والروحية وتتطلع إلى التنافس الشريف, وإسعاد البشرية, وتكوين الشخصية الربانية التي تتحمل مسئولياتها الحضارية.
إن سيرة ذي القرنين في قيادته الحضارية للبشرية في زمانه تعطينا صورة مشرقة للإنسان القوي المؤمن العالم, الذي يسخر كل إمكانات دولته وجنوده وأتباعه وعلومه ووسائله وأسبابه لتعزيز شرع الله وتمكين دينه وخدمة الإنسانية وإعلاء كلمة الله, وإخراج الناس من الظلمات إلى النور, ومن عبادة الناس والمادة إلى عبادة الله([35]), ولقد سار نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام والخلفاء الراشدون من بعده, على نفس المنوال والهدى الذي رسمه القرآن الكريم, ولقد طبقوا قول الله تعالى:*الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ" [الحج:41].
إن الإيمان الراسخ, والعمل الصالح, والسيرة الفاضلة, والمقاصد الخيرة, والدعوة إلى الله وإلى الحق واستخدام كل ما أوتينا من علم وحكمة يصنع الحضارة الربانية التي قاعدتها العقيدة الصحيحة, والتي تنبثق منها مبادئ وقيم وأخلاق ربانية تسعد من دخل في منهجها في الدنيا والآخرة.
إن الحضارة الإنسانية الرفيعة تتحقق في ظل دين الإسلام, وبذلك نستطيع أن نعرف الحضارة الربانية بأنها: «تفاعل الأنشطة الإنسانية للجماعة الموحدة لخلافة الله في الأرض عبر الزمن, وضمن المفاهيم الإسلامية عن الحياة والكون والإنسان»([36]).
وهذا التعريف يتسع ليضم بين جوانبه حلقات الحضارة الربانية المتعددة والتي بدأت مع فجر التاريخ, عبر الأنبياء والرسل والمؤمنين بهم, حتى الحلقة الأوسع وهي الحلقة المبتدئة بعصر النبي وما تبعه من تفاعلات وأحداث.
وهكذا تصبح الحضارة الربانية الحضارة العالمية, التي تضم بين أرجائها تفاعلات الأمم والشعوب المندرجة تحت شرع الله تعالى, وتقبل في عضويتها العالم بأسره, أسوده وأصفره وأبيضه وفق المنهج الرباني وأحكامه.
وتسعى لخدمة الإنسان وإسعاده, ليكون مع سائر الأكوان المحيطة به في وحدة حضارية كونية تتسامى في تمجيد الله تعالى, وفي تسبيح أصيل للخلاق العليم خالق الوجود كله([37]), قال تعالى: *تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا" [الإسراء: 44].
إننا إذا تأملنا في قول الله تعالى: *وَالْعَصْرِ ` إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ` إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ" [العصر:1-3]. لوجدناها بحق تمثل معنى الحضارة الربانية في مفاهيمها وعناصرها, فالسورة حوت عناصر الحضارة كلها بوضوح كامل: الإنسان, التجمع, صفة الجمع في السورة الذين آمنوا وعملوا الصالحات
- الزمن- الصبغة, كما تضمنت التفاعل الحضاري المستمر بالعمل والتطبيق والتنفيذ للمبادئ والمفاهيم.

إن تعطيل العمل والتنفيذ للمبادئ يعطل الربانية ويجعلها في حالة توقف وانتظار بل في حالة تأخر وانحسار([38]).
إن ذا القرنين ساهم في صناعة الحياة البشرية على أسس عقدية وأخلاق ربانية, وأكون قد أصبت الحقيقة إن قلت: وترك لنا معالم واضحة في التعامل مع نفسية الشعوب وتحريكها بالإيمان والعلم والعمل والعدل والإصلاح والتعمير.
ب- الدروس والعبر والحكم:
إن قصة ذي القرنين مليئة بالآيات والعبر والأحكام والآداب والثمرات والفوائد.
نذكر منها:
1- الاعتبار برفع الله بعض الناس درجات على بعض, ورزقه من يشاء بغير حساب ملكًا ومالاً لما له من خفي الحكم وباهر القدرة, فلا إله سواه.
2- الإشارة إلى القيام بالأسباب, والجري وراء سنة الله في الكون من الجد والعمل, وأن على قدر الجد يكون الفوز والظفر, فإن ما قصه الله علينا عن ذي القرنين من ضربه في الأرض إلى مغرب الشمس, ومطلعها وشمالها وعدم فتوره, ووجدانه اللذة في مواصلة الأسفار وتجشم الأخطار, وركوب الأوعار والبحار ثم إحرازه ذلك الفخار, الذي لا يشق له غبار, أكبر عبرة لأولي الأبصار.
3- ومنها تنشيط الهمم لرفع العوائق, وأنه متى ما تيسرت الأسباب, فلا ينبغي أن يعد ركوب البحر ولا اجتياز القفر, عذرًا في الخمول, والرضاء بالدون, بل ينبغي أن ينشط ويمثل في مرارته حلاوة عقباه من الراحة والهناء.
4- وجوب المبادرة إلى معالي الأمور.
5- إن من قدر على أعدائه وتمكن منهم, فلا ينبغي له أن تسكره لذة السلطة بسوقهم بعصا الإذلال, وتجريعهم غصص الاستعباد والنكال, بل يعامل المحسن بإحسانه والمسيء بقدر إساءته.
6- إن على الملك إذا اشتكى إليه جور مجاورين, أن يبذل وسعه في الراحة والأمن دفاعًا عن الوطن العزيز, وصيانة للحرية والتمدن من مخالب التوحش والخراب, قيامًا بفريضة دفع المعتدين وإمضاء العدل بين العالمين.
7- إن على الملك التعفف عن أموال رعيته, والزهد في أخذ أجر في مقابل عمل يأتيه, ففي ذلك حفظ كرامته وزيادة الشغف بمحبته.
8- التحدث بنعمة الله إذا اقتضاه المقام.
9- تدعيم الأسوار والحصون في الثغور وتقويتها على أسس علمية وفق دراسة ميدانية صحيحة, لتنتفع به الأجيال على مر العصور وكر الدهور.
10- مشاركة الحاكم العمال في الأعمال, والإشراف بنفسه إذا تطلب الأمر, لكي تنشط الهمم.
11- تذكير الغير وتعريفهم ثمار الأعمال المهمة لكي يستشعروا رحمة الله تعالى.
12- استحضار القدوم على الله, واستشعار زوال هذه الدنيا والتطلع إلى ما عند الله.
13- الاعتبار بتخليد جميل الثناء, وجليل الآثار, حيث نجد أن الآيات الكريمة أوضحت أخلاق ذي القرنين الكريمة من شجاعة وعفة وعدل وحرص على توطيد الأمن والإحسان للمحسنين ومعاقبة الظالمين.
14- الاهتمام بتوحيد الكلمة لمن يملك أممًا متباينة, كما كان يرمي إليه سعي ذي القرنين, فإنه دأب على توحيد الكلمة بين الشعوب ومزج تلك الأمم المختلفة ليربطها بالمنهج الرباني والشرع السماوي([39]).
وبهذا نقف عند الدروس والعبر والحكم من هذا القصص القرآني الكريم.



([1]) انظر: ذو القرنين القائد الفاتح والحاكم الصالح لمحمد خير رمضان.

([2]) انظر: مع قصص السابقين في القرآن للخالدي (6/255،254).

([3]) ذو القرنين القائد الفاتح والحاكم الصالح (247-249).

([4]) انظر: مع قصص السابقين في القرآن (6/244،242).

([5])مع قصص السابقين (2/331،330).

([6]) في ظلال القرآن (4/2291).

([7])انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/624).

([8])روح المعاني (16/40). (3) انظر: في ظلال القرآن (4/2293).



([10]) فتح القدير (3/313).

([11]) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/624).

([12]، 3) المصدر نفسه (2/624).



([14]) المصدر نفسه (2/627).

([15]) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/625).

([16]) انظر: روح المعاني (16/30).

([17]) انظر: البحر المحيط (6/159).

([18]) انظر: روح المعاني (16/31).

([19]) انظر: مباحث في التفسير الموضوعي لمصطفى مسلم, ص304.

([20]) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/623).

([21]) انظر: مباحث في التفسير الموضوعي, ص 305.

([22]) القصص القرآني في سورة الكهف ص87.

([23]) انظر: مباحث في التفسير الموضوعي, ص 306.

([24])المصدر السابق, ص 307.

([25]) انظر: مع قصص السابقين (2/338).

([26]) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/627).

([27]) انظر: أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي (3/243).

([28]) انظر: روح المعاني (16/40).

([29]) انظر: مع قصص السابقين (2/342).

([30]) القصص القرآني في سورة الكهف, ص 94،93.

([31]) المصدر نفسه, ص95.

([32]) الظلال (4/2293).

([33]) انظر: مع قصص السابقين (2/350).

([34]) انظر: مجموع الفتاوى (17/22).

([35]) انظر: ذو القرنين القائد الفاتح لمحمد خير رمضان, ص390.

([36]) (2) الإسلام والحضارة للندوة العالمية للشباب (1/490).



([38]) الإسلام والحضارة للندوة العالمية للشباب (1/491).

([39]) انظر: تفسير الإمام القاسمي (11/87-90).


رد مع اقتباس
  #35  
قديم 10-18-2008, 04:57 PM
الفاررة الي الله الفاررة الي الله غير متواجد حالياً
قـــلم نــابض
 




افتراضي

شــــــــروط التمكين وأسبابـــــــه
تمهيد:
إن الاستخلاف في الأرض, والتمكين لدين الله, وإبدال الخوف أمنًا, وعد من الله تعالى متى حقق المسلمون شروطه. ولقد أشار القرآن الكريم بكل وضوح إلى شروط التمكين, ولوازم الاستمرار فيه.
قال تعالى: *وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ` وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" [النور:56،55].
لقد أشارت الآيات الكريمة إلى شروط التمكين وهي: الإيمان بكل معانيه وبكل أركانه, وممارسة العمل الصالح, بكل أنواعه, والحرص على كل أنواع الخير وصنوف البر, وتحقيق العبودية الشاملة, ومحاربة الشرك بكل أشكاله وأنواعه وخفاياه, وأما لوازم استمرار التمكين فهي: إقامة الصلاة, وإيتاء الزكاة, وطاعة الرسول .
وأما ما يتعلق بأسباب التمكين, فقد أمر الله تعالى بالإعداد الشامل في قوله تعالى: *وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ" [الأنفال:60].
والإعداد في حقيقته أخذ بالأسباب, فالإعداد المطلوب من خلال مفهوم الآية إعداد شامل؛ لأن كلمة قوة جاءت نكرة في سياق الأمر, فيشمل قوة العقيدة والإيمان, وقوة الصف والتلاحم, وقوة السلاح والساعد.
إن الآية الكريمة تفتح أذهان المسلمين على الإعداد الشامل؛ المعنوي والمادي, العلمي والفقهي على مستوى الأفراد والجماعات, وتدخل في طياتها
الإعداد التربوي والسلوكي والإعداد المالي, والإعلامي والسياسي والأمني,
والعسكري.... إلخ.

وفي هذا الباب سنتعرض لبيان شروط التمكين في فصل مستقل وبيان أسبابه في فصل آخر بإذن الله تعالى, لكي يستفيد منها المسلمون في حركتهم الجادة لتمكين شرع الله في الأرض.
رد مع اقتباس
  #36  
قديم 10-18-2008, 04:58 PM
الفاررة الي الله الفاررة الي الله غير متواجد حالياً
قـــلم نــابض
 




افتراضي

المبحث الأول الإيمان بالله والعمل الصالح
الفصل الأول شــــــــــروط التمكـــــــــين
المبحث الأول الإيمان بالله والعمل الصالح
لقد بين الله سبحانه لعباده حقيقة الإيمان الذي يقبل الله به الأعمال ويتحقق به وعد الله للمؤمنين.
فمن شروط الاستخلاف في الأرض تحقيق الإيمان بكل معانيه والالتزام بشروطه والابتعاد عن نواقضه.
وقد فصل القرآن الكريم والسنة النبوية موضوع الإيمان وأركانه وشروطه ولوازمه.
وقد بين علماء أهل السنة في تعاريفهم بيان حقيقة الإيمان فقالوا: بأن الإيمان هو التصديق بالقلب والنطق بالشهادتين والعمل بالجوارح والأركان, أي هو: اعتقاد وقول وعمل, فهذه الثلاثة كلها مندرجة فيه وتمثل أجزاء من حقيقته.
وقد تواترت أقوال العلماء ومن بعدهم على هذه الحقيقة, واستدلوا بأدلة كثيرة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على صحة هذا القول في حقيقة الإيمان([1]).
قال تعالى: *إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ` الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ` أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا" [الأنفال: 2-4].
فقد جمعت هذه الآيات -وهي تعرض صفات المؤمنين- بين عمل القلب وعمل الجوارح, واعتبرت هذا كله إيمانًا, وقصرت الإيمان عليه بأداة القصر والحصر *إِنَّمَا" وعرفت المؤمنين بتلك الصفات مجتمعة, عندما ضمنتها بعبارة *أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا" وأعمال الجوارح في هذه الصفات هي: إقامة الصلاة والإنفاق في سبيل الله.
ومنها قوله تعالى: *إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ" [السجدة:15], فسجود المؤمنين عندما يذكَّرون بآيات الله, عبادة عملية بدنية, وتسبيحهم بحمد ربهم عبادة عملية لسانية, وعدم استكبارهم عبادة عملية سلوكية أخلاقية قلبية.. وهذه كلها أعمال مندرجة في حقيقة الإيمان.
ومنها قوله تعالى: *إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ" [البقرة: 277], فمن حقيقة الإيمان في الآية عمل الصالحات على عمومها, وخصصت اثنتين منها بالذكر وهما الصلاة والزكاة, واعتبرت أداءهما عمليًا من الإيمان.
إن آيات القرآن التي قرنت بين الإيمان وعمل الصالحات واعتبرت الأمرين من حقيقة الإيمان ومن صفات المؤمنين كثيرة, منها قوله تعالى: *إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئًا" [مريم:60].
وفي قوله تعالى: *إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ" [سبأ: 37].وكقوله تعالى: *إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً" [الكهف:30].
هذا وقد أطلق القرآن لفظ (الإيمان) على العمل في بعض الآيات ومن ذلك قوله تعالى: *وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ" [البقرة: 143], والإيمان هنا يراد به الصلاة, وقد ذهب جمهور المفسرين إلى هذا, بل إن الصحابة فهموا هذا وتضافرت الروايات عنهم في سبب نزول الآية.
روى إمام المفسرين ابن جرير الطبري بسنده عن قتادة, قال: (كانت القبلة فيها بلاء وتمحيص, صلت الأنصار نحو بيت المقدس حولين قبل قدوم نهي نبي الله , وصلى نبي الله بعد قدومه المدينة مهاجرًا نحو بيت المقدس سبعة عشر شهرًا..
ثم وجهه الله بعد ذلك إلى الكعبة البيت الحرام.. فقال في ذلك قائلون من الناس: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها, لقد اشتاق الرجل إلى مولده, قال الله عز وجل: *قُل للهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" [البقرة:142], فقال أناس -لما صُرفت القبلة نحو البيت الحرام-: كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى؟ فأنزل الله: *وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ" [البقرة:143], ثم أورد الإمام الطبري إحدى عشرة رواية عن الصحابة والتابعين في أن المراد بالإيمان في الآية الصلاة, وأنها نزلت جوابًا على تساؤل لبعض الصحابة عن مصير الصلاة التي صلوها إلى بيت المقدس, وتساؤل آخرين منهم عن مصير صلاة إخوانهم إلى بيت المقدس الذين ماتوا قبل تحويل القبلة إلى الكعبة([2]).
فمعنى قوله: *وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ" على ما تضافرت به الرواية من أنه الصلاة, وما كان الله ليضيع تصديق رسول الله بصلاتكم التي صليتموها نحو بيت المقدس عن أمره, لأن ذلك كان منكم تصديقًا لرسولي, واتباعًا لأمري, وطاعة منكم لي) ([3]).
وقد التفت الإمام الطبري إلى الربط بين الإيمان والصلاة, ولاحظ وجود التصديق في ممارسة الصلاة والتوجه فيها إلى بيت المقدس ثم إلى الكعبة المشرفة, وهذه اللفتة من الطبري لطيفة, وهذا الربط منه رائع, يشير إلى موهبته الفذة في التفسير واللغة وغيرهما([4]).
ومن الآيات التي أطلقت كلمة الإيمان على الأعمال قوله تعالى: *إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ" [يونس:9].
ذهبت طائفة من المفسرين إلى أن المراد بالإيمان هنا الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا.. وقد أورد الإمام الطبري أقوال مجموعة من التابعين في هذا المعنى, منها قول ابن جريج: (يهديهم ربهم بإيمانهم قال: يمثل له عمله في صورة حسنة وريح طيبة, يعارض صاحبه ويبشره بكل خير, فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك! فيجعل له نورًا من بين يديه حتى يدخله الجنة, فذلك قوله: *يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ" والكافر يمثل له عمله في صورة سيئة وريح منتنة, فيلازم صاحبه ويلازمه حتى يقذفه في النار) ([5]). وهناك آيات أخرى أطلقت على الإيمان عبارات أخرى تشير إلى العمل وتتضمنه, أورد الإمام البخاري في صحيحه بعضها.
منها قوله تعالى: *قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ" [الفرقان:77].
قال البخاري: (دعاؤكم: إيمانكم... ومعنى الدعاء في اللغة: (الإيمان).
وجعل ابن عباس رضي الله عنهما الدعاء بمعنى الإيمان قال: (لولا دعاؤكم: إيمانكم) ([6]).
ومن هذه الآيات قوله تعالى: *لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" [البقرة: 177].
فالآية اعتبرت هذه الخصال تصديقًا وإيمانًا, وجعلت أعمال البر هذه من الإيمان. ووجه الدلالة من الآية ما فسره رسول الله e حيث روى عبد الرزاق([7]) وغيره عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه سأل رسول الله e عن الإيمان فتلا عليه هذه الآية * لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ..... " إلى آخرها.. والحديث رجاله ثقات([8]).
ومن فقه الإمام البخاري وفطنته -وهو البصير في الحديث والتفسير- أنه جعل هذه الآية وما فيها من خصال البر من أمور الإيمان, وضمن باب أسماه «باب أمور الإيمان» وقرنها مع الآيات الأولى من سورة «المؤمنون» التي تتحدث عن صفات المؤمنين, ومع الحديث الذي يقرر أن الإيمان بضع وستون شعبة([9]).
ومن هذه الآيات: ثلاث آيات أوردها الإمام البخاري في صحيحه ضمن باب: «من قال إن الإيمان هو العمل» وهي قوله تعالى: *وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" [الزخرف: 72] قال ابن حجر في الفتح: «وقد نقل جماعة من المفسرين أن قوله هنا *تَعْمَلُونَ" معناه: تؤمنون»([10]) والثانية قوله تعالى: *فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ` عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [الحجر:93،92].
قال البخاري عن: «لا إله إلا الله» قال ابن حجر في الشرح: يدخل فيها المسلم والكافر, فإن الكافر مخاطب بالتوحيد بلا خلاف, بخلاف باقي الأعمال ففيها الخلاف.. فالسؤال عن التوحيد متفق عليه, فهذا هو دليل التخصيص, وحمل الآية عليه أولى, بخلاف الحمل على جميع الأعمال لما فيه من الاختلاف([11]).
من هذه الآيات التي أوردناها يتبين لنا أن الإيمان في القرآن شامل للاعتقاد وللنطق وللعمل, ولابد من القول بهذا اتباعًا للقرآن الكريم, الذي يجب أن تؤخذ منه الأقوال والآراء, وأن يعتمد عليه في الاستدلال والاستنباط, وأن يدخله المتأمل والباحث دون مقررات مسبقة.. فما قرره القرآن قبل, وما عرضه أخذ به, وما قال به لزم المؤمنين القول به.. وإليك أخي القارئ طائفة من أحاديث رسول الله التي اعتبرت الإيمان شاملاً للقول والعمل والاعتقاد: روى الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي e قال: «الإيمان بضع وستون شعبة.. والحياء شعبة من الإيمان»([12]).
وفي رواية للإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي e قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة, أفضلها قول لا إله إلا الله, وأدناها إماطة الأذى عن الطريق.. والحياء شعبة من الإيمان..» ([13]) والشاهد في الحديث ما ذكره رسول الله e, فالشهادة قول وإماطة الأذى عن الطريق عمل, والحياء خلق وسلوك, وجعل الثلاثة من الإيمان دليل على حقيقته, ومعظم شعب الإيمان هي أعمال([14]).
وروى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنهما عن النبي e قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»([15]).
وروى البخاري عن أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما أن النبي e قال: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين»([16]).
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله e سئل أي العمل أفضل؟ قال: «إيمان بالله ورسوله», قيل: ثم ماذا؟ قال: «الجهاد في سبيل الله», قيل: ثم ماذا؟ قال: «حج مبرور»([17]).
وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله e أمر وفد عبد القيس عندما قدموا عليه بالإيمان بالله وحده. قال: «هل تدرون ما الإيمان؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «شهادة أن لا إله إلا الله, وأن محمدًا رسول الله, وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة, وصوم رمضان, وأن تؤدوا خمسًا من المغنم»([18]).
هذه الأحاديث وغيرها من الأحاديث تجعلها شاملة للاعتقاد والعمل, وأما أقوال السلف فقد تواترت في بيان حقيقة الإيمان.
قال شارح الطحاوية: «ذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي([19]) وإسحاق([20]) بن راهويه وسائر أهل الحديث وأهل المدينة رحمهم الله وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين: إلى أنه تصديق بالجنان, وإقرار باللسان, وعمل بالأركان»([21]).
وقال الإمام سهل بن عبد الله التستري([22]): «الإيمان: قول وعمل ونية وسنة.. لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر, وإذا كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق. وإذا كان قولاً وعملاً ونية بلا سنة فهو بدعة»([23]).
وقال الإمام عبد الرزاق: سمعت من أدركت من شيوخنا وأصحابنا سفيان الثوري([24]) ومالك بن أنس وعبد الله بن عمر والأوزاعي, ومعمر بن راشد([25]) وسفيان بن عيينة([26]) يقولون: الإيمان قول وعمل, يزيد وينقص.
وهذا قول ابن مسعود وحذيفة([27]) والنخعي([28]) والحسن البصري([29]) وعطاء([30]) وطاوس([31]) ومجاهد وعبد الله بن المبارك([32]).. فالمعنى الذي يستحق به العبد المدح والولاية من المؤمنين هو إتيانه بهذه الأمور الثلاثة: التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالجوارح([33]).
فهؤلاء مصابيح الهدى وأئمة الدين وعلماء الأمة من أهل الحجاز والعراق والشام وخراسان يرون أن الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان.
وقال الإمام البخاري في كتاب الإيمان في صحيحه «هو قول وفعل يزيد وينقص والحب في الله والبغض في الله من الإيمان, وقال عمر بن عبد العزيز: إن للإيمان فرائض وشرائع وحدودًا وسننًا, فمن استكملها استكمل الإيمان, ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان, فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها, وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص([34]).
وبهذا يتبين لنا أن مفهوم الإيمان وحقيقته في القرآن والسنة, وفي مفهوم السلف, تصديق بالجنان, وإقرار باللسان, وعمل بالأركان, قال سيد قطب رحمه الله في ظلاله: «إن حقيقة الإيمان التي يتحقق بها وعد الله حقيقة ضخمة تستغرق النشاط الإنساني كله, وتوجه النشاط الإنساني كله, فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله إلى الله, لا يبتغي به صاحبه إلا وجه الله, وهي طاعة لله واستسلام لأمره في الصغيرة والكبيرة, لا يبقى معها هوى في النفس, ولا شهوة في القلب, ولا ميل في الفطرة إلا وهو تبع لما جاء به رسول الله من عند الله.
فهو الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله, بخواطر نفسه, وخلجات قلبه وأشواق روحه, وميول فطرته, وحركات جسمه, ولفتات جوارحه وسلوكه مع ربه في أهله, ومع الناس جميعًا.. يتمثل هذا في قول الله سبحانه في الآية نفسها تعليلاً للاستخلاف والتمكين والأمن»([35]).
لقد تقرر أن الإيمان عند علماء السلف قول باللسان واعتقاد بالجنان وفعل بالأركان.
والقول باللسان هو النطق بشهادة الحق وهي كلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله).
ومعناها: لا معبود بحق إلا الله, وبذلك تنفي الإلهية عما سوى الله وتثبتها لله وحده([36]).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ليس للقلوب سرور ولا لذة تامة إلا في محبة الله, والتقرب إليه بما يحبه, ولا تمكن محبته إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه, وهذا حقيقة «لا إله إلا الله», وهي ملة إبراهيم الخليل عليه السلام وسائر الأنبياء والمرسلين صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين) ([37]), أما شقها الثاني: محمد رسول الله, فمعناه تجريد متابعته فيما أمر والانتهاء عما نهى عنه وزجر.
ومن هنا كانت «لا إله إلا الله» ولاء وبراء, نفيًا وإثباتًا.
ولاء لله ولدينه وكتابه وسُنَّة نبيه وعباده الصالحين, وبراء من كل طاغوت *فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى" [البقرة: 256].
وبهذه الآية يتضح أن الإنسان لا يكون مؤمنًا إلا بالكفر بالطاغوت.
وكلمة التوحيد ولاء لشرع الله, قال تعالى: *اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ" [الأعراف:3].
وقال تعالى: *فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا" [الروم: 30].
وبراء من حكم الجاهلية: قال تعالى: *أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ" [المائدة: 50].
ويراء من كل دين غير دين الإسلام: قال تعالى: *وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ" [آل عمران: 85].
ثم هي نفي وإثبات, تنفي أربعة أمور([38]) وتثبت أربعة أمور.
تنفي الآلهة, والطواغيت, والأنداد, والأرباب.
فالآلهة: ما قصدته بشيء من جلب خير أو دفع ضر, فأنت متخذه إلهًا.
والطواغيت: من عُبد وهو راضٍ, أو رُشح للعبادة.
والأنداد: ما جذبك عن دين الإسلام, من أهل, أو مسكن, أو عشيرة, أو مال فهو ند لقوله تعالى: *وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ" [البقرة: 165].
والأرباب: من أفتاك بمخالفة الحق وأطعته مصداقًا لقوله تعالى: *اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ...." [التوبة:31].
وتثبت أربعة أمور:
1- القصد: وهو كونك ما تقصد إلا الله.
2- والتعظيم والمحبة: لقوله تعالى: *وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ" [البقرة: 165].
3- والخوف والرجاء لقوله تعالى: *وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُّرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" [يونس: 107].
ولقد جاء القرآن من أوله إلى آخره يبين معنى لا إله إلا الله, ينفي الشرك وتوابعه ويقرر الإخلاص وشرائعه, فكل قول وعمل صالح يحبه الله ويرضاه هو من مدلولات كلمة الإخلاص, لأن دلالتها على الدين كله إما مطابقة([39]), وإما تضمنًا([40]), وإما التزامًا([41]), يقرر ذلك أن الله سماها كلمة التقوى.
4- والتقوى: أن يتقي سخط الله وعقابه بترك الشرك والمعاصي, وإخلاص العبادة لله, واتباع أمره على ما شرعه, كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: «أن تعمل بطاعة الله, على نور من الله, ترجو ثواب الله, وأن تترك معصية الله, على نور من الله, تخاف
عقاب الله»([42]).
لقد تم لأصحاب رسول الله e معرفة هذه الكلمة والتزام أحكامها والعمل بمقتضاها ولوازمها.
قال سفيان بن عيينة عندما سأله رجل عن الإيمان فقال: قول وعمل, قال: يزيد وينقص؟ قال: يزيد ما شاء الله, وينقص حتى لا يبقى منه مثل هذه, وأشار سفيان بيده, قال الرجل: كيف نصنع بقوم عندنا يزعمون: أن الإيمان قول لا عمل؟ قال سفيان: كان القول قولهم قبل أن تقرر أحكام الإيمان وحدوده, إن الله عز وجل بعث نبينا محمدًا إلى الناس كلهم كافة أن يقولوا: لا إله إلا الله, وأنه رسول الله. فلما قالوها عصموا بها دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل, فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم, أمره أن يأمرهم بالصلاة, فأمرهم ففعلوا, فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم, فلما علم الله جل وعلا صدق ذلك من قلوبهم, أمره أن يأمرهم بالهجرة إلى المدينة, فأمرهم ففعلوا, فوالله لو لم يفعلوا ما نفهم الإقرار الأول ولا صلاتهم, فلما علم الله تبارك وتعالى صدق ذلك من قلوبهم, أمرهم بالرجوع إلى مكة ليقاتلوا آباءهم وأبناءهم, حتى يقولوا كقولهم, ويصلوا صلاتهم, ويهاجروا هجرتهم, فأمرهم ففعلوا, فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم ولا هجرتهم, ولا قتالهم, فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالطواف بالبيت تعبدًا, وأن يحلقوا رءوسهم تذللاً ففعلوا, فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول, ولا صلاتهم, ولا هجرتهم, ولا قتلهم آباءهم, فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم أمرهم أن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم بها, فأمرهم ففعلوا حتى أتوا بها قليلها وكثيرها, فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم, ولا هجرتهم, ولا قتالهم آباءهم ولا طوافهم, فلما علم الله تبارك وتعالى الصدق من قلوبهم فيما تتابع عليهم من شرائع الإيمان وحدوده قال عز وجل: قل لهم: *الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا" [المائدة:3].
قال سفيان الثوري: فمن ترك خلة من خلال الإيمان كان بها عندنا كافرًا ومن تركها كسلاً أو تهاونًا بها, أدبناه وكان بها عندنا ناقصًا, هكذا السُّنة أبلغها عني من سألك
من الناس([43]).
وقد ذكر العلماء رحمهم الله شروطًا سبعة لـ«لا إله إلا الله» لا تنفع صاحبها إلا باجتماع هذه الشروط. وإليك شرحها:
شروط كلمة التوحيد:
لابد أن تعلم أنه: (ليس المراد من هذا عدَّ ألفاظها وحفظها, فكم من عامي اجتمعت فيه والتزمها, ولو قيل له أعدها لم يحسن ذلك, وكم حافظ لألفاظها يجري فيها كالسهم, وتراه يقع كثيرًا فيما يناقضها والتوفيق بيد الله, والله المستعان) ([44]).
وقد قال وهب بن منبه ([45]) لمن سأله: (أليس «لا إله إلا الله» مفتاح الجنة؟ قال: بلى. ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان, فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك, وإلا لم يفتح لك) ([46]).
وأسنان هذا المفتاح هي شروط «لا إله إلا الله» الآتية:
الشرط الأول: العلم بمعناها المراد منها نفيًا وإثباتًا, المنافي للجهل بذلك:
قال تعالى: *فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ" [محمد:19]. وقال تعالى: *إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" [الزخرف:86] أي بـ «لا إله إلا الله», «وهم يعلمون» بقلوبهم ما نطقوا به بألسنتهم. وقال تعالى: *شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" [آل عمران:18].
وفي الصحيح عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : «من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة»([47]).
الشرط الثاني: اليقين المنافي للشك:
ومعنى ذلك: أن يكون قائلها مستيقنًا بمدلولات هذه الكلمة, يقينًا جازمًا, فإن الإيمان لا يغني فيه إلا علم اليقين لا علم الظن([48]).
قال تعالى: *إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ" [الحجرات:15].
وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله e: «أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله, لا يلقى بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة» ([49]).
الشرط الثالث: القبول لما اقتضته هذه الكلمة بقلبه ولسانه:
وقد قص الله عز وجل علينا من أنباء ما قد سبق من إنجاء من قبلها, وانتقامه
ممن ردها وأباها.

قال تعالى: *وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ` قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ` فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ" [الزخرف: 23-25].
وقال تعالى: *وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ" [الروم:47].
وفي الحديث الصحيح عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي e قال: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير, وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا, وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ, فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم, ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به»([50]).
الشرط الرابع: الانقياد لما دلت عليه, المنافي لترك ذلك:
قال تعالى: *وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ... " [الزمر:54].
وقال تعالى: *وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ" [النساء: 125].
وقال تعالى:*وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى"
[لقمان:22].
وقال تعالى: *فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" [النساء: 65].
قال ابن كثير في تفسيرها: (يقسم الله تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يُحكّم الرسول e في جميع الأمور, فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنًا وظاهرًا, ولهذا قال: *ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" أي: إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجًا مما حكمت به, وينقادون لك في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليمًا كليًا من غير ممانعة ولا مدافعة, ولا منازعة, كما ورد في الحديث: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به»([51]))([52]).
الشرط الخامس: الصدق المنافي للكذب:
وهو أن يقولها صدقًا من قلبه, يواطئ قلبه لسانه, قال تعالى: *الم ` أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ` وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ" [العنكبوت:1-3].
وقال تعالى: *وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ` يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ` فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ" [البقرة: 8-10].
وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي e: «ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله صدقًا من قلبه إلا حرمه الله على النار» ([53]).
قال العلامة ابن القيم: «والتصديق بلا إله إلا الله يقتضي الإذعان والإقرار بحقوقها وهي شرائع الإسلام التي هي تفصيل هذه الكلمة, بالتصديق بجميع أخباره وامتثال أوامره واجتناب نواهيه.. فالمصدق بها على الحقيقة هو الذي يأتي بذلك كله, ومعلوم أن عصمة المال والدم على الإطلاق لم تحصل إلا بها وبالقيام بحقها, وكذلك النجاة من العذاب على الإطلاق لم تحصل إلا بها وبحقها»([54]).
وقال ابن رجب: (أما من قال: لا إله إلا الله بلسانه, ثم أطاع الشيطان وهواه في معصية الله ومخالفته فقد كذب فعله قوله, ونقص من كمال توحيده بقدر معصية الله في طاعة الشيطان والهوى, قال تعالى: *وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ" [ص:26]) ([55]).
الشرط السادس: الإخلاص:
وهو تصفية بصالح النية عن جميع شوائب الشرك([56]).
قال تعالى: *أَلاَ للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ" [الزمر: 3].
وقال تعالى:*وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ" [البينة:5].
وفي «الصحيح» عن أبي هريرة عن النبي e: «أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه», «أو نفسه»([57]).
وقال الفضيل بن عياض([58])-رحمه الله-: «إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل, وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبل, حتى يكون خالصًا صوابًا, والخالص أن يكون لله, والصواب أن يكون على السنة»([59]).
الشرط السابع: المحبة لهذه الكلمة, ولما اقتضته ودلت عليه, ولأهلها العاملين بها الملتزمين لشروطها, وبغض ما ناقض ذلك:
شرط المحبة أن توافق من تحب



على محبته بلا عصيان


فإذا ادعيت له المحبة من خلا



فك ما يحب فأنت ذو بهتان


أتحب أعداء الحبيب وتدعي



حبًا له ما ذاك في إمكان


وكذا تعادي جاهدًا أحبابه



أين المحبة يا أخا الشيطان؟


ليس العبادة غير توحيد المحبة



مع خضوع القلب والأركان([60])


قال تعالى: *وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ" [البقرة:165]، وقال تعالى: *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَّرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ" [المائدة: 54].
وفي الحديث الصحيح: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما, وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله, وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار»([61]).
وقال الشيخ حافظ الحكمي([62])رحمه الله: (وعلامة حب العبد ربه: تقديم محابه وإن خالفت هواه, وبغض ما يبغض ربه وإن مال إليه هواه, وموالاة من والى الله ورسوله, ومعاداة من عاداه, واتباع رسوله e, واقتفاء أثره, وقبول هداه) ([63]).
ويقول ابن القيم في «النونية»:
وبعد أن بينت حقيقة الإيمان وشروطه التي يتحقق بها التمكين لدين الله والنصرة على الأعداء يتضح لنا: أن الفرد بغير الإيمان الحقيقي بالله, ريشة في مهب الريح, لا تستقر على حال, ولا تسكن إلى قرار, والإنسان بغير الدين الإسلامي يتحول إلى حيوان شره, أو وحش مفترس, لا تستطيع الثقافة الوضعية ولا القانون الجاهلي أن يحدا من شراهته أو يمنعاه من الافتراس.
والمجتمع بغير دين صحيح, وإيمان قوي, مجتمع متوحش مظلم متألم, وإن لمعت فيه بوارق الحضارة المهترئة وامتلأ بأدوات الرفاهية وأسباب النعيم الحسي, فهو مجتمع البقاء فيه للأقوى, لا للأفضل والأتقى, مجتمع تقرأ التعاسة والشقاء في وجوه أصحابه, وإن زينوا وجوههم بأنواع الأصباغ والمحسنات, وركبوا الطائرات, وسكنوا العمارات واغتصبوا أعظم الثروات, فهو مجتمع تافه رخيص هزيل, لأن غايات أهله غايات ساذجة, سطحية هزيلة لا تتجاوز شهوات البطون والفروج, قال تعالى: *وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ" [محمد: 12].
بخلاف مجتمع الإيمان والإسلام المبني على الحب في الله والرضا بكل ما صدر عن الله عز وجل واهب الحياة ومنشئ الخلق, وصاحب الأمر والنهي المطلق في الوجود كله, وهذا أمر طبيعي, في أن يحب الإنسان ربه, وخالقه ورازقه, لأن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها, وأي إحسان كإحسان من خلق فقدر وشرع فيسر, وجعل الإنسان في أحسن تقويم, ووعد من أطاعه بجنة الخلد التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر.
لهذا كله ولأكثر منه, أحب المؤمنون ربهم حبًا لا يقاس بغيره مما هو دونه, فقدموا أنفسهم وأهليهم وأموالهم في سبيل الله, بلا تردد أو منة, بل اعتبروا ذلك تفضلاً من الله عليهم, أن فتح لهم باب الجهاد والاستشهاد في سبيله ويسر لهم أسبابه, فقاموا بذلك الواجب خير قيام([64]).
إن الإيمان الحقيقي بالله, هو الذي ينبعث منه الحب في الله الذي يحرك إرادة القلب, ويوجهها إلى المحبوبات وترك المحظورات, وكلما ازداد الإيمان بالله في نفس المؤمن كلما ازدادت المحبة في الله لديه قوة وصلابة, وتحول المر حلوًا, والكدر صفاء, والألم شفاء, والنصرة جهادًا, والابتلاء رحمة, والإحجام عن نصرة أهل الحق خيانة, وتراجعًا عن الإسلام.
فالحب في الله أخص من الرضا وأعمق أثرًا حيث إنه الضمان الوحيد لترابط المجتمع واحترام حقوقه([65]), ولذلك ورد في الحديث الشريف: « لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا, ولا تؤمنوا حتى تحابوا, أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم»([66]).
فحقيقة المحبة في الله لا تتم إلا بموافقة الباري جل وعلا في حب ما يحب
وبغض ما يبغض([67]).

ولذلك فأكمل الخلق وأفضلهم وأعلاهم إيمانًا من كان أقربهم إلى الله في محبته, وأقواهم في طاعته, وأتمهم عبودية له([68]).
وهذه الصفات تستلزم محبة الرسول e ومحبة ما جاء به من عند الله, ومحبة المؤمنين بهذا الدين, وإيثارهم على النفس بالمال والنصرة والتأييد والانضمام في حزبهم حيث إنهم حزب الله من انضم إلى حزب الله فقد أفلح في دنياه وأخراه.
إن الإيمان بالله, والحب في الله, وما يترتب عليهما قواعد متلازمة ينبني بعضها على البعض الآخر, ويتأثر اللاحق منها بالسابق, فإذا قوي الإيمان بالله في نفس المؤمن ازداد الحب في الله, وازدادت الأفعال المترتبة على ذلك, حتى تصبح الجماعة المسلمة, كخلايا الدم في الجسم تعمل لغرض واحد, وهدف واحد, وفي إطار واحد, عند ذلك تصبح الجماعة المسلمة بنية حية قوية صامدة قادرة على أداء رسالتها ودورها العظيم في حق نفسها, وفي حق البشرية جمعاء([69]).
ولذلك جعل الله تعالى رابطة الدين والإيمان فوق كل الروابط الجاهلية الفاسدة مثل رابطة الدم, ورابطة اللون أو اللغة, أو رابطة الوطن أو الإقليم أو رابطة الحرفة, أو الطبقة, أو غير ذلك من الروابط الجاهلية التي تختلف اختلافًا جذريًا مع أصول
الإسلام ومنطلقاته في الموالاة والمعاداة والحب والبغض, قال تعالى: *يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" [الحجرات:13].
فالمقياس لتفاوت الأفراد في الإسلام هو التقوى والعمل الصالح, وهذا المبدأ يحقق العدل بالنسبة لكافة المنتمين إليه, ويسع العالم أجمع دون أي تمييز بينهم فيما عدا التقوى والعمل الصالح([70]).
إن الإيمان الحقيقي يجعل من أتباعه أخوة متحابين يعملون على رضا مولاهم العظيم, قال تعالى: *وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" [آل عمران:103].
إن الفهم الصحيح لحقيقة الإيمان وكلمة التوحيد لها آثار في حياة الإنسان, وتلك الآثار لها أثر في التمكين, فمن أهم هذه الآثار:
1- ما تنشئه في النفس من الأنفة وعزة النفس بحيث لا يقوم دونه شيء لأنه لا نافع إلا الله, وهو المحيي والمميت, وهو صاحب الحكم والسلطة والسيادة. ومن ثم ينزع من القلب كل خوف إلا منه سبحانه, فلا يطاطئ الرأس أمام أحد من الخلق, ولا يتضرع إليه, ولا يتكفف له, ولا يرتع من كبريائه وعظمته, لأن الله هو العظيم القادر, وهذا بخلاف المشرك والكافر.
2- ينشأ من الإيمان بهذه الكلمة من أنفة النفس وعزتها: تواضع من غير ذل, وترفع من غير كبر, فلا يكاد ينفخ أوداجه شيطان الغرور ويزهيه بقوته وكفاءته لأنه يعلم ويستيقن أن الله الذي وهبه كل ما عنده قادر على سلبه إياه إذا شاء, أما الملحد فإنه يتكبر ويبطر إذا حصلت له نعمة عاجلة.
3- المؤمن بهذه الكلمة: يعلم علم اليقين أنه لا سبيل إلى النجاة والفلاح إلا بتزكية النفس والعمل الصالح.
4- من آثار الإيمان الصحيح عدم تسرب اليأس, والبعد عن القنوط, لأنه يؤمن أن الملك والخزائن لله رب العالمين, لذلك فهو على طمأنينة وسكينة, وأمل, حتى ولو طرد العبد أو أهين وضاقت عليه سبل العيش.
5- من آثار كلمة الإيمان والتوحيد في نفس العبد إعطاء قوة عظيمة من العزم والإقدام والصبر والثبات والتوكل والتطلع إلى معالي الأمور ابتغاء مرضاة الله تعالى, مع شعوره أن وراءه قوة مالك السماء والأرض, فيكون ثباته ورسوخه وصلابته التي يستمدها من هذا التصور, كالجبال الراسية, وأنى للكفر والشرك بمثل هذه القوة والثبات؟.
6- من آثار الإيمان الحقيقي تشجيع الإنسان وامتلاء قلبه جرأة؛ لأن الذي يجبن الإنسان ويوهن عزمه شيئان: حبه للنفس والمال والأهل, أو اعتقاده أن هناك أحدًا غير الله يميت الإنسان, فإيمان المرء بلا إله إلا الله يرفع عن قبله كلاً من هذين السببين, فيجعله موقنًا بأن الله هو المالك الوحيد لنفسه وماله, فعندئذ يضحي في سبيل مرضاة ربه بكل غال ورخيص عنده. وينزع الثاني بأن يلقي في روعه أنه لا يقدر على سلب الحياة منه إنسان ولا حيوان ولا قنبلة ولا مدفع, ولا سيف ولا حجر, وإنما يقدر ذلك الله وحده. من أجل ذلك لا يكون في الدنيا أشجع ولا أجرأ ممن يؤمن بالله تعالى, فلا يكاد يخيفه أو يثبت في وجهه زحف الجيوش, ولا السيوف المسلولة, ولا مطر الرصاص والقنابل.
7- ومن ثمار الإيمان الصحيح, التحلي بالأخلاق الرفيعة والتطهر من الأخلاق الوضيعة.
8- ومن ثمار الإيمان على العبد تجعله حريصًا على التمسك بشرع الله تعالىومحافظًا عليه.
9- ومن ثمار الإيمان تربية العبد على أن يكون جنديًا من جنود الدعوة التي تسعى لتحكيم شرع الله وتمكين دينه سبحانه وتعالى.
إن من شروط التمكين لدين الله تعالى في الأرض تحقيق الإيمان الذي يريده الله وبيَّنه رسوله وتجسد في حياة أصحابه.
إن الإيمان المطلوب هو الذي يبعثنا على الحركة والهمة, والنشاط والسعي, والجهد والمجاهدة, والجهاد والتربية, والاستعلاء والعزة, والثبات واليقين([71]).
يقول الشيخ حسن البنا رحمه الله تعالى مفرقًا بين إيمان خامل وإيمان عامل, إيمان المسلم القاعد وإيمان المسلم الداعية تحت عنوان «إيماننا»:
«والفرق بيننا وبين قومنا بعد اتفاقنا في الإيمان بهذا المبدأ, أنه عندهم إيمان مخدر نائم في نفوسهم, لا يريدون أن ينزلوا على حكمه ولا أن يعملوا بمقتضاه.. على أنه إيمان ملتهب مشتعل قوي يقظ في نفوس الإخوان المسلمين, ظاهرة نفسية عجيبة نلمسها ويلمسها غيرنا في نفوسنا نحن الشرقيين: أن نؤمن بالفكرة إيمانًا يخيل للناس حيث نتحدث إليهم عنها أنها ستحملنا على نسف الجبل وبذل النفس والمال واحتمال المصاعب ومقارعة الخطوب حتى ننتصر بها أو تنتصر بنا, حتى إذا هدأت ثائرة الكلام وانفض نظام الجمع, نسي كل إيمانه وغفل عن فكرته, فهو لا يفكر في العمل لها, ولا يحدث نفسه بأن يجاهد أضعف الجهاد في سبيلها, بل قد يبالغ في هذه الغفلة وهذا النسيان, حتى يعمل على ضدها وهو يشعر أو لا يشعر.. أو لست تضحك عجبًا حين ترى رجلا ً من رجال الفكر والعمل والثقافة في ساعتين اثنتين متجاورتين من ساعات النهار: ملحدًا من الملحدين, وعابدًا مع العابدين»([72]).
إن الإيمان الذي جاء به القرآن الكريم وبينه سيد الخلق أجمعين عليه أفضل الصلاة والتسليم ليس إيمانًا مجردًا حبيس دائرة الذهن والتصور؛ بل هو تصديق يتبعه عمل, وإقرار يتبعه التزام, واعتقاد يتبعه خضوع.
فحقيقة الإيمان في القرآن الكريم تدفع العبد المؤمن إلى جهاد ودعوة, والتزام وحركة, وتواصٍ بالحق وثبات عليه, وتواصٍ بالصبر وحث عليه([73]).
يقول سيد قطب رحمه الله: (والعمل الصالح هو الثمرة الطيبة للإيمان, والحركة الذاتية التي تبدأ في ذات اللحظة التي تستقر فيها حقيقة الإيمان في القلب, فالإيمان حقيقة إيجابية متحركة, ما إن تستقر في الضمير حتى تسعى بذاتها إلى تحقيق ذاتها في الخارج في صورة عمل صالح.. هذا هو الإيمان الإسلامي.. لا يمكن أن يظل خامدًا لا يتحرك, كامنًا لا يتبدى في صورة حية خارج ذات المؤمن.
فإن لم يتحرك هذه الحركة الطبيعية فهو مزيف أو ميت, شأنه شأن الزهرة لا تُمسك أريجها, فهو ينبعث منها انبعاثًا طبيعيًا, وإلا فهو غير موجود.
ومن هنا قيمة الإيمان.. إنه حركة وعمل وبناء وتعمير.. يتجه إلى الله.. إنه ليس انكماشًا وسلبية وانزواء في مكنونات الضمير.. وليس مجرد النوايا الطيبة التي لا تتمثل في حركة, وهذه طبيعة الإسلام البارزة التي تجعل منه قوة كبرى في صميم الحياة([74]).
إن الإيمان قوة دافعة وطاقة مجمعة, فما كادت حقيقته تستقر في القلب حتى تتحرك لتعمل, ولتحقق ذاتها في الواقع, ولتوائم بين صورتها المضمرة وصورتها الظاهرة, كما أنها تستولي على مصادر الحركة في الكائن البشري كلها, وتدفعها في الطريق.
«ذلك سر قوة العقيدة في النفس, وسر قوة النفس بالعقيدة, سر تلك الخوارق التي صنعتها العقيدة في الأرض, وما تزال في كل يوم تصنعها الخوارق التي تغير وجه الحياة من يوم إلى يوم, وتدفع بالفرد وتدفع بالجماعة إلى التضحية بالعمر الفاني المحدود في سبيل الحياة الكبرى التي لا تفنى, وتقف بالفرد القليل الضئيل أمام قوى السلطان وقوى المال وقوى الحديد والنار, فإذا هي كلها تنهزم أمام العقيدة الدافعة في روح فرد المؤمن, وما هو الفرد الفاني المحدود الذي هزم تلك القوى جميعًا, ولكنها القوى الكبرى الهائلة التي استمدت منها تلك الروح, والينبوع المتفجر الذي لا ينضب ولا ينحسر ولا يضعف»([75]).
«تلك الخوارق التي تأتي بها العقيدة الدينية في حياة الأفراد وفي حياة الجماعات لا تقوم على خرافة غامضة, ولا تعتمد على التهويل والرؤى, إنها تقوم على أسباب مدركة وعلى قواعد ثابتة, إن العقيدة الدينية فكرة كلية تربط الإنسان بقوى الكون الظاهرة والخصبة, وتثبت روحه بالثقة والطمأنينة, وتمنحه القدرة على مواجهة القوى الزائلة والأوضاع الباطلة, بقوة اليقين في النصر, وقوة الثقة في الله, وهي تفسر للفرد علاقاته بما حوله من الناس والأحداث والأشياء, وتوضح له غايته واتجاهه وطريقه, وتجمع القوى والطاقات حول محور واحد, وتوجيهها في اتجاه واحد, تمضي إليه مستنيرة الهدف, في قوة وفي ثقة وفي يقين».
ويضاعف قوتها أنها تمضي مع الخط الثابت الذي يمضي فيه الكون كله ظاهرة وخافية, وأن كل ما في الكون من قوى مكنونة تتجه اتجاهًا إيمانيًا, فيلتقي المؤمن في طريقه, وينضم إلى زحفها الهائل لتغليب الحق على الباطل مهما يكن للباطل من قوة ظاهرة لها في العيون بريق»([76]).
وبهذا لعلي أكون قد أوضحت حقيقة الإيمان التي نسعى لإيجادها في أفراد الأمة والجماعة المسلمة لنقطع خطوة نحو التمكين المنشود.



([1]) انظر: في ظلال الإيمان للخالدي, ص 23.

([2]) انظر: تفسير الطبري (3/167-169).

([3]) المصدر نفسه (3/169).

([4]) في ظلال الإيمان, د. الخالدي, ص26.

([5]) تفسير الطبري (15/28).

([6]) صحيح البخاري, كتاب الإيمان, باب دعاؤكم إيمانكم (1/9).

([7]) هو الإمام العلامة الحافظ عبد الرزاق بن همام الصنعاني, صاحب المصنف, رحل الأئمة إليه, من اليمن, وله أوهام مغمورة في سعة علمه, توفي 211هـ, العبر (1/283).

([8]) فتح الباري, كتاب الإيمان, باب أمور الإيمان (1/74).

([9]) المصدر نفسه (1/74).

([10]) فتح الباري, كتاب الإيمان, باب: من قال إن الإيمان هو العمل (1/109).

([11]) المصدر نفسه (1/110).

([12]) رواه البخاري, كتاب الإيمان, باب: أمور الإيمان (1/10) رقم 9.

([13]) رواه مسلم, كتاب الإيمان, باب: بيان عدد شعب الإيمان (1/63) رقم 57.

([14]) في ظلال الإيمان, ص 30.

([15]) رواه البخاري, كتاب الإيمان, باب: من الإيمان أن يحب لأخيه (1/11) رقم 13.

([16]) رواه البخاري, كتاب الإيمان, باب: حب الرسول × من الإيمان (1/11) رقم 14.

([17]) رواه البخاري, كتاب الإيمان, باب: +فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ" (1/14) رقم 26.

([18]) رواه البخاري, كتاب الإيمان, باب: أداء الخمس من الإيمان (1/23) رقم 53.

([19]) هو الإمام العابد الحجة الثقة عبد الرحمن بن عمر الأوزاعي الفقيه, روى عن خلق كثير من التابعين, وكان رأسًا في العلم والعمل والاتباع, بارعًا في الكتابة, كان يكثر من الصلاة والعبادة وقيام الليل, توفي في بيروت عام 158هـ, تهذيب التهذيب (6/238), شذرات الذهب (1/341).

([20]) هو إمام المشرق إسحاق بن إبراهيم المروزي ثم النيسابوري الحافظ ابن راهويه, عالم خراسان والعراق في عصره, توفي سنة 238هـ, حلية الأولياء 9/234.

([21]) انظر: الطحاوية, ص 373.

([22]) من الزهاد الكبار والعباد المشهورين اشتهر بالتصوف السني وبالحكم الجميلة.

([23]) الإيمان لابن تيمية: 163.

([24]) هو سفيان بن مسروق شيخ الإسلام من أهل الحديث, توفي 161هـ, سير أعلام النبلاء (7/229).

([25]) هو معمر بن راشد أبو عمر البصري من تلاميذ عبد الرزاق الصنعاني ت 153هـ, ميزان الاعتدال 4/154.

([26]) هو محمد أبو محمد بن عيينة بن أبي عمران الهلالي, توفي 198هـ, تهذيب التهذيب (4/117).

([27]) حذيفة بن اليمان صحابي جليل صاحب سر رسول الله ×.

([28]) هو إبراهيم بن يزيد النخعي, توفي 96هـ, تهذيب التهذيب (1/177).

([29]) من سادات التابعين اشتهر بالعلم والعبادة والزهد, توفي 110هـ بالبصرة.

([30]) هو عطاء بن أبي رباح فقيه أهل الحجاز, أفضل أهل زمانه, توفي 114هـ, العبر (1/108).

([31]) طاوس بن كيسان اليماني أبو عبد الرحمن أحد الأعلام علمًا وأدبًا (ت106هـ), العبر (1/99).

([32]) كان من المجاهدين العاملين جمعت فيه خصال الخير توفي 181هـ, وفيات الأعيان (3/32).

([33]) مسلم مع شرح النووي, كتاب الإيمان (1/146-147).

([34]) رواه البخاري, كتاب الإيمان, باب: قول النبي ×: «بني الإسلام على خمس» (1/9).

([35]) ظلال القرآن (4/2528).

([36]) انظر: فتح المجيد, ص36.

([37]) مجموع فتاوى الإسلام (28/32).

([38]) انظر: الولاء والبراء في الإسلام لمحمد سعيد القحطاني, ص 25.

([39]) دلالة المطابقة: هي دلالة اللفظ على معناه.

([40]) دلالة التضمين: هي دلالة اللفظ على جزء من معناه.

([41]) دلالة الالتزام: هي دلالة اللفظ على معنى خارج عنه لكنه لازم له.

([42]) انظر: المورد العذب الزلال. مجموعة الرسائل النجدية (4/99).

([43]) كتاب الشريعة لأبي بكر محمد بن الحسين الآجري, ص104.

([44]) معارج القبول للشيخ الحافظ الحكمي (1/418).

([45]) وهب بن منبه بن كامل اليماني الصنعاني روى عن أبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس وابن عمر, توفي 110هـ, انظر: تهذيب التهذيب (1/167).

([46]) رواه البخاري, كتاب الجنائز, باب: من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله (2/87).

([47]) رواه مسلم, كتاب الإيمان, باب: الدليل من مات على التوحيد (1/55) رقم 43.

([48]) معارج القبول (2/419).

([49]) رواه مسلم, كتاب الإيمان, باب: الدليل من مات على التوحيد (1/57،56) رقم 27.

([50]) رواه البخاري, كتاب العلم, باب: فضل من عَلِم وعلم (1/32) رقم 79.

([51]) الحديث مروي في الأربعين النووية ص 134, قال فيه النووي: وهو حديث حسن صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح.

([52]) تفسير ابن كثير (1/533).

([53]) رواه البخاري, كتاب العلم, باب: من خص بالعلم قومًا (1/47) رقم 128.

([54]) التبيان في أقسام القرآن لابن القيم, ص43.

([55]) كلمة الإخلاص لابن رجب, ص28.

([56]) معارج القبول (2/423).

([57]) صحيح البخاري, كتاب العلم, باب الحرص على الحديث (3/38) رقم 99.

([58]) هو أبو علي الفضيل بن عياض بن مسعود الطالقاني الأصل, الزاهد العابد الثقة الإمام المشهور, كان أول أمره من قطاع الطرق, ثم تنسك وسمع الحديث بالكوفة, مات سنة 187 هـ, حلية الأولياء 8/84, سير أعلام النبلاء (8/421).

([59]) مجموع الفتاوى (3/124).

([60]) النونية, ص158.

([61]) صحيح البخاري, كتاب الإيمان, باب: حلاوة الإيمان (1/11) رقم 16.

([62]) هو الشيخ العلامة حافظ أحمد الحكمي, عالم سلفي من منطقة تهامة, ولد سنة 1342هـ, بقرية السلام بالقرب من جيزان, كان آية في الذكاء وسرعة الحفظ والفهم, تتلمذ على يد الشيخ الداعية عبد الله القرعاوي توفي سنة 1377هـ, وعمره 35, انظر ترجمته في مقدمة معارج القبول بقلم ابنه.

([63]) معارج القبول (2/424).

([64]) انظر: كتاب الإيمان وأثره في الحياة, د. القرضاوي, ص5-12.

([65]) انظر: الموالاة والمعاداة للجلعود (1/245).

([66]) رواه مسلم, كتاب الإيمان, بيان لا يدخل الجنة إلا المؤمنون (1/74) رقم 93.

([67])انظر: مجموعة التوحيد, ص 422-423.

([68]) انظر: مجموعة التوحيد, ص 422، 423.

([69]) انظر: الموالاة والمعاداة (1/246).

([70])المصدر نفسه (1/246).

([71]) انظر: في ظلال الإيمان, ص 63.

([72]) رسائل حسن البنا, ص16.

([73]) انظر: في ظلال الإيمان, ص 64.

([74]) في ظلال القرآن (6/3967،3966).

([75])انظر: في ظلال القرآن (6/3353).

([76]) المصدر نفسه (6/3353).
رد مع اقتباس
  #37  
قديم 11-11-2008, 11:15 PM
الفاررة الي الله الفاررة الي الله غير متواجد حالياً
قـــلم نــابض
 




Ramadhan05

تحقيـــــــــق العبـــــــادة

أولاً: معنى العبادة في اللغة والشرع:

أ- في اللغة: العبادة والعبدية والعبودية: الطاعة([1]).
وفي لسان العرب: أصل العبودية: الخضوع والتذلل.
والتعبد: التنسك, والعبادة: الطاعة.
والتعبد: التذلل, والتعبيد: التذليل.
بعير معبد: مذلل, وطريق معبد: مسلوك مذلل([2]).
ويرى أبو الأعلى المودوي في معنى العبادة استنادًا إلى الاستعمال اللغوي لمادة (ع ب د) أن أصل معنى العبادة هو الإذعان الكلي, والخضوع الكامل والطاعة المطلقة([3]).
ب- العبادة في الشرع: خضوع وحب([4]), والعبادة المأمور بها العبد تتضمن معنى الذل والخضوع لله, ومعنى الحب فهي تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له([5]).
قال ابن تيمية -رحمه الله-: (والإله هو المعبود الذي يستحق غاية الحب والعبودية والإجلال والإكرام والخوف والرجاء.....) ([6]).
وينص ابن القيم -رحمه الله-: على أن (العبادة تجمع أصلين غاية الحب بغاية الذل والخضوع)([7]). ودعائم هذه العبادة التي تنتظم أعمال الإنسان كلها القلبية, والعملية الفردية والجماعية: المحبة والخوف والرجاء, وقد جعل ابن القيم هذه الثلاث في قلب المؤمن: (بمنزلة الطائر, فالمحبة رأسه, والخوف والرجاء جناحاه فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران, ومتى قطع الرأس مات الطائر, ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر) ([8]), وبهذا يتضح مفهوم العبادة في الشرع.
ثانيًا: حقيقة العبادة:
إن من شروط التمكين لدين الله تحقيق العبادة لله في دنيا الناس وعلى الجماعة المسلمة أن تفهم حقيقة العبادة في القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين , وأن تعمل على نشر المفهوم الصحيح لمعنى العبادة في شرايين الأمة حتى تخرج من الأوهام والمغالطات والخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان.
لقد ساد بين الناس مفاهيم خاطئة للعبادة, صرفت عقولهم وقلوبهم وأعمالهم عن هذه الوظيفة التشريفية التي خلق الله الإنسان من أجلها, وسخر له كل شيء في نفسه وفي الكون من حوله, ليقوم بها وفق أمر خالقه, وعند تأمل القرآن الكريم والسنة النبوية وما تحويه من أخبار وأوامر ونواه ووعد ووعيد, نجد كلها تدور حول تقرير ألوهية الله سبحانه وتعالى وعبودية الإنسان له.
فإذا كان خلق الإنسان وتسخير الكون له, وإيجاد العقل والقلب والإرادة فيه, وإرسال الرسل وإنزال الكتب وخلق الجنة والنار, وقبيل ذلك وبعده ما تقتضيه صفات الباري -جل وعلا- من كونه في ذاته وأفعاله سبحانه وتعالى حكيمًا عليمًا, خلق كل شيء فقدره تقديرًا, ولم يخلق شيئًا عبثًا ولم يوجد شيئًا لغير حكمة, وإذا كان القرآن المجيد, وما فيه من أخبار وأوامر ووعد ووعيد جاء لأجل هذه المهمة العظيمة, ألا وهي تعبيد الخلق كلهم لله سبحانه فكيف يصح حينئذ أن يتصور أن العبادة هي النية النقية وحسب, أو أنها الشعائر التعبدية فقط, أو أنها لبعض نشاطات الإنسان دون بعض, أو لبعض أفعاله وأحواله دون بعض.
بل إن دائرة العبادة التي خلق الله لها الإنسان, وجعلها غايته في الحياة, ومهمته في الأرض, دائرة رحبة واسعة, إنها تشمل شئون الإنسان كلها, وتستوعب حياته جميعًا, وتستغرق كل مناشطه وأعماله([9]), وبهذا المعنى الشامل, فهم السلف الصالح عبادة الإنسان فردًا كان أو جماعة, وقد لخص هذا المعنى الشامل للعبادة وحدد ماهيتها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- حين قال: (العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه: من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة, فالصلاة والزكاة والصيام والحج, وصدق الحديث, وأداء الأمانة, وبر الوالدين, وبر الوالدين, وصلة الأرحام, والوفاء بالعهود, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والجهاد للكفار والمنافقين, والإحسان إلى الجار واليتامى والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم, والدعاء والذكر والقراءة, وأمثال ذلك من العبادة, وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له, والصبر لحكمه, والشكر لنعمه, والرضا بقضائه, والتوكل عليه, والرجاء لرحمته, والخوف لعذابه, وأمثال ذلك هي من العبادة لله..) ([10]).
وبهذا التعريف الجامع لا يمكن أن يخرج أي شيء من نشاطات الإنسان وأعماله, سواء كان ذلك في العبادات المحضة, أو في المعاملات المشروعة, أو في العادات التي طبع الإنسان على فعلها.
أما في العبادات والمعاملات المشروعة فإنها مما يحبه الله ويرضاه, وهذا أمره الشرعي الدائر بين الأحكام الخمسة التي اصطلح عليها الفقهاء وهي: (الواجب, والمحرم, والمستحب, والمكروه, والمباح) أما في العادات فالذي لم يحدد منها بأوامر الشرع, ولم يتقيد بأحكامه على وجه الخصوص, فإنه لا يخرج عن كونه داخلاً تحت عمومات الشرع باعتبار عبودية الإنسان في كل أحواله لله سبحانه, وباعتبار أن (العادات لها تأثير عظيم فيما يحبه الله, أو فيما يكرهه, فلهذا أيضًا جاءت الشريعة بلزوم عادات السابقين في أقوالهم وأعمالهم وكراهة الخروج عنها إلى غيرها من غير حاجة) ([11]).
وإن كان ينبغي لنا هنا الإشارة إلى أن الأصل في العبادات المحضة المنع حتى يرد ما يدل على مشروعيتها, وأن أصل العادات العفو حتى يرد ما يدل على منعها, وذلك مبني على (أن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينه, وعادات يحتاجون إليها في دنياهم, فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله, أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع, وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه, والأصل فيه عدم الحظر, فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى, وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله, والعبادة لابد أن يكون مأمورًا بها, فما لم يثبت أنه مأمور به, كيف يحكم عليه بأنه عبادة؟!.
وما لم يثبت من العبادات أنه منهي عنه, كيف يحكم عليه أنه محظور؟ والعادات الأصل فيها العفو, فلا يحظر منها إلا ما حرم) ([12]).
وهذا التقسيم في الحظر والإباحة لا يخرج شيئًا من أفعال الإنسان العادية من دائرة العبادة لله, ولكن ذلك يختلف في درجته ما بين عبادة محضة وعادة مشوبة بالعبادة, وعادة تتحول بالنية والقصد إلى عبادة, لأن المباحات يؤجر عليها بالنية والقصد الحسن إذا صارت وسائل للمقاصد الواجبة, أو المندوبة أو تكميلاً لشيء منهما) ([13]).
وقال النووي في شرحه لحديث «في بضع أحدكم صدقة»([14]): (وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنية الصادقة) ([15]).
ومن ذلك يتضح: (أن الدين كله داخل في العبادة, والدين منهاج الله جاء ليسع الحياة كلها, وينظم جميع أمورها من أدب الأكل والشرب وقضاء الحاجة إلى بناء الدولة, وسياسة الحكم, وسياسة المال, وشئون المعاملات والعقوبات, وأصول العلاقات الدولية في السلم والحرب.
إن الشعائر التعبدية من صلاة, وصوم, وزكاة, لها أهميتها ومكانتها ولكنها ليست العبادة كلها؛ بل هي جزء من العبادة التي يريدها الله تعالى.
إن مقتضى العبادة المطالب بها الإنسان, أن يجعل المسلم أقواله وأفعاله وتصرفاته وسلوكه وعلاقاته مع الناس وفق المناهج والأوضاع التي جاءت بها الشريعة الإسلامية, يفعل ذلك طاعة لله واستسلامًا لأمره..) ([16]).
والدليل على المفهوم الشامل للعبادة, من الكتاب والسنة وفعل الصحابة رضي الله عنهم: فأما من القرآن الكريم فقوله تعالى: *وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات:56]، *وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ" [التوبة:31], *قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ` لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" [الأنعام:163،162], *وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ" [البينة:5].
ومن السنة أحاديث كثيرة بعضها في عموم العادات بدون تخصيص وبعضها الآخر في أفراد السلوك العادي, وفي هذا الأخير دليل وتشبيه على المعنى العام المقصود إثباته هنا فمن ذلك:
قوله e: «إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة, وهو يحتسبها كانت له صدقة»([17]).
قوله e: «كل ما صنعت إلى أهلك فهو صدقة عليهم»([18]).
قوله e: «دينار أنفقته في سبيل الله, ودينار أنفقته في رقبة, ودينار تصدقت به على المسكين, ودينار أنفقته على أهلك, أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك»([19]).
وقال e: «كل سُلامي من الناس عليه صدقة, كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة, وتعين الرجل على دابته فيحمل عليها, أو ترفع له متاعه صدقة, والكلمة الطيبة صدقة, وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة, ودل الطريق صدقة, وتميط الأذى عن الطريق صدقة»([20]).
وأما الاستدلال على عموم العبادة وشمولها لحياة الإنسان بفعل السلف وفهمهم ففيما روى البخاري في صحيحه عن أبي بردة([21]) في قصة بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن, وفي آخره قال أبو موسى لمعاذ: فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال: «أنام أول الليل فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم فأقرأ ما كتب الله لي, فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي»([22]). وفي كلام معاذ رضي الله عنه, دليل أن المباحات يؤجر عليها بالقصد والنية.
وهذا الفهم يجعل المسلم يقبل على شئون الحياة كلها وكله حرص على إتقانها لكونها عبادة لله تعالى ملتزمًا بالشروط الآتية:
1- أن يكون العمل مشروعًا في نظر الإسلام, أما الأعمال التي ينكرها الدين
فلا تكون عبادة بأي حال من الأحوال, قال الرسول : «.. إن الله تعالى طيب لا يقبل
إلا طيبًا..»
([23]).
2- أن تصحبه النية الصالحة, فينوي المسلم إعفاف نفسه, وإغناء أسرته, ونفع أمته, وعمارة الأرض كما أمره الله رب العالمين.
3- أن يؤدي العمل بإتقان وإحسان, قال النبي : «إن الله كتب الإحسان على
كل شيء..»
([24]).
4- أن يلتزم في عمله حدود الله تعالى, فلا يظلم, ولا يخون, ولا يغش, ولا يجور.
5- ألا يشغله عمله لمعاشه عن واجباته الدينية([25]). قال تعالى: *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَن يَّفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ"[المنافقون:9].
إن من أخطر الانحرافات التي وقعت فيها الأجيال المتأخرة من المسلمين انحرافهم في تصور مفهوم معنى العبادة.. وحين يعقد الإنسان مقارنة بين المفهوم الشامل الواسع العميق الذي كانت الأجيال الأولى من المسلمين تفهمه من أمر العبادة, والمفهوم الهزيل الضئيل الذي تفهمه الأجيال المعاصرة, لا يستغرب كيف هوت هذه الأمة من عليائها لتصبح في هذا الحضيض الذي نعيشه اليوم, وكيف هبطت من مقام الريادة, والقيادة للبشرية كلها لتصبح ذلك الغثاء الذي تتداعى عليه الأمم تنهشه من كل جانب كما تنهش الفريسةَ الذئابُ([26]).
إن من شروط التمكين أن يكون مفهوم العبادة في حس الجيل, إن عبادة الله هي غاية الوجود الإنساني كله, ما نفهم من قول الله سبحانه: *وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات:56].
لقد كان الجيل الأول لهذه الأمة يفهم الحياة كلها على أنها عبادة تشمل الصلاة والنسك, وتشمل العمل كله, وتشمل لحظة الترويح كذلك, فلا شيء في حياة الإنسان كلها خارج من دائرة العبادة, وإنما هي ساعة بعد ساعة في أنواع مختلفة من العبادة, كلها عبادة وإن اختلفت أنواعها ومجالاتها([27]).
وبهذا الفهم العميق لمفهوم العبادة حققت تلك الأمة في سالف عهدها ما حققته من منجزات في كل اتجاه, فحين كانت تمارس الأمة إيمانها الحق, وعبادتها الحقة, وكانت الأخلاق في حسها جزءًا من العبادة المفروضة على المسلم, حدثت إنجازات هائلة لم تتكرر في التاريخ, ففي أقل من نصف قرن امتد الفتح الإسلامي من الهند شرقًا إلى المحيط غربًا, وهي سرعة مذهلة لا مثيل لها في التاريخ كله, ولم يكن الكسب هو الأرض
التي فتحت, وإنما كان الكسب الأعظم هو القلوب التي اهتدت بنور الله فدخلت في دين الله أفواجًا([28]).
وما كانت تلك الأمة لتقدر على دك حصون الشرك, واقتلاعها بمثل هذه السهولة, وبمثل هذه السرعة, وما كانت لتقدر على إبراز تلك المثل الرفيعة التي أبرزتها في عالم الواقع, من إقامة العدل الرباني في الأرض, ونظافة التعامل, والوفاء بالمواثيق, وشجاعة النفس, والبطولة الفذة في ميدان الحرب والسلم سواء, وما كانت لتقدر على إنشاء حركتها العلمية الضخمة, ولا حركتها الحضارية السامقة.. ما كانت لتقدر على ذلك كله, ولا على شيء منه, لولا هذا الإحساس العميق لديها بأنها في ذلك كله تقوم بالعبادة التي خلق الله الإنسان من أجلها وتقوم به بذات الحس الذي تؤدي به الصلاة([29]).
هكذا كانت العبادة تصورًا وفهمًا وعملاً عند الأجيال المسلمة الأولى([30]), ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها؛ تصحيح المفاهيم أولاً, ثم إقامة بناء جديد على المفاهيم الصحيحة للإسلام([31]).

:astagfor:

إن قضية العبادة ليست قضية شعائر, وإنما هي قضية دينونة واتباع, وإنها لذلك استحقت كل هذه الرسل والرسالات, وكل هذا الاهتمام([32]).
وحتى تستحق الأمة الإسلامية اليوم وعد الله بالتمكين فإن عليها أن تصيغ حياتها كلها صياغة جديدة على منهج الله رب العالمين, لتصبح كلها عبادة من لحظة التكليف إلى لحظة الموت, لا تندّ عنها لحظة واحدة من لحظات الوعي, ولا لمحة, ولا خاطر, ولا لون من ألوان النشاط([33]), امتثالاً وتحقيقًا لقول الله تعالى: *قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" [الأنعام:162].
إن من أسباب ضياع الأمة وضعفها, وانهزامها أمام أعدائها فقدها لشرط مهم من شروط التمكين ألا وهو تحقيق العبودية بمفهومها الشامل الصحيح.
ثالثًا: أهمية الجانب العبادي في حياة الإنسان:
إن العبادات التي سنها الله لنا ذات تأثير شامل مشرق, ولها أخطر المهمات في تمكين الحقائق العليا للرسالات الإلهية, وتحقيق الفطرة الإنسانية على وجهها الصحيح المستقيم, طالما تمثلت فيها عناصر الحب والذل, والرجاء والخوف ونحوها, ومعلوم لدى العلماء أن للعبادة مقصدًا أصليًا, وهو التوجه إلى الواحد الصمد, وإفراده بالعبادة في كل حال, طلبًا لرضا الله, والفوز بالدرجات العلا, وهناك مقاصد تابعة للعبادة: صلاح النفس, واكتساب الفضيلة, فالصلاة مثلاً أصل مشروعيتها الخضوع لله تعالى, وإخلاص التوجه إليه, والانتصاب على قدم الذلة والصغار بين يديه, وتذكير النفس بذكره, قال تعالى: *وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي" [طه:14], وقال: *إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ" [العنكبوت:45] يعني أن اشتمال الصلاة على التذكير بالله هو المقصود الأصلي, ثم إن لها مقاصد تابعة كالاستراحة إليها من أنكاد الدنيا وإنجاح الحاجات كصلاة الاستخارة وصلاة الحاجة, وكذلك سائر العبادات لها فوائد أخروية وهي العامة, وفوائد دنيوية وهي كلها تابعة للفائدة الأصلية وهي الانقياد والخضوع لله([34]).
وإذا تأملنا في مهمة العبادة يمكننا أن نستخلص الآتي:
1- تثبيت الاعتقاد:
إن روح العبادة هو إشراب القلب حب الله تعالى, وهيبته, وخشيته والشعور الغامر بأنه رب الكون ومليكه, والتوجه دائمًا بما شرع من شعائر ونسك, باعتبارها مظهرًا عمليًا دائبًا لصدق الإنسان في دعوى الإيمان, وتذكيرًا مستمرًا بسلطان الإله الأعلى, وإلهابًا متجددًا لجذوة اليقين في الله, ورجاء فضله وثوابه.
ولنأخذ مثالاً عباديًا لتثبيت معنى التوحيد, وإجلال الله تعالى, وهو (الأذان) وقد شرع بدخول أوقات الصلاة المفروضة, فهو يتكرر في اليوم والليلة خمس مرات, وينادي به منادي المسلمين صوتًا في كل مكان يوجد به تجمع إسلامي, ولو كان أدنى الجمع من المسلمين, بل شرع مع ذلك للمسافر, والمنفرد, ولو كان في بادية لما يمثله من معانٍ عظيمة ليس مجرد الإعلام بدخول الوقت.
إن المؤذن حين ينادي بصوته الأعلى: (الله أكبر الله أكبر) ثم يكررها, يطلب شرعًا أن يردده معه كل مسلم ومسلمة حين يسمعون هذا القول الأجل, لينسكب في مشاعر الجميع وفي أوقات متكررة متقاربة, معنى الكبرياء المطلق لله رب العالمين, وأنه تعالى فوق كل شيء وأكبر من كل شيء, فينبغي أن يعتز به وحده, ويلوذ بحماه وكنفه, ويستعلي فوق أعناق الطواغيت والجبارين بهذا النداء الجهير, الذي أراد الله عز وجل أن يتواطأ عليه المجتمع كله, وأن يظل حتى المنفرد على صلة دائمة به.
فإذا تقرر هذا المعنى عاد النداء الأجل ليملأ الآفاق: (أشهد أن لا إله إلا الله) وهو تذكير يومي بالعهد والميثاق الذي أعطاه العبد لربه بأن لا يعبد ولا يطيع إلا ربه الأكبر, المنفرد بالكبرياء في السموات والأرض.
ثم يأتي الشق الثاني من الشهادة: (أشهد أن محمدًا رسول الله) وهو كما علمت إقرار متكرر أيضًا بالطريق الذي تؤخذ عنه العبادة المشروعة, والتي لا تصح إلا بالتلقي عن الوحي الإلهي الذي جاء به المعصوم .
ثم تأتي رابعًا: الدعوة إلى الصلاة نفسها في جملتين فقط: (حي على الصلاة, حي على الصلاة) لأن الأذان كما قلنا أبعد مدى, وأشمل آثارًا.
ثم تأتي خامسًا: الدعوة العامة إلى الصلاح المطلق, المتمثل في الاستجابة لهذا الدين الإلهي الأغر, ومثله وتعاليمه, وفي مقدمتها الصلاة بداهة([35]).
ولذلك يعود الشارع بالمؤذن إلى نقطة البدء ليكبر في الختام التأكيد على تفرده تعالى بالكبرياء, وإعلان التوحيد بصيغة الإقرار والإثبات بعد صيغة الشهادة السابقة (الله أكبر, الله أكبر, لا إله إلا الله) معنى هذا أن الأذان وحده يجري على ألسنة المؤمنين, ويسكب في ضمائرهم, ويغرس في حياتهم ووجدانهم إفراد الله تعالى بالكبرياء (ثلاثين) مرة يوميًا, وإفراده تعالى بصفة الألوهية الذي تفرده بالعبادة والطاعة «خمس عشرة» مرة, وهو نداء لا يتقيد بحدود معبد, أو مسجد, وإنما ينطلق ليدخل كل بيت, ويصافح كل سمع, ويطرق كل قلب يريد الهدى.
وإذا كان هذا هدف الوسيلة في تقرير الأصول العليا فإن القصد الذي تؤدي إليه (وهي الصلاة) أعظم شأنًا, وأتم مظهرًا, فقد فرضها الله على كل بالغ من الذكور والإناث خمس مرات في اليوم والليلة, وهي تبدأ بالتكبير ويطلب من المصلي تكرار هذه الجملة (الله أكبر) في صلوات الفرض فقط (أربعًا وتسعين مرة) عدا ما يقرع سمعه بعددها من صلوات إمامه إذا صلى جماعة, فضلاً عن السنن الراتبة والنوافل المطلقة وهي أضعاف ذلك.
ثم إن العبد يتلو كتاب ربه في صلاته, ويحني له ظهره راكعًا, ويخر بجبهته ساجدًا, ويناجي مولاه معظمًا, ومسبحًا, وحامدًا, وداعيًا, وليس هناك في الوجود أسمى وأجل من هذه الشعيرة في ربط العبد بهذا السلطان الإلهي, وإلهاب نفسه بمعاني عظمته وسموه([36]).
إن الصلاة عندما تؤخذ على وجهها الصحيح -واحة وراحة- يسكن إلى ظلها المؤمن كلما مسه تعب الحياة ولغوبها, وهذا مصداق قول الله تعالى: *إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ` إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ` وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ` إِلاَّ الْمُصَلِّينَ ` الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ" [المعارج: 19-23].
2- تثبيت القيم الأخلاقية:
فقد جاء المنهاج الرباني في العبادة ليتمم مكارم الأخلاق, ويدعو الناس إلى المثل العليا, والفضائل الكريمة كالصبر, والمثابرة, والسماحة, والسخاء, والصدق, والتي تحقق للإنسان سعادته في الدنيا فضلاً عن الآخرة, وللعبادات بأنواعها مهمة عظيمة في تثبيت هذه الأخلاق, وتدعيمها, وغرسها في نفس المؤمن ووجدانه, (فالصلاة) مثلاً تعود المؤمن الصبر, والدأب, والإخلاص والنظام, حتى تصبح جميعًا خلقًا راسخًا في النفس, فالمسلم النائم حين يقوم من لذة النوم على نداء المؤذن «الصلاة خير من النوم», وكذلك حين ينسحب من ضجيج الأسواق والبيع والشراء ملبيًا لنداء «حي على الصلاة», ثم لا يزال دأبه هكذا عبر الساعات, والأيام, والأعوام, فهذا وأمثاله لابد أن تتربى فيهم هذه المعاني الخلقية العالية([37]).
و(الزكاة) التي أخذت من معنى الزيادة, والنماء, والتطهير, لها -هي الأخرى- أكبر الأثر في تنقية الخلق من زخم الشح والبخل والإمساك, وفي طبعه بطبائع البذل, والعطاء والسخاء, كذلك تستل صدور المحتاجين, وتبدل به شيئًا من خلق الحب, والمودة, أو على الأقل سلامة الصدور, فتشيع في المجتمع تبعًا لذلك كل علائق التداني والتقارب, وتتداخل صلات الناس بمشاعر الألفة, وإلى مثل هذا يشير قوله تعالى: *خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ" [التوبة: 103].
و(الصوم) له عمله الأساسي في تربية الإرادة الإنسانية, والضمير الحي اليقظ الذي يتعامل على أساس من رقابة الله تعالى له, واطلاعه عليه, فضلاً عن غرس خليقة الصبر, والضبط النفسي بالإمساك الطويل عن شهوتي البطن والفرج وبالكف عن
اللغو, والصخب, والقدرة على تغيير عاداته حتى لا يتعود الجمود, أوتستعبده
عاداته وتقاليده([38]).
ثالثًا: إصلاح الجانب الاجتماعي:
ويظهر ذلك في الصلاة ودورها في إيجاد العلاقات الاجتماعية, وذلك واضح في الحكمة من صلاة الجماعة, لأن اجتماع المسلمين راغبين في الله, راجين, راهبين, مسلمين وجوههم إليه خاصية عجيبة في نزول البركات, وتدلي الرحمة, فيحدث التعاون, والتعارف, والوحدة والاجتماع على الخير.
ثم تأتي صلاة الجمعة: فتجمع أهل الحي على هيئة جامعة أكثر من ذلك في كل يوم جمعة, حيث شرع الله لنا خطبتها تذكيرًا وتعليمًا للمسلمين بما يصلح دينهم ودنياهم, كحد أدنى للتثقيف العام في أمور الدين, ثم تأتي صلاة العيد, فتجمع أهل المدينة كلها مرتين في السنة في عيد الفطر والأضحى, يخرجن الأبكار والعواتق([39]), بل والحيض يشهدن الخير ودعوة المسلمين, ويعتزلن المصلى كما جاء في الحديث الصحيح الذي ترويه أم عطية([40]) رضي الله عنها قالت: «أمرنا أن نخرج العواتق وذوات الخدور»([41]).([42])
هذا عدا ما شرعه الله تعالى لنا من صلوات جامعة في مناسبات شتى, كالاستسقاء والخسوف والكسوف والجنائز, والتراويح في رمضان, إن الصلاة -لو وعى المسلمون حقيقتها- لهي توجيه وتنظيم اجتماعي كامل, يتمثل فيه المجتمع الكبير, وبقدر ما يحسن المسلمون هذه الصلاة, وما تعنيه من معان وتوجيهات, بقدر ما يرجى لهم إحسان الحياة في اجتماعاتهم, ولا فرق في هذا المنهاج بين المسجد والمجتمع, فكلاهما تجمع يجب أن يخضع لدين الله وتعاليمه([43]).
أما الزكاة: في حقيقتها واجب مالي يؤخذ من الأغنياء ليرد على الفقراء وذوي الحاجة من الغارمين والأرقاء وغيرهم, وهي بذلك تمثل الحد الأدنى المفروض فرضًا للتعاون الاجتماعي, والتكافل الاقتصادي بين أبناء الأمة الواحدة, لذلك جعل الله تعالى معظم مصارفها اجتماعية بحتة, بأوسع المدلولات الاجتماعية في القديم أو الحديث على السواء, وكما جاءت صلاة العيد لتوسع دائرة الاجتماع في الصلاة, تأتي هنا أيضًا «زكاة الفطر» لتوسع قاعدة التكافل والتعاون إلى أقصى حد.
أما الأثر الاجتماعي لفريضة (الحج) فواسع شامل, ولا زالت آثاره تظهر كل يوم بجديد من حكمة الله تعالى في تشريعه, وقد أشار القرآن الكريم إلى كثير من ذلك, قال تعالى: *لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ" [البقرة: 198].
روى البخاري بسنده عن ابن عباس قال: (كانت عكاظ, ومجنة, وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية, فتأتموا أن يتجروا في موسم الحج, فسألوا رسول الله فنزلت الآية: *لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ" [البقرة: 198]([44]), وقال تعالى: *وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ ` لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ" [الحج:28،27].
والمنافع المشهودة كلمة جامعة تشمل المنافع الروحية والمادية والاجتماعية والسياسية والثقافية, والاقتصادية وسائر ما يطلق عليه اسم (المنفعة), وقد جعلت غاية من غايات الحج وتقديمها على ذكر الله تعالى إيذان ببالغ أهميتها في مراتب المنافع والحكم الشرعية, وإن من أعظم هذه الفوائد جمع أطراف الأمة المسلمة كل عام, وما يحققه من استنفار جزء من كل إقليم سنويًا ليركبوا الأخطار والأسفار, ويقطعوا السهول والقفار, أو يمتطوا الأجواء والبحار, ويتركوا الأولاد والأهل والديار فيجتمع المسلمون من أطراف الأرض, ويلتقي الشرقي بالمغربي, والمصري بالهندي, في مؤتمر جامع, ورحلة مباركة, وليحققوا عمليًا دعوة القرآن بالسير في الأرض, والسياحة في الآفاق, ومطالعة المشاهد المقدسة, ومنازل الوحي, وآثار النبوة منذ أبي الأنبياء إبراهيم إلى خاتمهم محمد e ثم مدارج الصحابة رضي الله عنهم, التي تهب على المسلمين منها روح الإخلاص, والبذل, والعطاء والانقياد المطلق لأمر الله عز وجل([45]).
ومن ناحية أخرى فالحج نظام يوجب على الجميع زيًا واحدًا, وحركة واحدة, وكلمة واحدة, وطاعة واحدة. وبتثبيت الاعتقاد, والأخلاق وإصلاح الاجتماع تأخذ العبادات الإسلامية دورها العظيم في بناء الحياة الإنسانية على أرفع القواعد, وأنبل الغايات, وأكرمها وأطهرها, وتأخذ بالإنسان إلى أفق أرفع من التراب والطين, ومتاع الحياة الفانية, حيث تربطه بالحي الباقي, وبالنعيم الخالد, فهي غسيل مستمر لأدران المادة, وتهذيب لطغيانها, وعبادات الإسلام تقوم في أساسها على مراعاة الرقابة الإلهية, وابتغاء الآخرة, دون واسطة بين العبد وربه في العبادات كلها وتحرر الإنسان من عبودية الكهنوت وطقوسها ورسومها([46]).
إن القرآن الكريم اهتم اهتمامًا بالغًا ببيان حقيقة العبودية ودعوة الناس إلى تحقيقها كما ينبغي, كما بيّّن شروط قبول العبادة وأمر المسلمين بالالتزام بها, ووجه الناس إلى مفاهيم أصيلة في العبودية وحذرهم من الشرك ومن الانحراف عن معنى العبودية الصحيح, كما أشار إلى أهمية الجانب العبادي في حياة الناس في تثبيت الاعتقاد, وتأسيس القيم والأخلاق وزرعها وغرسها في نفوس المؤمنين, كما اهتم ببيان الجانب العبادي في إصلاح النواحي الاجتماعية, وركز القرآن في توجيهاته الكريمة في مجال العبادة على إفراد الله وحده في العبادة وتحرير العبادة من رق الكهنوت, واهتم بمسألة التوازن بين الروح والجسد, وفتح مجال الرخص والتخفيضات في العبادة, هذا كله من أجل أن تحقق الأمة عبوديتها لخالقها سبحانه وتعالى من أيسر الطرق وأسهل السبل وأخف التكاليف, وجعل طريق تحقيق العبودية شرطًا من شروط التمكين لهذه الأمة العظيمة.
إن تقرير حقيقة العبودية في حياة الناس يصحح تصوراتهم ومشاعرهم, كما يصحح حياتهم وأوضاعهم, فلا يمكن أن تستقر التصورات والمشاعر, ولا أن تستقر الحياة والأوضاع, على أساس سليم قويم, إلا بهذه المعرفة وما يتبعها من إقرار, وما يتبع الإقرار من آثار عندما تستقر هذه الحقيقة بجوانبها في نفوس الناس وفي حياتهم يلتزمون بمنهجه وشريعته ويستشعرون العزة أمام المتجبرين والطغاة, حين يخرون لله راكعين ساجدين يذكرونه ولا يذكرون أحدًا إلا الله تصلح حياتهم وترقى وتكرم على هذا الأساس.
إن استقرار هذه الحقيقة الكبيرة في نفوس المسلمين وتعليق أنظارهم بالله وحده, وتعليق قلوبهم برضاه, وأعمالهم بتقواه, ونظام حياتهم بإذنه وشرعه ومنهجه دون سواه.. في هذه الحياة.. فأما ما يجزي الله به المؤمنين المقربين بالعبودية العاملين للصالحات في الآخرة, فهو كرم منه وفضل في حقيقة الأمر وفيض من عطاء الله([47]).
إن الذين يستنكفون عن عبودية الله, يذلون لعبوديات من هذه الأرض لا تنتهي.
يذلون لعبودية الهوى والشهوة, أو عبودية الوهم والخرافة, ويذلون لعبودية البشر من أمثالهم, ويحنون لهم الجباه.. ويحكمون في حياتهم وأنظمتهم وشرائعهم وقوانينهم وقيمهم وموازينهم عبيدًا من البشر هم وهم سواء أمام الله.

:astagfor:



([1]) القاموس المحيط كتاب (الدال), فصل (العين) 378.

([2]) لسان العرب, كتاب الدال, فصل العين المهملة 3/271.

([3]) المصطلحات الأربعة في القرآن للمودودي, ص97.

([4]) العبادة في الإسلام للقرضاوي, ص 31.

([5]) انظر: مجموع الفتاوى (1/207).

([6])المصدر نفسه (28/35).

([7]) مدارج السالكين (1/74).

([8])مدارج السالكين (1/517).

([9]) انظر: العبادة في الإسلام للقرضاوي ص53.

([10]) مجموع الفتاوى (10/150).

([11]) اقتضاء الصراط المستقيم (1/399).

([12]) مجموع الفتاوى (29/116-117).

([13]) انظر: حقيقة البدعة وأحكامها للغامدي (1/19).

([14]) رواه مسلم, كتاب الزكاة, باب أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (1/697).

([15]) شرح النووي مع مسلم, كتاب الزكاة, باب كل نوع من المعروف صدقة (7/97).

([16]) مقاصد المكلفين, د. عمر الأشقر ص46-47.

([17])رواه البخاري, كتاب الإيمان, باب: ما جاء أن الأعمال بالنيات (1/24) رقم 55.

([18]) سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (3/22).

([19]) رواه مسلم, كتاب الزكاة, باب: النفقة على العيال والمملوك (1/191).

([20]) رواه البخاري, كتاب الصلح, باب: فضل الإصلاح بين الناس (3/227) رقم 2707.

([21]) هو التابعي الثقة أبو بردة حارث, وقيل عامر بن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري, ثقة كثير الحديث, تولى قضاء الكوفة للحجاج, ثم عزله, ت107هـ، انظر: سير أعلام النبلاء (4/343).

([22]) البخاري, كتاب المغازي, باب: بعثة أبي موسى ومعاذ إلى اليمن (5/156) رقم 43،42.

([23]) مسلم, كتاب الزكاة, باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب (2/703).

([24]) مسلم شرح النووي, كتاب العبد, باب: الأمر بإحسان الذبح (مجلد5) ج13, ص106.

([25]) انظر: العبادة في الإسلام, د. القرضاوي, ص 63،62.

([26]) انظر: مفاهيم ينبغي أن تصحح لمحمد قطب, ص 173.

([27]) المصدر السابق نفسه, ص 203-204.

([28]) المصدر السابق نفسه, ص 222.

([29]) انظر: مفاهيم ينبغي أن تصحح, ص192.

([30]) انظر: التمكين للأمة الإسلامية, ص 59.

([31]) انظر: مفاهيم ينبغي أن تصحح, ص 250-251.

([32]) انظر: في ظلال القرآن (4/1943).

([33]) انظر: التمكين للأمة الإسلامية, ص 59.

([34]) انظر: العبادة في الإسلام للقرضاوي: 48-49.

([35]) وسطية القرآن في العبادة والأخلاق والتشريع, ص 40.

([36]) انظر: المنهاج القرآني في التشريع, ص458.

([37]) وسطية القرآن في العبادة والأخلاق والتشريع, ص 42.

([38]) انظر: المنهاج القرآني في التشريع, ص 460.

([39]) العواتق: جمع عاتقة وهي التي عتقت من الخدمة أو من قهر أبويها.

([40]) هي نسيبة بنت الحارث وقيل بنت كعب من فقهاء الصحابة ت 70هـ, انظر: سير أعلام النبلاء (2/318).

([41]) ذوات الخدور: الستور.

([42]) رواه البخاري, كتاب العيدين, باب: خروج النساء والحيض إلى المصلى (2/9).

([43]) انظر: المنهاج القرآني في التشريع: 462.

([44]) رواه البخاري, كتاب التفسير, باب: ليس عليكم جناح (5/186) رقم 4519.

([45]) انظر: المنهاج القرآني في التشريع: 465.

([46]) المصدر نفسه: 468.

([47]) في ظلال القرآن (2/820).


رد مع اقتباس
  #38  
قديم 11-18-2008, 02:51 PM
الفاررة الي الله الفاررة الي الله غير متواجد حالياً
قـــلم نــابض
 




افتراضي

محاربــــــــــة الشـــــــرك
ومن شروط التمكين المهمة؛ محاربة الشرك بجميع أشكاله وأنواعه؛ ولذلك على الجماعة المسلمة والتي تسعى لتحكيم شرع الله تعالى أن تعرف حقيقة الشرك وخطره وأسبابه وأدلة بطلانه وأنواعه وأن تنقي صفها منه بجميع الأساليب الشرعية, ولا يمكن للإنسان أن يحذر من الشرك وأن يحذر غيره إلا إذا عرفه وعرف خطره.
ومعرفة الشرك وما يتعلق به له فوائد عديدة:
أحدها: أن الإنسان يمكنه بمعرفة الشرك أن يحذر من الوقوع فيه.
الثاني: أنه يمكنه أن يحذر غيره.
الثالث: أنه يظهر له بذلك حسن الإسلام والتوحيد, وذلك أنه إذا عرف الشرك وظهر له بطلانه, عرف أن ضده وهو التوحيد أفضل الأعمال, وبضدها تتميز الأشياء إلى غير ذلك من الفوائد.
ولهذه الأسباب وغيرها فقد اهتم الدعاة الصادقون والعلماء المخلصون والقادة الربانيون ببيان الشرك وأقسامه وأسبابه وخطره وجميع ما يتعلق به, وبينوا أن تحقيق الإيمان الصحيح لا يتم ولا يقبل من صاحبه إلا بترك الشرك والبعد عنه.
يقول الشيخ السعدي -رحمه الله-: (ولا يتم توحيد العبادة حتى يخلص العبد لله في جميع إرادته وأقواله وأفعاله, وحتى يدع الشرك الأكبر المنافي للتوحيد كل المنافاة, وهو أن يصرف نوعًا من العبادة لغير الله تعالى, وتحقيق هذا التوحيد وتمامه أن يدع الشرك الأصغر وهو: كل وسيلة يتوسل بها إلى الشرك الأكبر كالحلف بغير الله, ويسير
الرياء ونحو ذلك) ([1]).
أما حقيقة الشرك بالله: (أن يعبد المخلوق كما يعبد الله, أو يعظم كما يعظم الله, أو يصرف له نوع من خصائص الربوبية والألوهية) ([2]).
أما أقسام الشرك فقسمه العلماء إلى نوعين: شرك في الربوبية, وشرك في الألوهية قال السعدي -رحمه الله-: (الشرك نوعان: شرك في ربوبيته تعالى كشرك الثانوية الذين يثبتون خالقًا مع الله, وشرك في ألوهيته, كشرك المشركين الذين يعبدون الله ويعبدون غيره ويشركون بينه وبين المخلوقين, ويسوونهم مع الله في خصائص ألوهيته) ([3]).
لقد وردت النصوص الكثيرة في الكتاب والسنة في التحذير من الشرك, وبيان خطره, وأنه أعظم ذنب عصى الله به, وأنه لا أضل من فاعله, وأنه مخلد في النار أبدًا لا نصير له ولا حميم ولا شفيع يطاع, قال تعالى: *إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَّشَاءُ وَمَن يُّشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا" [النساء:48].
وقال تعالى: *إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَّشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا" [النساء:116]، وقال تعالى: *وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ" [الحج: 31]، وقال تعالى: *وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ" [الزمر: 65].
والأحاديث الواردة في ذم المشركين كثيرة منها:
حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: «من مات يشرك بالله شيئًا دخل النار»([4]).
وحديث جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله e يقول: «من لقى الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة»([5]).
وحديث أبي بكرة([6]) رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله فقال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر» ثلاثًا «الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور» وكان رسول الله متكئًا فجلس, فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت»([7]).
إن تفشي الشرك في المجتمعات الإسلامية سبب في ضياعها وانحرافها عن هدى المولى عز وجل, فمن أعظم الظلم, وأبعد الضلال, عدم إخلاص العبادة لرب العالمين وتسوية المخلوق مع الخلاق العليم.
فالله وحده المتفرد بالعبودية فهو مالك النفع والضر, الذي ما من نعمة إلا منه, لا يدفع النقم إلا هو الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه, والغنى التام لجميع وجوه الاعتبارات.
إن الشرك هو الذنب الوحيد المتميز عن بقية الذنوب بعدم المغفرة لصاحبه إذا مات ولم يتب منه, وأما بقية الذنوب فإن صاحبها إن مات ولم يتب منها فإنه تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
إن الذنوب التي دون الشرك جعل الله لمغفرتها أسبابًا كثيرة كالحسنات الماحية والمصائب المكفرة في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة, وكدعاء المؤمنين بعضهم لبعض وشفاعة الشافعين, ومن دون ذلك كله رحمته التي أحق بها أهل الإيمان والتوحيد, وهذا بخلاف الشرك فإن المشرك قد سد على نفسه أبواب المغفرة, وأغلق دونه أبواب الرحمة, فلا تنفعه الطاعات دون التوحيد, ولا تفيده الشدائد والمحن شيئًا.
إن الشرك بالله تمجه وترفضه الفطرة السليمة, ولقد بقى البشر بعد آدم قرونًا طويلة وهم أمة واحدة على التوحيد والهدي, ثم أدخلت عليهم الشياطين الشرور المتنوعة بطرق كثيرة, فكان قوم نوح قد مات منهم أناس صالحون فحزنوا عليهم فجاءهم إبليس وأمرهم أن يصوروا تماثيلهم ليتذكروا أحوالهم, فكان هذا باب الشر العظيم.
فلما مات الذين صوروهم لهذا المعنى خلف من بعدهم خلف قل فيهم العلم واستفزهم الشيطان وأغواهم حتى أوقعهم في الشرك, ثم بعث الله فيهم نوحًا عليه السلام يعرفونه ويعرفون صدقه وأمانته وكمال أخلاقه فقال: *يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ" [الأعراف:59]. إلا أنهم عصوه وما آمن معه إلا قليل.
إن الله تعالى خلق الناس على فطرة التوحيد ثم استطاعت الشياطين أن تميل بالناس وتنحرف بهم نحو الوثنية المظلمة والشرك العظيم, قال تعالى: *كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ" [البقرة:213].
أي: أن الناس كانوا على ملة آدم عليه السلام حتى عبدوا الأصنام فبعث الله إليهم نوحًا عليه السلام فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض([8]).
وقال تعالى: *فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ" [الروم:30].
وقال تعالى: *وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ" [النحل:36]. وقال : «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»([9]).
وهذه الأدلة الدامغة التي ذكرناها تدل على أن الناس كانوا على التوحيد وأن الشرك طارئ وحادث فيهم.
إن الجماعة المسلمة التي رضيت بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد e رسولاً تحرص على تحقيق التوحيد ومحاربة الشرك وهي تسعى لتحكيم شرع الله, لأنها تعلم علم اليقين أن من شروط التمكين وإقامة دولة الإسلام تحقيق التوحيد وتهذيبه وتصفيته من الشرك الأكبر والأصغر, ومن البدع القولية والاعتقادية, والبدع الفعلية العملية, ومن المعاصي وذلك بكمال الإخلاص لله في الأقوال والأفعال والإرادات, وبالسلامة من الشرك الأكبر المناقض لأصل التوحيد, ومن الشرك الأصغر المنافي لكماله وبالسلامة من البدع([10]), وتربي الناس على الاستعانة بالله في جميع أمور حياتهم والاستعانة به والنذر له والذبح له وحده سبحانه وتعالى وأن تكون الحاكمية لله رب العالمين.
وهي تحارب شرك القبور, وكذلك شرك القوانين الوضعية وتدعو إلى إفراد العبودية لله وحده في جميع شئون الحياة الإنسانية, ولسان حالها ومقالها قول الله تعالى: *قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ` لاَ شَرِيكَ لَهُ" [الأنعام:162،163].
لذلك لابد من محاربة الشرك ومداخله وألوانه وجميع طرقه لأن الشرك ذلة في الدنيا وعذاب أليم في الآخرة, ولأن من متطلبات الإيمان ولوازمه محاربة ضده ألا وهو الشرك.
وبعد أن ذكرت الآية الكريمة شروط الاستخلاف والتمكين والأمن, أرشدت الآيات التي بعدها إلى كيفية المحافظة على هذا التمكين والأمن، وإلى العدة الفعلية للأمة الإسلامية ألا وهي: الاتصال بالله, وتقويم القلب بإقامة الصلاة, والاستعلاء على الشح, وتطهير النفس والجماعة بإيتاء الزكاة, وطاعة الرسول والرضا بحكمه, وتنفيذ شريعة الله في الصغيرة والكبيرة, وتحقيق المنهج الذي أراده للحياة: *لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" [النمل:46] في الأرض من الفساد والانحدار والخوف والقلق والضلال, وفي الآخرة من الغضب والعذاب والنكال. إن الأمة الإسلامية عندما تسير على نهج الله تعالى وتحكم شرعه في الحياة, وترتضيه في كل أمورها.. يتحقق وعد الله بالاستخلاف والتمكين والأمن, وما من مرة خالفت عن هذا النهج والطريق القويم إلا تخلفت في ذيل القافلة, وذلت, وطرد دينها من الهيمنة على البشرية, واستبد بها الخوف, وتخطفها الأعداء.
إن وعد الله لا يتبدل ولا يتغير إذا أقمنا الشروط, فإذا أردنا الوعد فعلينا بتحقيق الشروط ولا أحد أوفى بعهده من الله تعالى([11]).
آثار الشرك:
إن الشرك الذي يقع فيه الإنسان له آثاره الوبيلة في دنياه وآخرته, سواء أكان الواقع فيه فردًا أم جماعة, فمن تلك الآثار:
1- إطفاء نور الفطرة:
قال تعالى: *وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا" [الأعراف:172].
وعلى هذا فإن الشرك نقض للميثاق الذي أخذه الله على البشر وهم في عالم الذر, كما أنه انحراف عن الغاية التي خلق الله الجن والإنس من أجلها, قال تعالى: *وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ" [الذاريات:56].
إن الإنسان يستمد من حقيقة التوحيد إشراقته ونوره وسداد أمره, فإذا أشرك بالله تصبح أعماله كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء. وتصبح حاله وأعماله معتمة مظلمة, قال تعالى: *وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ` أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ" [النور: 40،39].
2- القضاء على منازع النفس الرفيعة:
إن النفس المتعلقة بالله المتطلعة إلى رضاه لا تستغرقها شهوات الحس ولا تنصرف بكليتها إلى متاع الأرض القريب, إنما تتطلع دائمًا إلى المثل العليا والقيم الرفيعة, وإلى الترفع عن الدنس في كل صوره وأشكاله, سواء أكان فاحشة من الفواحش التي حرمها الله, أو ظلمًا يقع على الناس, أو موقفًا خسيسًا يقفه الإنسان من أجل شهوة رخيصة أو مطلب من مطالب الحياة الدنيا.
ولكن حين تهتز حقيقة التوحيد في النفس ويغشيها الشرك فإن النفس تنحط فتشغلها الأرض, يشغلها المتاع الزائل فتتكالب عليه وتنسى القيم العليا والجهاد من أجل إقامتها وتحقيقها, ويكون جهادها صراعًا خسيسًا على هذا المتاع الزائل يتقاتل من أجله الأفراد والدول والشعوب, وتصبح الحياة البشرية محكومة بقانون الغاب, القوي يأكل الضعيف, والغلبة للقوة لا لصاحب الحق.. وهو الأمر الذي نراه سائدًا في الجاهلية المعاصرة في كل منحى من مناحي الحياة([12]). قال تعالى: *وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ" [الحج:31].
3- القضاء على عزة النفس ووقوع صاحبه في العبودية الذليلة:
إن العزة الحقيقية تستمد من الإيمان بالله وحده, قال تعالى: *وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ" [المنافقون:8], ولكن المشرك لا يعرف هذه العزة ولا يتذوقها, إنه عبد؛ ولكنها عبودية ذليلة لأنها ليست عبودية لله, الكريم الرحيم, الذي يُعز عباده بعزته, إنه عبد لبشر مثله يتحكم فيه فيذله, أو عبد لشهواته: شهوة المال أو شهوة الجنس أو شهوة السلطان.. كلها عبودية ذليلة وإن بدت لأول وهلة متاعًا وتمكنًا وتجبرًا في الأرض.
ثم يذهب هذا المتاع الزائل الذي تذل له أعناق الرجال, ويأتي اليوم الذي يقفون فيه موقف الخزي الأكبر أمام العزيز الجبار: *أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ` ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ ` مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ" [الشعراء: 205-207].
4- تمزيق وحدة النفس البشرية:
إن الشرك يشتت وحدة النفس البشرية ويمزقها, فيصلي الإنسان -إذا صلى- لإله ويبيع ويشتري ويبتغي الرزق باسم إله آخر يحل له الربا ويحل له الغش والخداع بغية الربح, ويمارس شهواته باسم إله ثالث يُحِل له العلاقات غير المشروعة ويزين له الخبائث, وقد يتوجه إلى بشر مثله أو إلى صنم من الأصنام فيطلب منه البركة أو يطلب منه أن يقربه إلى الله زلفى.. وهكذا تتشتت نفسه في محاولة استرضاء هذه الأرباب المتعددة التي كثيرًا ما يكون لكل منها مطالب تخالف مطالب الأخرى وتعارضها.
وفي النهاية يفقد نفسه بعد أن يفقد أمنه وطمأنينته: ([13]) *ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلاً
فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ
يَعْلَمُونَ
" [الزمر:29].

5- إحباط العمل:
قال تعالى: *وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ" [الزمر: 65].
هذه بعض الآثار التي تحدث للإنسان الذي يقع في الشرك ولا شك أن تلك الآثار تبعد المجتمع من التمكين الرباني.


([1]) الفتاوى السعدية للعلامة عبد الرحمن السعدي, ص13.

([2]) الشيخ عبد الرحمن السعدي وجهوده في توضيح العقيدة لعبد الرزاق العباد, ص 178.

([3]) الرياض الناضرة للسعدي, ص244.

([4]) مسلم, كتاب الإيمان, باب: من مات لا يشرك بالله شيئًا (1/94) رقم 92.

([5]) المصدر السابق نفسه, رقم 92.

([6]) هو نفيع بن الحارث بن كلدة بن عمرو أبو بكرة الثقفي, تدلى إلى رسول الله × من حصن الطائف في (بكرة) فاشتهر بأبي بكرة وأسلم وأعتقه رسول الله × يومئذ, وكان من فضلاء الصحابة وسكن البصرة توفي بالبصرة سنة 50هـ, انظر: أسد الغابة (5/38), الإصابة (3/542).

([7]) مسلم, كتاب الإيمان, باب: بيان الكبائر (1/91) رقم 143.

([8]) انظر: تفسير ابن كثير (1/250).

([9]) مسلم, كتاب القدر, باب: كل مولود يولد على الفطرة (4/2047) رقم 2658.

([10]) انظر: الشيخ عبد الرحمن السعدي وجهوده في توضيح العقيدة, ص191.

([11]) في ظلال القرآن (4/2530).

([12]) انظر: ركائز الإيمان لمحمد قطب, ص141،140.

([13])انظر: ركائز الإيمان, ص 144-145.
رد مع اقتباس
  #39  
قديم 12-04-2008, 06:37 PM
الفاررة الي الله الفاررة الي الله غير متواجد حالياً
قـــلم نــابض
 




افتراضي

تقـــــوى الله عز وجـــــل
قال تعالى: *وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا..." [الأعراف:96].
إن من شروط التمكين المهمة -التي نضيفها إلى المباحث السابقة- تقوى الله عز وجل, لأن تقوى الله لها ثمرات عظيمة في الدنيا والآخرة, وهذه الثمرات تظهر على الأفراد, ومن ثمَّ على الجماعة المسلمة التي تسعى لتحكيم شرع الله والتمكين لدينه. إن تقوى الله تعالى تجعل بين العبد وبين ما يخشاه من ربه ومن غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك, وهي أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله, وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.
أولاً: ثمرات التقوى العاجلة والآجلة:
1- المخرج من كل ضيق والرزق من حيث لا يحتسب العبد:
قال تعالى: *وَمَن يَّتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا` وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ" [الطلاق: 3،2].
2- السهولة واليسر في كل أمر:
قال تعالى: *وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا" [الطلاق:4].
قال سيد قطب رحمه الله: «واليسر في الأمر غاية ما يرجوه الإنسان, وإنها لنعمة كبرى أن يجعل الله الأمور ميسرة لعبد من عباده؛ فلا عنت ولا مشقة ولا عسر ولا ضيق يأخذ الأمور بيسر في شعوره وتقديره, وينالها بيسر في حركته وعمله, ويرضاها بيسر في حصيلتها ونتيجتها, ويعيش من هذا في يسر رَخِيّ نَدِيّ حتى يلقى الله»([1]).
3- تيسير العلم النافع:
قال تعالى: *وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" [البقرة: 282].
قال العلامة محمد رشيد رضا: (أي اتقوا لله في جميع ما أمركم به ونهاكم عنه, وهو يعلمكم ما فيه قيام مصالحكم وحفظ أموالكم وتقوية رابطتكم, فإنكم لولا هدايته لا تعلمون ذلك, وهو سبحانه العليم بكل شيء, فإذا شرع شيئًا فإنما يشرعه عن علم محيط بأسباب درء المفاسد وجلب المصالح لمن تبعه شرعه, وكرر لفظ الجلالة لكمال التذكير وقوة التأثير) ([2]), لقد تكرر لفظ الجلالة في قوله تعالى: *وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" ثلاث مرات, فالأولى حث على التقوى, والثانية وعدٌ بإنعامه, والثالثة تعظيم شأنه سبحانه وتعالى.
4- إطلاق نور البصيرة:
قال تعالى: *إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا" [الأنفال:29]. إن تقوى الله تعالى في الأمور كلها تعطي صاحبها نورًا يفرق به بين الحق والباطل, وبين دقائق الشبهات التي لا يعلمهن كثير من الناس, وعندما تسيطر تقوى الله على الصف المسلم يصبح يتحرك بفرقان رباني.
5- محبة الله عز وجل ومحبة ملائكته والقبول في الأرض:
قال تعالى: *بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ" [آل عمران: 76].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله e أنه قال: «إذا أحب الله العبد قال لجبريل: قد أحببت فلانًا فأحبه, فيحبه جبريل عليه السلام, ثم ينادي في أهل السماء, إن الله قد أحب فلانًا فأحبوه, فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض»([3]).
6- نصرة الله عز وجل وتأييده وتسديده:
وهي المعية المقصودة بقول الله عز وجل: *وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ" [البقرة:194]. فهذه المعية هي معية التأييد والنصرة والتسديد, وهي معية الله عز وجل لأنبيائه وأوليائه, ومعيته للمتقين والصابرين وهي تقتضي التأييد والحفظ والإعانة كما قال تعالى لموسى عليه السلام وهارون: *لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى" [طه:46].
أما المعية العامة مثل قوله تعالى: *وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ" [الحديد: 4]. وقوله: *يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ" [النساء:108]. فتستوجب من العبد الحذر والخوف ومراقبة الله عز وجل.
7- البركات من السماء والأرض:
قال تعالى: *وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ...." [الأعراف: 96].
قال القاسمي رحمه الله: *وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى" أي: القرى المُهْلَكة *آمَنُوا" أي: بالله ورسله *وَاتَّقَوْا" أي: الكفر والمعاصي *لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ" أي: لوسعنا عليهم الخير ويسرناه لهم من كل جانب, مكان ما أصابهم من فنون العقوبات التي بعضها من السماء وبعضها من الأرض) ([4]).
ويدل على هذا المعنى قوله عز وجل: *وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا" [الجن:16].
فانظر إلى بركات التقوى, واعلم أن ما نحن فيه من قلة البركة ونقص الثمار وكثرة الآفات والأمراض إنما هو نتيجة حتمية لضعف وازع التقوى وكثرة المعاصي, كما يقول تعالى: *ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" [الروم:41].
8- البشرى وهي الرؤيا الصالحة وثناء الخلق ومحبتهم:
قال تعالى: *أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ` الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ` لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ..." [يونس:62-64].
والبشرى في الحياة الدنيا ما بشر الله به المؤمنين المتقين في غير مكان من كتابه, وعن النبي : «الرؤيا الصالحة من الله»([5]). وعنه e: «لم يبق من النبوة إلا المبشرات» قالوا: وما المبشرات؟ قال: «الرؤيا الصالحة»([6]).
وعن أبي ذر t قال: قلت لرسول الله e: الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس فقال: «تلك عاجل بشرى المؤمن» ([7]). وقد رأينا من الموفقين في العمل الإسلامي ثناء الناس على أعمالهم في الدنيا.
9- الحفظ من كيد الأعداء ومكرهم:
قال تعالى: *وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ"
[آل عمران: 120].
قال ابن كثير -رحمه الله-: (يرشدهم تعالى إلى السلامة من شر الأشرار وكيد الفجار باستعمال الصبر والتقوى والتوكل على الله الذي هو محيط بأعدائهم, فلا حول ولا قوة لهم إلا به, وهو الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن) ([8]).
إنه تعليم من الله تعالى للمسلمين في كيفية الاستعانة على أعداء الله وكيدهم.
10- حفظ الذرية الضعاف بعناية الله تعالى عز وجل:
قال تعالى: *وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا" [النساء:9], وفي الآية إشارة إلى إرشاد المسلمين الذي يخشون ترك ذرية ضعاف بالتقوى في سائر شئونهم حتى تحفظ أبناؤهم ويدخلوا تحت حفظ
الله وعنايته, ويكون في إشعارها تهديد بضياع أولادهم إن فقدوا تقوى الله, وإشارة
إلى أن تقوى الأصول تحفظ الفروع, وأن الرجال الصالحين يحفظون في ذريتهم الضعاف كما في آية: *وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا" [الكهف:82].فإن الغلامين حفظا ببركة أبيهما في أنفسهما ومالهما([9]).
11- سبب لقبول الأعمال التي بها سعادة العباد في الدنيا والآخرة:
قال تعالى: *إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ" [المائدة:27].
ولهذا لابد من الدعاة العاملين والعلماء الراسخين من استحضار هذه المعاني العظيمة, فإن أعمالنا مهما كان حجمها وتضحياتنا مهما كانت ضخامتها لا تقبل إلا من المتقين, لأنهم هم الذين يستشعرون أن كل خير هو من الله وحده.
12- سبب النجاة من عذاب الدنيا:
قال الله تعالى: *وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ` وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يتَّقُونَ" [فصلت: 18،17].
إن الله تعالى سلم أهل الإيمان والتقوى من بين أظهر الكافرين دون أن يمسهم سوء أو أن ينالهم من ذلك ضرر, بسبب إيمانهم وتقواهم لله تعالى.
13- تكفير السيئات وهو سبب النجاة من النار, وعظم الأجر وهو سبب الفوز بدرجة الجنة:
قال تعالى: *وَمَن يَّتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا" [الطلاق:5].
قال ابن كثير رحمه الله:(أي يذهب عنهم المحظور, ويجزل لهم الثواب على العمل اليسير)([10]).
14- ميراث الجنة, فهم أحق الناس بها وأهلها, بل ما أعد الله الجنة إلا لأصحاب هذه الرتبة العلية والجوهرة البهية:
قال تعالى: *تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا" [مريم:63], فهم الورثة الشرعيون لجنة الله عز وجل.
15- وهم لا يذهبون إلى الجنة سيرًا على أقدامهم بل يحشرون إليها ركبانًا:
مع أن الله عز وجل يقرب إليهم الجنة تحية لهم ودفعًا لمشقتهم, كما قال تعالى: *وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ" [ق:31].
قال تعالى: *يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا" [مريم:85].
16- وهي تجمع بين المتحابين من أهلها حين تنقلب كل صداقة ومحبة إلى عداوة ومشقة:
قال تعالى: *الأخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ" [الزخرف:67].
ومن بركة التقوى أن الله عز وجل ينزع ما قد يعلق بقلوبهم من الضغائن والغل فتزداد مودتهم وتتم محبتهم وصحبتهم, قال تعالى:*إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَّعُيُونٍ ` ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ ` وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ"[الحجر:45-47].
إن هذه الثمار العظيمة عندما تمس شغاف قلوب العاملين في الدعوة الإسلامية تضفي على العمل محيطًا ربانيًا موصولاً بالله, متصلة حلقة الدنيا بالآخرة, كما أن الحرص على تقوى الله تعالى يكسب الصف الإسلامي صفات رفيعة وأخلاقًا حميدة, ومكارم نفيسة تجعله أهلاً لتمكين شرع الله على يديه. ومن أهم هذه الصفات التي تجعل الصف المسلم متماسكًا في حركته الدءوبة نحو تحكيم شرع الله:
ثانيًا: صفات المتقين:
1- الصدق, فهم أصدق الناس إيمانًا, وأصدقهم أقوالاً وأعمالاً, وهم الذين صَدَّقوا المرسلين قال تعالى: *أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" [البقرة: 177].
قال القاسمي - رحمه الله -: *أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا..." في إيمانهم لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال، فلم تغيرهم الأحوال ولم تزلزلهم الأهوال، وفيه إشعار بأن من لم يفعل أفعالهم لم يصدق في دعوة الإيمان: *وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" عن الكفر وسائر الرذائل، وتكرير الإشارة لزيادة تنويه بشأنهم وتوسيط الضمير للإشارة إلى انحصار التقوى فيهم([11]). وقد رغب النبي e في هذه الخصلة النبيلة والرتبة الجليلة فقال e: «وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا»([12]).
2- ومن صفاتهم، أنهم يعظمون شعائر الله عز وجل: قال الله تعالى: *ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ" [الحج: 32].
إن المتقين يعظمون طاعة الله وأمره فيدفعهم ذلك إلى طاعته, ويعظمون كذلك ما نهى الله عنه فيدفعهم ذلك عن معصيته.
3- ويتحرون العدل ويحكمون به، ولا يحملنهم بغض أحد على تركه, قال تعالى: *وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" [المائدة: 8].
وفي الآية تعليم وإرشاد على وجوب العدل مع الكفار الذين هم أعداء الله، فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه.
4- يتبعون سبيل الصادقين من الأنبياء والمرسلين وصحابة سيد الأولين والآخرين e, قال تعالى: *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ" [التوبة: 119].
فلا شك أن من صفات المتقين أنهم ينتهجون منهج الصحابة رضي الله عنهم، لأنهم أولى الناس بهذه الصفات التي أمرنا الله أن نكون مع أهلها، فقد شهد الله لهم الصدق، وشهد لهم رسوله e، فلا يجوز لأحد أن يلزمهم بشيء، أو يتهمهم بما برأهم الله عز وجل منه ورسوله e، فالصحابة كلهم عدول، وظهرت فيهم من علامات الصدق والإيمان واليقين ما يجعل العاقل يقطع بتعديلهم، فمن تقوى الله عز وجل موالاتهم ومحبتهم ونصرتهم والاحتجاج بإجماعهم، وفهم الكتاب والسنة على منهجهم وطريقتهم، وبغض من يبغضهم وبغير الحق يذكرهم([13]).
5- يَدَعون ما لا بأس به حذرًا مما به بأس ويتقون الشبهات، إن المتقين يتورعون عن الشبهات وعما يرتابون فيه مما ليس حلالاً بينًا، وذلك أدعى أن يتورعوا عن الحرام البين، ومن اجترأ على الشبهة اجترأ كذلك على الحرام.
ولهذا قال رسول الله e: «إن الحلال بيّن وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام» ([14]).
ولابد من التنبه لأمر مهم وهو أن التدقيق في التوقف عن الشبهات إنما يصلح لمن استقامت أحواله كلها وتشابهت أعماله في التقوى والورع، فأما من يقع في انتهاك المحرمات الظاهرة ثم يريد أن يتورع عن شيء من دقائق الشبهات فإنه لا يحتمل ذلك، بل ينكر عليه، كما قال ابن عمر رضي الله عنهما لمن سأله من أهل العراق: عن دم البعوض يسألونني عن دم البعوض وقد قتلوا الحسين، وسمعت رسول الله e يقول:«هما ريحانتاي من الدنيا»([15]).
6- إنهم يعفون ويصفحون: قال تعالى: *وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" [البقرة: 237]. وقال تعالى:*وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ
" [الشورى: 4].

فأخبر عز وجل أن من اتصف بهذه الصفة فأجره في ذلك على الله عز وجل كما رغبهم الله عز وجل في مغفرته إذا فعلوا ذلك, فقال عز وجل: *وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَّغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" [النور: 22].
وقال تعالى في وصف المتقين: *وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" [آل عمران: 134]. فالإحسان وصف من أوصاف المتقين، ولم يعطفه على ما سبقه من الصفات، بل صاغه بهذه الصيغة تمييزًا له بكونه محبوبًا عند الله تعالى([16]).
7- ومن صفاتهم أنهم غير معصومين من الخطايا إلا من عصمه الله عز وجل من الأنبياء غير أنهم لا يفارقون الكبائر، ولا يصرون على الصغائر، بل كلما وقعوا في صغيرة رجعوا إلى الله بالتوبة والاستغفار والعمل الصالح عملا بقول الله تعالى: *إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ" [الأعراف: 201].
شأن المؤمنين المتقين إذا مسهم طائف من الشيطان لحملهم على محاكاة الجاهلين والخوض معهم وعلى غير ذلك من المعاصي والفساد تذكروا فأبصروا فحذروا وسلموا، وإن زلوا تابوا وأنابوا([17]).
إن هذه الصفات عندما تتغلغل في نفوس الدعاة والعلماء وأبناء المسلمين تكون الأمة المسلمة جديرة بنصر الله وتوفيقه، وبهذا نكون قد فصلنا أهم شروط التمكين المتمثلة في الإيمان بالله والعمل الصالح، والعبادة، ومحاربة الشرك وتقوى الله عز وجل.



([1]) في ظلال القرآن (6/3602).

([2]) تفسير المنار (3/128).

([3]) مسلم, كتاب البر والصلة والآداب, باب: إذا أحب الله تعالى (4/2030) رقم 2637.

([4]) انظر: محاسن التأويل (7/221).


([5]) البخاري, كتاب الرؤيا, باب: رؤيا الصالحين (8/88) رقم 6986.


([6]) البخاري, كتاب الرؤيا, باب المبشرات (8/89) رقم 6990.



([7]) مسلم, كتاب الرؤيا, باب المبشرات (4/2034).


([8]) تفسير القرآن العظيم (1/329).


([9]) انظر: محاسن التأويل للقاسمي (5/47).



([10]) تفسير ابن كثير (4/382).




([11]) انظر: تفسير القاسمي (3/54).




([12]) البخاري, كتاب الأدب, باب قول الله تعالى: +كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ" (7/124).


([13]) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (8/289).



([14]) البخاري، كتاب الإيمان، باب: من استبرأ لدينه (1/22) رقم 22.



([15]) البخاري، فضائل الصحابة، باب مناقب الحسن والحسين (4/261).



([16]) انظر: تفسير المنار (4/134، 135).



([17]) نفس المصدر السابق (9/550).
رد مع اقتباس
  #40  
قديم 12-16-2008, 08:36 PM
الفاررة الي الله الفاررة الي الله غير متواجد حالياً
قـــلم نــابض
 




افتراضي

أســـــــباب التمكــــــــــين
تمهيد:
إن الأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى التمكين أمر أرشدنا إليه القرآن الكريم، وحثنا على الأخذ بها سيد المرسلين e، وقد أمر الله تعالى بالإعداد الشامل فقال: *وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ" [الأنفال: 60].
والإعداد في حقيقته أخذ بالأسباب.
وأشارت الآية الكريمة إلى الأمر بإعداد:
1- ما استطعتم من قوة. 2- ومن رباط الخيل.
والغاية:
1- ترهبون به عدو الله وعدوكم. 2- وآخرين من دونهم لا تعلمونهم.
وإعداد القوة، لفظ عام يشمل كل قوة، فقوة العقيدة والإيمان قوة، وقوة الصف والتلاحم قوة، وقوة السلاح والساعد قوة. ورباط الخيل إشارة إلى السلاح الثقيل، وإشارة إلى وجوب وجوده في أيدي المسلمين لا تأخذه شراء أو هبة من أحد.
ولا يمنع من الحفاظ على الخيل كجزء من الإعداد الإسلامي، لأنها عند الالتحام أقوى من التحام الأفراد بغير أفراس، وقد أثبتت الحروب الحديثة أهمية الخيل كما حدث للمجاهدين في جبال الأفغان ضد الشيوعيين، وفي جنوب السودان ضد النصارى.
إن الآية الكريمة تضع أذهان المسلمين على الإعداد الشامل، المعنوي والمادي، العلمي والفقهي على مستوى الأفراد والجماعات، وتدخل في طياتها، الإعداد التربوي، والسلوكي، والإعداد المالي، والإعداد الإعلامي، والسياسي والأمني والعسكري... إلخ.
كما أن الآية الكريمة وضحت أن الإعداد يحتاج إلى إنفاق هائل ووعدت بالتعويض في الدنيا والجزاء في الآخرة لتحفز المسلمين وتحثهم على ذلك, قال تعالى: *وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ" [الأنفال: 60].


المبحث الأول سنة الأخذ بالأسباب وإرشاد القرآن للإعداد
أولاً: سنة الأخذ بالأسباب:
إن من أهم السنن الربانية التي ترتبط بعلاقة مباشرة مع سنن التمكين سنة الأخذ بالأسباب، ولذلك يجب على الأفراد والجماعات العاملة للتمكين لدين الله فهمها واستيعابها وإنزالها على أرض الواقع.
قال الإمام الرازي: أصل السبب في اللغة: الحبل، قالوا: ولا يدعي الحبل سببًا حتى ينزل ويصعد به, ومنه قوله تعالى: *فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ..." [الحج: 15]. ثم قيل لكل شيء سبب لأنك بسلوكه تصل الموضع الذي تريده, قال تعالى: *فَأَتْبَعَ سَبَبًا" [الكهف: 85] أي طريقا، وأسباب السموات أبوابها، لأن الوصول إلى السماء يكون بدخولها، قال تعالى مخبرا عن فرعون: *لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ ` أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ" [غافر: 36 - 37] والمودة بين القوم تسمى سببا لأنهم بها يتواصلون. والسبب في اصطلاح الشرع: ما يوصل إلى الشيء ولا يؤثر فيه كالوقت للصلاة([1]).
واستعير السبب لكل ما يتوصل به إلى أمر من الأمور([2])، إن سنة الأخذ بالأسباب مقررة في كتاب الله تعالى، ولقد وجه الله عباده المؤمنين إلى وجوب مراعاة هذه السنة في كل شئونهم الدنيوية والأخروية سواء.
قال تعالى: *وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ" [التوبة: 105]
وقال سبحانه: *هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ" [الملك: 15]..
ولقد أخبرنا القرآن الكريم أن الله تعالى طلب من السيدة مريم أن تباشر
الأسباب وهي في أشد حالات ضعفها, قال تعالى: *وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ
عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا
" [مريم: 25].

وهكذا يؤكد القرآن الكريم على ضرورة مباشرة الأسباب في كل الأمور والأحوال([3]).
«ولقد قدر الله سبحانه وتعالى لدينه أن ينتصر، وللمسلمين أن يُمكنوا، وللمشركين أن ينهزموا، ومع ذلك فهل قال الله تعالى للمسلمين: ما دمت قدرت لكم النصر والتمكين فاقعدوا وانتظروا إنفاذي قدري، وهو لابد نافذ؟ كلا، وإنما قال لهم: *وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ..." [الأنفال: 60] وقال تعالى: *ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ" [محمد: 4].
وقال عز وجل: *إِن تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ" [محمد: 7] فلابد من اتخاذ الأسباب للنصر والتمكين، وإن كان ذلك قدرًا مقدورًا من عند الله([4]).
«وليس الله - سبحانه وتعالى - عاجزا عن نصرة الحق بغير الأدوات البشرية، وهو الذي يقول للشيء كن فيكون، ولكن هكذا اقتضت مشيئته وهكذا تجري سننه»([5]).
ورسول الله e وهو أفضل المتوكلين كان أوعى الناس لهذه السنة الربانية، فكان وهو يؤسس لبناء الدولة الإسلامية يأخذ بكل ما في وسعه من أسباب، ولا يترك شيئا يسير جزافا، والمتتبع للسيرة النبوية يلمس ذلك تماما.. «ففي الهجرة - على سبيل المثال - لم يترك رسول الله أمرا من الأمور إلا أعد له عدته، وحسب له حسابه، ورسم له خطته على نحو يستوعب كل الطاقات والوسائل.
فقد أعد النبي eالرواحل والدليل، واختار الرفيق والمكان الذي سيتوارى فيه - هو وصاحبه - حتى يهدأ الطلب، ويفتر الحماس، وأحاط ذلك كله بما يمكن للبشر من أخذ الحذر، والكتمان، وأسباب الاحتياط، وترك للإرادة الإلهية - بعد ذلك - ما لا حيلة له فيه([6]).
وكذلك الأمر بالنسبة لغزوة بدر، وأحد، والأحزاب... وجميع غزواته
وكل أموره.
وكان eيوجه أصحابه دائما إلى مراعاة هذه السنة الربانية، في أمورهم الدنيوية والأخروية على السواء, ففي أمورهم كان النبي يرشدهم دائما إلى الأخذ بما يمكن من أسباب للوصول إلى حياة كريمة بعيدا عن ذل السؤال ومهانة العوز والحاجة، روى أبو داود والترمذي عن أنس t أن رجلا من الأنصار أتى النبي eفسأله عطاء، فقال الرسول e: أما في بيتك شيء؟ قال: بلى. حلس نلبس بعضه، ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه، قال: ائتني بهما، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله بيده وقال: من يشتري مني هذين؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال رسول الله e: من يزيد على درهم؟ مرتين أو ثلاثا، فقال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه فأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري، وقال له: اشتر بأحدهما طعامًا فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوما فائتني به، فأتاه به، فشد فيه رسول الله eعودًا بيده، ثم قال: اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوما, فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا، وببعضها طعامًا, فقال له رسول الله e: هذا خير لك من أن تجئ المسألة نكتة سوداء في وجهك يوم القيامة([7]).
«وهذا نفس المعنى الذي أشار إليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t حين قال للكسالى القابعين في المسجد ينتظرون الرزق: لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول: «اللهم ارزقني» وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، وإن الله تعالى يقول: *فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ..." [الجمعة: 10].
نعم، لابد من بذل الجهد، لأن الأخذ بالأسباب والكدح للحصول على ما يرغب الإنسان في تحقيقه هو ذاته من سنن الله تعالى...» ([8]).
وكذلك بالنسبة لأمر الآخرة، لابد من الأخذ بالأسباب حتى يصل الإنسان إلى ما يرجو من رحمة الله وجنته، قال تعالى: *وَمَنْ أَرَادَ الآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا" [الإسراء: 19] لقد كان في وجدان الأمة الإسلامية في عصرها الزاهر أن إيمانها بقدرة الله - تعالى - المطلقة، وقضائه وقدره لا يتعارض مع اتخاذ الأسباب.
لقد كانوا يدركون أن لله - تعالى - سننا في هذا الكون وفي حياة البشر غير قابلة للتغيير، ومع أن لله تعالى سننا خارقة تملك أن تصنع كل شيء ولا يعجزها شيء إلا أن الله جلت قدرته قد قضى أن تكون سنته الجارية ثابتة في الحياة الدنيا، وأن تكون سننه الخارقة استثناء لها، وكلتاهما معلقة بمشيئة الله.
لذلك كان في حسهم أنه لابد لهم من مجاراة السنن الجارية إذا رغبوا في الوصول إلى نتيجة معينة في واقع حياتهم، أي أنه لابد من اتخاذ الأسباب المؤدية إلى النتائج بحسب تلك السنن الجارية([9]).
ولقد أصاب المسلمين في أحد ما أصابهم، لأنهم لم يستجمعوا المقدمات التي تنتج النصر ولم يكن المشركون أولى بالله منهم، ولكن هذه سنة الله، فالله - تعالى - قد وضع للنصر أسبابا كثيرة، وأوجب على عباده رعايتها، فمن أبى فلا يلومن إلا نفسه.
وإن تأخر المسلمين اليوم عن القيادة العالمية لشعوب الأرض لم يكن ظلما وقع بهم، بل كان نتيجة طبيعية لقوم نسوا رسالتهم، وحطوا مكانتها، وشابوا معدنها بركام هائل من الأوهام في مجال العلم والعمل على سواء، وأهملوا السنن الربانية, وظنوا أن التمكين قد يكون بالأماني والأحلام، ولكن هيهات، بل هذا من صميم العدل الإلهي([10]), قال تعالى: *ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ" [آل عمران: 182].
ولكن إذا كان هذا عقاب الله للمؤمنين الذين عصوه، فما بال الكافرين الذين جحدوه سبحانه بالمرة، ومع ذلك فإنهم متمكنون في الأرض - من الناحية المادية غاية التمكين؟
إن هؤلاء الكفار لم يبلغوا ما بلغوه لأنهم أقرب من الله أو أرضى له، ولم يبلغوا ما بلغوا بسحر أو بمعجزة أو لأنهم خلق آخر متميز، ولم يقيموا الصناعات أو يجوبوا البحار، أو يخترقوا أجواء الفضاء لأن عقيدتهم حق، أو لأن فكرهم سليم، إنهم بلغوا ذلك لأن السبيل إلى هذا التقدم درب مفتوح لجميع خلق الله مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم, قال تعالى: *مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ" [هود: 15].
إن الله - سبحانه وتعالى - جعل التمكين في الحياة يمضي بالجهد البشري، وبالطاقة البشرية على سنن ربانية ثابتة، وقوانين لا تتبدل ولا تتحول، فمن يقدم الجهد الصادق ويخضع لسنن الحياة يصل على قدر جهده وبذله وعلى قدر سعيه وعطائه.
إنها السنة التي أرادها الله في هذه الحياة، إنها مشيئته وسننه وإرادته([11]).
ب- التوكل على الله والأخذ بالأسباب:
التوكل على الله - سبحانه وتعالى - لا يمنع من الأخذ بالأسباب، فالمؤمن يتخذ الأسباب من باب الإيمان بالله وطاعته فيما أمر به من اتخاذها، ولكنه لا يجعل الأسباب التي تنشئ النتائج فيتوكل عليها([12]).
ولقد أرشدنا النبي eفي أحاديث كثيرة ضرورة الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله تعالى، كما نبه - عليه السلام - على عدم تعارضها.
1- عن أنس بن مالك t قال: جاء رجل إلى النبي eعلى ناقة له، فقال: يا رسول الله أدعها وأتوكل؟ فقال: (اعقلها وتوكل) ([13]).
وهذا الحديث أصل في التوكل وفيه الأمر باتخاذ الأسباب والاحتراز مع
الأمر بالتوكل([14]).
2- وعن عمر بن الخطاب t عن النبي eقال: «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا، وتعود بطانا»([15]).
وفي هذا الحديث الشريف حث على التوكل على الله مع الإشارة إلى أهمية الأخذ بالأسباب حيث أثبت الغدو والرواح للطير مع ضمان الله تعالى الرزق لها([16]).
إن العمل بسنة الأخذ بالأسباب من صميم تحقيق العبودية لله تعالى، وهو الأمر الذي خلق له العبيد، وأرسلت به الرسل، وأنزلت لأجله الكتب، وبه قامت السموات والأرض، وله وجدت الجنة والنار، فالقيام بالأسباب المأمور بها محض العبودية([17]).
إن القرآن الكريم أرشدنا إلى الأخذ بالأسباب وأرشدنا ألا نعتمد عليها وحدها وإنما نتوكل على الله مع الأخذ بها, وعلى المسلم أن يتقي في باب الأسباب أمرين:
1- الاعتماد عليها، والتوكل عليها، والثقة بها ورجاؤها وخوفها, فهذا شرك يرق ويغلظ، وبين ذلك.
2- ترك ما أمر الله به من الأسباب، هذا أيضا قد يكون كفرا وظلما وبين ذلك, بل على العبد أن يفعل ما أمره الله به من الأمر، ويتوكل على الله توكل من يعتقد أن الأمر كله بمشيئة الله، سبق بها علمه، وحكمه، وأن السبب لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع, ولا يقضي ولا يحكم، ولا يحصل للعبد ما لا تسبق له به المشيئة الإلهية ولا يصرف عنه ما سبق به الحكم والعلم، فيأتي بالأسباب إتيان من لا يرى النجاة والفرح والوصول إلا بها، ويتوكل على الله توكل من يرى أنها لا تنجيه ولا تحصل له فلاحا ولا توصله إلى المقصود، فيجرد عزمه للقيام بها حرصا واجتهادًا, ويضرع قلبه من الاعتماد عليها والركون إليها تجريدا للتوكل واعتمادا على الله وحده([18]). وقد جمع النبي بين هذين الأصلين في الحديث الصحيح، حيث يقول: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله
ولا تعجز...»
([19]).
فأمره بالحرص على الأسباب والاستعانة بالمسبب ونهاه عن العجز وهو نوعان:
1- تقصير في الأسباب وعدم الحرص عليها.
2- وتقصير في الاستعانة بالله وترك تجريدها.
فالدين كله ظاهره وباطنه، وشرائعه وحقائقه تحت هذه الكلمات النبوية([20]).
إن استيعاب وفهم سنة الأخذ بالأسباب لأفراد الأمة الإسلامية وجماعتها من ضروريات فقه التمكين لهذا الدين.
ثانيًا: إرشاد القرآن للإعداد:
إن أمر التمكين لهذا الدين يحتاج إلى جميع أنواع القوى، على اختلافها وتنوعها، ولذلك اهتم القرآن الكريم اهتماما كبيرا في إرشاد الأمة للأخذ بأسباب القوة وأوجب الله تعالى على الأمة الأخذ بأسبابها، لأن التمكين لهذا الدين طريقه الوصول إلى القوى بمفهومها الشامل، وقد قال الأصوليون: «وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»([21]).
إن القرآن الكريم أوجب على أتباعه إعداد القوة بصورة واضحة, قال تعالى:*وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ"[الأنفال: 60].
شرح الآية الكريمة:
الإعداد: تهيئة الشيء للمستقبل([22]). والضمير في «لهم» راجع إلى الكفار.
وقوله: *مَّا اسْتَطَعْتُم" قال ابن كثير: أي مهما أمكنكم([23])، وهذا التعبير القرآني يشير إلى أقصى حدود الطاقة، بحيث لا تقعد العصبة المسلمة عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتها([24]).
والمراد بالقوة هنا: ما يكون سببا لحصول القوة، وذكر الفخر الرازي فيه وجوها:
1- المراد من القوة أنواع الأسلحة.
2- ورد أن النبي eقرأ الآية الكريمة على المنبر وقال: «ألا إن القوة الرمي» قالها ثلاثا([25]).
3- قال بعضهم: القوة هي الحصون.
4- قال أصحاب المعاني: الأولى أن يقال: هذا عام في كل ما يتقوى به على
حرب العدو، وكل ما هو آلة للغزو والجهاد، فهو من جملة القوة، وقوله عليه السلام: «القوة الرمي» لا ينفي كون غير الرمي معتبرا كما أن قوله:
«الحج عرفة»([26]). وقوله: «الدين النصيحة»([27]) لا ينفي اعتبار غيره، بل يدل على أن هذا المذكور جزء شريف من المقصود وكذا هنا([28]).
كما يساعد على هذا الفهم مجيء كلمة «قوة» هنا نكرة لا معرفة, فهي تشمل كل سلاح معروف أو سيعرف مع الزمن المتجدد فهي تتسع لإعداد الطائرات والصواريخ والدبابات.. وكل الأسلحة التي لها التأثير الحاسم في المعركة([29]).
ومعنى «رباط الخيل» قال النسفي: هي اسم للخيل التي ترابط في سبيل الله تعالى([30])، وقال صاحب تفسير المنار: الرباط في أصل اللغة: الحبل الذي يربط به الدابة،
ورباط الخيل: حبسها واقتناؤها([31]), ومعنى *تُرْهِبُونَ بِهِ" أي: تخزون، كما قال الطبري([32])، وقال ابن كثير: تخوفون به([33])، وقال الشيخ المراغي: الرهبة: هي الخوف
المقترن بالاضطراب([34]).
ومعنى *وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ" قال الطبري: هم كل عدو للمسلمين غير الذي أمر النبي ؛ أن يشرد بهم من خلفه([35])، وذكر الفخر الرازي فيه وجوها ثم قال: وأصح ما قيل في المقصود منهم: «أنهم المنافقون»([36]).
ذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة ما لأجله أمر بإعداد هذه الأشياء, فقال جل شأنه: *تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ..." ذلك أن الكفار إذا علموا كون المسلمين متأهبين للجهاد ومستعدين له ومستكملين لجميع الأسلحة والآلات خافوهم وذلك الخوف يفيد أمورًا كثيرة:
1- أنهم لا يتجرءون على دخول دار الإسلام.
2- أنهم إذا اشتد خوفهم فربما التزموا من عند أنفسهم دفع الجزية.
3- أنه ربما صار ذلك داعيا إلى الإيمان لما يرون من قوة أهله وعزته.
4- أنهم لا يعينون سائر الكفار.
5- أن يصير ذلك سببا لمزيد الزينة في دار الإسلام([37]).
ويقول صاحب الظلال: الإسلام يأمر بأعداد القوة على اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها، فلابد للإسلام من قوة ينطلق بها في الأرض لتحرير الإنسان.
وأهمية القوة بالنسبة للدعوة الإسلامية تتلخص في أمور:
الأمر الأول: أن تؤمِّن الذين يختارون هذه العقيدة على حريتهم في اختيارها فلا يُصدون عنها، ولا يفتنون كذلك بعد اعتناقها.
الأمر الثاني: أن ترهب هذه القوة أعداء الإسلام، فلا يفكروا في الاعتداء على حرمات الإسلام.
الأمر الثالث: أن يبلغ الرعب بهؤلاء الأعداء ألا يفكروا في الوقوف في وجه الدين الإسلامي وهو ينطلق لتبليغ كلمة الله إلى الإنسان في كل الأرض.
الأمر الرابع: أن تحطم هذه القوة كل قوة في الأرض تتخذ لنفسها صفة «الألوهية» من دون الله رب العالمين([38]).
وبما أن الأمة الإسلامية أمة مجاهدة، فلابد أن تكون هذه الأمة قوية حتى تستطيع أن تنهض بهذه الرسالة التي أنيطت بها، ولذلك حث النبي eالمؤمنين أن يكونوا أقوياء، وعلى أن يحصلوا كل أسباب القوة، فقال : «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف»([39]).
وما أحوج المسلمين اليوم إلى أن يحصلوا كل أسباب القوة، فهم يواجهون نظاما عالميا وقوى دولية لا تعرف إلا لغة القوة, فعليهم أن يقرعوا الحديد بالحديد، ويقابلوا الريح بالإعصار، ويقاتلوا الكفر وأهله بكل ما يقدرون عليه، وبكل ما امتدت إليه يدهم وبكل ما اكتشف الإنسان ووصل إليه العلم في ذلك العصر من سلاح وعتاد واستعداد حربي، لا يقصرون في ذلك ولا يعجزون([40]).
إن هذا الإعداد الشامل من أجل تمكين الله يدخل تحت مسمى الجهاد والذي بدونه يستحال التمكين لشرع الله وإقامة دولة تحكم بمنهج الله، يقول الشيخ محمد الغزالي: «إن التغيير الإسلامي الذي تنشده الأمة الإسلامية لا يمكن تحقيقه من غير جهاد، وبدون صياغة جيل مجاهد، فالمهمة التغييرية مهمة شاقة، فالقوى الظاهرة والخفية القابضة على الزمام في عالمنا قوى شريرة، وقد هيأها أعداء لهذا الدور من زمن بعيد، وهي تعمل ليل نهار على خفت صوت الإسلام بشتى الطرق والوسائل, وإزالة هذه القوى، وإقامة الإسلام مكانها ليس بالأمر السهل، فهي ستتشبث بمواقعها حتى النفس الأخير وذلك يحتاج أولا وقبل كل شيء إلى تربية جهادية تخرج أنماطا من المجاهدين، يحبون الموت كما يحب الناس الحياة، ويعيشون همَّ الإسلام وقضاياه ليلهم ونهارهم. لابد من بناء قاعدة صلبة متينة تستطيع أن تصمد في هذا الصراع الجبار, وتقف في وجه المؤامرات، وتجاهد في كل المجالات والجبهات، وتدفع ثمن التمكين لدين الله في الأرض من زهرة
أبنائها الشهداء([41]).
«إن الواجب على الأمة الإسلامية اليوم لتنهض وتتقدم وتترقى في مصاعد المجد أن تجاهد -بمالها ونفسها- الجهاد الذي أمرها الله به في القرآن الكريم مرارا عديدة، فالجهاد بالمال والنفس هو العلم الأعلى الذي يهتف بالعلوم كلها، فإذا تعلمت الأمة هذا العلم وعملت به دانت لها سائر العلوم والمعارف»([42]).



([1]) انظر: مفاتيح الغيب (2/626).

([2]) انظر: مفردات القرآن كتاب السين، ص220، المعجم الوسيط، ص426.

([3]) انظر: التمكين للأمة الإسلامية في ضوء القرآن لمحمد سيد، ص248.

([4]) مفاهيم ينبغي أن تصحح لمحمد قطب، ص262، 263 بتصرف يسير.

([5]) حول التفسير الإسلامي للتاريخ محمد قطب، ص104.

([6]) أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة المقبلة, د. القرضاوي، ص17، 18.

([7]) رواه أبو داود، كتاب الزكاة، باب: ما تجوز فيه المسألة (2/120).

([8]) حول تفسير التاريخ الإسلامي، ص89.

([9]) انظر: مفاهيم ينبغي أن تصحح، ص262، 263.

([10]) انظر: الغزو الثقافي يمتد من فراغنا للغزالي، ص147: 150.

([11]) انظر: التمكين للأمة الإسلامية، ص252.

([12]) المصدر نفسه: ص253.

([13]) رواه الترمذي في صفة القيامة باب (60) (4/668) رقم 537.

([14]) انظر: التوكل على الله تعالى وعلاقته بالأسباب، د. عبد الله الدميجي، ص179.

([15]) الترمذي، كتاب الزهد، باب التوكل على الله (4/573) رقم 2344، حسن صحيح.

([16]) انظر: التمكين للأمة الإسلامية، ص254.

([17]) انظر: مدارج السالكين (2/130).

([18]) مدارج السالكين (3/501).

([19]) مسلم: كتاب القدر باب الأمر بالقوة (4/2052) رقم 2664.

([20]) انظر: مدارج السالكين (3/501).

([21]) في ظلال القرآن (2/919) تفسير آية 54 من سورة المائدة.

([22]) تفسير المنار (5/53).

([23]) تفسير القرآن العظيم (2/122).

([24]) في ظلال القرآن (2/1553).

([25]) مسلم مع شرح النووي، كتاب الجهاد، باب: فضل الرمي (13/64).

([26]،3) مسلم، كتاب الإيمان، باب: إن الدين النصيحة (1/74).




([28]) تفسير المنار (5/53).

([29]) انظر: التمكين للأمة الإسلامية، ص89.

([30]) انظر: تفسير النسفي.

([31]) تفسير المنار (10/16).

([32]) تفسير الطبري (6/22)

([33]) تفسير ابن كثير (2/322)

([34]) تفسير المراغي (4/23)

([35]) تفسير الطبري (6/22)

([36]) مفاتيح الغيب (7/533).

([37]) المصدر نفسه (7/324) وما بعدها.

([38]) في ظلال القرآن (3/3154) مع تصرف.

([39]) مسلم مع شرح النووي كتاب 6، (16/ 215)

([40]) انظر: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ لأبي الحسن الندوي، ص225.

([41]) ركائز الإيمان بين العقل والقلب، ص75 بتصرف.

([42]) انظر: لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ الأمير شكيب أرسلان، ص164.





رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

 

منتديات الحور العين

↑ Grab this Headline Animator

الساعة الآن 07:54 AM.

 


Powered by vBulletin® Version 3.8.4
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
.:: جميع الحقوق محفوظة لـ منتدى الحور العين ::.